في واحات الشعر
ليس في العالم العربي اليوم، لا في العراق ولا في سوريا ومصر، لغة للشعر جديدة بأجمعها — بمعانيها وبمبانيها، بأساليبها وفنونها، بأغراضها ومصادر وحيها. فإنك لا تجد بين الشعراء العراقيين أو السوريين أو المصريين شاعرًا من طبقة الشعراء الأوروبيين الحديثين في نطاقهم الرحب، الاجتماعي والوجداني، الطبيعي والروحي — شاعرًا مثل إميل فيرهارن البلجيكي، أو وليوم بايتس الأرلندي، أو جان ماسفيلد الإنكليزي، أو روبرت فراست الأميركي.
وكل واحد من هؤلاء الشعراء يختلف عن زميله بالأسلوب الشعري، والأغراض الشعرية، ويتفق وإياهم في الخروج من قديم الأوضاع والمواضيع. هم الأعلام لشعر جديد في أوروبا وأميركا، قد يُستغرب عندنا وقد لا يرى فيه القارئ العربي المحب للشعر، المتذوق محاسنه، ما يستسيغه. فالصور فيه جديدة، قليلة الألوان الزاهية، والأوزان قائمة بالإيقاعات التي تقع في أنفسنا وقع الألحان البدوية في أنفس المتحضرين. بيد أن له هناك منزلة عالية، لما يحتويه من مشاهد الحياة الحديثة ومشاكلها، ولما فيه من الفن الفكري.
وقلما نجد شيئًا من هذا في الشعر العربي. قلما نجد شيئًا من منازع النفس التي تحررت من قيود التقاليد، ولا تزال مضطربة حائرة، أو من أغراض العقل المكتشف الفتاح، أو من الأهواء البشرية المقرونة بتصوف، أو من الأهداف المادية التي تلحفها سحب الخيال الورع الوديع.
ولكنَّ في الشعر العربي آثارًا للتطور ظاهرة، وإن كانت لا تزال مائعة، أو ضئيلة، أو متقلقلة. وما أمر تبلورها وثبات اتجاهها ببعيد. ومما لا ريب فيه أن هذا التطور سيشمل المعاني والمباني، وعندئذ يقرأ المتأدب العربي الشعر الأوروبي الحديث ويستسيغه. عندئذ يدرك الجمال في التصوف المستحدث الذي ينبو عن التقشف، ولا يتدرع بالأوهام، ذلك التصوف القومي مثلًا الذي يربط الأمم بأرواح لها ماضية، ويشعل أنوار رموزه في هيكل البعث والتجدد. عندئذ نرحب بالشعراء الأوروبيين والأميركيين كإخوان لنا في غير الأوزان والقوافي.
لقد تقيد الشاعر العربي — وخصوصًا في الماضي — بكل ما هو محسوس منظور، وما تقيد في صناعته بغير القواعد والاصطلاحات الشعرية. أما تقييد العقل والتصور بشيء من الاتساق المعنوي، والتجانس الروحي، والاقتصاد في التعبير، والارتداع في مواقف الإطناب، بشيء من الذوق الفني الذي يوجب الوحدة في القصيدة، وضبط القريحة في فيضها، بشيء من التحليل الفكري والنفسي الذي يقي الشاعر هَون التعميم والغلو — فكل ذلك مجهول على الإجمال لدى شعرائنا، ونادر الوجود في شعرهم.
وما الشعر العربي الحديث في مجمله غير أصداء لأصوات الشعر الماضية، وأشباح لألوانه وأشكاله. فهاكم القصيدة بوجوهها القديمة كلها — بمحاسنها اللغوية والبيانية، وبمصادر وحيها، وبقوالبها القاسية، وبمواضيعها الأبدية — المديح والرثاء، والغزل والاستجداء. أما في الجيد من هذا الشعر فقد يغلب في هذا الزمان الحماسة الوطنية، والمنازع القومية، والاكتئاب والنحيب. ها هو ذا الشاعر واقفًا على الأطلال الجديدة في الأمة، وفي نفسه فيرثيها دامعَ العين، داميَ الفؤاد. وهو يمجد الماضي، ويعدد محاسن الأجداد، فيصوغ القوافي حينًا من الماء المالح، وحينًا من النار والحديد. هي ذي أمة عربية مصفدة، فلتنقذْها. هي ذي أمة عربية مجزئة، فلنوحدها. هي ذي أمة عربية مستضعفة مستذلة، فلنجعلها قوية عزيزة مستنصرة.
هو الصوت الأعلى لشاعر اليوم، إن كان في القدس أو في بيروت، في بغداد أو في النجف في مكة أو في القاهرة. هو صوت تخنقه العبرات حينًا، وحينًا يضطرم بنيران الحماسة والفخر، وحينًا تتطاير منه شرار النقمة والانتقام.
وإنه ليندر بين الشعراء المبرزين اليوم من يخلو شعره من القصائد الوطنية، ومن تخلو قصيدته الوطنية من قافية هي طعنة للأجنبي البغيض، الأجنبي المفسد للمنازع الوطنية كلها، الأجنبي المستعمر. إن لهذا الشاعر، إن كان من الطبقة الأولى أو العاشرة، صوتًا مسموعًا في كل مكان، فيهز من النفس أصولها وفروعها، بل يضرم فيها نار الغيرة على أمة مستضعفة، ووطن مستعبَد، ويحبب إليها الجهاد في السبيل الأشرف، سبيل الاستقلال والحرية.
أجل، إن صوت الشاعر الوطني لمسموع، وإن قصائده لتستذرف الدموع؛ لأنه يصوغ قوافيه كما صاغها قبله شعراءُ الجاهلية، ويرسلها في أوزان لها جرسها وروعتها، وما فقدت شيئًا من سحرها اللفظي، وجمالها البياني. هو ذا الشيء الذي ألفه البدوي في البادية، كما ألفه ربيب المدن. ولا يزال الاثنان واحدًا في تقدير هذه المحاسن الطنانة البراقة، واحدًا في الشغف والطرب لدى استماعها، واحدًا عندما يكون الموضوع مجد العرب المفقود، ومجدهم المنتظر المنشود.
بيد أن هذه الوطنية الجديدة تضيق وتتسع، وتشع وتصطخب، بحسب محاسن الشاعر العقلية والفنية والذوقية. وهي تسمو في بعض الأحايين، فيصفو جمالها، وتتقد لهجتها، في قصائد شاعر يحفظ التوازن بينها وبين صناعته، أو بين حب الوطن وحب الفن، فلا يرفع الواحد على الآخر، ولا يقدم الزائل على الخالد في الحياة. إن مثل هذا الشاعر ليستطيع التوسع في الوطنية، فتشمل الإنسان في منازعه، والإنسانية في غمراتها.
•••
سأتحدث هنا عن أربعة من شعراء العراق تتجاوز منازعهم الشعرية الوطن والإصلاح هم الزهاوي والرصافي والشبيبي والصافي. فالأولان جابت شهرتهما الآفاق، والأخيران لا يزالان ضيقي الشهرة. وأحد الأخيرين يؤثر الإقامة على التجوال، والعزلة على الاجتماع، وفقًا لمزاجه، والآخر، وقد رفع الأوتاد، يشد للرحيل، وقد يسبق في جوب الآفاق زملاءه جميعًا.
إن الأربعة لمتفقون في ما يتفكك في نظمهم وخيالهم من قيود التقليد، ومختلفون روحًا ومنزعًا. ومختلفون كذلك في ما وُفقوا إليه من التجديد معنًى ومبنًى.
لا ريب في أن الزهاوي والرصافي هما اليوم كبيرَا شعراء العراق. وقد يختلف الناس في مَن مِن الاثنين هو أخلق باسم التفضيل، ولا يخلو الاختيار من الذوق الشخصي والتحيز. إنما الاثنان واحد في الحرية الفكرية، سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا. والاثنان واحد في الروح الوطنية التي تتسع لكثير من المنازع الشعرية، التقليدية والعصرية. والاثنان واحد في التحليق وفي الإسفاف. إلا أن الزهاوي يفوق الرصافي على الإجمال في علمه وخياله، والرصافي يبز الزهاوي في الصناعة والديباجة، الزهاوي في حملاته الإصلاحية مدفع رشاش، والرصافي سيف بتَّار. الزهاوي فيلسوف ينظم الشعر، والرصافي شاعر يهوى الفلسفة. وكفي بهذا من المقارنة والتعميم.
•••
جميل صدقي الزهاوي هو في السبعين من سنه الزمنية. وفي العشرين من سنه الشعرية. وهو في المصائب أبوها وخالها. على أن السنين والعرج والدَّرَد، وغيرها من نوائب الحياة، لا تفل من عزيمته، ولا تؤثر على نشاطه، ولا تجرؤ أن تدنو من قلبه وروحه وصوته. فإذا كان لا يستطيع أن يقف كالرمح فإن في نبراته رماحًا، وفي نظراته شرارًا وفي نبضات قلبه إيقاعًا لا يهن ولا يخل. وهو يحسن المجون، فيُضحك حتى الجائع في جنازة، ويسترسل في الشجون فيُبكي حتى إبليس. له لهجة الأنبياء، وما يصحبها من آيات، ومن آفات. وله في التجديف، لفظ شريف، وفي التهكم، كلمات تبكم. فهو يفتل إلحاد الخيَّام بشكوك المعري؛ ليصنع منها سوطًا لشيطانه، ومطية لبيانه.
إن للزهاوي آثارًا شعرية نفيسة. وأنفسها في نظري، وأحقها بطول البقاء، قصيدته، أو ملحمته الصغيرة، «ثورة في الجحيم» فإنه، وإن اقتفى فيها أثر شاعرين، عربَي وغربي؛ لَيقف في التقليد عن الفكرة الأصلية الأولى في زيارة الجحيم والنعيم. فهو يختلف عن المعري في «رسالة الغفران» وعن دانته في «الكوميديا الإلهية» فيطرق الموضوع من باب جديد، وقد جاءه كمسلم مشكك في إيمانه، وجاء في باللطائف والطرائف الفكرية والخيالية.
تبدأ القصيدة بوصف الملكين المنكرين، منكر ونكير، وقد زاراه وهو في رقدة بقبره، زيارةً استنطاقية. فسألاه عن أمور كثيرة تتعلق بحياته وبدينه يوم كان في الأرض حيًّا، فجاملهما مجيبًا على أسئلتهما بما يجيب المسلم، المؤمن بكل شيء — بالله وبالآخرة، وبالحشر والميزان والحساب، وبالجنة و— الجحيم؟ — كلا. فعندما وصف منكر الجحيم توقف الغريم بالمجاملة، فجهر بما كان في شبابه من إيمان بالنار، ومن شكوك فيها.
•••
ويشرع بعد ذلك يصف الصراط، ويعجب بدقة صنعه، وبكيفية العبور على شيء هو كغرار السيف، أو كالشعرة.
ثم يسألانه عن الجن، الصالح منهم والطالح، وعن الملائكة الأبرار، وعن الخناس والعفاريت والشياطين، فيجيب بجواب الخائف المذبذب. فهو يرتاب بكل ما لا يدركه العقل: ثم يعود إلى المجاملة فيقول:
فلا يقتنع الملكان. ولكنهما يتساهلان معه ليمعن في كفره. فيحاول أن يغير الموضوع، فيجيء في سلسلة القصة بحلقة ركيكة. وما دخل المرأة بمجلس التفتيش الديني؟ فالشاعر يطيح من الإلهيات إلى النسائيات طيحة واحدة. بل يهبط كالحجر في بئر، يهبط من سماء الملائكة إلى السفور والحجاب! وليس في القصيدة التي تعالج مواضيع الآخرة، الإلهية والشيطانية، مجال لأمور في الحياة زائلة كالحجاب والسفور. بيد أن الشاعر في هذا الموضوع صريح فصيح، لا تذبذب في رأيه ولا مواربة.
ومن قعر بئر الحياة الدنيا يعود فيثب، وثبة واحدة، إلى السماء؛ ليجيب على السؤال عن الله، فيصفه بالمعلوم المألوف من صفاته، وهو من شكه فيه يكاد يخور، ثم يلقي بحجته، وهي أن الإنسان ولد مسيَّرًا لا مخيَّرًا، فإذا كان كذلك في كفره وإيمانه «فإن الجزاء شيء نكير.»
بعد ذلك يفك قيود الخوف والتذبذب، وينطق بما يظنه الحق اليقين، وهو أن الله هو الأثير.
كأني بالزهاوي قد استعار من الهندوس «نرفانتهم» وأسماها الأثير، ثم يتلو هذا التصريح الجَمْجمة إذا يرى فوق رأسه الملكين الفظيعين.
فلا عجب إذا جبن الشاعر وارتاع، وفقد حتى لغة الشعر، فنطق بالنثر المنظوم، وراح يستعطف الملكين ويرجوهما أن يتركاه، ولا يزعجاه في قبره. ولكن الاستعطاف لم يجده نفعًا، فنفخ وهاج، ووقف أمام الملكين وقف السائل الحانق، لا المسئول المرتعب.
ولماذا لم يسألاه عن وفائه وصدقه، وعن دفاعه عن المرأة؟ ولماذا لم يسألاه عما نظم من الشعر وهو سلم المعالي كلها؟
ولكن المنكرين لا يهمها من ذلك شيء، فقد جاءا يستنطقان الميت في دينه وما إليه من عقائد وفرائض. وهذه هي وظيفتهما. فاستأنفا الاستنطاق، وقد وصلا فيه، إلى جبل القاف. وماذا تقول يا كافر، في يأجوج ومأجوج؟ — أقول: العقل خير مشير. العقل — فيصيح به المنكران، إنك لرجس كافر، فيلين مستعطفًا، فيزدادان غلاظة، فيحاول أن يئول ما جهر به ويلطف من لهجته. بل هو يعترف أنه مؤمن. ولكن الإيمان بعد الكفر لا يفيد. قُضي الأمر. حمَّت ساعة العذاب. فهوت المقامع على ظهره وبطنه، فأجرت من جسمه الدم، ومن عينه الدموع.
في هذين البيتين من ركاكة النظم مثلان، الأول «لسوء حظي» فهي من مألوف النثر والثاني «فيه بثور» فالبثور في الوجه المجدور لا تحتاج إلى إفصاح، لست أشك في أن الشاعر نفسه يدرك ذلك؛ ولكن خياله يسبق فكره وصناعته في بعض الأحايين، فيكتدهما مبتذلًا ليلحقا به.
هذه ملاحظة عابرة، فما أشرت إليه هو غير قليل في القصيدة. لنواصل الآن القصة. فبعد أن يصب المنكران، فوق رأس الشاعر القطران، يوثقانه بحبل، ويطيران به إلى الجنة؛ ليشفعا عذاب الجسد بعذاب الروح. فيرى الجنان بعينه، ويشتهي جرعة من ماء الكوثر، ويتألم في حرمانه.
أما وصفه للجنة فلا يختلف عما جاء في القرآن، وهو على إطنابه لا يتوفق إلى غير المضحك من الخيال. إن جنة الزهاوي لكمصيف من المصايف، فيها، مع الحور والولدان، كل لذيذ من مأكول ومشروب ومشموم.
أما هو فمحروم. هو زائر للعذاب لا للذة.
فوَدَّ لو عاد الملكان به إلى القبر، وأنزلاه إلى الجحيم. وما كان غير ذلك، فقد شدَّا وثاقه، وأخرجاه من الجنة، وهبطا به إلى أودية النار وأغوارها.
ووصفه للجحيم، ليس فيه شيء جديد، اللهم إذا استثنينا من يشاهد في النار، وأولهم ليلى معشوقة سمير وعروس شعره. ليلى، وما ذنبها وذنب حبيبها إلا أنهما جهلا الجحيم، فعملا عملًا أوجب عليهما هذه الزيارة. ولكنهما مفترقان، كل منهما في هوة. وهذا هو العذاب الأكبر، فقد رأى الشاعر الفتاة المسكينة.
وهي تبكي، لا من اللظى والسعير، بل من فراق الحبيب.
وقد أبصر الزهاوي بين الشعراء الفرزدق والأخطل وجريرًا، فسألهم عن حالهم، فقالوا: إن الهجاء سبب بلائهم، ثم بان له بشار وأبو النواس، ثم المعري الذي حياه، ثم امرؤ القيس وهو لا يزال يتصدر المجلس و«للملوك الصدور».
وقد سمع الخيام ينشد من شعره في مديح بنت الكرمة فيقول:
وبعد الشعراء يشاهد العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم سقراط وهو يلقي خطبة:
فيشرح سقراط منشأ النار، وهو أثبت القوم جأشًا، ثم يقول:
ويرى كذلك منصور الحلاج، ويسمعه يخاطب الله ويعاتبه:
فلا يستغرب بعد هذا أن يقوم من بين هؤلاء العلماء والفلاسفة من يخترع آلة تطفئ السعير، وأن تستخدم هذه الآلة في الثورة على أولياء الأمر في الجحيم. وكان الشباب أول النافخين في أبواق الثورة، المحرضين عليها، الرافعين أعلامها، فقد قام فيهم الخطباء يحملون على الظلم والظالمين ويدعون للجهاد:
هاج الناس في الجحيم وماجوا، فراحوا ينشدون الأناشيد، ويعدون العدة للقتال. وكان أن استوقفهم أبو العلاء المعري، فخطب فيهم، فزادهم هياجًا واستبسالًا.
قامت الحرب. والتحم الفريقان زبانية النار وأهلها في القتال، وجاءت الشياطين تنجد أهل الجحيم، فاستنجد الزبانية بالعرش الإلهي، فأنجدهم بجيش من الملائكة يقوده عزرائيل. وتلاقي الجيشان، في ضواحي الجحيم البركانية، وترامى المتقاتلون بالصواعق والبروق، وتحاربوا برماح تذوب في نارها الصخور، وببحار ماؤها مسعور، وبالجبال والبراكين، فانهزم الملائكة والزبانية، وتم النصر لأهل الجحيم وحلفائهم الشياطين.
هذه هي خلاصة القصيدة، وفيها الجيد والوسط والرديء من الشعر، وفيها من الحسنات الشعرية، الخيالية والبيانية، ومن الإبداع الفكري، الفلسفي والاجتماعي، ما يشفع بسيئاتها الفنية.
وإنه ليتبين لك أن جحيم الشاعر العربي يختلف عن جحيم الشاعر الإيطالي في سكانه، فقد شاهد دانته في النار أعداءه السياسيين، وفيهم القتلة والزناة واللصوص، وما شاهد الزهاوي غير الذين أنكروا الجحيم، ولم يؤمنوا بالآخرة، وأكثرهم من العلماء والشعراء والفلاسفة — أي من أصحاب النبوغ، ومحبي الحقيقة والجمال.
هذه هي الفكرة المبتذلة التي أوحت إلى الزهاوي فكرة غير مبتذلة. ولكنه في تبيانها ما نجا من الإسفاف. فجاء وصفه للنعيم وللجحيم وصفًا تقليديًّا، صورة دكناء، واستعاراته بائخة. وجاء التكرار في قوافيه، والنثر في كثير من صيغه. فلو أنه في تقسيمه القصيدة جعل كل قسم منها قصيدة قائمة بذاتها، يصلها حبل القصة بأخواتها، دون أن يتقيد الشاعر بالبحر الواحد، والقافية الواحدة، في أبياتها الأربعمائة والثلاثين؛ لأنقذها على ما أظن من آفات التكرار، ومن التبذل والإسفاف.
وهناك حلقة ظهرت في سلسلة الرواية كوميض البرق واختفت. وهي في نظري من أهم حلقاتها؛ لأنها جديدة فذة. أعني بها اختراع الآلة لإطفاء نار الجحيم. فإنك لتقف عندها معجبًا بابتكار الشاعر، ومتوقعًا أن يكون لاختراعه الأثر الأكبر في انتصار الثورة.
ولكن الشاعر نسي اختراعه على ما يظهر، فجاءت حربه في الجحيم كسائر الحروب، إلا أن السلاح فيها جبال من نار وبحور وبراكين.
عندما قرأت هذه القصيدة للمرة الأولى علقت في ذهني فكرة لست أدري كيف نشأت؟ إلا أن تكون النتيجة لإحساس طبيعي معقول، فختمتُ بالكلمات التالية ما كتبته عنها (باللغة الإنكليزية).
قلت في آلة الإطفاء: «إنه لاختراع عجيب، تسلح به أهل الجحيم على نيرانه، فاستحالت رمادًا، الجبال منها والبراكين، والأودية والأنهار. وكان المدافعون عن الجحيم، وهم محرومون هذا السلاح، يقعون بالمئات، لا بل بالألوف، كعمُد من الرمال تذريها ريح السموم. وكان رب السماوات يراقب من علياه تلك المعركة، فأشفق على جحيمه، وهو جزء مكمل لكونه، من الزوال، وعلى زبانيته من الاضمحلال. وكأنه سمع رئيس الزبانية يصيح: النجدة، النجدة! فأنجده، سبحانه وتعالى، بجيش من الملائكة الصناديد.
«ولكن أهل النار الثائرين كانوا يحملون الآلات الإطفائية، فيقتحمون بها النيران، فتنطفئ في الحال، فيغيرون على العدو من خلال دخانها، وفوق رمادها، ويقتلونهم بالمئات والألوف. حتى إنهم كادوا يأسرون أمير الظلمات نفسه، فلاذ إلى العلم الأبيض، ولوَّح به يطلب السلم، ثم أمر جيش الملائكة المهزوم بأن يقف في تقهقره، ودارت المفاوضات بينه وبين الثوار، فقبل بشروطهم. بيد أنهم كملوا إطفاء نيران الجحيم فأمست قفرًا يبابًا. وركب كل واحد منهم بين جناحي أحد الملائكة، وصعدوا جميعًا طائرين إلى الجنة؛ كذلك يقول الشاعر. فلا جحيم بعد هذه الثورة في الجحيم!»
فهل أنا مخطئ في هذا التحوير للقسم الأخير من القصيدة، أو فما كان ينبغي للشاعر أن يختمها؛ كذلك؟ وإلا فما معنى الاختراع إذا كان لا يُنتفع به؟
أما روح الشاعر، تلك الروح التي تتجلى في القصيدة، فهي تشعل على شواطئ الشك والتهكم أنوارَ العقل والعدل والحب الإنساني. وهي في ما لا يدركه العقل، ولا يستقيم عنده ميزان العدل، تعتصم بالحب الذي يجعل كل ما يلمس عدلًا وجمالًا، إن كان في حياتنا الدنيا أو في الآخرة.
هو ذا معروف الرصافي في شعره، وفي نثره، وفي مجلسه. فالحقيقة، كيفما تراءت له، أَحسناءَ فتانة كانت أم عجوزًا درداء، هي هي محبوبته المعشوقة على الدوام. ولكن للمعشوقات ألوانًا وأشكالًا، وللرصافي في حبهن جميعًا جميل الأقوال والأفعال. أما تذبذبه في بعض الأحايين بين حقيقة وأخرى؛ فذلك لأن للفضيلة أخوات يسكنَّ في شارع التهتك، ولحب الوطن إخوان يكرهون الإقامة في شوارع الكلام، فقد نظم في قديم الزمان قصيدة في الأخلاق لا يزال مطلعها يرن في الآذان، ويُروى في كل مكان.
ما عرفت أمة تحسن رواية الأشعار ولا تكترث مثل الأمة العربية. فهي تروي الحكم نثرًا ونظمًا وتمضي في سبيلها.
أعود إلى الرصافي فأقول إن شهرته لا تقوم بحب الفضيلة، وليس حب الوطن من أساطين بيتها. إنما الاثنان من الحجارة والتراب في أساس البيت، وللأساس قيمته في البناء.
إذا لم يكن معروف بدويَّ المولد فهو بدوي الإرث. إني أذكر اجتماعنا الأول سنة ١٩١٠، يوم كان يلبس العباءة والعقال، ويلقي الشعر بلهجة بدوية ساحرة.
ثم سافر إلى الأستانة، ولبس هناك الجبة والعمامة، وانضم إلى الأتراك في نهضتهم المدمرة، فحمل اللواء والمصحف ليلةً ونهارًا ثم وثب وثبة واحدة من المسجد إلى الحانة. خلع معروف العمامة والجبة، وكل ما ترمزان إليه، وجعل المقاهي محط رحاله، فنظم من الشعر ما يفصح عن الحقيقة الجديدة في حياته. هي حقيقة التحضر وظلالها.
وبعد ذلك يمَّم فلسطين، وفقد في بيت المقدس ما بقي في صدره من إيمان، ثم ولَّى وجهه شطر سوريا، وهو المفلس في عقائده الاجتماعية والسياسية والدينية، فوجد في البلاد من التهذيب والخنوع ما لم يرقه كثيرًا، فعاد إلى العراق.
وإني لأذكر اجتماعنا الثاني سنة ١٩٢٢، يوم كان في العراق حاملًا لواء الوطنية وسيفها، فيخرج من «خانه» غائرًا على رجال الانتداب ونسوته، ويعود موفقًا إلا بالغنائم. وما الفائدة من مثل هذه الغزوات؟ وكيف، وهو البدوي المجرب، لا يحسن الانتفاع بسيفه وبندقيته؟ إنه لفاعل، وإنه لصائر من السياسيين، وإنه لصاعد في سلم السياسة إلى أعلاه.
أجل، لقد كان معروف، يوم اجتماعنا الثالث في سنة ١٩٣٢ — هنيئًا لمن يتاح له الاجتماع بصديقه الشاعر ولو مرة واحدة في كل عشر سنوات! — قد كان معروف عضوًا في مجلس النواب ببغداد وعاد في قيافته إلى العباءة والعقال!
معروف الرصافي الأعرابي في مجلس النواب! لا يزال هذا الشرق مهد الأعاجيب. وقد سمعت صديقي معروفًا يدافع عن الحكومة في قضية تتعلق بإبعاد بعض الصحافيين المتطرفين في صدقهم، فيذكر النسبية كمبدأ عام في الحياة، ويحاول أن يبين ما له من صلة بحُرية الصحافة. ما أظن أن أحدًا من النواب أدرك معناه، أو فهم شيئًا مما قال. ولكن صوته العريض الأجش فعل فيهم فعل البيان، وما أراد منه، وهو أن المبعدين استحقوا الإبعاد جزاء ما فعلت أقلامهم …
ولكن السياسة لا تغير ما بنفسه وبأدبه من الإرث البدوي، وأظهر ما فيه السذاجة، والصراحة، والجرأة، وعدم المبالاة. فهو يعيش ليومه مستسلمًا مستهترًا، وقلما يكترث لما تبدو وتجن له الأيام. ولا غيرت الأيام والتجارب شيئًا من طبعه هذا، فهو اليوم في ما ذكرت من سجاياه، كما كان منذ خمس وعشرين سنة.
وهو الشاعر الرقيق الشعور، على بداوة طبعه، واسع الخيال سهل الأسلوب والعبارة، لا تعمُّل في بيانه، ولا اجتهاد في صناعته. وإنه في إدراكه المحاسن الشعرية، شديد الحس لما يتراجع ويتشبح من ألفاظها وأشكالها. ولكنه في الغالب يؤثر الظاهر على الخفي من الجمال البشري الطبيعي.
وهو في الوصف لما يراه، إذا ما صفا الذهن منه، وطربت النفس، بليغ العبارة، واضح البيان. أعطيك مثلين من قصيدتين له «جسر مود» و«على البسفور» قال في محاسن دجلة:
وقال في وصف الأمواج، وقد عصفت الريح فوق البوسفور:
وإن لشاعرية الرصافي نواحي متعددة، منها الناحية الفلسفية التي لا تقل في المحاسن عن سواها. وله نثر هو كشعره في السلاسة والصفاوة والذوق السليم، فقد كتب كتابًا فريدًا في بابه باللغة العربية هو سيرة النبي، أطلعني عليه مخطوطًا بيده، في سبعة دفاتر مدرسية. ما أدهشني ما في هذا الكتاب من العلم والتحقيق؛ لأن مصادر الموضوع متوافرة لمن يشاء معالجته، ويحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة، والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقيم بغير الإيمان والجرأة والصراحة.
وإنه في بابين من ديوانه؛ أي في «الكونيات» و«الفلسفيات» ليثبت ما هو ظاهر وكامن من محاسن أدبه في الكتاب المذكور، الذي ينتظر النشور. فالرصافي في شعره الفلسفي هو كالزهاوي، والاثنان يستمدان من ينبوع واحد، ينبوع المعري. إلا أن زمانهما غير زمان أبي العلاء. فلا عجب إذا فاقاه أحيانًا في التصور والتفكير. وإن الرصافي، وإن هزهزه الشك واستحوذ عليه التشاؤم في بعض الأحايين؛ ليرفع دائمًا أعلام الحرية والعقل والإخاء الإنساني فوق رواسي المذاهب البشرية كلها. فهو في دينه الفيلسوف العلي الإنساني.
أما في حبه فهو الشاعر العاطفي المشغوف بالجمال على أنواعه — الجمال الطبيعي، والجمال الفني، وجمال المرأة الفائق كل جمال. إنه ليشاهد التجسد الإلهي في المرأة، وفي الطبيعة. وإنه ليقف أمام هذا التجسد متورعًا متضعًا متعبدًا.
حدثني ذات ليلة قال: «المرأة بهجة الوجود، وريحانة الحياة، وما الحجاب وما السفور ساعة تدنو منك؟ فإن جسمها لينطق حبًّا، ويشع حبًّا، ويتضوع حبًّا، سافرة كانت أو محجبة. نسمع الكتَّاب في هذا الزمان ينادون بالسفور. وهل يسفر الرجل، يا أمين؟ أليس كل منا محجبًا — لابسًا القناع؟ كل واحد من الناس هو سر من الأسرار للناس. لينزع الرجل القناع، وليطالب بعد ذلك بسفور المرأة …»
وما قصَّر الرصافي بالمطالبة. ولا قصَّر في ميدان الدفاع عن حقوق المرأة. يكفيه من ذلك قصيدته المشهورة «التربية والأمهات» التي أسلفت الإشارة إليها. وإنك لتجد في باب «النسائيات» من ديوانه القوافي الرائعة في مناصرة المرأة وتحريرها، والهجوم المروع على أولئك الذين يرومون إبقائها في قيود الجهل وفي ظلمات الحجاب والعبودية …
قلت إن المرأة كما يراها الشاعر، هي المثل الأعلى في الجمال البشري والطبيعي. وإن للرصافي قصائد عدة في وصف محاسنها. ولكني ما قرأت في شعره أجمل من قصة يقصها، فقد روى لي تلك الليلة خبر حظوته للمرة الأولى بمشاهدة سيدة أوروبية. فقال: كنت لا أزال بدويًّا ما شاهد من النساء غير العجائز وبائعات اللبن، والبائسات والشاحبات والمشوهات، وقد ثقَّب الجدري، أو عصفر المرض، وجوههن. وفي ذات يوم رحت وصديقًا لي إلى المقهى، إلى كهف قاتم يليق بأمثالنا وقبل أن انتحينا مكانًا هناك وقفتْ في الباب سيدة إنكليزية. سيدة جميلة بيضاء هيفاء، تلبس قبعة زانها الريش، وتحمل مظلة. دخلت هذه السيدة المقهى، ومشت الهوينا بين الدواوين الخشبية المكسرة، تجيل نظرها بالمكان ومرتاديه. كنت واقفًا إلى جانب الطاولة التي جلس إليها رفيقي، فأحسست ببهجة تجلببني وتملأ قلبي. وأحسست كأني سُمرت في مكاني.
ما كان في حياتي من نعمة ربي، يا أمين، مثل هذه النعمة. للمرة الأولى في حياتي أشاهد امرأة حسناء بيضاء هيفاء، فقد عقلَ الابتهاجُ لساني والله! فأصبحت كالطفل ينظر إلى دمية تمشي. وعندما دنت هذه الدمية من مكاننا، زررت جبتي، ورفعت يدي إلى صدري، وطأطأت الرأس مبتسمًا. فابتسمت هي كذلك يا أمين. فانحنيت مرة ثانية، فأحنت هي رأسها وكانت في تحيتها الصامتة مثال اللطف والكرم.
ما توقعت ذلك منها، لا والله! بل كنت أظن أنها ستوبخني؛ لتعرضي لها بنظرة وابتسامة، ولكن الشاعر الأكبر يا أمين، ينظم قصائده، لا كما ننظم نحن الشعراء الصغار، بل كما ينظم من له مائة عين نقادة، فتجيء القصيدة كاملة في كل محاسنها. وتلك الحسناء البيضاء من غرر قصائده، وكأنه، سبحانه وتعالى، كان يتلوها عليَّ للمرة الأولى في ذاك اليوم، فقد سمعت والله جمالها يغني، ورأيت والله جمالها يزهو ويرقص أمامي. ولكني سألت نفسي عندما خرجت من المقهى، هل اليد التي صنعتها صنعتني أنا كذلك؟ هو أمر يحيرني. وساعة أكون في حال اليقين منه — أو في الحال كما يقول المتصوفون — أشعر بالنسب الإلهي، وأحاول أن أقلد الشاعر الأعظم. وما الشعر، يا أمين؟ أنا نفسي آية شعرية، وقل آية إلهية، ساعة أنظم الشعر وأجيد.
•••
إن للأدباء والشعراء في أوروبا وأمريكا عادةً في الإكرام مرعية مستحبة. فإذا كنت معجبًا بشاعر من شعرائهم، وجئته للمرة الأولى زائرًا، بعلم منه، فهو يهديك رسمه أو نسخة من ديوانه. ولا يخفى ما في ذلك من الأنانية — ها أنا ذا في رسمي وفي عبقريتي — التي تكاد تكون مجهولة في الشرق. فعندما زرت الشيخ رضا الشبيبي في بيته بالنجف، في فصل الخريف من عام ١٩٢٢، وما أهداني رسمه، ولا شيئًا من شعره. بل قدَّم لي ما يصرف النظر عن نفسه، وما هو في نظره أثمن وأعز. قدَّم لي مخطوطة قديمة من كتاب عربي قديم.
وما كان أشبه الشاعر صباح ذاك اليوم، وهو متربع على فراش فوق حصير على الأرض، في وسط قاعة فرشها عادي قليل، وأمامه طاولة صغيرة عليها أوراقه، وحولها كتبه، وما كان أشبهه بصورة من الصور التي تزدان بها المخطوطات الفارسية. إلا أنها قاتمة ساكنة، لا تذهيب فيها، ولا وهج لألوانها، وما إطار هذه الصورة الحية غير جدران الغرفة الدكناء العارية، وفيها نافذتان تشرفان على جدران البيوت الملاصقة لبيت الشاعر، كأن الصورة وإطارها صنع فنان يحسن التجانس في فنه، فيلتئم الوجه الهادئ والبيئة الدكناء التئامهما والتقاليد الشيعية القاسية التي أحيا الشاعر فيها أيامه ولياليه.
أقول أحياها؟ ما أظن أن طيرًا في قفصه كان يغبط الشبيبي! أو يود أن يكون على شيء من حاله في تلك الأيام. وهل يغبط السجين أخاه في سجنه؟ ولكن الشبيبي فَرَّ من نقصه في السنة التالية هاربًا إلى بغداد؛ حيث علَّق جناحه في دبق السياسة، فغدا عضوًا في المجلس التأسيسي. من قفص عتيق إلى قفص جديد مطلي بالذهب! فلا عجب إذا لم يطقه سوى سنة أو سنتين، ولا عجب إذا فرَّ بعد ذلك منه، كما فر من قفص النجف، متبرمًا من الشرائع ومن المجتمع. طار الشبيبي إلى الكرادة، فبنى له عشًّا هناك، وطفق يغرد على أغصان الحرية والحب والزهادة. هناك على شاطئ دجلة، في ظلال النخيل، ولا قفص ولا رقابة، ولا من يقطع عليه نعمة العزلة. هناك ظفر الشاعر بأمنيته الكبرى.
ومع ذلك فهو لا يزال في قيود اختارها لنفسه، هي قيود التقاليد أو بعضها في الشعر وفي الدين. فإن كان قد نفض غبار النجف عن جبته، وعنكبوت النجف عن عمته، فهو لا ينبذ، ولا أظنه يستطيع أن ينبذ من عقله ومن قلبه الإرث الشعري والديني. وهذا ما يميزه عن الشعراء الآخرين، فقد يكون أفق شعره دون آفاقهم اتساعًا، وقد يكون خياله مثل صناعته الشعرية من المقلَّد المألوف، ولكنه شديد الحس، صادق اللهجة، نقي الفكر، نقي العبارة، مع شيء فيهما من التجهم والقساوة.
رضا الشبيبي شاعر روحي لا يغرهُّ العلم، ولا يطوح به الجهل. وهو شاعر تقليدي، يحترم الماضي، ويتورع للحاضر، وينظر إلى المستقبل بعين الرضى والاطمئنان. إن سبيله الروحي لا يخلو من الوعور والعقبات. بيد أنه مؤمن على الدوام حتى في حيرته، ومطمئن حتى في اضطرابه. وقد يُعَدُّ، وهو ضمن دائرة محدودة وإن اتسعت، من المتمردين. وقد تعترضه إذا ما حاول اجتياز الحدود، عناية إلهية أو شبه إلهية، فيعود إلى ربوع الأمان، وفي قلبه خشوع، وعلى لسانه كلمات الحمد والرضى. وقد يدنو الشبيبي في غضبة طاهرة من ظل العرش الأعلى، قد يدنو حتى من العرش، والشعلة لا تزال في قلبه، والشرر في ناظريه، فيزرُّ بعد ذلك جبته، ويتضمخ بالطيب، ويجلس على فراش الحب والوداعة، وقد صفا نوره، وسكن شعوره، مثل سلفه الشريف الرضي.
في مجموعة متسلسلة من الشعر، شبيهة بملحمة وجدانية، تتجلى روح الشبيبي في متانتها ونضارتها، وفي يقينها وحيرتها، وفي اطمئنانها واضطرابها. فهي تحلق في سماء الخيال والحقيقة حول رواسيهما العالية، وفوق الوهاد السحيقة بين تلك الرواسي، فتثب من قنة إلى قنة، ثم تعود سليمة آمنة إلى بستانها في الكرادة. أو أنها تجري في «سكرة النفس» في بحر زاخر من الهول «وما شطأت حينًا ولا قاربت مرسى.»
ولكنها نجت من تلك الأهوال وما نجت من توبيخه لها.
قد يكون الشبيبي رُبانًا لسفينته ماهرًا، ولكنه لا يستطيع أن يقول ما قاله الشاعر الإنكليزي إرنست هِنلي:
بل هو يتقلب ويتردد في إقدامه وتطوحه، فيصعد ثم يهبط في سلم الفكر والإحساس.
وهو يدرك في ساعة الندم أن الله لا يزال على عرشه، مشرفًا على الكون. بيد أن حياة الإنسان شقاء وبلاء لما فيها «من ضلال، ومن كفر وإلحاد»، فيشكو الشاعر — ولا غرو — حتى صحبه وخلانه، وينشد التعزية والسلوان في الوحدة والزهادة.
وقد سدد خطواته في السبيل الذي يصدق فيه العملَ القولُ، والخبرَ الخبرُ، فقال:
إنه لشاعر متقد الوجدان، صادق اللهجة، وهو إلى ذلك حلو الشمائل لطيف المزاج. فيحاسب نفسه ويؤنبها، ويسير في سبيله متمهلًا متورعًا، حينًا على طرب وحينًا على كرب. وها هو يشجيك، وقد وقف بين قلبه وعقله وقفة الحائر المكتئب. فهناك الحبيب، وهناك الرغبة في الزيارة والرغبة عنها تتنازعان فؤاده. وقد جاء في هذه القصيدة ببيت فريد في معناه، ما قرأت مثله في التردد لا في الشعر العربي ولا الإنكليزي. فعندما يتغلب الشاعر على التردد في نفسه، ويعتزم الزيارة، يردعه في الباب رادع فيرتدع.
وإن مَن يزوره من الأصحاب ليزور الجسم منه. أما الأحباء فهو يتمنى أن يزورهم، وهم مع ذلك مقيمون في نفسه على الدوام.
وهذه الحقيقة الروحية تبرز في بيت عن عمره أجاد في معناه.
قلت إن رضا الشبيبي حريص على التقاليد الشعرية قلبًا وقالبًا. ولكنه في صعوده ونزوله في سلم الفكر والحقيقة يستحب الوقوف عند بعض المبادئ العلمية الحديثة، كمبدأ إبقاء الأنسب مثلًا فيقول:
•••
وهو يحمل على أهل الضلال والخرافات في قوله:
ثم يعود إلى حصنه الشرقي الحصين — إلى إيمانه بالقضاء والقدر.
نحن الآن في عصر الشك، كما يقول فريق من أهل الغرب. ومن ذلك أن شكَّنا الآن يتناول حتى أسسَ الثقافة التي يريدها معظم الغربيين للشرقيين. ومن بين هذه الأسس غمز الشرق والشرقيين، والتنديد تصريحًا أو تلويحًا بقيمة أثرهم في الحياة. حتى ضعفت ثقة شباب الشرق بأنفسهم، وببطولة أسلافهم، وتلاشت في بعض الجهات، وحل محلها الثقة المطلقة بتفوق الغربيين.
هذا إلى أن نشبت الحرب العامة الأخيرة، وأسفرت بعد أن ظهرت أسبابها ونتائجها للعيان، عن حركة فكرية عامة تجتاح الآن أذهان البشر بدون تمييز. ويتوقع أن يكون من نتائج هذه الحركة الفكرية، رجوع القوم عن الشطط في أحكامهم على الشرق والشرقيين، ونبذ دعوى التفوق الغربي الموهوم، والتسليم بتكافؤ المواهب والكفايات في أصل فطرة الجنس البشري. فليس في الدنيا من هذه الناحية شرق ولا غرب، بل بشر يتداولون التفوق والغلبة، وفق أحكام سنن الكائنات العامة «نواميس الاجتماع والعمران» ولا شيء أفعل في تجديد شباب الرق، واستئناف قواه للعمل في سبيل حضارته وعمرانه، من رسوخ هذه العقيدة القويمة فيه.
ومن قفص النجف فَرَّ طير آخر هاربًا، فر يطلب قسمته من الإرث السماوي. هو طير ولا كالأطيار، له منقاد البومة، وصدر الورقاء، وجناح الهدهد، وذنب الطاووس. وله في الشدو هديل الحمام، وصفير البلبل، وعندلة العندليب. هو طير غريب فريد، يُدعى بين الناس بأحمد الصافي، ويُعرف بالشاعر المجدد، والشاعر البائس، فقد ولد في النجف، يوم كان الحسن الخلقي والصحة والنعمة تتنزه كلها في الكون الأعلى، فما رمقته بنظرة ساعة الولادة، ولا دنت بعد ذلك من ملعبه، أو من رحله، أو من كوخه.
ما عوَّض عليه النجف بشيء مما حُرم، ولا أحسن الترحال، ما لزمه من سوء الحال، فقد تنقل من كوخ إلى كوخ، ومن بلد إلى بلد، ومن مضرب في البادية إلى آخر، ومن مضارب البدو إلى مرابع الحضر، ومن مستشفى لا يشفي إلى مستشفى لا يرحم، وهو في كل أحواله مجهول غريب، فقد كان يُدعى عجميًّا في النجف، وعربيًّا في بلاد العجم، ثم راح يقيم بين البدو فظنوه من الحضر، وجاء سوريا فظنه أهلها من البدو.
إنه لطير عجيب غريب، يحسن الطيران والغناء، ولا يحسن سواهما. وهو كما ألمحت وليدُ برج النحوس. فالدمامة أُمه، والسقم أبوه، والبؤس أخوه. بل إن له من الأسقام إخوانًا يقيمون في أعضائه وفي أعصابه. أما الروح منه فهي سليمة قوية، بل هي روحٌ جبارة في هيكل سقيم.
ولكنه ثأر لنفسه من أسرة الأسقام والآلام أسرته، فصبَّ عليها من قوافيه جام السخرية والغضب. ومن ذا الذي يلومه، إذا انهمرت دموعه، بعد رعود الغضب، وبروق السخرية؟ هي الطبيعة، هي سنة السماوات. وهذا الشاعر هو كالطبيعة في صدقه، وكسنة السماوات في صفوه وغيومه، وفي بروقه، ورعوده، وتهطاله.
فإذا نحن حملنا على الشعر الباكي، الذي ألفه شبان هذا الزمان، وقَلَّ فيهم من كان محرومًا نِعم الحياة، فإننا نحمل على عادة أمست مراسًا اجتماعيًّا، مهلكًا للنفوس وللأخلاق. أجل، إننا نحمل على التخنث والتصنع في الشعر الباكي، نحمل على دموع الزور، وعلى دموع الخوف والجبانة، وعلى الدموع السوداء، المكونة من الحبر الممزوج بماء العواطف الآسن.
أما دموع هذا الشاعر فهي مثل اسمه صافية، ومثل نفسه صادقة. وهي من نفسه ومن قلبه، لا من حبر شعره وتبره. وإنها إلى ذلك لتتلألأ بالابتسام المتعالي، والقهقهة الساخرة.
أجل، إن الصافي، على بؤسه وسقمه؛ ليحسن الضحك والتهكم. فهو يوالي القط والفأرة ليشفي نفسه من ولاء الناس. وهو يعجب من الأطباء الذين يحاولون أن يحرموه داءه، ذلك الإرث الوحيد من أبويه. وهو يكفر ويتوب، ويبرأ إلى الله من شيطان شعره فيؤده في النار. وهو يبني قصورًا في الجنان، «فيهدمها دَرْوين لعنه الله». وإن له نظرات في النفس نافذة ذابحة، فيريد مثلًا أن ينزع عنه كل أثواب العقائد، ولكنه يخشى، وهو ينزع الثوب تلو الثوب، أن يكون قد كُوِّن من الأثواب، وألاَّ يصادف روحًا وراءَها، وله قصيدة عنوانها العدالة، لا دمعة فيها، ولكنها تستذرف الدموع، مطلعها:
•••
قد يكون في الكلمة المأثورة «ذكاء المرء محسوب عليه»، شيء من العدل الأعلى. وقد يبالغ رب ذلك العدل في المحاسبة، فيحرم صاحب الذكاء كلَّ نعم الحياة، إلا هذه التي توحي إليه الشعر. ولكن الشاعر يشدو غالبًا للبادية والليل — وللكوخ والسراج، مثل هذا الشاعر النجفي، وللقطط والفيران.
ذكاء المرء محسوب عليه؟ وهل هو يجد في ذلك شيئًا من التعزية، غير تلك التي يجيء بها النظم والإبداع؟ فما أضألها من تعزية!
لا وربة الوحي. لا نظن أن القدر كان عادلًا في محاسبة أحمد الصافي. بل نظن، بحسب مقاييسنا للعدل — وليس لدينا سواها — أن الحساب مغلوط فيه، ونأمل أن يصحح في حياة أخرى للصافي، أو بالحري في دورة ثالثة من حياته الأرضية.
أما في هذه الدورة فالخيال وحده يخفف من نتائج ذلك الخطأ في الحساب. فإذا كان، في ما هو قوت القلوب، يعيش في الخيال، فما ذلك اختيارًا منه. فهو كما يقول لا يُرضي الجنس الخشن، فمن أين له إذن أن يُرضي الجنس اللطيف؟ حتى الوجوه غير اللطيفة في الجنس اللطيف، لا يستطيع أن يستميلها إليه.
إن ذلك ليشجي ويغيظ، وإنه ليبعث في النفس قنوطًا ليس وراءه رجاء. فلولا ربة الشعر لهتف الشاعر: على الدنيا السلام، واستحب الحمام. ولكنها تعزية بوحيها، فتستوقفه في الباب متفلسفًا ومجاملًا. إلا أنه ما جامل في شعره، على ما أظن، غير الموت:
إن ربة الشعر لتعزيه بالحياة فتفتح له أبوابًا جديدة، فيلجها مبتهجًا، وقد نسي كل ما به، فينظم القصائد وليس فيها غير مرهم لجروحه، كقصيدته «فتنة الجمال»، وينظم غيرها، وفيها الجديد المبتكر، مثل تلك القصيدة الشعشاعة التي تمثله برغوثًا في ثوب إحدى النساء.
ويسكر في ثيابها، وهو ينزلق فوق جسمها، سكرة غرامية عمياء.
ثم يصحو فيختم القصيدة متفاديًا:
ومن أرقِّ ما أوحى إليه الحرمان، وصوَّره الخيال، أبياتٌ نظمها إذ رأى رسمه في إحدى الصحف ينطبق على رسم آنسة في الصفحة المقابلة فقال:
لا نكران أن شعر الصافي مرآة روحة، وهي بعكس وجهه على شيء كثير من الحسن، ومن النبل والحنان. وهي كذلك روح ساذجة، غبار البادية لا يزال عليها. فهو بدوي في صراحته المشجية، وفي نبراته التي تتخللها العبرات والقهقهات، وفي شدوه المشبَّح بأنين الربابة، وحنين الساقية.
لهذا الشاعر في وصف حاله وأشجانه مزية شريفة عالية، هي الصدق والصراحة. فهو لا يتستر بشيء، ولا يأنف أن يربك كوخه وسراجه، وحتى فراشه وغطاه. ولا يهمه أن ترى — اللهم بعين الرضى والاحترام — خرقًا في ردائه، أو فتقًا في عبائه. أحمد الصافي يتغنى بكل ما هو أحمد الصافي، ومما اختاره هو لنفسه، ومما فرضته عليه الأقدار، فيطربك ويشجيك. وإن أسلوبه في الوصف سهل قويم بليغ، يلزم الحقيقة فيه، ويزينها بالمعاني الجديدة، مثال ذلك قصيدته «الوحدة» التي تبدأ بقوله:
أو الأبيات الأخيرة من القصيدة التي يصف فيها غرفته:
على أن البداوة تبدو بأصدق مظاهرها في ما يصح أن نسميه «العقليات» من شعره. وهو فيها الحائر المضطرب، الذي لا يزال متقيدًا ببعض النزعات القديمة، المترجح بسببها بين الشك واليقين. فهو حينًا يتغنى بالزهد، وحينًا يحن إلى طيبات الأرض، وتارة يحمل على الجهل، وطورًا على العلم. إن في مقاطيعه «أنغام مشوشة» كثيرًا من التناقض، والبرهان على صدق الشاعر وإخلاصه.
ثم يقول في الصفحة المقابلة، وهو صادق في الحالين:
ومن هذا الباب قوله في المعاني والألفاظ.
ثم يقول:
أفلا ترى الحقيقة في وجهَي المسألة؟ كأن الشاعر والفيلسوف يتناقشان فيُفحم الواحد الآخر. لست أدري إذا كان الصافي نظر إلى هذه المتناقضات نظرةً سقراطية أفلاطونية! وقد لا يكون مدينًا لغير الحيرة التي تلزم الشاعر في مواقف لا يتناسب فيها المعقول والمحسوس ولا يتوازنان. بيد أن الاثنين من واحة واحدة، فالفطرة تبني لهما البيوت، والصراحة تصوغ لهما القوافي.
ومع ذلك فإنا نرى الصافي غير صافٍ في عقلياته. وما هو فيها بالمبتكر المجدد. وكذلك قل في قصائده الوطنية التي قلما تمتاز عن شعر من سواه.
بقي أن أقول كلمة في آفة له شعرية، تكاد تكون آفة الشعر العربي، وخصوصًا في هذا الزمان. أريد بها الإسراف في الألفاظ، وفي الخيال، وفي المعاني، وقل كذلك في الرضى عن صور لامعة منفردة، أجاءت في محلها أم لم تجئ. فهي تُزَج في القصيدة، فتبدو فيها نافرةً، أو صاخبةً، أو متقلقلةً.
وبكلمة أخرى إن الشعر العربي الحديث تكثر فيه الصناعة اللفظية، على الإجمال، وتقل الصناعة المعنوية. كما أنه عامر بالخيال، ومفتقر إلى الفن في التكوين؛ أي إلى الاتساق والتجانس في الصور والاستعارات، وإلى الوحدة المعنوية في القصيدة.
مثال ذلك: من شعر الصافي قصيدته «نجمة الصبح». فإن فيها صورًا شتَّى، تتزاحم في ذهن القارئ، ولا تترك فيه أثرًا بارزًا، أو شكلًا واحدًا جذابًا، كامل التكوين. فالشاعر في مطلع القصيدة يمثل كوكب الصباح رفيق سفر سبقه الرفاق، فيبكيهم تارةً، وطورًا يشتعل كمدًا، وحينًا يرف بجناحيه ليطير فيدركهم، وحينًا يتخبط حائرًا قلقًا، ثم يتصور رفاقه وقد غرقوا في بحر من النور، وهو الذي نجا من الغرق يسبح لينجيهم.
أما النور فهو في كل حال من أحواله يتغير صفة وشكلًا. فهو الدموع، وهو النار، وهو الجناح، وهو العرق، وهو الأكُف التي يبحث بها عن رفاقه لينتشلهم من اليم. فيهتاج البحر لذلك، ثم تجيء الشمس هائجة لتغرقه هو كذلك. فالصورة هذه، لو وقف عندها، هي صورة كاملة موحدة، على ما فيها من اضطراب. ولكن الشاعر استسلم لخياله الخصب فراح يصور كوكب الصباح — ذلك البطل الذي انبرى لإنقاذ رفاقه من الغرق — راح يصوره كطائر أصبح في قفص، أوكسجين في السماء، وقد استحال نوره سلسلة على عنقه ورجليه!
فلو اقتصر الشاعر على صورة واحدة من هذه الصور، ومثَّل كوكب الصباح ينازل الشمس مثلًا، فيتنازعان الوجود، أو مثَّله رفيقَ سفر يجدُّ ليلحق برفاقه أو ينقذهم، وشذب الصورة من كل ما يصرف الذهن عنها في الزيادات، لبرزت القصيدة في صورتها الواحدة الكاملة أبلغ وأجمل مما هي في صورها المتعددة، ولكان لها وقع شديد في نفس القارئ، وأثر لا يُمحى.
لا أظن الصافي يجهل هذه الحقيقة. فإنها لتبدو جلية في قصيدته «ليلة ماطرة» ذات الصورة الواحدة المتسقة، المجردة من فضول القريحة؛ وكذلك قصيدته «الشاي» الفريدة في بابها، الحافلة بالمعاني الجليلة التي لم يُسبق على ما أظن إليها. وهي كاملة متجانسة في الوحدة الشعرية. فعسى أن يتوفق الشاعر دائمًا إلى هذا الفن المشذَّب العالي، الذي تصفو وتستقيم فيه الصيغة والفكر والخيال.