كيف كنت أفهم المعري؟
يفتتح داعي دعاة التوحيد، شيخ المَعَرَّة، «أَلفيَّة» فلسفته، بل كتاب المذهب: «لزوم ما لا يلزم» بقوله:
فخِفتُ أن يزعجه هذا الإكرام بعد ألف سنة، وكأني به قد نظر إليه بعين الغيب، فقال:
وَقفتُ حَيرانَ لا أدري ماذا أقول في هذا العُرس؛ فمن عادة البشر تعظيم العريس، مهما يكن شأنه، فكيف بنا وعريسنا اليوم أعزب الدهر كشيخنا أبي العلاء، الذي يُكالُ له الثناءُ بالمُدِّ، ويُقاس بِالأَميالِ وبِالفَراسخ؟
إن شيخنا المُعظَّم يُحب الهَجْو، ويُسيء الظن، ويَنهَى عن المَدحِ، حتى قال لنا:
والعجيب الغريب أن يكذِّب الناسُ جميعُهم: نبيَّهم ورسولَهم، أَديبَهم وشاعرَهم، خواصَّهم وعوامَّهم. أَبغضَهم وجافاهم فتهافَتوا على سِراجٍ يَنُوس في مَهَب عواصفِ الدهر، فجزاهم على ابتسامٍ بابتسام، حتى إذا ما انصَرفوا من تلك الحضرة المُتألِّهة، تقمَّص ربُّها روحَ ذاك الصعلوكِ القائل: «ولي دونَكم أَهلُونَ سِيدٌ عَمَلَّسٌ.» فقال فيهم مِثلَه:
وأوغل في مَفاوزِ إساءة الظن فقال أيضًا:
ثم رماهم بالجهل المُطبِق وأقصى الغباوة فقال:
إذا نظرنا إلى «الظاهر» أيقنَّا أن الشيخ الإمام غَضبَان، حَردَان على الدنيا وبَنِيها، فألقى قنابلَ مَحشُوةً غازاتٍ وسمومًا على مدينة المُثُل العُليا فأصابت الجميع:
قرأتُ في هذه الأشهر كل ما أملاه الإمام وأَخرجَته المطابع، وتَتبَّعتُ آثاره في هُوي «لزومياته»، وتَسلَّقتُ قِمَم «رسائله» مُتلمِّسًا النور من «سِقط زَندِه» و«ضَوء سِقطه» لَعلِّي أُدرِك بعض «غاياته»، وأَشهَد تمثيل «فصوله»، فكنتُ كمن يستنير بِالحُباحِب. رأيتُني في يَهماءَ تَكذِب فيها العين والأذن.
رأيتُ، بادئ ذي بدء، رجلًا يَقودُني إلى حيث لا يدري ولا أدري، فلم أجد أكفأ من كلمة ذلك الوزيرِ الذي زاره فقال له: ما هذا الذي يَرويه الناسُ عنك؟ فأجابه: قومٌ حسدوني فكذبوا عليَّ. فسأله الوزير: وعلامَ حسَدوكَ وقد تَركتَ لهُم الدنيا والآخرة؟ فأجاب المعري: والآخرة …
وأطرق مُنطوِيًا على نفسه، بل على سِره الذي كان من كتمانه في جهدٍ جهيد.
أجل، رأيتُني باتِّباعي شيخ المعرَّة أصبحتُ لا دنيا ولا دين ولا آخرة، وهذا عجيب.
يدعو الرجل إلى تطليق الدنيا ولا يرتجي غيرها، فكيف يكون هذا؟ ما رأيتُ فلسفةً بلا غايةٍ إلا فلسفةَ المعري، فقام في ذهني إذ ذاك، أن الرجل ساخط، مُتبرِّم، مُتشائم، يهجو الأنام، لا أَكثرَ ولا أَقلَّ، لا يرى الجمال فيَفتِنه سِحرُه، ويُلطِّف مَرارةَ عَيشِه، فاتَّبع «العقل»، والعقل يَهدِي ولكنه هادٍ زِمِّيت، جافُّ العشرة.
ظننتُ أن الإِكسيرَ الذي يُحلِّي مَرارةَ العيش ليس في مُتناوَل يدِ المعري، أَخفقَ في طلب الدنيا لأنه غيرُ مستطيع، فانطوى على نفسه في عُقر بيته واستدار يفُحُّ فحيحًا راعبًا.
انزَوَى كالخلد يَقرِض جذور التعاليم لِيُيبس ما غَرسَه السلف، وصَبَّ على الدنيا وبَنِيها زَيتَ سُخطه المَغلِي، فشَوَاها بِناره وكِبريته. كنت أظن أن نُسكَ أبي العلاء لا يُراد منه الثواب، ولكنه فَعلَ ما فَعلَه ديوجين حين داس كبرياء أرسطو بكبرياءَ أكبرَ منها …
يَخيب بعضنا في الحياة، فيُهرَع إلى الدَّير. فإن كان رجلًا خطب وُدَّ مريم وحَلَّ هذا الزواج الصوفي مَحلَّ الزواج الآخر، وتَسامَى صاحبه إلى المَثل الأعلى، فخَدَم البشرية خِدماتٍ جُلَّى. وإن كان أُنثى، كان عريسُها يسوع القائل: «من لا يترك من أجلي أبًا أو أخًا أو أمًّا فهو لا يَستحقُّني.» فحبًّا بالعريس المُرجَّى تقف حول سرير المريض، وتحنو على اللَّقيط، وتعطف على اليتيم.
أمَّا نُسك شيخنا — رحمات الله عليه — فيُسفِر في ظاهره عن سُخطٍ أَشبهَ بالقَذف؛ فهو يذُم الأُمهاتِ والأَخواتِ بأردأ النعوت والألقاب، يخاف عَليهِن حتى من أقرب الناس. ما قصَّر عن الحُطيئة في شيء، بل ما خِلته إلا مِثلَه حين قرأتُ قوله:
فهل تدل هذه الأبيات على شيء؟ أستغفر الله، إنني، عَلِم الله، حَسَن الظن بالشيخ، ولكن ألا يحق لي أن أشكَّ فيه كما شك هو لِعلمي أنه بعض الأنام؟
ولكن لا، إنني أثق به، إنه لَصادقُ السريرة والعلانية، غير أني أسمح لِوجداني أن يعتقد أن أبا العلاء فُجِع بالأنثى التي تعلَّقها قلبه، وما هجا الدنيا ذاك الهَجوَ المُرَّ إلا لأجل تلك التي لم تَرعَ لهذا الضرير عهدًا، وقد تكون هي التي حَملَته على الهِجرة إلى العراق على قِلة استطاعته.
يُشير الشيخ على الناس بشيء، ولكنَّ إشارته تبعث على اليأس، ويا ليته يأسٌ مُريح، إنه يأسٌ يستوي فيه الأعمى والبصير كقوله:
كنتُ أحسب هذا تظرُّفًا من الشيخ — والشيخ كان ظريفًا في شبابه ولكنَّ ظُرفه تحوَّل فيما بعدُ — فقلتُ إذ ذاك: «كم من مُتديِّنٍ هو أسمى عقلًا منَّا، فكيف يَغرُب هذا عن بصيرٍ كالمعري؟» فإذا بي أرى الشيخ مُدِركًا هذا يُقِرُّ به ويقول في رسالة الغفران: «وقد تجدُ الرجل حاذقًا في الصناعة، بليغًا في النظَر والحجة، فإذا رجع إلى الدِّيانة أُلفِي كأنه غير مُقتاد، وإنما يتبَع ما اعتاد» (ص٢٥٥).
لَستُ بالمُبشِّر في هذا المقال، ولكني قرأتُ اللزوميَّات لِأرَى ما يدعو إليه أبو العلاء، فلم أقع — أَولًا — على شيء، فعُدتُ من قراءتها وقراءة كُل آثاره، كما عاد صاحبنا من العراق راضيًا من الغنيمة بالإياب.
رأيتُ رجلًا يهجو الدنيا ويَزدريها كالمسيح، ولكنه لا يترجَّى ملكوتًا ولا نعيمًا، فماذا نعمل نحن الذين لا نُصلِّي ولا نَشكر إلا طمعًا بالثواب؟ وأين هي الغاية نسعى لها؟ بل أين هي الفلسفة التي يجب أن نُقرَّ له بِها ونَضَعه لِأجلِها بين حكماء الأجيال؟
فنَفَضتُ يدي من صاحبي وقلت: لا هذا ولا ذاك. ما هناك إلا أعزب الدهر مُقيمٌ في غرفة سوداء، يُناجي الأشباح والأرواح، شَفتان ترتجفان وتُتمتِمان، يستعرض جبهة الأزل وساحات الأبد، يُفكِّر دائمًا بالمعضلة السرمدية، ويُصوِّب نحوها نِبراسَ عقله، فيهرب الظلام ولا يكشف له النور عن شيء، فيلتجئ إلى ما طُبع عليه؛ أي السُّخْر والهُزْء، فيَضحَكُ من مَوكِب الحياة الصاخب؛ لأنه لا يَقدِر أن يُماشِيَه، فيرى جميعَ الناس صُمًّا عُميًا بكمًا:
فقلتُ: تلك نتيجة مُركَّب النقص، كما يزعم علماء هذا الزمان. عجز أبو العلاء، فرأى جميعَ الناسِ أشرارًا قُساةَ القلوب، يَفتِكون بالضعيف ويَصِفون له «الفَرُّوج» لأنهم استضعفوه، فلماذا لم يصفوا شبلَ الأسد؟
غَضِب المعري على المُستطيعِين؛ لأنه غير مستطيع مثلهم، فعدَّ النسل جناية.
تَحدَّث كثيرًا عن المرأة لأنه يُحبها، وأساء الظن بها لأنه يُريدها ويَغار عليها، وهو عاجزٌ من جِهتَين، فقعد يُكرِّه الناس بالحياة، وفي الحياة ناموسٌ يجذبنا إليها؛ فكيف يقوى على صده ضريرٌ، ولا سيما أنه يقول: «أمَّ دفرٍ لقد هَويتُكِ جدًّا …» كما سترى. إذن، غَضِب أبو العلاء على الدنيا لأنها لم تُحسِن استقبالَه، فهَجاها انتقامًا منها، ولكنَّها أجابَته بقوله:
أقول هذا وأَشهَد أني ظَلمتُ الشيخ — قبل أن أُدرك سِرَّه — والله وحده يعلم إن كنتُ أَدركتُ شيئًا …
لم أستغرب قولَ صاحب يتيمة الدهر إنه عرف في مَعَرَّة النعمان شاعرًا ظريفًا اسمه أحمد بن سليمان؛ فصاحبنا أبو العلاء ظريفٌ حقًّا. لا بد هنا من تصفية حساب إحدى مشاكل الرجل؛ فقد توهَّم الناس حتى الخواصُّ من الأدباء — هدانا الله وإياهم — أن أبا العلاء خُلق منزَّهًا عن الشهوات، بريئًا مما يُسمِّيه غيرنا الضعف البشري، لا يَنقُصه شيء من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزلٍ من الغرائز، كأنه غير مُركَّبٍ من لحمٍ ودم.
إن أبا العلاء، أيها الفضلاء — وهذا لا يضير عِصمته التي تزعمونها له — قد تغزَّل كالشعراء؛ لأنه أَحبَّ مثلهم — الحب لا يضُر يا سادة — وأحسَّ بما أحسَّ به كل مركَّب من نفسٍ وجسَد وله دماغٌ وقلب، إنه لم يقل عبثًا:
وقال أيضًا:
وأبو العلاء مدح كالشعراء، وهنَّأ بالزفافِ وغيرِه مِثلَهم، ولم يَقصُر عن أبي الطيب في غُلوِّه وإيغاله، حتى قال لأحد زعماء الشِّيَع يُهنِّئه في عرس:
وليس يُبالغ هذه المبالغة إلا من يطمع في حُطام الدنيا؛ فأبو العلاء قد جَنى مثل غيره غَلَّة الشعر، وذاق بواكير محصوله — قبل نسكه — وأبو العلاء رَثَى كالشعراء، وهجا مثلهم، ولكنَّ هَجوَه لا هُجر فيه، وافتخر وادَّعى مثل الشعراء بل أكثر منهم. فلْنثِق جيدًا أن المعري إنسانٌ مثلنا، أكل وشرِب وتَلذَّذ مثل الناس، وهو لم يَكذِب علينا حين قال:
ويقول أيضًا معبِّرًا عن اختباره الواسع الدائرة:
وهو يعترف بأخذه قسطًا وافرًا من نعيم الحياة حين يقول:
ويقول عن الدنيا ورياءِ البشر وإظهارِهِم الصُّدُوفَ عنها:
ثم لا يكتفي بإخبارنا عن هذا التَّرك، بل يقول لماذا فعل ذلك:
ويقول أيضًا في آخر الشوط:
لم يُنزِّه أبو العلاء نفسه عن كل هذا، ومع ذلك يقوم فينا، بعد عشرة قرون، من يغار عليه، ويأبى أن يُقِر له بذاك، لِيُرينا إياه رجلًا حلَّت عليه النعمة في البطن … ثم يتساءل: «من أين له الغِنى وخَفض الحشايا؟» «ما نشُك في أنه قد مَرَّ بهما مُرور الطَّيف في يومٍ من أيامه التي قضاها عند أخواله بحلب، أو عند أصحابه بمدينة السلام. ولعلَّه ظن جُلوسَه على الفِراش الوثير وتَمتُّعه بالطعام الشهي ساعةً من نهارٍ في دار سابور بن أزدشير، أو عبد السلام بن الحسين، ابتلاءً لِلغِنَى.»
عجيبٌ وألف عجيبٍ أَمرُ صاحبنا هذا. ترجُحُ دائمًا كفَّة الغَرض حيثُ يَنصب ميزانه؛ فهو إن وَزَن المعري تَقصُر جميع أثقال الدنيا عن أن تَزِنه وتُعادِله، وإن وضع فيه المتنبي شالَ ولم تُوازِ شخصيته حبة خردل.
فإمَّا أن أبا العلاء صادق، وإمَّا أنه غير صادق، فإن كان صادقًا فقد أَقرَّ وأَظهَرنا على ضعفه هذا — إن سمَّيناه ضعفًا. وإن كان غير صادق، فلماذا نُصدِّق ما زعمه ورواه عن زهده؟ بل لماذا لا نشك بقوله على الأقل، إن لم نُكذِّبه؟ فالذي عندي هو أن أبا العلاء بلا الدنيا، وذاق حلاوتها، وتكلَّم عن اختبار واعتبار، فلا نُنزِّهه عما لم يُنزِّه هو نفسَه عنه، ولنصدِّق معاصره الذي وصَفه بالظُّرف. هبوه أبا حنيفة الإمام المتبوع؛ فقد كان في أول عهده من عُشَراء حمَّاد عجرد وجماعته. وهبوه القديس أوغسطينوس يعترف؛ فما ضرَّ اعترافه عِلمَه ولا قَداستَه.
فلنسمع اعتراف أبي العلاء. قد نَسَك شيخنا وتَزمَّت بعدما أَخفَق، أو قُل «تحوَّل» ظُرفه حين مشى في جادَّةٍ أخرى، وأمسى حبيسًا. إنه لم يولد في البصرة، بل في معرة النعمان، والمعرة بلدٌ منعزلٌ ضيقٌ ما فيه إلا قيود وتقاليد.
تَذكَّر الشيخ قول أبي نواس: «نعم إذا فنِيَت لذَّات بغداد.» فقَصدَها، ولكنه عاد خائبًا من باريس العالم القديم؛ لأنه غير مستطيع، فكان من أمره ما كان. انزَوَى في بيته يُعلِّم الناس كبارًا وصغارًا ويَهزأ بالناس أجمعِين، ويَضحَك من مطامعهم العجيبة، وغُلواهم فيه. قال شيخنا الجليل:
فقام منا من يزعُم أنه سبق داروين إلى علم النشوء والارتقاء.
إنه لا يعني فيما يقول أكثر مما نعتقده؛ أي إن الإنسان مخلوقٌ من تراب ولا يعني بقوله: «إنَّ ابنَ آدمٍ كابنِ عِرسِ.» أكثر مما يظُن الفلاسفة الماديُّون.
وغَضِب أبو العلاء على البشر حين اعتقد «الخير» مذهبًا فقال:
فقام أيضًا من يظن أنه ممن كُشِفَت لهم حُجُب الغيب، وقد نظر إلى ما سيكون، فحدَّثَنا عن الطائرات والغوَّاصات، وأبو العلاء المِسكين لا يَعني إلا قنصَ الطير وصيدَ السمك …
ألزم شيخنا نفسه ما ليس يلزمها فسَخِط على المتساقِطِين على مائدة الدنيا كالذباب. ولو كان عنده عِلمُ هذا الزمان لحرَّم علينا شم الهواء وشرب الماء؛ لأن فيهما حياة، ولامتنع عن أكل العدس لأنه يلد الطويرات، ورفع يده عن سلَّة التين لأن التين، إذا خمَّ، يولد بنات عم البرغش.
ضَلالةٌ هندية اعتقَدها أبو العلاء، وأراد أن يجعل نفسه حَقْل اختبارٍ لفلسفته كما فعل تولستوي حين خَرُف.
هكذا ظننتُ قبلما عَرفتُ رأيه في «النفس»، وقبلما بانَ لي أنه يرجو ثوابًا.
اعتَكفَ أبو العلاء على درس أبي الطيِّب فكانت أولى صرخاته: «نقِمتُ الرضا حتى على ضاحِكِ المُزنِ.» وأبغض الدنيا وأَهلَها مِثلَه فاختار لها أَبشعَ الألقاب وأَوخمَها، وهذه الكُنية النتِنة التي أطلَقها عليها مأخوذةٌ من قول مُعلِّمِه أبي الطيب:
ثم ذهب في ذمها مذاهبَ أبعدَ يعرفها كُلُّ من له إلمامة بالأدب.
أُعجب شيخ المعرَة بالمتنبي فتناول كليَّاته الفلسفية وطفِق يبسِّطها ويمطِّطها، فكان في نظري مُكبِّرًا فوتوغرافيًا لِصُور المتنبي، فترك لنا هذا الميراث الفلسفي المنظوم؛ فما لُزوميَّات أبي العلاء إلا كألفيَّة ابن مالك؛ هذه تتضمن صرفًا ونحوًا، وتلك تتضمن فلسفةً لمَّها صاحبها من هنا وهناك، فهو لمَّامُ فلسفةٍ لا فيلسوف. وأعرف كثيرًا من مَعَّازةٍ وبقَّارةٍ وبغَّالةٍ عندنا يقولون عن الطقوس وغيرها ما قاله أبو العلاء، وقد يُعبِّر بعضهم أحيانًا بِسُخْرٍ مِثل سُخْره، ولكنه لا يُحسن النظمَ مثله.
وضع أبو العلاء الرُّجَّاز في آخر الجنة تحقيرًا لِفنِّهم، فأين كان يضع نفسه فيها لو سألناه ذلك؟ لا شك أنه لا يجيب بِبَيته المشهور:
فقد أفحمه ذلك الصبي، إن صحَّت الرواية … أمَّا أنا فأراه صادقًا في هذا البيت بالنظر إلى رسالة الغفران؛ فهو أروع أَثرٍ عربي ينمُّ عن ظُرفه ويبرِّئ تلك التسمية. فمن شاء أن يتعرَّف به فليَطلُبه هناك.
أمَّا لُزوميَّاته فقلما تجد فيها شعرًا. ولْنعظِّمه لأجل ذلك الأَثَر الخالد.
قد أَخفَق فيما كتبه بعدها من رسائلَ وفُصول، ولم يُدرك غايةً من الغايات؛ لأن فكرة صاحبنا واحدة؛ فهو منها كطائرٍ في قفص، أو كجوادٍ طُوِّل له ليرعى، فخط دائرةً بمقدار ذلك الحَبل.
إن رائحة أعزب الدهر لا تعجبني؛ فالشعر ابن الحياة، وكُل شعر يبتعد عنها يَنفِر منه القلب وتَشمئِز النفوس؛ ففي شعر أبي العلاء رائحة يأسٍ قتَّال، ومن يتبعه كان مُغفَّلًا يقع وإيَّاه في حُفرة.
قد تَدخُل عقلي أفكارُ أبي العلاء الزهدية حين أُشبِعُ ميولي، أمَّا حين أنشط فأراه أخا البوم يَنعَب ولا يَتعَب.
إني لأَكره النوحَ والنعيب، وأُحب الفنَّ راقصًا في كل زمانٍ ومكانٍ حتى على القبور؛ فليتني أُودَّع بطبلٍ وزمر، فأدخل ذاك الباب بين أجواق الزامرِين والراقِصِين، ولا أُودَّع وداع يأسٍ كما زَعِمَ هو …
لَستُ ألوم الشيخ إن قال:
ربما كان صادقًا، ولكن لا؛ فشعره غير مِصداقٍ لقوله، ورحم الله أستاذه أبا الطيب إذ أجابه عنَّا:
لقد كان أبو الطيب يُلمُّ من كل فنٍّ بِطرَف؛ فلِلغِيد عنده ساعةٌ ثم تنقضي، أما أبو العلاء فيُريد أن يجذبَنا صوبَه فما مَثَله إلا كمن ينادي: «ترمس أحلى من اللوز!»
هيه! يا أبا النزول، فليُصدِّقكَ غيري، أمَّا أنا فلست أذوق ترمسك ما استَطعتُ أَكلَ اللوز والجوز …
إني لأَعجَب ممن يقول:
ثم يدعو الناس إلى ترك أطايب الدنيا.
إن الفلسفة العَلائية ترى كل ما على الأرض ضَلالًا وباطلًا، ثم لا ترجو معادًا، أليس هذا منتهى العجب؟
أنطقته بمزاعمِه غريزته الموءودة؛ فجِسمُه مَقبرةُ عواطف ترجو الحياة، فولد تَسامِيه تشاؤمًا ويأسًا، بل صاحت هامته: «اسقوني»، فقدم لها زاده الفلسفي المُعفَّن.
شبِع سليمان من لذائذ دنياه وأطايبها فقال لنا بعد أن مسَح فمه: «باطلُ الأباطيل وكُل شيء باطل.» ولكنَّ هذا قالها ولم يذق من حلاوة دنياه غير التين، كما زعموا.
لا تصدق ذلك؛ فأبو العلاء عَرفَ جميع ملاذِّ الدنيا، وذاق ضُروب حلاوتها كلها إلا الخَمرَة.
إن أَعجَب فأَعجبُ من أعميَين هما الضدَّان اللذان لا يجتمعان: أبو معاذ، أكمه البصرة، الشَّرِه، القرِم إلى الأحمرين، الخمر واللَّحم، وأبو العلاء، ضرير المَعرَّة وهو بحقٍّ صائم الدهر:
أنا واثق أن شيخنا، قدَّس الله سره، ما عيَّد قط، لا على لحمٍ ولا على بيض … اللهم بعدما نَسَك. أما كيف يُفطِر وكيف يُعيِّد أبو العلاء إذ يموت، فهذا يأتيك خَبرُه في حينه، فلا تستعجل الأمور قبل أوانها فتُعاقَب بِحرمانها.
إن أبا العلاء ربيب المتنبي في خطوط فلسفته الكبرى، وهو أخو الجاحظ في هُزئه المُتلبِّس بالجدِّ، وسُخريته المتعالية حتى على الخواص. ليس أبو العلاء شاعر الفلاسفة ولا فيلسوف الشعراء؛ فقد أبعدته فلسفته عن الشعر، ولا يَصِح أن نعُدَّه، في لزوميَّاته، شاعرًا، إلا إذا جاز لنا أن نُحصِي ابن مالك في الشعراء. ليست لُزوميَّات شيخنا ديوان شعر، ولكنها كتابٌ جمع فيه مؤلِّفه أصول «مذهبه» وبَسطَها بسطًا مُعمًّى تقيَّةً وإيثارًا للعافية. أما نبَّهنا إلى ذلك بقوله:
فمن هو هذا «الغير» يا ترى؟
هذا ما يعنيني ويعنيك أيها القارئ اللبيب، ففكِّر معي إلى حين يفتح الله علينا.
كان في نفس المعري حاجةٌ ما اجترأ على مُفاتَحة الناس بها؛ فلم يُمنَ بما مُنيَ به المُتنبي من قِصاصٍ وخيبة …
أما المتنبي فأخفق في دعواه ولم يُخفق في فنِّه الشعري، والمعري عكس الآية، أخفق في الشعر وفاز بالتوحيد؛ أعني التوحيد الذي يفهمه هو و«الجماعة» القائلون: «الإسلام باب الإيمان، والإيمان باب التوحيد.»
المعري رجل كلامٍ وجدل، مُفكرٌ حرٌّ حطَّم سلاسل الوِراثة وأغلالها، فلم يشلَّ عقله إذ واجه المعضلات الأبدية التي لم تُحلَّ. ألقى مشكلات عصره في قفص الاتهام وقعد يستنطق الأجيال ويُقلِّب ما تركت من الآثار بطنًا لظهر، ثم حبس أحكامه عليها في سجون الأوزان والقوافي. ناقش كل معضلة فمضى وكأنه لم يحلَّ واحدةً منها. أمَّا عارفو سِره فيُدركون بوضوحٍ ما يعنيه صاحبهم إذ يقول:
إن المعلِّم من «سِرِّه» هذا في جهدٍ جهيد، مَثلُه مَثلُ امرأةٍ أدركها المخاض، فهي تتوجع وتتألَّم، والوضع منها بعيد.
أَشعَرنا أبو العلاء في مُقدِّمة لزومياته أنه يكتب كتابًا، لا يَنظِم ديوانًا، ولولا الاجترار والتَّكرار لَقُلت إنه أَعدَّ لكل فكرةٍ زندانًا؛ أي فصلًا. شَكَّ القدماء في كتبه النثرية فاتهموه بمحاكاة القرآن الكريم في كتابه الفصول والغايات. وها أنا أَلحَظ أيضًا — وبعضُ الظن إثم — أن كتابه الشعري، لزوم ما لا يلزم، مُؤلَّف من مائةٍ وثلاثةَ عَشرَ فصلًا، وسُور القرآن العزيز مائةٌ وثلاث عشرة سورة، فهل قصد ذلك يا تُرى؟
إن الشيخ، رحمه الله، مُتَّهم، وهو ماكرٌ على فَضله وتُقاه. لقد قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه …» فمن ينفي عنه حُسبان نفسِه «صاحب الزمان الأخير» المُنتظَر في دَهرِه بفارغ الصبر؟ وإني لأرى رسالته «مُلقَى السبيل» أعلى ذُرى التقليد المزعوم.
كل هذه المزاعم جائزة، بل هي عندي تُشبه اليقين، أمَا ظَنَّ الفرنسيون مريدو «لامنه» شيئًا من هذا بكاتبهم العظيم، فالتفُّوا حوله؟
إن تلك الثورة العقلية الصاخبة في زمن أبي العلاء تُظنُّ بها الظنون، فلا تستغرب يا قارئي ما زَعمتُ لك، وإني لأَعتقِد أن المعري نَظَم كتابه طبقًا لترتيبه، ولم يزجَّ هنا وهناك إلا القليل. ومن تأمَّل رأى الضعف ملموسًا في آخره؛ لأن الشيخ كان فيه بين جهدَين: جهد العمل الجاهد، وجهد الثمانين.
أدرك الشيخ، عفا الله عنه، ما في شعره من جفاف، فقال فيما قدَّمه بين يدَي لُزوميَّاته: «وأُضيف إلى ما سلف من الاعتذارِ أن من سلك هذا الأسلوب ضعُف ما ينطق به من النظام؛ لأنه يتوخَّى الصادقة، ويطلب من الكلام البرَّة، والشعر بابٌ من أبواب الباطل، فإذا أُريد به غيرُ وَجهِه ضعُف.»
لسنا نُعفي شيخنا من جريرة هذا الزعم، ونَرُدُّ عليه قوله وبرهاننا من شِعره وفِيه؛ فقصيدته «غير مُجدٍ في ملتي» من أجود الشعر، وفيها الصادقة والبرَّة من الكلام، بل هي نَواة فلسفته التي انبَثقَت منها تلك النَّبعة التي لا يُوازَى بأعلى نبتها الشجر، كما قال الأخطل، ومع ذلك لم تَضعُف تلك القصيدة؛ فالشعر يَضعُف ويأتيه الباطل من الجهات الست حين يُصبِح جدلًا كما فعل شيخنا الموقَّر، أو حين يُصبِح ألفاظًا تُردَّد وتُجترُّ كما يفعل أكثر شعراء الجيل الطالع … إن من يَشغل بالَه النحوُ والصرفُ في الشعر كأبي العلاء فيقول:
لا يكون حظُّه من الشعر النقي إلا قليلًا؛ فثقافة أبي العلاء الفنية مُستمدَّة من جميع ما عَرفَه العرب، وهو أعظم راويةٍ عَرفهَ أدبنا. وغايتُه الأُولى علم الكلام والجدل ومُقارَعة أئمة الأديان أَجمَع، وفنُّه في اللغة والنحو والصرف والعَروض وكل ما أُنشِئ لِصون اللغة من علوم كما يرى المُفكِّر حين يقرأ آثاره كلها.
في شعره اللزومي ثَورةٌ تنفخ فيه حياةً مَبعَثها روح الشاعر الثائرة المُتمرِّدة الساخرة، فملُح بعضه وطاب. سيَّر الشاعر قريحته في غير اتجاهها كما سيَّر نفسه فقضى على الثنتَين.
قد تَسأَل عن مشاكل النحو والصرف وغيرها التي أَفسدَت فنَّ شيخ المعرة حتى في أروع آثاره، «رسالة الغفران»، فاسمع كيف يقول واحكم أنت:
ومع هذا عاد شيخنا من بغداد إلى مَعرَّته ولم يفارقها مفارقةَ الواو مُضارعَ وعد، بل لزِمها لزومًا أبديًا. وشاء النهي عن الزواج فالتجأ إلى النحو والبديع فقال:
وأدرك أنه يُخالف وصية زعيم المذهب القائل: «واحدة تكفيكم.» فرجع عن غلَطه. فتَّش فوجد في النحو مُعينًا فقال:
والتفَت نحو الدنيا لِيُخاطبها كعادته فوجَد في إحدى القراءات مُعينًا يُمهِّد له الطَّريق فقال:
ثم ورد مَنهَل العَروض فقال:
وحدثنا عن مَحبِسه فاستجار بِنِعمَ وقال:
واسمَحْ لي أن أَختم بهذا البيتِ من تلك البِضاعة المُزجَّاة:
لم يبقَ إلا الشدُّ والمَدُّ والقَطع والوَصل، وفيها مَجالٌ فسيح للناظم. إني لأَعذرُه فيما أُعنِّفه، ولا أَزعُم أني ذَكَرتُ كل شيء، ولست بِمُحدِّثكَ عما تعمَّد من ضروب البديع الشنيع؛ فالحَط من قَدْر هذا النابغة لا يَخطُر لي ببال. وأنا والله أَحترِم أدبه جِدًّا. وقد زُرتُ قَبره الحَقيرَ قبل أن دعا الريحاني إلى الاحتفال بِعُرسه الألفي، وكَتَبتُ ما كَتَبتُ عن تلك الزيارة التي تَركَت في نفسي أَسوأَ الأَثَر …
إن الشيخ الإمام يدعونا إلى اتِّباعه في تَركِ الدنيا بقوله لنا:
يُذكِّرني قولُه بالكلمة الإنجيلية: «احمِل صليبك واتَّبِعني.» ولكني أُجيب الشيخ: «ضرب الحبيب زبيب.» ثم أُصارحه بأنني لن أَتَّبِعه ولو عُمِّرتُ مثل متوشالح. إن ناموس الحياة يُريدنا ثِقالًا لا خِفافًا، فكيف نُلقي العَتادَ ونَهرُبُ من المعركة؟ لو شئنا أن نعيش بعقلنا — كما يريد هو — لَوَقفَت حركة الكون وصَحَّ فينا قَولُ أبي الطيب: «ذو العَقلِ يَشقَى في النعيم بِعقلِه.» فليَتبَع أبو العلاء شَيخَه العقل. أمَّا أنا فمن الجُهَّال لا العُقَّال. إن بعض العقل عِقالٌ كما قال أبو الطيب، فلنَنطلِق.
وبالاختصار أقول: إنَّ في أدب العُميان جميعًا رائحةَ عفنٍ لا تُعجبني ولا أستطيبها، ولم يَخلُ منها حتى شِعر بشَّار، ذلك القطب الجنوبي المُتَّقِد، إن صحَّت تسمية المعرِّي قطبًا شماليًّا لِصَقيعه وجَليده.
وأخيرًا، أَسألُ أبا العلاء أن يغتفِر لي وَقاحَتي وتطاوُلي على سُدَّته السنيَّة؛ لأنه أمرني أن أَبتعِد ما استَطعتُ عن التقليد حتى في الصلاة:
إني أثق برحابة صدر الشيخ، ولكني أخشى غضب من يؤمنون به إيمانًا أعمى ويريدون أن يُنزِّهوه …
إن من يقرأ أبا العلاء ويُفكِّر بما يدعو إليه يَظنُّه دهريًا عدميًّا. ورجلٌ حكيم واعٍ كأبي العلاء لا يصح أن يكون بلا مذهب، ناهيك بأن هذا مستحيل؛ فعلم النفس الحديث يُثبِت أن لا بُد للإنسان من مُعتقَد، بل لا بُد له من التفكير في فرضٍ لحلِّ المشكلة العظمى التي تواجهه كل لحظة، فما هو مذهب المعري الذي يُبرِّر ذلك الزُّهدَ العنيف؟
لولا هذا الفرض كان صاحبنا مجنونًا.
ولماذا يتنسَّك هذا النُّسكَ الأَهوجَ من لا ينتظر حالةً خيرًا من التي هو فيها؟
لم يُعجِب أبا العلاء سماعُ قوله تعالى حين تلَاه في حَضرتِه ذلك المُقرِي: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، إذن فما عساه يرجو وهو ذلك اللبيب اللبيب، وعلى أي رجاءٍ يموت؟
إن نقُلْ لا رجاء له كما يبدو لبعضهم من تردُّده وشكِّه، فلماذا هذا التقشُّف؟
ألا يستطيع أن يعمل خيرًا ويعيش مثل الناس؟ فماذا يُبرِّر هذا الشذوذ ويُعفي الرجل من البهْلَة فلا يكون هَملًا، كما حذَّرنا هو، ولا يُترك سُدًى؟
عبثًا نحاول حل مشكلة المعري على مذاهبنا المعلومة المكشوفة؛ فهو لا يدين بها، وقد حمل عليها حملاتٍ عنيفة؛ فلا نُحاول تبرئته فنتمسَّك بما هو أوهى من خيط العنكبوت؛ وإني لأُجِلُّ صدقه، فهو أَجلُّ وأسمى من أن يكون مُلحِدًا مُعطِّلًا، كما سماه ابن الجوزي في «تلبيس إبليس». إنه لم يُصرِّح بدينه لا سرًّا ولا جهرًا لا تلميحًا ولا تلويحًا، حتى في أَحرَج الساعات وأَرذَل العُمر، حين يمسي الرجل إمَّعة، ساعةَ هاجَمَ حِصنَه داعي الدعاة وأراد أن يُريح العالم من دينه …
(لا تَنسَ أنني أُحدِّثك هنا عن فَهمي الأَوَّل للمعري) كان في استطاعته أن يقول كلمةً واحدة تُريحه وتُغنيه عن ذاك اللفِّ والدوَران، ولكنه أبى أن يكون مُنافِقًا، ومَذهبُه يقوم على «الصدق» وإن جوَّز الكذب عند الضرورة القُصوى، كما سترى.
إن لم يكن المعري يُريد إشادة مذهبٍ جديد، فهو على الأقل ذو مذهب، فما هو ذاك المذهب؟ هذا ما سيضطرب له الأستاذ رئيف خوري.
رُوي أن أبا العلاء، حين كتب «معجز أحمد»، قال: «كأن المتنبي نظر إليَّ بعين الغيب فقال:
وأنا أقول: كأني بصديقي الأديب الكبير رئيف خوري قد دخل مَخدَعي منذ شهور، وفتَّش أوراقي — وفيها المَحظورة قراءته والمُباحة — كأني به قد حَضَر إحدى الجلسات التي كنتُ أَستنطِق فيها أبا العَلاء القائل:
كأنه دَرَى بكل هذا، فقال ما عَزَته إليه مجلة الأديب الغَرَّاء في عدد أبي العلاء: إننا في لبنان لن نترك أبا العلاء حتى نُعطيه تَذكرةَ هُويَّةٍ طائفية.
هو ما تقول، يا أخي، ولا أَشُك في أنك تُسلِّم بضرورة «الفرض» لحل المشاكل العظمى، وهل حلَّ أَعظمَ المشاكل الكونية غَيرُ الفرض؟ ولهذا رأيتُ أن المُعضِلة العَلائية لا تُحلُّ إلا بهذه التذكرة؛ فهي المِفتاح لهذا الباب الدهري المُغلَق.
إن للهُويَّة، يا رئيف، شأنًا جليلًا في علم النفس، فاسمح لي أن أَمنَح المعري هذه التذكرة. واستَسفِره إلى دولة الأدب، فإن كان مرغوبًا فيه فاحفَظها لَدَيكَ، وإلا فأَعِدْها إليه وأَقصِهِ إلى الحدود، فيعود من حيث جاء.
حاشية: خاطبتك بيا أخي، فلا يعزُّ عليك ذلك. ما في ذلك غَضٌّ من فُتوَّتِك؛ فالناس يعلمون أنك فتًى، لا أعني ابن عشر، بل أعني شابًّا مندفعًا كالتيار في بحر الإنتاج، وأرى في نتاجه أشياءَ يُكتب لها البقاء، وأَترجَّى أن يجتمع أَشُدُّك في الدهر العتيد كما يَترجَّى المؤمن قِيامته بالنفس والجسد.
اللهمَّ، حقِّق لنا الأُمنيتَين، واهدِ شبابنا الحائر إلى ذاته حيث يجد الأَدبَ الذي لا يموت، فأكثر ما تُنتجِه قرائحهم كالزهرة المعروفة «شب الليل».