قوة المعارضة
كانت الحكومة البريطانية تخبط خبط عشواء. في سياستها العراقية خلال السنوات العشر التي تقدمت المعاهدة الأخيرة. وكانت تزيد بموقفها غموضًا وارتباكًا، وهي تحاول أن تُخفي حيرتها، في ما اتخذته من شتى الخطط والأساليب، حينًا متعسفة وحينًا متساهلة، لغرضها المنشود. فعقدت المعاهدات، الواحدة بعد الأخرى، وهي تظن أن في كل واحدة منها الحل النهائي للمشاكل البريطانية العراقية كلها.
أما الحكومة العراقية فقد كان موقفها، خلال هذه المدة، موقف المطالب المساوم، فكانت سياستها تارة حزبية وطورًا وطنية، حينًا سلبية وحينًا إيجابية. بل يجوز أن نقول: إن موقفها في الغالب، على اختلاف وزاراتها العشر، كان ضمنًا في الأقل موقف المعارضة. فما أَذعنت مرة للحكومة البريطانية، في أمر من الأمور الجوهرية، قبل أن أعدت العدة لتجديد المقاومة، وهي تستكشف موقف المعارضة لتنتفع به. وبكلمة أخرى كانت تستعين بخصومها الوطنيين على خصومها الإنكليز. أما في المقاومات الشديدة فقد كان يضطر رئيس الوزارة أن يستعفي، كما فعل جعفر العسكري مثلا سنة ١٩٢٧ وعبد المحسن السعدون في سنة ١٩٢٩.
ولا بد من القول: إن المعارضة — الأصلية — غير الحكومية — كانت على الإجمال تعمل بمعنى اللفظة الحرفي؛ أي إنها كانت تعارض مبدئيًّا على طول الخط. ولا تزال كذلك في أكثر الأحيان هي إذن قوة سلبية تضعف في المناورات السياسية، والبهرجات الوطنية، وتترزَّن، فتصلب، فيخشى جانيها في المواقف الوطنية الخطيرة.
ومن ذلك مسلكها القويم الشريف في ثلاث مسائل جوهرية، فقد حاربت الانتداب، ورفضت كل معاهدة عُقدت عهد الانتداب، وقاومت كل المحاولات لتأسيس حكومة من المستشارين والموظفين البريطانيين، بانتداب أو بغير انتداب، تنكسف إلى جانبها الحكومة العراقية. في هذه السياسة السلبية كانت المعارضة ذات فضل جمٍّ. وقد اشتركت والحكومة بعمل واحد إيجابي، هو السعي لدخول العراق في عصبة الأمم. فإذا حصرنا النظر في هذه الأمور توجب علينا أن نقول: إنها سديدة الخطة، شريفة النزعة، وإنها من هذا القبيل في مستوى واحد والمعارضة في بريطانيا وفي غيرها من الدول الراقية.
بيد أن المعارضة العراقية لا تنظر بالعين الواحدة إلى تطور العراق، ووضعيته الحاضرة. فهناك حزب يُسقِط من أهمية هذا التطور، وحزب لا يرى فيه شيئًا مهمًّا أو نافعًا. وما أهمية العضوية في عصبة الأمم، وما الفائدة منها؟ إني أشارك المعارضة في هذا السؤال. ولكني أذكرها أن ما أحد من الحكوميين أو من المعارضين حسب دخول العراق في عصبة الأمم خطوة كبيرة مهمة. وإن كانت كذلك فلكونها خطوة لغرض أكبر وأهم، هو إلغاء الانتداب.
وقد أُلغي الانتداب، وحلت محله معاهدة لخمس وعشرين سنة، والمعارضة لا تزال تحتج، ولا تزال تعارض. بل هي تحسب نفسها في بداءة الجهاد مرة ثانية؛ لأنها ترى في معاهدة سنة ١٩٣٠ شبيهًا بالانتداب، بل شرًّا منه. فالذي يقرأ المعاهدة فقط يقول إن المعارضة متعنتة متعسفة. ولكنه بعد أن يقرأ الملحق يرى في موقفها ما يبرر الحذر والخوف.
وثمة ذيل للملحق هو من الأهمية بمكان. قرأت الوثائق الثلاث قراءة المتعلم علمًا جديدًا، فذكرتني بقصة البدوي وجمله.
أضاع بدوي جملة فاستجار بالله ثم نذر قائلًا: إن أرجعت لي جملي، ربي، بعته بدرهم. وبعد أيام وجد البدوي جمله، ففكر في ما قال؛ إذ كيف يبيع جمله، وهو زين الجمال، بدرهم واحد؟ راح إلى الإمام يعرض الأمر ويستشيره. فأطرق الإمام، ثم أزاح عمته ومسح جبينه، وقال: إن الله سبحانه وتعالى يريد خلاصك وخلاص جملك عن يدي، فاسمع، فسمع البدوي مستبشرًا، وجاء بهرٍّ فربطه بذنب الجمل، ونزل به إلى السوق ينادي: الجمل بدرهم والهُرُّ بألف، وبِيع الاثنين معًا! كما علمَّه الإمام. فقال الناس مدهوشين معجبين: ما أحسن هذا الجمل، وما أرخصه، لولا ذاك المعلق بذنبه!
إن في ذنب المعاهدة هرين بدل الهر الواحد. وما هما — أي الملحق وذيل الملحق — من بنات فكر عابث ولا هما بدعة من بدع الخيال. إنما هما جزءان كريمان سويان مكملان للمعاهدة، ولا يستحيل تفسيرهما والدفاع عنهما. فالسر فرنسيس همفريس آخر مندوب سامٍ، وأول سفير بريطاني في العراق، هو أحد أبوَي المعاهدة، فخليق به الشرح والتفسير.
قال السر فرنسيس يحدث المؤلف: إننا نرحب بالانتقاد العادل وبالمؤازرة، ولا نريد أن نكون دائمًا مستشارين. بل نرغب بالمشورة والنصيحة لخير العراق وخيرنا، فنحسن السياسة في السنين التي يجب علينا نحن والعراقيين أن نجتازها معًا. أما المعارضة فهي مفيدة متى كان رائدها العقل والنزاهة، وغرضها البناء لا التدمير. ولكنها في مقاومة المعاهدة بعيدة على ما يظهر عن الاثنين. خذ القوة الجوية. نحن نريدها في العراق لسببين، الأول هو مساعدة العراق داخلًا، في قمع الفتن مثلًا، والثاني هو مشاركة العراق في الدفاع عن حدوده. وسنساعده في إنشاء وتنظيم سلاح الطيران، فيصير لديه بعد خمس سنوات قوة جوية عراقية. الهُنَيْدي هي اليوم لنا، وستصبح بعد خمس سنوات للعراق. سنعطيه إياها بخسارة ثلث قيمتها الأصلية. أما الدفاع عن حدود العراق، إذا اعتُدي عليه من الجهة الشمالية مثلًا، فهو أهم من مساعدتنا له في شئونه الداخلية. وإن وجود القوات البريطانية الجوية في العراق لازم لذلك. فمن أصعب الأمور أن ننقل جيشًا بمعداته الكاملة من البصرة إلى داخل البلاد، ثم إلى الحدود الشمالية. هي طريقة قديمة وبطيئة وكثيرة النفقات. أما، ومركز الطيران موجود، فيمكننا أن نجلب القوات اللازمة للدفاع بوقت قصير — بالطائرات — من مصر أو من لندن.
قلت: وهل القوات الجوية البريطانية في العراق لخير العراق فقط؟
قال: كلا. الفائدة مشتركة متبادلة. وإلا فما معنى العقد، ما معنى المعاهدة؟ قلت: إن وجود قواتنا الجوية في العراق هو لسببين، فينبغي أن أصحح ذلك. إنما هو لثلاثة أسباب. وما السبب الثالث بأقل أهمية من السببين الآخرين. فالقوات الجوية البريطانية في العراق لازمة لتأمين خط المواصلات الإمبراطورية.
ثم تطرقنا في الحديث إلى ميناء البصرة وسكة الحديد وكان قد أنشأهما البريطانيون خلال الحرب العظمى ثم حُولا إلى العراق فقال السر فرنسيس: هي مسألة تجارية، محض تجارية. وقد تساهلنا في التسوية الأخيرة تساهلًا يذكر. قبلنا في الميناء ما طلبته المعارضة؛ أي أن يكون ملك الحكومة العراقية مباشرة، وأن يكون الثمن اثنين وسبعين لكل من الروبيات (٤٨٠ ألف جنيه إنكليزي)، ثم جعلنا الفائدة ٦ بالمائة غير مركبة لعشرين سنة. وبمثل هذا التساهل تسوت مسألة سكة الحديد التي أصبحت ملكًا لحكومة العراق. أما مجلسا الإدارة لشركة الميناء وشركة السكة، فقد جعلنا كلًّا منهما مؤلفًا من خمسة أعضاء: اثنين عراقيين، واثنين بريطانيين ورئيس تعينه الحكومتان بالاتفاق بينهما. إلا أننا طلبنا، لأسباب عملية تقنية، أن يكون مديرُ سكة الحديد الحالي — وهو إنكليزي — الرئيسَ الأول لمدة خمس سنوات. ولكان من العدل — ونحن الدائنون — لو طلبنا أن يكون مدير المجلسين من الإنكليز لمدة الدين كلها. ولكننا تساهلنا، حبًّا بالاتفاق والتعاون. فيليق بالمعارضة أن تقدِّر — ولو بعض التقدير — هذا التساهل منا. ولما كنا متساهلين لولا أملنا بمستقبل العراق، وثقتنا بحكومته وأهله.
أما الحكومة، مهما كان لونها الحزبي، فإن ثقة السفير بها مبررة، وأما أهل العراق فهم لا يبالون بما يقوله السفراء والوزراء. فإن أنصتوا فهم لا ينصتون لمن يضعون المعاهدات إنصاتهم لمن يصوغون القوافي. كلا، فإن قصيدةً حماسيةً لتهزهم وتستفزهم أكثر من معاهدة سياسية، جلية في عدلها ومنافعها.
الكلمات للزهاوي، والصوت صوته، تعالى في تلك الحفلة الافتتاحية في المعرض، فهدر وصلصل، فضج المكان بالهتاف والتصفيق. والشاعر الزهاوي المقعد المسن إنما هو روح متوهجة تستطيع أن تقذف بنارها في صدور الناس، فتهيج وتبهر وتعمي.
إني أذكره وهو جالس على كرسي على منصة الخطابة، أمام آلة الراديو، يتلو قصيدة موضوعها الربيع. ولكن الموضوع مهما كان لا بد أن يتفتح للوطنية العراقية. إن الزهاوي لسيد موضوعه. فعندما وصل في تمجيد ربيعه إلى العراق — ولا تسل كيف وصل — تأججت تلك النار في صدره، فهزته، فنهضت به، فاستوى على رجليه، ورفع إلى السماء رأسه ويديه، وهو يردد بصوته المجلجل:
فاهتزت الآلة وكادت تقع إلى الأرض.
ثم عاد تدريجًا إلى سكينة الربيع وجلاله، وحاول أثناء ذلك أن يجلس، دون أن يدرك أن الكرسي ساعة وقف انزاح من مكانه، فهوى إلى الأرض بضجة مؤلمة، فسارعنا إليه نعينه، فوقف هادئًا كأن لم يكن شيء، ثم صاح بأعلى صوته مرددًا بَيتَي القصيد:
ومدَّ «نحاولُ» فطاولت السماء، فأذكى بها حماسة الناس.
وقد كان لهذا الحادث معناه الرمزي، الذي تمثل بِعَثرة الشاعر ونهوضه فما خفي عليهم. فإن تعثَّر العراق وسقط مرارًا، وهو «يحاولُ»، فهو يقف حالًا ويمشي، مستمرًّا في المحاولة. أدرك الشعب ذلك فازدادت ناره تأججًا. وقد كان بإمكان الشاعر في تلك الساعة أن يقوده إلى ساحة القتال. هو ذا الشعب هو ذا السواد، هو ذا الجماهير التي تعول عليها الأحزاب السياسية في المعارك الحزبية والوطنية. أفمن العجب أن تفوز المعارضة فوزًا باهرًا في كل مواقفها؟
أما موقفها تجاه المعاهدة الأخيرة — موضوعنا الآن — فهو وطيد منيع. وإن لها في الرد على السر فرنسيس همفريس حججًا دامغة وآراءً سديدة، يصرح بها من حين إلى حين، في المجلس النيابي وخارج المجلس، زعيم المعارضة ياسين الهاشمي. وإني ملخص للقارئ بعضها.
لو وقعت الحرب بين بريطانيا والهند مثلًا، أو بينها وبين تركيا أو إيران، فالعراق ينقاد إليها؛ إذ عليه أن يساعد — عملًا بالمادة الرابعة — حليفته بريطانيا، فيقدِّم لها «في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر والمواني والمطارات ووسائل المواصلات كلها»، فيمسي العراق — والحال هذه — ساحةً من ساحات الحرب. إذن خير له، وهو بين شرين — أي تقييد وسائل المواصلات، والمشاركة في الحرب خارج البلاد — أن يختار الشر الأصغر، وهو أن يرسل جنوده إلى ساحة القتال وتظل أسباب المواصلات كلها حرة بيده.
أما القوة الجوية البريطانية في أرض العراق، والقوات العسكرية في المطارات الثلاثة «المادة الخامسة» التي يأذن بها — لا بأس بالمجاملة — جلالة ملك العراق «وفقًا لأحكام ملحق هذه المعاهدة» لحماية هذه المطارات، فهي — حقيقةً وفعلًا — احتلال عسكري. كيف لا، والامتيازات التي تتمتع بها القوات البريطانية، في أرض عراقية، تخرجها من حكم العراق، فلا تجري فيها أحكامه المدنية، ويُعفى المقيمون فيها من الرسوم الجمركية وغيرها، هذه الامتيازات لا تكاد تكون في غير البلاد المحتلة. فلا معنى إذن للاستدراك الذي تنتهي به هذه المادة؛ إذ تقول: «إن وجود هذه القوات لا يعد بوجه من الوجوه احتلالًا، ولا يمسُّ على الإطلاق حقوق سيادة العراق.»
أضف إلى ما تقدم أن الحكومة العراقية يتوجب عليها أن تقوم «بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة وتدريبها وإعانتها»، (البند الثالث من الملحق) فإذا اضطرت الحكومة البريطانية أن تنقل أحد المطارات مثلًا من مكان إلى مكان، وما كان لسكة الحديد شعبة تصل المطار الجديد بالخط الأصلي، فعلى حكومة العراق أن تمد تلك الشعبة على نفقتها، وإن كانت غير لازمة لها وغير مفيدة.
وما مطار الهنيدي الذي أشاد بصفقته السر فرنسيس همفريس؟ أيستخدمون الأرض مجانًا، وينتفعون بالمطار عشر سنوات، ثم يبيعونه بثلثي القيمة التي أُنفقت في تأسيسه، بدل أن يقدموه مجانًا للعراق؟ بل يجب أن يُقدم بمقابل الأرض التي قدمها العراق لسلاح الجو البريطاني في الحبانية.
وثمة نير في المادة الأخيرة من المعاهدة، هو تجديدها. فلو فرضنا أن المعاهدة لازمة لمصالح الفريقين المشتركة، فقد لا يرى العراق، بعد خمس وعشرين سنة، لزوم تجديدها. فماذا يفعل إذ ذاك الفريق الثاني؟
هب أن خط المواصلات البريطانية قائم على الدوام، أو لخمسين سنة أخرى، فيجب أن تدوم أسباب الحماية له، فيُكرهَ العراق على تجديد المعاهدة. وبكلمة أخرى إذا بقيت الهند في حوزة الإنكليز بعد خمس وعشرين سنة من تاريخ المعاهدة فعلى «الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما، بناء على طلب أحدهما، بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار، على حفظ وحماية مصالح صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال». وإذا رفض العراق ذلك، فالمسألة «تعرض على مجلس عصبة الأمم»، وهناك البلية. فماذا عسى أن يكون حظ العراق من أحكام العصبة — ومؤامراتها؟
أما ميناء البصرة وسكة الحديد فإنهما كابوس ياسين، فقد طالما روَّعاه وأرَّقاه منذ تولي وزارة الأشغال سنة ١٩٢٢ إلى اليوم. إنه حقًّا بطل الميناء والسكة. فمَن مِن الوزراء العراقيين سعى سعيه ليحرزهما للعراق هبةً خالصة لوجه الله. أما وقد حالت الأقدار والسياسة دون الهبة، فإن الفضل الأكبر للهاشمي في تخفيض ثمنهما نحو نصف ما كان يطلبه الإنكليز.
وليس الاعتراض الآن على الثمن وقد تحدد باتفاق الفريقين، ولا على الفائدة غير المركبة لمدة عشرين سنة، والمركبة بعد ذلك، إنما الاعتراض هو على الأغلبية الإنكليزية في إدارة الشركتين.
وهناك شروط أخرى تتعلق بمجلسي إدارة شركة الميناء وشركة سكة الحديد. فللشركة وحدها الحق في استدانة المال للتمديد وللتحسين والترميم، وفي توظيفه في حال الفيض. وعلى الحكومة العراقية أن تعقد والموظفين البريطانيين في سكة الحديد عقودًا لثلاث سنوات، ولا تنتهي هذه العقود بغير موافقة الحكومة البريطانية.
هذه هي خلاصة الاتفاق لحل المشكل المالي الذي كان عقدة العقَد في جميع المفاوضات والمعاهدات التي جرت في السنوات العشر الأخيرة. ولا يزال هذا الاتفاق نفسه موضوع الخلاف بين الحكومة والمعارضة. بيد أنه يظن أن الحكومة، وهي ترى فيه بعض ما تراه المعارضة من الحيف، ستنتهز الفرصة في المستقبل لتطلب إعادة النظر فيه.
أما الآن فموقف المعارضة، وإن خفَتَ صوت أحد حزبيها، هو الموقف الأمنع والأعز. وخصوصًا في ما أسلفت من اعتراضها على المعاهدة ومما تثيره من الخوف والحذر.
خذ الدين مثلًا. فهو في مجموعه مليونان وثلاثمائة وستة عشر ألف جنيه إنكليزي. فلو كان بإمكان العراق أن يدفع هذه القيمة مباشرة لفعل، ولتملك ملكًا تامًّا ميناء البصرة وسكة الحديد. وبكلمة أخرى لأحرز استقلاله. لكن الإنكليز لا يريدون المال دفعة واحدة. فعلى العراق أن يدفع القيمة تباعًا، وأن يقبل بأقلية الأصوات في مجلسي إدارة الشركتين، وإن استمر الحال خمسًا وعشرين سنة. أوَلا يجوز أن يحدث في خلال هذه السنين، ما يوجب زيادة الدَّين وتمديد مدته؟ أوَلا يجوز أن يحدث ما يحمل الإنكليز على الاستئثار بإدارة المجلسين؟ أوَلا يجوز أن يحدث؟ …
ليتك، يا إنكلترا، ما كنتِ ذات ماضٍ مريب في فلسطين، وفي جنوبي البلاد العربية، وفي مصر! لكان الناس إذ ذاك يثقون بكِ، ويشكرون الله على بركات التعاون وإياكِ. ولكن الخوف الأكبر والأشد، الخوف الذي تزدريه اليوم الحكومة، وتستشعره المعارضة، هو أن المجلس الإداري، السائدة فيه كلمة الإنكليز، سيستمر في تحسين ميناء البصرة، وفي تمديد سكة الحديد؛ ليزيد بالدين على العراق، ويوجب عليه تجديد المعاهدة. وبعد ذلك؟ دَين كدين مصر — ولا انتداب — ومعاهدة يأبى العراق أن يجددها. فهل يلزم أكثر من ذلك لتتذرع به الحكومة البريطانية في احتلال العراق احتلالًا ثانيًا — عسكريًّا — على غرار احتلالها لمصر!
قد يكون في هذا التخوف شيء من الوهم والمبالغة. وقد تزيلهما تدريجًا حكومة العراق إذا أحسنت التعيين للأعضاء العراقيين في مجلسي إدارة السكة والميناء. فإذا كان التعيين، كما هو الغالب، سياسيًّا — أي لإرضاء الأحزاب والملل — فيكون صاحب المعالي صاحبَ وجاهة وبلاهة، فالأعضاء الإنكليز إذ ذاك يستقلون في العمل — ولا غرو — ويستأثرون.
أما إذا كانت الحكومة تتجرد من الحزبية، فتعيِّن مَن هم أهل لهذه الوظائف من رجال الاختصاص المجربين المدربين، والمشهورين بنزاهتهم ووطنيتهم، فلا خوف إذ ذاك على العراق. فإن أولي الوطنية والعلم والخبرة ليستطيعون، في مثل هذه المراكز، أن يحفظوا مصالح بلادهم، وأن ينقذوها من الديون الأجنبية.
بيد أن هناك غير الديون الأجنبية — هناك أعباء غير بريطانية. فمنذ أُلغي الانتداب ازدادت تبعات العراق. إن جنيف لجذابة، وإنها لمقيِّدة. أجل، إن عصبة الأمم تصنع قيودًا جديدة، قبل أن تفك القيود القديمة.
لماذا رغبت الحكومة البريطانية مثلًا بإلغاء الانتداب؟ الجواب وجيز بسيط. إن المعاملة والعراق مباشرةً لخير من المعاملة عن طريق جنيف. وقد كان موقف العراق في هذا الأمر موقف الحكومة البريطانية عينه. إذن علينا أن نتخلص من جنيف. وذلك لا يتم إلا بدخول العراق في عصبة الأمم. لذلك كانت مساعي الحكومة البريطانية مستمرة في هذا السبيل. وهي تعود إلى سنة ١٩٢٤ عندما وقف اللورد بارمور في مجلس العصبة وقال: قريبًا يمسي الانتداب غير لازم في العراق وغير مفيد؛ نظرًا لتقدم البلاد السريع في الشئون الاقتصادية والسياسية. وقد ردد هذا القول كبار رجال الانتداب أنفسهم، ولا سيما السر فرنسيس همفريس الذي نصر العراق في طلبه وقال إنه جدير أن يدخل العصبة، بعد أن يؤدي الضمانات اللازمة، التي ستُجدَّد في معاهدة تحل محل صك الانتداب.
ولكن ذلك مقيد بحقوق وشروط عصبة الأمم نفسها. فبعد أن بحث مجلسها الأعلى المسألة، وحدَّد الضمانات والشروط، قدمها للعراق، فقبلها، هي ذي أعباءُ العراق الأخرى — غير البريطانية. أما أنها أعباء ثقيلة فذلك ظاهر من المذكرتين اللتين قدمهما العراق لعصبة الأمم، قبل دخوله بخمسة أشهر.
وقد ذُكرت في الأولى مسألة الأقليات، صواحب العصبة المحبوبات، فأدى العراق من أجلهن ضمانات ثلاث، عامة وخاصة وإضافية: يضمن العراق لكل شعوبه على السواء حقوقهم المدنية والدينية والسياسية. فهم في نظر القانون متساوون، لهم جميعًا الحقوق نفسها، وعليهم جميعًا الواجبات نفسها. ويضمن للأقليات الدينية والقومية جميع الحقوق التي يتمتع بها الآخرون. ويحق لهذه الأقليات أن تؤسس على نفقتها معاهد خيرية ودينية تختص بها، ومدارس طائفية يتعلم أولادهم فيها بلغاتهم.
وقد زِيد في الضمانات للأكراد. فإن لهم الحق أن يعلِّموا أولادهم في مدارسهم الخاصة بلغتهم الكردية، وأن تكون اللغة الكردية لغة رسمية مثل العربية في الألوية التي هم فيها الأكثرية.
أما المذكرة الثانية فهي تختص بالأجانب وببعض الامتيازات الدولية. فالعراق يضمن للأجانب حرية الضمير والعبادة، اللهم إلا إذا كانت تخالف الآداب العامة، وتخل بالنظام. ويرحب بالمرسَلين من أي دين كانوا ومن أي طائفة. ويمهد سبيل العمل للإرساليات الثقافية والدينية والطبية. ويتعهد أن يعامل رعايا الحكومات التي هي من عصبة الأمم معاملة أكثر الأمم تفضيلًا لديه — بشرط أن تعامله بالمثل — لمدة عشر سنوات من تاريخ دخوله العصبة.
إن بعض الامتيازات، كالمدارس الإرسالية والطائفية، قد لا تتفق ومساعي الدولة الفتية في توحيد وتوطيد قوميتها. وهي تعرقل في الأخص مسعاها في سبيل القضية العربية الكبرى.
إذن موقف الوطنيين في هذه المسألة هو موقف سديد وطيد. وهم فيه موفَّقون، في الحكومة كانوا أو في المعارضة، بزعامة نوري أو بزعامة ياسين. بل قد تكون الحكومة هي السابقة، فتسعى لإلغاء هذه الامتيازات أو بعضها، عاجلًا أو آجلًا، عملًا بسنة التطور، ووفقًا لاستقلال العراق ورقيه المستمر.