مبارزة في علم التعليم
دعت الحكومة العراقية لجنة من الأساتذة الأميركيين المتخصصين بشئون التربية يرئسها الدكتور بول منرو، مدير المعهد الأممي وكلية التربية في جامعة كولمبيا بنيويورك، لدرس شئون المعارف في العراق واقتراح الإصلاحات اللازمة. فجاءت اللجنة، في آخر شباط سنة ١٩٣٢، وعادت إلى بلادها في آخر نيسان، بعد أن قضت شهرين في ما تسميه «الكشف التعليمي» فزارت مدارس بغداد وغيرها من المدن، وبعض مدارس القرى والعشائر، فوصلت جنوبًا إلى البصرة، وشمالًا إلى الموصل، ثم وضعت تقريرًا قدمته لوزارة المعارف، بسطت فيه مشاهداتها وآراءها، ثم اقتراحاتها الإصلاحية.
وبما أن الأستاذ ساطع الحصري كان المدير العام في الدور السابق، ومن المسئولين — رسميًّا — عما آلت إليه أحوال المعارف، نهض للرد على التقرير، فجاء رده في ١٥٠ صفحة وقد خُتم برسائل منه إلى الأستاذ منرو ومن الأستاذ منرو إليه، لا تخلو من الإشارات المزرية، والكلمات الوجيزة اللاذعة.
هذه هي المبارزة التي استوقفتني، فأُغريتُ بها. قرأت الكتابين، لا كطالب علم من العلوم الاختصاصية، بل كمتفرج تروقه المبارزة بين عقليتين الواحدة غَرْبية والأخرى شرقية، وهو يتمنى الفوز — لا أكتمك ذلك — للثانية. فهل كان ما تمنيت؟ لا، وا أسفاه! ولا كان ما خشيت، فقد نسي فارسي المغوار خصمه غير مرة، فوقف، ورمحه مخفوض؛ ليشرح حال رجل مغبون مجروح. وبكلمة أخرى قد حالت شخصية الفارس العربي دون هدفه، فما كان سيره إليه متصلًا، ولا كان طعنه دراكًا؛ ليوقع بالخصم ما كنت أتمناه.
أقف ها هنا في المجاز. إن بين العقليتين فرقًا ظاهرًا أصليًّا. فالواحدة تثق بمقدرتها، والثانية تتهمك في إثباتها. قد لا تكون العقلية الأميركية أقوى وأمتن، ولكنها أكثر تجربةً وتمرنًا. إن العقلية العربية في ترجيعها — اسمح بالاستعارة — وفي وقفاتها الشخصية، تفسح لمناظرها مجالًا للتبريز. أو أنها تمضي طليقة فتجول جولاتها الواسعة، وهي تهتز وتعتز، فتبعد عن هدفها، أو تضيعه، أو تنسى الخط الأقصر إليه. أما العقلية الأميركية فهي تقف مكانها، ثابتةً فيه، قانعةً به، مسرورةً حتى بحدوده، فتضرب وتناضل بقوة مذخورة، دون أن تجازف بشيء من تلك القوة في الجولات اللامعات. هي لا تعنى بروائع الوثبات ولا تقيم لها وزنًا، أو أنها تخشى أن ينكشف ما قد يكون كامنًا من سخف في درعها، فتكتفي في النهاية، وهي تبتسم ابتسامة الاطمئنان، بأن تُعَدَّ طعناتها الصائبة، وأن يُحسبَ فوزها فوزًا نسبيًّا.
تقول اللجنة في مطلع تقريرها إن التعليم في العراق تقدم، في عشر سنوات، تقدمًا، يذكر ويدهش، على ما اكتنفه من الأحوال السياسية. وإن هذا التقدم يتجاوز النطاق الخارجي، الآخذ بالتوسع، الشامل في الوقت الحاضر المناطق الكردية واليزيدية، وغيرها من مناطق الأقليات في البلاد. فإن مخصصات المعارف في ميزانية الدولة — وإن كانت لا تزال صغيرة — قد تضاعفت في السنوات العشر الماضية. ولكن النقص في نظام التعليم، ومواطن الضعف فيه، لا تتعلق بالميزانية، في نظر اللجنة، بل هي تقنية وإدارية. وأولها هو «التمركز التام في الإدارة»، ذلك التمركز المقرون بنظام للتفتيش «شديد الصلابة» فيحول دون الخروج «عن الأشكال المقررة». وبكلمة أوضح، إن ما يصلح لمدرسة في بغداد مثلًا لا يصلح لمدرسة قروية أو لمدرسة في سوق الشيوخ.
وما الذي دعا أولي الأمر لوضع هذا النظام؟ تقول اللجنة: هم «ادعاؤهم» أن وحدة البلاد القومية لا تتم وتتعزز إلا بتوحيد خطة التعليم. وهذا التوحيد يتوجب التمركز في الإدارة العامة.
أما اللجنة فهي «تناقض هذا الادعاء الرئيسي» وتتطلع إلى قلب الموضوع؛ أي إلى الغرض من التعليم. فإذا كان الغرض منه تحسين معيشة الناس في الأمة جمعاء — وهذا رأي اللجنة — فمن الضرورة أن تُشرَك السلطات المحلية في نشأة وإدارة المدارس «لتحمل الآهلين على الاهتمام بها، وعلى تقديم المساعدات المالية اللازمة لها.»
ومن الآفات الكبرى أن يعتقد الطلاب أن الغرض الأول من التعليم هو التوظف في الحكومة. فإن هذا الاعتقاد لا يربي في الناشئة وطنية صحيحة. تقول اللجنة: إنها ما رأت ما يستحق الذكر من الوطنية الحقة بين الطلبة والأساتذة. إنما هناك وطنية سلبية تقصر على العداء لكل نفوذ أجنبي في البلاد.
ثم تقول: إنها وجدت الحالة الخلقية في المدارس غير مرضية «الوزارة تعلم ذلك، وقد طردت ٣٧ معلمًا لسلوكهم المريب»، وإن الحالة الصحية لفي حاجة شديدة إلى الإصلاح، وإن الرياضية البدنية تكاد تكون مفقودة. أضف إلى ذلك آفة في برنامج التعليم، هي تعدد مواضيعه، وأخرى هي الاتكال على الذاكرة، دون عناية تُذكر بتدريب قوَّتي النظر والفهم.
إن في أوضاع سكان العراق حقيقة مخوفة، وهي أن الثلثين بالتقريب من العشائر والقبائل المقيمة والمنتقلة، والثلث الواحد من الحضر. لذلك يتعقد مشكل التعليم. فالخطة الرسمية القاسية التي لا تلين وتتنوع لتشمل مناطق الريف والعشائر، وتتناسب ومحيطها، هي خطة غير سديدة، هي خطة ناقصة، وقد تضر ضررًا جسيمًا.
ذلك ما تراه اللجنة. وهي تسهب في بحث أحوال المدارس في القرى وفي العشائر، وتستعين بما كتبه في هذا الموضوع الأستاذ فاضل جمالي مرشد المعارف بالأمس، ومدير المعارف العام اليوم. والأستاذ الجمالي شيعي المذهب، عصري الفكر، نيويوركي الثقافة، عربي الروح، الذي عاد من أميركا غانمًا ظافرًا — غانمًا زوجة فاضلة، وظافرًا بالعلم النظري والعملي — قد جعل عشائر العراق موضوع أُطروحته لإحراز شهادة الفلسفة من جامعة كولمبيا. هو إذن أخصائي في الموضوع، فلا عجب إذا استعانت اللجنة به.
والاثنان — أي اللجنة والجمالي — متفقان في أن منهج الدراسة الرسمي المتبع في المدن لا يصلح لمدارس القرى، والمتبع في القرى لا يصلح لمدارس العشائر. قالت اللجنة: «على المدرسة أن تتناسب وحاجات الأهالي التي تؤسس بينهم ومن أجلهم.» وعملًا بهذا المبدأ اقترحت اقتراحات في الإصلاح سديدة قيمة.
ها هنا ينتهي كل ما هو واضح صحيح محقق في تقرير اللجنة، ويبدأ التذبذب والتعثر وجمجمة الكلام، فقد وصلنا إلى مدارس الأقليات، العنصرية منها والطائفية، وصلنا إلى العقبة الكئود، إلى المشكل المعقد تعقيدًا شديدًا، إلى المسألة الخطيرة بما يكتنفها من عوامل السياسة والثقافة. فاللجنة تخشى أن يكون حل هذا المشكل غير ممكن في الوقت القصير القريب، وأن يستغرق حله سنين عديدة.
ثم تجيء بتصريحين هما من الأهمية بمكان. أولهما: «أن في تقاليد العرب وتاريخهم ما يثبت تساهلهم وحسن معاملتهم للأقليات العنصرية الدينية.» والثاني: «أن الأقليات العنصرية والطائفية طالما ولدت المشاكل الخصبة بعوامل التفريق والعداء، فسببت التدخل الأجنبي في شئون البلاد؛ لتحقق أغراضها الخصوصية، الدينية، أو الاقتصادية، أو السياسية.»
إذن، العرب متساهلون والأقليات مشاغبون. ولكن اللجنة تكتفي بما تقدم منها، فهي لا تستنتج شيئًا، ولا تحكم بشيء. إنما تقول: «لا علاج عند اللجنة تقترحه.»
بيد أنها تثني على الحكومة القائمة على مبدأ التساهل والمساواة في المساعدات المالية لمدارس الأقليات، وفي إرسال طلاب منها ليكملوا دروسهم في أوروبا وأميركا، ثم تقول بعد ذلك: «لو أذنت الحكومة لتلك المدارس بأن تغير بعض التغيير في برنامج التعليم الرسمي، أو تضيف إليه ما تراه لازمًا لحفظ تقاليدها، ومتناسبًا ومحيطها، لأحسنت عملًا، ولكان تساهلها كل ما هو منتظَر أو مطلوب.»
هذا الاقتراح تبديه في شيء من التحفظ والحذر، ثم تستجمع شتات الحزم والجرأَة لتقول إن برنامج الحكومة مثقل بالمواضيع، وإنه من الخطأ — نظرًا وعملًا — أن يُزاد بثقله. إذن، لا يجوز لمدارس الأقليات أن تضيف شيئًا إليه. هي ذي النتيجة المنطقية. ولكن اللجنة ترى أن تخفض الحكومة البرنامج الرسمي — تسقط من مواضيعه — لتمكن الأقليات من إضافة ما تريده إليه! وبعد أن تطلب هذه الامتيازات لمدارس الأقليات تحذِّر من المحاباة في امتحانات الحكومة، وتنصح بالمساواة في الامتحان والتعيين بين خريجي هذه المدارس والمدارس الرسمية.
بهذه الخطوات البطيئة الخفيفة الوقع تتقدم اللجنة إلى غرضها الأكبر، فتفلت الهر من الكيس، كما يقول الإنكليز. فاسمعي، يا حكومة العراق: «إذا كانت الأقليات أو الإرساليات الأجنبية الدينية — المسيحية طبعًا — تريد أن تنشئ مدارس مستقلة، فلا تطلب الامتيازات لا لها ولا لخريجيها، فلسنا نرى ما يوجب رفض طلبها.»
هذه الكلمات تعود بنا إلى الفصل السابق، وفيه رأي السر آرنلد ولسون أن العراق يحتاج إلى خميرة مسيحية، وإلا فهو ليس آهلًا للحرية والاستقلال. فاللجنة تتفق والسر آرنلد. إن لم يكن صراحة فضمنًا. أجل، إن الأميركيين مثل الإنكليز من هذا القبيل. أو أنهم يجاملون الإنكليز، فقد يكون أعضاء «لجنة الكشف التعليمي» دَرْوينيين أو لا أدْريين في بلادهم، ولكنهم — في هذا الشرق — مسيحيون.
-
الوقت الذي قضته اللجنة في الكشف كان قصيرًا.
-
الجو الرسمي الذي أحاط بها كان مفعمًا بالتحيز.
-
الزيارات السريعة، الشبيهة برحلات السياح، لبعض المناطق.
-
إغفال اللجنة التقارير التي أصدرتها مديرية المعارف، أو حبس المديرية هذه الوثائق الرسمية عن اللجنة.
فلو أنها اطلعت عليها لما كلفت نفسها النصيحة ولاستغنت عن كثير من الاقتراحات.
يرى ساطع أن في الجو المفعم بالتحيز والتحزب، وفي جهل اللجنة تقارير المعارف، برهانًا ساطعًا، على أن هناك حملة مدبرة عليه، فقد لُفِتَتْ أنظار اللجنة إلى أشياء فيها نقص وعوج، وما أُشير إشارة إلى النظم والتقارير المعدة لإصلاحها. هي تهمة يثبتها الأستاذ بالوثائق، ويؤيدها بالبراهين، فيضيع في ذلك أكثر ما تستحق من الوقت والاهتمام. إن هذه الناحية من رده تضعف موقفه في المبارزة. هي ناحية شخصية لا ينفع الاسترسال فيها، ولا يضير إهمالها.
لنعدها إذن إلى المسائل الجوهرية. يقول الدكتور منرو: «إن في التعليم طريقتين، الطريقة التي تصنع من الطلاب رجالًا للدولة، والطريقة المعروفة بالتعليم الشعبي أو العام. وهذه لا تزال غير معروفة في الشرق.» هي كلمة حق. ولأمَّن الأستاذ ساطع عليها لو لم يفته — على ما أظن — معناها، فرأى الإسهاب لازمًا فجاءنا بعشر صفحات ليثبت بالبرهان أن التعليم الشعبي العام كان معروفًا في الشرق — في البلاد الإسلامية — قبل أن وصل إلى الغرب بمئات السنين، ثم جاء بمثال مما تبقى من أثره وهو مدارس الملالي؛ أي مدارس المساجد. هذه المدارس الدينية التي يخصها الدكتور منرو ببضعة أسطر من تقريره، يشجبها الأستاذ ساطع بعد الإطناب، ولا يسأل الله لها غير — السلامة.
فهل تريد يا أستاذي العزيز، أن تبدل بخطتك الحديثة في التعليم تلك المدارس الشعبية المثلثة النعم — القرآن واللغة والحديث. لقد أسأت فهم الدكتور منرو، أو إنك بعدت في جولتك العلمية عن هدفه. إن معناه ليظهر لك واضحًا جليًّا إذا ما قابلت بين المدارس الألمانية قبل الحرب مثلًا والمدارس الشعبية الأميركية.
وثمة مثل آخر من الجدل غير المفيد. جاء عرضًا في تقرير اللجنة ذكرُ خطة التعليم التركية «التي كانت تحتذي الخطة الفرنسية». فكتب الأستاذ ساطع عشر صفحات ليعلمنا بأن خطة الحكومة العراقية خالية من كل أثر تركي (ويعطينا اثني عشر برهانًا على ذلك) وأن فيها شيئًا من الأساليب والمناهج المصرية، وأنها «غير مصبوغة بصبغة لاتينية.» كأنما الصبغة اللاتينية نكبة من النكبات في التعليم.
وها قد وصلنا إلى الجوهري في الموضوع. إن جواب الأستاذ ساطع على ما قاله الدكتور منرو في التمركز الإداري لجواب سديد مفيد. إن التمركز الإداري على نوعين، الأول يتعلق بالمنهاج، والثاني بالأمور الإدارية والمالية. وقد اقتصرت مديرية المعارف على النوع الأول، وسعت لأن تُشركَ البلديات في الأمور الإدارية والمالية. بل اقترحت قانونًا يجيز للبلديات فرض بعض الضرائب على الأهالي؛ لتصرف في تحسين أحوال المدارس. ولكن ذلك الاقتراح لم يُعمل به لأسباب سياسية وغير سياسية.
وكذلك أدركت مديرية المعارف، قبل مجيء اللجنة، أن مدارس القرى تختلف عن مدارس العشائر، وأن المنهاج الرسمي بحذافيره لا يصلح لا لهذه ولا لتلك، وباشرت النظر في أمره. أما التمركز الإداري حتى في نظام المعارف ومنهاج التعليم، فما هو بتمركز صلب شديد. فالمهم المهم فيه أن بعض المواضيع الحيوية اللازمة لشعوب العراق كافةً على السواء، ينبغي أن تُعَلَّم في كل مدارس العراق تعليمًا واحدًا، وينبغي ألا يُعَلم ما يناقضها أو ما يولد روح التنابذ والتخاذل بين مختلف عناصر الأمة. هو ذا الأمر الذي تذبذبت اللجنة فيه، وجمجمت الكلام، ثم اقترحت الاقتراحات من أجل المدارس الأجنبية والطائفية. فكان موقفها مضطربًا متزعزعًا، وموقف الأستاذ ساطع وطيد الأركان.
أما مسألة التفتيش فبدل «الصلابة الشديدة» التي يذكرها الدكتور منرو متخوفًا «نجد مئات من الوقائع التي تدل على الرخاوة الكثيرة» هذا ما يقوله مدير المعارف السابق. ومن أقام في البيت بضع سنوات هو أدرى بما فيه ممن جال فيه جولة قصيرة. هذه الحقيقة يعززها ساطع بالبرهان. فهو نفسه، لا أحد مفتشيه، رأى في مدرستين، في جوار بغداد — وكانت المسافة بينهما أقل من نصف كيلومتر — أن إحداهما كانت تعمل لأربع سنوات مضت بموجب تقارير وزارة المعارف، والثانية كانت تجهل بتلك التقارير. فأين «الصلابة الشديدة» في التفتيش؟
وها قد وصلنا في هذه المناظرة، إلى ما قد يكون مشكل التعليم الأكبر في العراق. فالغرض الأول من تأسيس المدارس في هذا الزمان هو إنشاء أمة عراقية عربية موحدة، وطيدة الأركان، ومشبعة بروح الوطنية التي تتجسد في الأعمال — في الخدمة والبذل — كما تقول اللجنة.
أما الأستاذ ساطع فهو يقول: إن اللجان والمعاهد الأجنبية لا تستطيع أن تساعد العراق في مثل هذه المهمة الوطنية. أما الأقليات فيمكنهم أن يساعدوا، ولا بد من أن يساعدوا، اللهم إذا تُركوا وشأنهم، فلا يفسد عليهم الوطنية والحياة المرسلُ الأجنبي، والمهذب الأجنبي، والسياسي الأجنبي. وإن اقتراحات اللجنة في هذا الأمر تعرقل عوامل التضامن وتعوق التوحيد.
إننا نسلم بوجوب تناسب التعليم مع حاجات الناس، وبوجوب إنشاء المدارس وفق بيئتها، وبوجوب تكييف منهاج التدريس لتلتئم والأحوال المحلية الاجتماعية والاقتصادية. إننا نسلم بكل ذلك. وإننا لذلك نقول لحضرة الأساتذة الأفاضل المشتركين في وضع هذا التقرير: إن في بيئات البلاد سيطرة أجنبية، وإن أحوال البلاد توجب القضاء على هذه السيطرة، وإن أول حاجات الناس، في أي بلد كان، هي أن يكونوا أحرارًا مستقلين، وإن هذا المثل الأعلى في الوطنية لا يُدرَك ما دام الأجانب مسيطرين سياسيًّا واقتصاديًّا في البلاد. ونقول كذلك إن مواهب أبناء البلاد وآدابهم — ما دام الوطن في هذه الحال — لا تبلغ الدرجة العليا المنشودة. تلك هي حال البلاد، وحاجات أهلها. وتلك هي طعنة ساطع الأخيرة في سبيل التعليم الوطني.
بعد ذلك يقف المتبارزان ويبتسمان ابتسامة الاعتذار والمجاملة. فإن الأستاذين الفاضلين — صديقي العربي والأميركي — في سوى ما تقدم، متفقان. ولكن الأستاذ ساطعًا لا يستطيع، وهو يخاطب اللجنة ورئيسها، أن ينسى خصومه السياسيين ببغداد. وكيف ينساهم؟ وهم الذين أرادوا إذلاله في جلب هذه اللجنة الأجنبية، وهو الأخصائي الوطني في التعليم والتربية، وهو العالم العامل، المجرب المدرب، واسع الاطلاع والخبرة في موضوعه — بشهادة خصمه الأميركي — كيف ينساهم وهم يزدرونه ويحملون حتى الملك على إهماله وهجره؟ أفينتظرون منه بعد كل هذا، أن يقابل اللجنة المحترمة بوجه باسم، وقلب هادئ، وعقل مستكن؟! أبشر هو أم إله؟ لا ورب الكعبة، إنما هو عربي، يغضب ويصول، ويكتب الفصول، في الدفاع عن نفسه وعن علمه. ولا يُلام إذا ما دقق في التشريح، ولا يؤاخذ بالشيء القليل أو الكثير من التعنت. فهو — دام فضلك — أستاذ، وهو أخصائي!
والغريب في هذه الكرامة المجروحة أنها تُعدي، فقد سرت منها جرثومة إلى الخصم الكريم، الأستاذ الأميركي الأفضل، الناشئ بين ثلوج العقل، المشرب روح القطب الشمالي. نعم، سرت إليه، فتحللت عقدة النفس المربوطة المضبوطة. فأسمعنا في جوابه الوجيز، تحت صليل سلاحه العلمي والعقلي، همسات قارسة. بل جاءنا، في كلمتين، بقطرتين من حامض الكربونيك. «كنا نتوقع منكم هذا الموقف الانتقادي … والكثيرون من رجال الحكومة ودوائر المعارف أنذرونا سلفًا بمقاومتكم … نعم لقد كان هذا الموقف معلومًا قبل أن تطلعوا على التقرر. وذلك ما يخفف من حدة المقاومة، ويذهب بلذعة الانتقاد.»
ثم رد الأستاذ على الرد فكان شاكرًا حامدًا مبتهجًا. وكيف لا يبتهج، ورئيس اللجنة نفسه يعترف بما فيه الدليل على تلك الحملة المدبرة! فإن أولئك الذين أنذروا اللجنة هم زملاء من سعوا لجلبها «للكشف التعليمي». فلا يلام أحد سواهم إذا ما انقلب الكشف عليهم وغدا تكشيفًا! بيد أن الأستاذ ينكر أن في ما كتب شيئًا من الحقد أو سوء القصد. وهو يؤكد للدكتور منرو أنه ما فكر في انتقاد اللجنة قبل أن قرأ تقريرها.
ثم عاد المتبارزان إلى الابتسام، فقد أحس الدكتور منرو ببعض التعزية في أن ساطع بك لم ينتقد ما وضعته اللجنة من الاقتراحات العامة الأصلية. «وفي ذلك ما يحملني على الأمل أن موقفكم العدائي لن يتصل بجهود الشبان الذين سيُعهد إليهم بتنفيذ هذه الاقتراحات. إن هؤلاء الشبان يحملون مثلي في قلوبهم أكبر الاحترام لاختباركم الكثير، واطلاعكم الواسع … ويعرفون أن ما بذلتموه من الجهد والمقدرة في وضع نظام المعارف الحالي هو أكثر من أية خدمة أقوم أنا بها بوساطة هذا التقرير.»
فأحنى الأستاذ ساطع رأسه دون أن يبتسم لابتسام الأستاذ منرو، ودون أن يقتدي به في المجاملة. فإنه يعرف أولئك الشبان — وهم عراقيون كملوا دروسهم في جامعات أميركية — هو يعرفهم كل المعرفة. «وقد عودتهم على سماع آرائي فيهم بكل صراحة … غير أني أعتقد أن أكبر مساعدة معنوية أستطيع أن أسديها إليهم الآن هي السعي لتوسيع أفق ملاحظاتهم فتتعدى الدائرة الضيقة التي هم فيها، ولحملهم على تدقيق الأمور بنظرة محلية تستمد أنوارها مما يجري في جميع بلاد العالم، لا مما يجري في قطر من الأقطار على وجه الانحصار.»
إن مهمة التعليم هي بث العلم الصحيح بين عموم الناس بقدر ما تأذن الأحوال من الاطراد والتوسع؛ لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات، ويقوي ثقتهم بأنفسهم، وبمستقبل بلادهم، ويزيد في إنتاجهم الاقتصادي والزراعي. وبكلمة أخرى؛ ليضمن العيش الهنيء للشعب، والفلاح للأمة.
إن هذا التحديد لمهنة التعليم هو أحسن ما قرأت، وأحسن ما أختم به هذا الفصل. وإني أحب في آخر الختمة أن أعيد وأمكن هذه الكلمات: «لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات.»