الحقائق …
جئت بغداد من أفق كان في قديم الزمان كثير الأنوار والألوان. جئتها وفي القلب أثر عميق مما لا يزال من تلك البهجة في كتب التاريخ والشعر. بل جئتها من عالم الأحلام المدبجة حواشيه بالذهب والأرجوان. وبكلمة أخرى لقد جئت بغداد من عالم «ألف ليلة وليلة». فهل يُعجب إذن لخيبتي، وهل يُستغرب غمي؟
بيد أن تباين الحقيقة والخيال هو في يومنا هذا كما كان في الماضي. ولكن الزمان يُلبس الأشياء ثوبًا من التقليد والتقديس، ويرفعها في عيون الناس إلى منزلة الوحي المنزل. يحق لنا إذن — ونحن في هذا الزمان نعرض للبحث حتى الوحي المنزل — أن نبحث وننتقد ما يجيئنا به التاريخ قبل أن نقبله مصدقين معجبين، أو نرفضه مستنكرين.
وليس هذا بالأمر السهل. من ذا الذي يستطيع أن يجيب مثلًا على هذا السؤال: أين تنتهي الحقيقة في عهد العباسيين الذهبي، وأين يبدأ الخيال؟ وما هي الحقيقة في عصر هرون الرشيد؟ وما هي الحقيقة في بغداد الرشيد؟ هل ننكر ما جاء بخصوصها في «ألف ليلة وليلة» وفي التواريخ كثيرٌ مما في تلك الحكايات؟ لا شك أن بغداد كانت كدمشق أو كالقاهرة، أو كانت تفوقهما في عمرانها وبهجتها. ولا شك أن الرشيد كان يفتخر بها، ويفاجئها من حين إلى حين بطرائفه وغرائبه. ولا شك أن الصيادين كانوا ينعسون بل ينامون على شاطئ دجلة، وهم يرمون بشباكهم للأسماك. إني أصدق كل ذلك؛ لأنه الحقيقة بعينها حتى في هذا الزمان. فهناك بغداد تزين البلاد، وهناك ملِيك مثل الرشيد من صميم العرب، وله مثل ذلك العباسي رغبة بالتنكر فرارًا من أبهة الملك، وحبًّا باستطلاع أخبار الرعية. وهناك كذلك الشعراء والصيادون.
أما تلك الصلة الأخوية، الرشيدية، «الألفْليلية»، بين الملك والصياد فإنك لا تجدها. قد يكون الملك ديمقراطيًّا، وقد يكون الصياد فيلسوفًا سقراطيًّا. ولكنهما يسيران كلٌ في سبيله، في خط مستقيم أو معوجٌ، ولا يلتقي الخطان حتى يجيء صاحب «أعذبُه أكذبُه» أو صاحب الحكايات الشهرزادية، فيرى ذات يوم ظل الملك قريبًا من ظل الصياد، فيلفق القصة، يؤلف الأسطورة، التي يتذبذب فيها الخطان — الظلان — ويدنو الواحد من الآخر، ثم يتلامسان، ثم يلتفان ويشتبكان، ويتلونان بألوان قوس قُزح، ويتكونان أشكالًا فنية، رومنطيقية، «ألفليلية» تبهر الأبصار، وتسحر ألباب الصغار والكبار.
•••
لست أنكر سحر الآيات، وأعاجيب الحياة، حتى في هذا الزمان. فالصياد البغدادي موجود كما قلت، والملك كذلك من حقائق الوجود. ولا يُستغرَب إذا أمعن الصياد في الأحلام، وود أن يكون ملكًا من ملوك الزمان. ولا يُستغرب إذا اشتهى الملك في بعض الأحايين، أن يكون من الصيادين. وقد تتحقق رغبة الاثنين، فيهتف الشعراء قائلين: لا حقيقة ثابتة غير حقيقتنا. الحقيقة الشعرية فوق كل الحقائق.
وإني أسأل سؤالًا آخر: كم كان حظ عامة الناس من تلك المدينة العباسية الباهرة؟ هل كان يتمتع الصياد والملاح والإسكاف والفلاح بشيء من تلك النعمة التي كانت تبسط أجنحتها الذهبية في البلاط وفي قصور البرامكة؟ وفي كل مكان قريب من ظلال القصور الملكية والأميرية؟ هل كان للسواد من الناس بعض ما للخاصة من الثروة والثقافة والسعادة؟ هل عم بغداد ذلك الزهو والسرور، وذلك الترف والتأنق في العيش، وذلك المجد والعز والتذوق؟
وهذا الجزء الأكبر هو المدينة. أما الدور والقصور، وإن كانت في قلبها، فليست هي منها. وفي الدور والقصور المرافقُ والأثاث والأعلاق، وفي غيرها الفقرُ والأمراض والأقذار، والقناعة والاستسلام بين الأقذار. هناك أقلية تستمتع بخيرات الأرض وبطيبات الحياة، وهنا السواد من الناس وهم قانعون بالنعيم المنتظر، وبما تعدهم به الكتب المنزلة.
وبما أن السواد من الناس يعيشون محرومين في الدنيا تراهم شغفين أكثر من سواهم بالقصص والأساطير التي تمثل النعيم المنشود.
حقيقةُ النعيم، أو بعض حقيقته، للأمراء والأغنياء، وحديثٌ عنه — حكايةُ أو أسطورة أو قصيدة — للسواد من الناس. ومع أن السينما تغزو اليوم بلاد القُصَّاص، فيتهافت العرب عليها ليروا ويسمعوا شهرزاد هذا الزمان — الشاشة البيضاء وما وراءَها — فإن القصاص لا يزال مالكًا سعيدًا. وله عرشه في القهاوي.
وهذا الشغف بالحكايات والآيات والمعجزات، هذا التعظيم للخيال، هذا التقديس للمحال، لا يزال في الشرقي من الخلال البارزة. فهو يقنع بظل الحقيقة، ويقبل متورعًا محبورًا ما يُحاك من الظلال كما لو كان حقائق دينية، ثم يعلل النفس بلحم تلك الحقيقة ودمها، بجسمها المادي. كذلك كان الشرقي، ولا يزال على الإجمال كذلك.
وقد شحذت هذه الخلةُ المخيَّلةَ منه، فأصبحت بعامل الوراثة شقيقة العواطف في السيطرة على نفسه — في عقائده وأحكامه، وفي آرائه وأهوائه. ولا عجب إذا خضعت كلها للخيال، واعتصمت بالمحال. فمن يستمتعون بطيبات الحياة لا يضيِّعون الوقت في أحاديثها. ومن يحرمونها يسترسلون في الأحلام التي تزينها المخيلة وتذهِّبها الأهواء. فتتمثل أمامهم؛ إذ يسمعون القصاص أو يجلسون اليوم أمام الشاشة البيضاء، صورًا مستغربة، خلابة.
ومن هذه الصور صورة بغداد في عهد العباسيين الأول. وحسب اللبيب الإشارة إلى ما يولده الشغف بالخيال، والتلذذ بالمحال، من حب المبالغة والغلو، حتى في النظر إلى حقائق التاريخ، وحقائق الحياة اليومية. فالمؤرخ من هذا القبيل شاعر، والشاعر مؤرخ، والقصاص مؤرخ وشاعر معًا. بل هم ثلاثة أقانيم لشخص واحد عجيب.
وكلهم مجمعون على ما كان من عظمة بغداد ومدينتها، فقد كان فيها، كما يقول المؤرخون، عشرة آلاف حمام، وثلاثون ألف مسجد! فإذا كان عدد سكان المدينة مليوني نفس، كما جاء في التواريخ، يكون لكل مائتي شخص حمام، ولكل ستة وستين مسجدٌ واحد. والمئتان يقيمون في ثلاثين بيتًا، والستة والستون في عشرة بيوت. فهل يُعقل أن يكون لكل ثلاثين بيتًا حمامٌ عمومي، ولكل عشرة بيوت مسجد؟
•••
العربي يرى ولا يعد. وهو في التقدير، إذا كان ما يراه كثير العدد، يعوِّل على الخيال دون العقل. وهاك المثل. إذا دخل أعرابي إلى بغداد اليوم من الجهة الغربية يرى في ناحية الكرخ، عند الجسر، إلى الجانبين، عددًا من المقاهي، ثم يرى صفين آخرين في ناحية الرصافة؛ كذلك عند الجسر، بينه وبين شارع الرشيد. وإذا ما مشى في شارع الرشيد إلى جامع مرجان، يرى بين كل مائة متر وأخرى جماعات من الناس يدخنون الأراكيل ويلعبون الطاولة والدومينو. فإذا سُئلَ بعد ذلك ماذا رأى في بغداد؟ يقول: المقاهي المقاهي في كل مكان. فيحدِّث عنه مَن يسمعه ويقول: ليس في بغداد غير المقاهي. فيحدِّث الثالث ويصفها بالمئات. فإذا سمعه المؤرخ يجزم بالمئات، وقد يتجاوزها إلى الألف أو الألفين. ولكن الشاعر يفضل عليها لفظة الألوف؛ لأنها في الشعر أعذب من مائة، وأبلغ من ألف. وعندما يسمع القصاصُ الشاعر، ويطفق يلفق الحكايات، فحدِّث عن مقاهي بغداد ولا حرج.
كذلك تجيئنا الإحصاءات وقد بلغت عشرة آلاف من الحمامات، وثلاثين ألفًا من المساجد، وعشرات الألوف من المقاهي. وليس في بغداد اليوم ما يتجاوز الأربعمائة مقهى، أكثرها في الشارع الجديد، شارع الرشيد. وليس فيها من الجوامع أكثر من خمسين، أضف إليها حوالي ضعفيه من المساجد.
ويْلِي من الأرقام! فسينبري لي غدًا أحدُ أرباب التاريخ الحديث المحققين المدققين ويوبخني قائلًا: إن في بغداد خمسة وخمسين جامعًا وأربعمائة وعشرة مقاهٍ. فينبري له محقق مدقق آخر ويقول: المقاهي هي ثلاثمائة وتسعون عدًّا، والجوامع تسعة وأربعون. وتحتدم بعد ذلك المناقشة، فيخرج من أحد المقاهي جاحظها ليعدها، ويتبرع أحد الأئمة أو المؤذنين بإحصاء الجوامع والمساجد!
وعندئذ يتبين أننا كلنا في خطأ معيب. وإن كان الفرق، صاعدًا أو نازلًا، لا يتجاوز العشرة أو العشرين. بيد أن ذلك في علم التاريخ ارتقاء يذكر. والفضل فيه لمن وجَّه السؤال ذات يوم إلى أحد الصيادين الذي كان يسقف السمك على شاطئ النهر، تحت المقهى، بالقرب من جسر مود، إلى جانب الكرخ. سألته: وهل تعرف كم ببغداد من المقاهي؟ فأجاب: بقدر ما في دجلة من السمك. فقلت: وكم تظن عددها في طرف هذا الشارع؟ فقال: كله قهاوٍ، ولا يحصيها إلا الله!
فرُحتُ أعُدها — أحصيها — فإذا هي، من تمثال الملك فيصل إلى الجسر، تسعة مقاهٍ لا غير.
وَيْلي من الأرقام! فقد يتعطل الفونوغراف في أحد هذه المقاهي، فيولي «أبناء الدومينو والشيشة» وجوههم شطر مقهى آخر، فونوغرافه عامر، وألحانه صياحة — كردية تركية مصرية — فيضطر صاحب المقهى المعطَّل فونوغرافه أن يقفل بابه، ويودع أصحابه. أو قد يجيء كردي بفونوغراف جديد، وينصبه تحت النخيل، ويضع حوله طاولتين وديوانين من الخشب العادي المسوس، فيزداد عدد هذه المقاهي أو ينقص، قبل أن يصدر هذا الكتاب، مقهًى أو اثنين.
•••
أعوذ بالخيال من الأرقام. وأعيذك، أيها القارئ العزيز منها. تعال إذن نعتصم بالخيال الشعري. وعندي منه الآن ما لا ينكره العقل، ولا ينفر منه التاريخ.
هاك دجلة، وهاك القُفة فيه. تلك القفة التي صُنعت بعد الطوفان في مرفأ أور الكلدانيين. وهي اليوم، كما كانت في زمن العباسيين على الأقل، تُصنع من الخوص، وتُطلى بالقار داخلًا وخارجًا. فلو عاد إلى هذا الوجود أحد نَواتيِّ بغداد القديمة لكان يهلل للقفة، وبحمد الله أنها لا تزال على شكلها الأول، وأن ألف سنة لم تغير شيئًا فيها. وقد يكون النوتي البغدادي الذي يحرك مجذافها اليوم من سلالة صياد الرشيد، وقد يكون الجد كذلك لسلالة مقبلة من الصيادين تستمر ألف سنة أخرى. فيجيء رحالة القرن الحادي والثلاثين، ويقف فوق دجلة على جسر معلق من حديد، فيرى القفة، ويعثر بعد ذلك على نسخة من هذا الكتاب، فيستشهد مؤلفه على ألف سنة في الأقل من عمرها.
وما هذا كل ما في القفة! فبينا صاحبها يجذف من حين إلى حين؛ ليحفظ خط سيرها في مجرى النهر، يبدو لك كنز آخر من الكنوز التي لا تمسها يد الفناء، ولا تعبث بها يد التغيير. هناك، على وجه دجلة، في صباح يومٍ شمسُه كريمة، ترى اللؤلؤ في نقط الماء التي تتساقط من المجذاف، وهو يرتفع فوق الموجة، وترى حول الموجة، وهو يغطس فيها، ذوب اللجين وقد تخلله الذهب الوهاج.
فلو عاد إلى هذا الوجود شاعر من شعراء نينوى، أو غادة من عيد بابل، أو كاهن من كهان أور لهلل — لهللوا كلهم — لهذه الشمس الشارقة، المقيمة على عهدها، الثابتة في خيرها، الناثرة على دجلة، حتى حول مجذاف «القفاف» لؤلؤ الذكريات، وذهب الآمال، الذكريات والآمال التي تنعشنا اليوم وتحيينا، كما أنعشت وأحيت أهل أور، وأبناء نينوى وبابل.
وفي هذه الأرض المنبسطة أرض العراق تجيء الشمس في الشروق والغروب لطيفة النور؛ ناعمة الوهج، لا تحمل الكنانة، كما يصورها الشعراء، لتطارد النجوم، وترمي بسهامها القباب والأبراج.
هي شمس الأم تحضن الأرض في الصباح، وتتغلغل حبًّا وحنينًا في قلب العراق وأبنائه.
هي شمس الفنان، تلمس اللازورد في قباب الجوامع، فيستحيل ياقوتًا أصفر، وتكسو المآذن البيضاء بحلل من الدمقس المعصفر.
هي شمس المحسن الأعظم، تسير فوق السطوح المسوَّرة، ولا تكشف سرها، وتقف فوق الجفون النائمة، فتبشرها بعودة الحياة.