عثرات التعليم الوطني
كان للسر آرْنُلْد ولسون، الحاكم المدني بالنيابة في بداءة الاحتلال، آراء سياسية أدَّى العملُ بها إلى الثورة. وكان له في التعليم آراءُ أقل ما يقال فيها: إنها مثل آرائه السياسية، رجعية استعمارية. فقد جاء في كتابه «تنازع الولاء» أن العراق لا يصير أهلًا للحرية «إلا إذا أُشرب المبادئ المسيحية.» هي سياسة قديمة ذهبت مع من ذهبوا في الحرب العظمى. ولكن بعض السياسيين والمتدينين، مثل السر آرنلد، ظلوا متمسكين بأذيالها، فقد حاول الحاكم المدني في بداءة الاحتلال أن يحييها ويعززها بوساطة التعليم في مدارس الأقليات.
وما أعجب تلك الأقليات، القومية والدينية، المسيحية وغير المسيحية، التي كان رؤساؤها يحومون حوله، ويزيدون بكربته في ما يدعون ويطلبون. بيد أنه كان يمالئهم ويجاملهم جميعًا، من بطارقة النصارى — الكلدان والسريان والآشوريين والأرمن — إلى رؤساء اليزيديين، ومن أغاوات الأكراد إلى المرسلين والمبشرين، المقيمين والزائرين.
لقد أفسحت حكومة الاحتلال المجالَ للمدارس الطائفية، وعززتها، وأغدقت عليها. بل قد أعطت هذه المدارس، من الامتيازات، فوق المساعدات المالية، ما لم تكن تحلم به عهد الأتراك. فقد كانت إدارتها بيد رؤساء الطوائف، وكان مديروها في الأغلب من رجال الدين، وكان برنامجها يُقرر باتفاق رؤساء الطوائف ومديرية المعارف.
استمرت هذه الحال بضع سنوات، فازدادت المدارس الطائفية، وهي تُدعى في العراق المدارس الأهلية، وأمسى عددها مقدار نصف عدد المدارس الرسمية؛ أي مدارس الحكومة. فاضطربت مديرية المعارف، وحارت في أمر تلك المدارس الشاذة في إدارتها، وما اهتدت في بادئ الأمر إلى الخطة اللازمة لإصلاحها.
فكرت مديرية المعارف، ثم تشجعت، فأقدمت على العمل الذي رأت فيه العدل والمساواة؛ وذلك أنها خيرت رؤساء تلك المدارس بين أن تكون مدارسهم إما كمدارس الأقليات، وإما كمدارس الحكومة. فتُعامَل في الحال الأولى معاملة مدارس الأقليات، وتُمنح المنح المالية ذاتها، وتخضع، في الحال الثانية، للقوانين والنظم التي تختص بمدارس الحكومة، دون أن تفقد حق اختيار المعلمين لتعليم الطلبة دين أجدادهم.
قد اختار الرؤساء الحال الثانية، إلا القليل منهم، فاستمروا يطالبون بحقوق مدارسهم المستقلة، واستمروا يحتجون، فآنسوا في بعض المتدينين السياسيين، أمثال السر آرنلد ولسون، التشجيع والمؤازرة، فراحوا يبثون دعواهم في أوروبا، فتجاوبت مجسمةً في بعض الصحف هناك. العراق يحرم المسيحيين حقوقهم — العراق يفرض على المدارس المسيحية التعليم الإسلامي! ولكن حكومة العراق قالت لأصدقاء أولئك الرؤساء وأنصارهم الأوروبيين والأميركيين، وأكدت لهم، أنها تمنح أبناء كل طائفة حق إنشاء مدارس طائفية، وتوليهم إدارتها، بشرط أن يقوموا هم بكل نفقاتها. فأبى الرؤساء مكابرين.
استمرت الشكاوى والاحتجاجات تنتشر في الدوائر الدينية والسياسية، فنمت إلى إذن تقية، في الوزارة البريطانية، هي إذن الرئيس نفسه المستر لويد جورج. فاهتم واغتم لمصير تلك الشعوب المسيحية القديمة، وقام يدعو لإنقاذها. أجل، قد دعا حتى أميركا للمؤازرة «في هذه المهمة العظمى التي تفرضها علينا المدنية.»
ولكنه في موقف آخر نسي أولئك المسيحيين ونسي تلك المدنية فعندما صرَّح المستر أَسكويث، زعيم المعارضة يومئذ، برأيه في السياسة الإنكليزية العراقية، ودعا الحكومة للجلاء عن العراق والاحتفاظ بمنطقة البصرة، نهض لويد جورج للدفاع فقال — ماذا قال؟ إن في الموصل أقليات مسيحية يتوجب علينا حمايتها؟ كلا. بل قال في البرلمان: «إن بلاد الموصل غنية بثروتها الطبيعية — غنية بالنفط.»
أما كلمته المجنحة. الكلمة التي وصلت إلى العراق، فهي تلك التي نطق بها «دفاعًا» عن المسيحيين، وعن مهمة التمدن المقدسة. فاعتز بعض المسيحيين، وتضاعفت الاحتجاجات والمكابرات. كيف لا؟ وقد روي عن رئيس إحدى المدارس الأجنبية أنه قال: «لم تعترف حكومتي بحكومة العراق، ولا أنا أعترف بمديرية المعارف العراقية.»
وما خلت مديرية المعارف في تلك الأيام من بعض الإنكليز الأحرار، الذين قاوموا تلك النزعات الطائفية والدينية، وسعوا سعيًا مبرورًا لتحقيق خطة عصرية وطنية. أما الذي جاهد من الوطنيين الجهاد الأكبر في هذا السبيل، فهو السيد ساطع الحصري، أحد أساطين التعليم في الشرق الأدنى. ولكنه لقي في جهاده من الصعوبات أشدها.
وكانت تظهر غالبًا في النزعات السياسية الحزبية التي تحكمت بالمديرية وحتى بالوزارة نفسها.
لقد ولد ساطع في صنعاء اليمن من أبوين سوريين، وتلقى العلوم في الأستانة، وهو منذ ثلاثين سنة يمارس مهنة التعليم، تدريسًا وكتابةً وإدارةً، في تركيا، وفي سوريا، وفي العراق. أما أن في لهجته العربية أثرًا من التركية فذلك لا يضير. إن حبه للعرب في قلبه، لا في لسانه. ولا أحد ينكر على ساطع الأخصائي مقدرته، أو على ساطع الرجل فضله. بيد أنه، مثل أكثر الأخصائيين، فيه بعض تزمت، فله في مسلكه خط واحد لا يعدوه، ونظر فيه يبعد ولا يتسع. لذلك ترى سجيته الكبرى في صلابة عوده، وفي حبه للنظام وقيوده. وكفى بالشطر الثاني منها قيدًا للرجل العامل، عالمًا كان أو سياسيًّا، في هذا الشرق العربي. إنه في الحالين ليلقى شتى الصعوبات والمقاومات.
وقد لقي ساطع منها، وهو مدير المعارف العام، الشيء الكثير، فكان في بعض الأحايين غالبًا، وفي أكثرها مغلوبًا. ولا عجب، وعوامل العداء لخطته ومبادئه أكثر وأشد من عوامل الولاء، فقد كانت الأولى تتجسم حتى في الوزراء أنفسهم المعينين غالبًا لإرضاء فئة من الناس، سياسية أو طائفية، وهم، وإن كانوا من السادة العارفين، غير خبراء في فن التعليم. ومع ذلك قد سلك ساطع المسلك الخشن، بما هو مفطور عليه من شدة الشكيمة، وقوة الإرادة، فأفلحت — كما قلتُ — بعض مساعيه، وكثر أعداؤه، فغدا في حال لا تطاق. ألا فالوزير ناقم، والحكومة مغضبة، ورؤساء الأقليات والمدارس الأجنبية غير راضين. استعاذ ساطع منهم بالله، ولبس خوذته الشبيهة بمباديه — لا تتغير — وراح ينشد الحرية.
أما وقد وصلت إلى هذه المرحلة من حياته التعليمية. وفيها مما له أكثر مما عليه، فسأعطي القارئ مثلين من عمله وأسلوبه. ليست المدارس الأجنبية كلها أوروبية وأميركية. بل هناك مدارس إيرانية — وإن قلَّت — تولد للعراق المشاكل والصعوبات، مثل غيرها من مدارس الأجانب، فقد كان في بغداد مثلًا مدرستان إيرانيتان، وكان الطلبة فيهما — وأكثرهم عراقيون — يُكرَهون على لبس القبعة السوداء الإيرانية. وما القبعة بذاتها شيئًا مهمًّا. أما إذا عُدَّت عاملًا من عوامل الدعاية الوطنية، فلا يجوز التغاضي عنها. فالمظاهر الوطنية في العراق ينبغي أن تكون عراقية، حتى في المدارس الإيرانية. هذا ما قاله ساطع لنفسه، ولأعوانه، ولرئيسه. على أن التدخل في مثل هذه المسائل يولد مشاكل سياسية، فضلًا عن أن الإنكليز — وبينهم وبين الحكومة الإيرانية مجاملات — لا يوافقون. فماذا بعد هذا في استطاعة مدير المعارف العام؟ إن في استطاعته أن يستنجد عقله الخصب، فاستنجده، فجاءه بحيلة، بمباراة.
أنشأ ساطع مدارس عراقية رسمية إلى جانب المدارس الإيرانية، وجعلها أحب إلى التلاميذ بجهازها وبمعداتها. جهزها بلوازم التدريس كافةً — بالخرائط الجغرافية، وألواح المحادثات، ومصورات الصحة والزراعة، والكرات الأرضية، وجعل أثاثها كله جديدًا. هي ذي الحيلة، بل هو ذا السحر الحلال، فقد سحر ساطع الأولاد بكراته الأرضية، وصوره الزراعية، فصار يزداد عددهم في مدارسه، وينقص في مدارس إيران، ثم كرر العمل في غير بغداد، وأنشأ في البصرة مدرسة للبنات تُباري المدرسة الإيرانية، فسحر البنات هناك بما سحر الصبيان في بغداد.
يذكرني الأستاذ ساطع بحيلته هذه بقصة تُروى عن ذلك الأميركي المحبوب. والمربي الصالح، الدكتور كرنيليون فان دَيْك. ركب الدكتور حماره ذات يوم وصعد إلى الجبل، فحيَّاه أحد الفلاحين في الطريق، وسأله: إلى أين؟ فقال الدكتور إنه قادم إلى القرية — قرية الفلاح — ليؤسس فيها مدرستين. فقال الفلاح مدهوشًا: ولماذا مدرستان دفعة واحدة؟ فأجابه ذلك الأميركي الحكيم: «حيث يذهب الدكتور فان دَيك يتبعه الجزويت.»
وقد مُني ساطع بغير القبعة الإيرانية التي أوحت إليه بالمباراة. مُني بأستاذ إيراني ينظُم الشعر. كأن روح الأكاسرة جاءت تنتقم لإيران، جاءت تخلق لساطع قضية يُقضى بها عليه، فقد سأله ذات يوم وزير المعارف أن يعيِّن هذا الأستاذ الشاعر، معلمًا في إحدى المدارس. فرفض ساطع الطلب؛ لأن الشاب أجنبي، فقال الوزير: «سيتجنس بالجنسية العراقية.» ثم جاء الشاب يسأل ساطعًا كم الراتب؟ ويقول: إن تغيير جنسيته هو أمر خطير. لقد كان التغيير موكولًا بالراتب، حسب الظاهر، وكان الراتب محبِّبًا إليه التغيير. فصار عراقيًّا، ثم صار معلمًا في إحدى مدارس العراق.
ولكن حب بلاده، الرابض في فؤاده، استفاق بعد بضعة أشهر، فهيَّج فيه القريض، فنظم قصيدة باللغة العربية تبدأ بمديح إيران وتنتهي بهجو العراق وأهله وحكومته. فلا الجنسية، ولا العشرون دينارًا، تفسد حب الأوطان. إلا أن قصيدة واحدة تكفي لتسلب الشاعر راحة باله — ووظيفته.
لقد عزل ساطعُ الشاب من وظيفته، فغضب الوزير وطلب أن يعاد إليها. فأبى ساطع، فأصر صاحب المعالي، ثم رفع القضية إلى جلالة الملك.
ولماذا يُزعج الملك بمثل هذا الأمر، وهو من خصائص مدير المعارف؟ سأل ساطع نفسه هذا السؤال ثم، التمس إجازة بالسفر، وهو يقول: لهم أن يفعلوا ما يشاءون في غيابي. وكذلك كان، فقد أُعيد الشاب إلى وظيفته لإرضاء صاحب المعالي، وأُعفي منها بعد عشرة أيام.
وكان ساطع بعد عودته قد أدرك الحقيقة في حياته التعليمية، وهي أنه قِرميَّة من السنديان، والحكومة تريد عيدانًا من القصب أو من الخيزران. فاستعفى ساطع وتعين بعدئذ مديرًا لكلية الحقوق.