آثار العباسيين
إن الإنسانية لتنور النور الأجمل في أوديتها الساكنة الهادئة، وتثمر أطيب الثمار في المروج والحقول. أجل، إن أكثر النوابغ، وأكبر الأبطال لمن سواد الناس. مما يحقق الآمال بالإنسانية ويبرر الزهور بالنهضات القومية، فتتميز بفضل أرباب النبوغ والبطولة عهود التاريخ بعضها عن بعض، وتظهر الفوارق حتى بين المثمر منها والعقيم، فتُعرف إذ ذاك بأسماء أصحابها، لا بالنعوت الذهبية أو الدرية.
وإن في تاريخ العراق عهدًا — وإن قصر — يستحق أن يدعى باسم من بزَّ فيه جميع معاصريه. وما هو العباسي، مَن أُوَطئُ له هذه التوطئة، ولا بالبرمكي ولا بالبويهي. ما كان من الأمراء، ولا من الفقهاء، ولا من العلماء. بل كان عبدًا رقًّا، ذا مطامع تصغر عندها مطامع أكبر الناس همة، وأشرفهم حسبًا ونسبًا. هو العبد مرجان؛ وسأزيدك علمًا باسمه وسيرته عندما نصل في جولتنا إلى آثاره.
أول الآثار هو ما بقي من مدينة أبي جعفر المنصور، في مقبرة في الصوب الغربي هي اليوم للشيعة. هناك حجرة كانت مسجدًا في المدينة المدورة، أو أنها الأثر الباقي من ذلك المسجد، وهي لا تزال تُدعى باسمه؛ أي مسجد المنطقة. وفي هذه الحجرة أسطوانة من الرخام السماقي يتبرك ويتوسل بها العوام من الشيعة لمعجزة نسبت إليها. وهي أن علي بن أبي طالب وقف ههنا يصلي ذات يوم، وكان عطشان، فنبع الماء من الأسطوانة، فشرب وحمد الله. هي أسطورة لا تحفل بالتاريخ، فقد تُوفي الإمام علي بالكوفة قبل أن بُنيت المدينة المدورة بمائة سنة.
أما المأذنة القديمة القائمة اليوم في قلب الصوب الشرقي من المدينة، فلا أسطورة تشرفها، ولا هي تفعل العجائب. كانت هذه المأذنة زمن العباسيين وسط جامع كبير، قيل إنه بُني عهد هرون الرشيد (٧٨٧–٨٠٩م)، وقيل عهد المكتفي بالله (٩٠٣–٩٠٨م)، ولو كانت تُقرأ الكتابة المحفورة في أعلاها بالخط الكوفي لتحقق على ما أظن تاريخ هذا الجامع، الذي كان يُدعى منذ خمسين سنة بجامع الخلفاء، والذي لم يبقَ منه غير هذه المأذنة، القائمة وسط بيوت وأسواق يُباع فيها الغزل، فسُميت لذلك منارة سوق الغزل.
هي فريدة وحيدة في مكانها، وهي تختلف كما يقال عن سائر المآذن القديمة والحديثة بأمرين، الأول هو الكتابة الكوفية التي لا يستطيع أن يقرأها أحد لعلوها ولغرابة نقشها، والثاني هو أنها غير مستقيمة، تميل قليلًا عن الخط العمودي. فهي من هذا القبيل تذكِّر السائح الأوروبي ببرج بيزة، المدينة الإيطالية.
ولكن في العراق غيرها من المآذن المنحنية، أهمها في الموصل مأذنة الجامع الكبير. فإن انحناءها يزيد عن انحناء منارة سوق الغزل، ويدنو على ما أظن من انحناء برج بيزة. على أن صفتها الممتازة ليست في الانحناء نفسه، بل، في الأمر الذي من أجله انحنت. قلت إنها لا تفعل العجائب، والقول يحتاج إلى تصحيح. فإنها تمتاز عن سواها من المآذن والأبراج، في الشرق وفي الغرب، بما هي عليه من الورع والتقوى.
فقد جاء في الآثار أن النبي مشى في ظلها، فانحنت إكرامًا وإجلالًا له، وهي لا تزال منحنية، وستظل كذلك إلى يوم القيامة!
وثمة أثر عباسي آخر هو من مألوف الطلول الدوارس المبنية بالآجُر. إلا أنه أقدم، من منارة سوق الغزل، وهو قائم في القلعة إلى جانب وزارة الدفاع، إلا أنك لا تجد في جدرانه المتهدمة وسقوفه المعقودة ما يُثبت شيئًا كل الإثبات غير الآجر، وفيه الدليل على أن هذه الصناعة كانت في العهد العباسي الأول أرقى منها في ما بعد. مما يؤيد ما أسلفت إليه من أن مستوى صناعة الآجر مقرونة بمستوى شعوب البلاد.
قد أشرت في فصل سابق إلى المدرسة المستنصرية، وما يزال يبدو من آثارها في البناية التي هي اليوم الجمرك، ومنها كتابة على بقية جدار بارز فوق سطح هذا البناء، تنبئ أن المدرسة شُيدت بأمر الخليفة المستنصر في سنة ٦٠٢ للهجرة/١٢٣٣م لتُعلَّم فيها المذاهب الإسلامية الأربعة؛ أي الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي. بيدَ أن تساهل المستنصر لم يكن شاملًا، فقد وقف واجمًا مانعًا، على ما يظهر، عند المذهب الخامس؛ أي الجعفري. وهو مع ذلك جدير بالثناء؛ لأنه جاء في آخر زمان العباسيين — هو السابع والثلاثون من الخلفاء وابنه المستعصم هو الأخير — فأعاد مع ذلك إلى الملك شيئًا من مجده الغابر، وبعث في البلاد روح العلم والأدب.
إن ذلك الصرح ليُحزن في ما صار إليه. وهل في دور الحكومة ما هو أقتم وجهًا، وأنكر شكلًا، وأهول قلبًا من دار الجمرك؟ هيا بنا. ولكننا، ونحن نسارع منها إلى السوق، نمر بقسم قديم تحت مستوى الشارع، معقود عقدًا محكمًا بشيء من الزخرف البديع — الذي كان بديعًا — ولا يزال يفصح من تحت القتام الكثيف عن مجيد غابره. هذا المكان الأشد سوادًا من الجمرك هو اليوم فرن للخبز. ومع هذه المخزنات في الأثر الطامس للمدرسة المستنصرية، فإنه خير خاتمة للعهد العباسي.
بيد أن من خلفهم من التتر لم يكونوا كلهم أعداء العلم والأدب. فقد تداعى من هذه المدرسة، بعد خمسين سنة من بنائها، جدار إلى جانب دجلة، فأمر الملك أبو سعيد آخر ملوك الدولة الإيلخانية ببنائه، كما هو مذكور في الكتابة التي تقدم ذكرها.