الحصن الذي لم يسكت
«غاب» الحاكم ولم يعُد فكثر الإرجاف، وكل ما عُرِف من أمر «غيبته» حتى الساعة: أنه قام بِطَوافه الليلي ليلة الاثنين في ٢٧ شوال سنة ٤١١ هجرية، بعد أن ذَكَر لِوالدتِه أنه يتوقَّع في الغَد قَطعًا في طالعِه ينذر به ظهور نَجمٍ مُعيَّن وأنه يَتوجَّس خِيفةً من ظُهورِه، ويَخشَى أن يُصيبها شرٌّ ولا سيما من أخته — ست الملك، وأَعطَى أمه مفاتيح خِزانةٍ مليئة بالمال لِتُحوِّلها إلى قَصرِها، فجَزعَت أمه، وتَضرَّعَت إليه ألا يخرج، فوعَدها بذلك، ولَبِث أَرِقًا والضَّجَر يكاد يقتله حتى مضى من الليل ثُلثاه، وعِندئذٍ قال لأمه: لا بُد من رُكوبي الليلة وإلا خَرجَت رُوحي، ثم رَكِب وخرج.
وخَرجَ القُضاة والأشراف والقُوَّاد في اليوم التالي إلى الجبَل فبحثوا عنه حتى آخر النهار ولم يَعثُروا له على أَثَر، وظلُّوا يخرجون كُلَّ يومٍ حتى كان يوم «الخميس» آخر شَوَّال فعثَروا على حِمار الحاكم الأَشهَب، المُسمَّى القمر، وقد قُطِعَت ساقاه الأماميتان، وعليه سَرْجُه ولِجامه، وإذا أَثَر رجلٍ خلف الحمار وأَثَر رجلٍ أمامه، فاقتَفَوا الأَثَر فعَثَروا على ثياب الحاكم وهي سَبْع جُبَبٍ لم تُحلَّ أزرارُها.
وكثر اللغو إذ طالت الغيبة، فجلس الظاهر لإعزاز دين الله على كرسي الخلافة يوم عيد الأضحى سنة ٤١١؛ أي بعد غياب أبيه بستة أسابيع.
وشاعت شائعاتٌ تَترَى عن ظهور الحاكم هنا وهناك، وعاش الناس حِقبةً يُرجِّفون ويَلغُون مُنتظرِين الرَّجعة حتى ظهر رَجلٌ يُشبِهه في عهد المستنصر سنة ٤٣٤ فادَّعى أنه هو الحاكم وأنه بُعِث بعد موته، فأوقع الجند بالمُدَّعي وشتَّتوا أنصاره، وفي هذا قال أبو العلاء:
واضطَهد الظاهر لإعزاز دين الله دُعاةَ أبيه أشد الاضطهاد، فقَتَل منهم وصَلَب وسَجَن حتى رَوَوا أنهم كانوا يقطعون رأس أحد هؤلاء الدعاة ويُعلِّقونه على صَدرِ أخته أو زوجته، فتَفرَّق الدعاة تحت كلِّ كوكبٍ ولم يرتدَّ منهم إلا القليل، ظلُّوا يُناضِلون سرًّا ولجأ أكثرهم إلى لبنان وسوريا الشمالية، فتَوارَوا عن العيون، وبثُّوا دعوتهم ثم أُقفِل الباب.
وذهبت طائفةٌ من النُّصيريةِ إلى الغُلو في أبينا أمير المُؤمنِين علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، غلَت وادَّعَت فيه ما ادَّعَت النصارى في المسيح، ونَجمَت عن هؤلاء الكَفَرة فِرقةٌ سخيفة العقول، ضَالَّةٌ بِجَهلِها عن سَواء السَّبيل، فغَلَوا فينا غُلوًّا كبيرًا، وقالوا في آبائنا وأجدادنا منكرًا من القول وُزورًا، ونَسَبونا بِغُلوِّهم الأَشنَع، وجَهلهِم المُستفظَع، إلى ما لا يليقُ بنا ذِكرُه. وإنَّا لَنَبرأ إلى الله تعالى من هؤلاء الجَهلة الكَفرة الضلَّال، ونسأل الله أن يُحسِن مَعونَتنا على إعزاز دينه، وتوطيدِ قواعدِه وتمكينه، والعمل بما أمرنا به جدُّنا المُصطَفَى وأبونا عليٌّ المُرتضَى، وأسلافُنا البرَرةُ أعلامُ الهدى. وقد عَلِمتُم يا معاشر أوليائنا ودُعاتنا ما حَكَمنا به من قَطعِ دابر هؤلاء الكفَرة الفُسَّاق والفَجَرة المُرَّاق وتَفريقِنا لهم في البلاد كل مُفرَّق، فظَعَنوا في الآفاق هارِبِين، وشُرِّدوا مَطرودِين خائفِين.
ثم اعترف الظاهر إلى الله «بأنه وأسلافه الماضِين وأخلافه الباقِين مخلوقون اقتدارًا، ومَربوبون اقتسارًا لا يملكون لأنفسهم موتًا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى، وأن جميع من خرج منهم عن حد العبودية والأمانة لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعِين، وأنه قد قدَّم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله تعالى من كُفرهم، فمن أصرَّ فسيف الحق يستأصِله.»
أَسكَتَت قلعة الظاهر لإعزاز دين الله جميع حصون الدعوة لأبيه الحاكم بأمر الله، فاستحالت الصيحة الصاخبة هَمسًا ونَجوى فأصبح حديثها وَشوشةً في الخَلَوات.
إن القوة لا تَعجَز عن شيء مثل عجزها عن خنق العقائد؛ فإنها تَكمُن كُمون النار تحت الرماد. وهذا الذي كان؛ فقد هرب جميع الدعاة من القاهرة وانتشروا في الأقطار يُسِرُّون النَّجوى، يَكتُمون سرهم حتى عن الآذان المُشنَّفة كما يقول أبو العلاء:
كل الحصون سَكنَت إلا حِصنَ المعرة الجبَّار فإنه ظل يَعمل ويعلِّم، ويُهاجِم النصيرية متابعًا الظاهر لإعزاز دين الله، يُؤيِّد الدعوة الفاطمية الأصيلة ولا يؤمن إلا بنبيِّه «العقل» ولا يعتقد إلا بالخير، ولا يحرص إلا على النفس.
هذا هو الثالوث الذي يعني أبا العلاء؛ فهو يترك كل ما عداه هَدرًا. وظل أبو العلاء يملي، بل تَطوَّر إملاؤه فأمسى كأنه يُقرِّر مذهبًا بعينه، بعدما كان يُعلِّم طلابه آراءً عامة.
كان فيما مضى هدَّامًا، وها هو يمسي بنَّاءً، يشيد صَرحَ مَذهبِه علنًا، ولا سيما بعدما سُمِعَت كلمته ووَهبَه صالح بن مرداس المعرة، وأدَّى إلى «إخوانه» الذين يُسمِّيهم تارة المعاشر وحينًا الجماعة وطورًا القوم كما يقتضي الوزن، أَصدقَ خدمة وأَجلَّها، فأنقذهم من براثن أسد الدولة صالح بن مرداس، فعاشوا في ظل شيخهم المعري آمنِين، وله عليهم إمرةٌ مطاعة، إمرةٌ لا يؤيدها سيف ولا يدعمها رمح، ولا تحوطها قوة، إمرةٌ قائمة على أسس الدعوة القائمة على العقل والخير والصدق.
كانت إمرة أبي العلاء على المَعرَّة كالإمارات المثالية التي صبا إليها الفلاسفة فنَعِم بال الإمام وقال في ذلك:
ولكن الصيت الذي انتشر، وهذا الجاه الطويل العريض، وهذا الخير الذي نتج عن خروج أبي العلاء إلى صالحٍ لم يُرضِ أبا العلاء.
لقيَ الإمام من صالح احتفاءً عظيمًا؛ فالتاريخ يَروِي أنه قِيل لصالح وهو مُحاصِر المعرة: إن باب المدينة قد فُتِح، وخرج منه أَعمَى يقوده إنسان.
فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعُوا القِتال لِننظُر ماذا يُريد.
وكان لأبي العلاء ما أراد، سلامٌ واطمئنان للمعرة، وسيادةٌ للإمام، ولكنه لم يزهُ ولم يَبطَر.
الرجل الذي افتدَت كَلمتُه نفوسًا بريئة وحمَى وطنه من القتل والدمار لم يرضَ عن نفسه فيما بعدُ. لم يغفر لنفسه خطيئةً عَرَضيةً لا يَتحرَّج منها الصالحون الأبرار، وهي كَذِبة المَديح، فقال مُكفِّرًا مُوبِّخًا نفسه التي آلى أن يُطهِّرها ويُنقِّيها بِنُسكِه:
وكأن الشيخ وبَّخه ضميرُه لأنه دان صالحًا، ولأنه لم يرَ الصلاحَ الذي يَنشُده فيمن وهبه إياهم صالح فقال:
إن صاحبنا صالح بن مرداس يُسمِّيه إخواننا الفاطميون — الدروز — حتى اليوم: «لا صالح»؛ لأنه اضطَهد الإخوان وجَنفَ عليهم.
ثم انقضى عهد الظاهر لإعزاز دين الله العصيب، وفي هذا العهد لم يسكت حصن المعرة كما قُلنا، وجاء عهد المُستنصِر فرأى هذا الخليفة أن الدعوة الفاطمية في تَقهقُر، فحوَّل وجهه شطر المعرة، صَوبَ أبي العلاء، فوهبَ له ما في خزائن المعرة من مالٍ حلال، فرفضه الإمام، ونزل له عن خَراجِها فلم يقبلْ مال الظُّلم، ثم التَفتَ المستنصر ناحية أخرى فوجَّه أبياتًا مروية إلى داعي الدعاة المُلقَّب بِالمؤيَّد في الدين يستنصره:
وإن تعجَّب الناسُ كيف لم يُقتَلْ أبو العلاء على الزندقة فلأنهم لا يعلمون، أو لا يُريدون أن يَعلَموا، أنه فاطمي المذهب، وأَنَّ لِلفاطمية النفوذَ والسيطرةَ على وطنه — سياسيًّا ودينيًّا — وإن ضعُفَت أحيانًا سيطرة الفاطميِّين السياسية فلم يَضعُفْ نُفوذُهم الديني؛ فقد كان إقليم حلب على مذهب «الإمامية».
أمَّا داعي الدعاة الذي مَرَرنا به مُرورَ الكِرامِ فسنُعرِّج عليه، والمَوعِد قريب.