أراجيف وأساطير
أمَّا منافسة الشيخَين أبي العلاء وداعي الدعاة فإن دَلَّتني على شيء فتَدُلُّني على أن الرجلَين فرسا رِهان، يجريان لغايةٍ واحدة. كلاهما باطنيٌّ ينتهي إلى قِمَّة الدعوة، ويعتصم بالعقل وحده، ولم يكتب داعي الدعاة إلى أبي العلاء إلا رغبة منه في إدراك سره؛ لأن الباطنيِّين مُولَعون بالأسرار … وليس فيما كتب داعي الدعاة إلى أبي العَلاء ما يدل على أنه يُناهِضه، ولا على أنه يبحث عن حقيقة دينه؛ فالمقصود هو إدراك السر الذي ذاع أَمرُه وأَوهَمَ أبو العلاء أنه عنده ولا يبوح به.
وما رأيتُ أبا نصر بن أبي عمران — داعي الدعاة — إلا مُبجِّلًا ومُعظِّمًا لأبي العلاء، عارفًا سِرَّه كما يجب؛ فهو يقول: «والدليل على كونه — أي أبي العلاء — ناظرًا لمعاده، بدقيق النظر الذي لا يكاد يجري معه جارٍ في مَيدانه، سُلوكُه في المسلك الذي سَلكَه في الزهد، وقَصدُه شظَفَ العيش وتَعوُّضُه عن لذيذ الطعام بالكريه، وعن ليِّن اللِّباس بالخشِن، وتَعفُّفُه عن أن يجعل جوفه للحيوان مَدفنًا، أو أن يَتذوَّق من دَرِّها لَبنًا، وأن يستطعم من طعامٍ استكدَّت عليه في حَرثَه وإنشائِه. وليست هذه الطريقة إلا طريقة من يعتقد أنه إذا آلَمَها، ونال نَيلًا منها، استوفَى جزاء فعله بها. ومن كانت هذه نُصْبَتَه في سلامة البهيمة العجماء منه، فكيف في إيثار سَلامة الإنسان الناطِق العاقِل من يَدِه ولِسانِه؟»
ثم تجري الرسالة الأولى جري النِّد في مخاطبة النِّد، بل سؤال «مَن يَتوكَّأ على عَصا العَقل».
هذا ما ورد في رسالة داعي الدعاة الأُولى. أمَّا رسالته الثانية، وهي الأخيرة، فلم يُجِبْ عليها أبو العلاء؛ لأنه كما ذكر لداعي الدعاة في رسالته الأخيرة: «وإني لأَعجِزُ إذا اضطجَعتُ عن القعود، فربما استَعنتُ بإنسانٍ فإذا همَّ بإعانتي وبَسطَ يدَيه لِيُنهِضني، اضطَربَت عِظامي؛ لأنهنَّ عارياتٌ من كسوةٍ كانت عليهِن، فعرَّتهنَّ منها الأوقات المتمادية، وإنما عَنيتُ ما كان عليهِنَّ من لحم.»
لم يُجِبْ عنها أبو العلاء لأنه مات، وإليك ما يعنينا مما جاء فيها: «ما فاتَحتُ الشيخ، أحسن الله توفيقه، بالقول إلا مُفاتَحةَ مُتناكِر، مُؤثِرٍ لِأن يُخفي من أين جاءه السؤال، فيكون الجوابُ باسترسالٍ ورفض حشمة، وحذفِ تكلُّف الخطاب بسيدنا، والرئيس وما يجري هذا المجرى؛ إذ كان حُكم ما نتجارى فيه مُوجِبًا ألا يتخلله شيءٌ من زخارف الدنيا، ولأنني أعتقد أن سيدي، بالحقيقة، من تَستقِل دون يده يدي أخذًا منه للدنيا، أو تَمتارُ نفسي من نفسه استفادة من معالمِ الأُخرى.
فلا أدري كيف انعَكسَت الحال، حتى صار الشيخ، أدام الله تأييده، يُخاطِبني بسيدنا، والرئيس، ولستُ مُفضَّلًا عنه في دنيا ولا دين، بل شادٌّ إليه راحلتي لاستفادة، إنْ وَرَدتُ مَورِدها، أو صادَفتُ نهلًا أو علًّا منها، قابلتها بالشكر لِنعمتِه، والإسجال على نفسي بسيادته.
وبعدُ فإني أُعلِمه، أدام الله سلامته، أنني شقَقتُ الأرض بطنها وظهرها من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدتُ الناس بين رجلَين: إما منتحلًا لِشريعة صبَا إليها، ولهج بها إلى الحد الذي إن قِيل له من أخبار شرعه، أن فيلًا طار، أو جملًا باض، لمَا قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يُكفِّر من يرى غير رأيه فيه، ويُسفِّهه ويَلعَنه.
فالعقل عند مَن هذه سبيلُه في مَهواةٍ ومَضيَعة؛ فليس يكاد ينبعث لأن يعلم أنَّ هذه الشريعة التي ينتحلها لم يُطوَّق طَوقَها، ولم يُسوَّر أسوارها إلا بعد لُموع نُور العقل منه.
أو منتحلًا للعقل يقول: «إنه حجة الله تعالى على عباده.» مبطلًا لجميع ما الناسُ فيه، مُستخِفًّا بأوضاع الشرائعِ مُعترِفًا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها، وعِظَم المنفعة بمكانها؛ لكونها مَقمعةً للجاهلِين، ولِجامًا على رءوس المُجرمِين المجازفِين، لا على أنها ذخيرةُ العُقبى، أو منجاةٌ في الديار الأخرى.
فلمَّا رمَت بي المَرامي إلى ديار الشام بمصر، سمِعتُ عن الشيخ، وَفَّقه الله، بفضلٍ في الأدب والعِلم، قد اتفَقَتْ عليه الأقاويل، ووَضحَ به البرهان والدليل، ورأيتُ الناس فيما يتعلق بدينه مُختلفِين، وفي أَمْره مُتبلبِلِين؛ فكلٌّ يذهب فيه مذهبًا، ويُتبِعُه في تقاسيم الظنون سببًا.
وحَضَرتُ مجلسًا جليلًا أجري فيه ذِكرُه، فقال الحاضرون فيه غثًّا وسمينًا، فحفِظتُه بالغيب وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظِّنة والريب. وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرًّا، قد أَسبَل عليه من التقيَّة سِترًا، وأمرًا تميَّز به من قومٍ يُكفِّر بعضهم بعضًا. ولمَّا سمِعتُ البيت:
وثِقتُ من خَلَدِي فيما حدست عهوده وقلت: إن لسانًا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقًا … لَلِسانٌ «صامتٌ» عنده كل «ناطق» … فقصدته قصد موسى لِلطُّور اقتبس نارًا … فأدليتُ دَلوِي بالمسألة «الخفية» التي سألت …»
ثم يعتذر الداعي عن كل ما سلف في رسائله ويختم هذه الرسالة بقوله: «وقبلُ وبعدُ، فأنا أعتذر عن سرٍّ له أدام الله سلامَتَه، أديته، وزمانٍ منه بالقراءة والإجابة شَغَلتُه، لأنني، من حيث ما نَفعتُه، ضَرَرتُه، والله تعالى يعلم أني ما قَصَدتُ به غير الاستفادة من علمه والاغتراف من بحره والسلام.»
ولستُ أدري كيف يحسب مثل هذا الكلام تهجُّمًا على قدس الشيخ، وأن يقال إن داعي الدعاة أمر بإحضارِه إلى حلب، ولمَّا علم أبو العلاء أنه يُحمَل للقتل أو الإسلام، سَمَّ نفسه فمات؟
هذه أُولى الأراجيف؛ فداعي الدعاة كما تَلمحُ من مخاطبته أبا العلاء يعلم أنه يخاطب أستاذًا أو زميلًا على الأقل، وقد خاطَبه بالمُصطلَحات والتعابير الفاطمية، واعتَذرَ له عن إزعاجه إيَّاه بالرد عليه. أما قولُ داعي الدعاة إن الناس مختلفون في دين أبي العلاء فهو يقول حقًّا ولهذا كتب إليه، ولمَّا علم أنه من «الجماعة» ترَكَه وبالَغَ في تعظيمه والاعتذار إليه. أمَّا الآخرون فاسمع كيف يخاطبونه:
ومن إرجافهم حول ذكائه حَكَوا أن اثنَين تكلما أمامه شيئًا كثيرًا بلسان أذربيجان، فأعاد أبو العلاء على اللفظ بعينه من غير أن يَخرِم منه حرفًا، ولم يَنقُص ولم يَزِد. وروى بعض طلبة أبي العلاء أن جارًا له أعجميًّا غاب عن المعرة، وحَضَر رجلٌ من بلده يبحث عنه، فوجده غائبًا، ولم يُمكِنه المقام فأشار عليه أبو العلاء أن يَذكُر حاجته، فجَعلَ الرجل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء مُصغٍ إليه، ولم يكن يَعرِفها، إلى أن فَرغَ من كلامه ومضى الرجل. وقَدِم جَارُه الفارسيُّ الغائب فجعل يُردِّد عليه ما سَمِعَه بلفظه، والرجل يستغيث ويَلطِم، إلى أن فَرغَ من الحديث. وسُئل عن حاله، فأَخبَر بموت أبيه وإخوته، وجماعةٍ من أهله.
قلتُ: ولو كان ماتَ جميعُ مَن في بلده لكان الخبر أَضخَم وأَروَع. وقد رَوَوا أخبارًا كثيرة مثل هذه لا حاجة إلى إثباتها.
ومن الأساطير المَعزوَّة إليه واحدةٌ رُوِيَت عن الغزالي عن يوسف بن علي بأرض الهركار أنه قال: «دخلتُ مَعرَّة النعمان، وقد وَشَى وزير محمود بن صالح إليه بأن المعري زنديقٌ لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالةَ — أي النبوة — تَحصُل بصفاءِ العقل، فأَمَر محمودٌ بحمله إليه من المَعرَّة، وبعَث خمسين فارسًا لِيَحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عَمُّه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي، قد نَزَلَت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن مَنعنَاك عَجَزنا، وإن أسلمناك كان عارًا علينا عند ذَوي الذِّمام، ويَركبُ تنوخ الذُّلُّ والعَار.
فقال أبو العلاء: هوِّن عليك يا عم، ولا بأسَ عليك؛ فلي سلطانٌ يذُبُّ عني، ثم قام فاغتسل، وصلَّى إلى نصف الليل ثم قال لِغلامه: انظر إلى المرِّيخِ: أين هو؟
فقال الغلام: في منزلة كذا، فقال: زِنه، واضرِب تحته وَتدًا، وشُدَّ في رجلي خيطًا واربطه إلى الوَتد، ففَعلَ غلامه ذلك، فسمِعناه وهو يقول: يا قديمَ الأَزَل، يا عِلة العِلَل، يا صانع المخلوقات، ومُوجِد الموجودات، أنا في عِزِّك الذي لا يُرام، وكَنفِك الذي لا يُضام، الضيوف الضيوف، الوزير الوزير، ثم ذكر كلماتٍ لا تُفهَم، وإذا بهدَّةٍ عظيمة، فسأل عنها فقِيل: وَقعَتِ الدَّارُ على الضيوف الذين كانوا بها فقَتلَت الخَمسِين، وعند طلوع الشمسِ وَقَعَت بطاقة من حلب على جناحِ طائر: لا تُزعجوا الشيخ؛ فقد وقع الحِمَام على الوزير.
قال يوسف بن علي: فلمَّا شاهَدتُ ذلك دَخَلتُ على المَعرِّي فقال: زعموا أنني زِنديق، ثم قال: اكتب. وأملى عليَّ أبياتًا من قصيدةٍ أَوَّلُها:
- الأَوَّل: روى القفطي عن القاضي أبي عمرو بن عبد الله الكرجي، أنه كان وهو طالبٌ يقع في دين أبي العلاء، فرأى فيما يرى النائم كأنه في مسجد، وكأن على صُفَّة فيه رجلًا شيخًا ضريرًا بادنًا، وإلى جانبه غُلامٌ يُشبِه أن يكون قائدَه. قال القاضي: وكنت واقفًا تحت الصُّفَّة في نفَرٍ من الناس، وهذا الشيخ يتكلم كلامًا لم أَفهَمْه، ثم التَفَتَ إليَّ وقال: ما حَملَكَ على الوقيعة في ديني، وما يُدريك لعل الله غفَر لي؟ قال: فاستَحييتُ منه وسألتُ عنه فقِيل: هو أبو العلاء. فلمَّا أَصبحتُ أقلعتُ عن النَّيل منه، واستَغفرتُ الله لي وله.
- الثاني: رواه غرس النعمة عن غلامٍ سمَّاه أباه غالب، قال: وهو من أهل الخير والصلاح، وله فقه ودين، فلمَّا وَردَ إلينا الخبر بموت أبي العلاء تذاكرنا ما كان له من كُفرٍ وإلحاد، فأتينا من ذلك على شيءٍ كثير، والغلام يسمع، فلمَّا كان الغد أَقبَل إلينا يُحدِّثنا: أنه رأى فيما رأى النائم شيخًا مَكفوفًا على عاتقَيه حيَّتانِ، رأساهما إلى فخذَيه، فهما ترفعان رأسَيهما إلى وَجهِه، فتَقطَعان منه قَطعًا تزدردانها، والشيخ يَصيحُ ويستغيث، فسأل عنه، فقيل: هو أبو العلاء المعري المُلحِد.
وحكايةٌ أخرى سمعناها ونحن صبيان لا أدري إلى من تُسنَد، قال الراوي: صَعِد أبو العلاء إلى جبلٍ قُربَ المَعرَّة يُعرف اليوم بجبل «الزاوية»، وأخذ يصيح: هو ذا جبلٌ أعلى من الطور، ورجلٌ أعظم من موسى، فكلِّمني يا من كلَّمتَ موسى، وفعَل ذلك ثلاثًا، ولمَّا يُجِبْه أحد، فانحَدَر عن الجبل وهو يُردِّد:
وحكايةٌ أخرى رواها المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه «أبو العلاء المعري» ص١٣ قال:
وقبره معروف إلى اليوم؛ أي سنة ١٣٢٧، بِالمعرة ولأهلها اعتقادٌ كبير فيه، ويزعمون أن الماء إذا بيَّت في قارورة عند قبره، وشرِبَه في الغدِ صبي به حُبْسةٌ في اللسان، أو بَلادةٌ في الذِّهْن، زال ذلك عنه ببركة أبي العلاء.
أقول: أمَّا أنا فحِينَ زُرتُ المعرة وسُئلتُ عن سبب مجيئي إليها فأَجَبتُ: زيارة قبر أبي العلاء، سأل أحد المَعَريِّين رجلًا آخر منها وكِلاهما من عوَّامها: منو أبو العلاء؟ فأجابه: واحد كان مثل عنتر والزناتي خليفة …
رَحِم الله الشيخ الإمام؛ فما يُرجِّف الناس ولا يَحُوكُون الأساطير إلا حول شُخوص النوابِغ.