بين شيخين
كان شيخي الأول الذي نَشَأتُ في حجره كالذي ذَكَره داعي الدعاة في رسالته الثالثة إلى أبي العلاء: «إن قيل له في أخبار شَرعه إن فيلًا طار أو جملًا باض، لَمَا قابَلَه إلا بالقبول والتصديق.»
كان، رحمه الله، كثيرًا ما يُقرِئني في كتاب «ميزان الزمان» تأليف الأنبا نيرامبرك اليسوعي، وخصوصًا في الفصول التي تتحدث عن جهنم، والأيام التي تسبق القيامة فالدينونة العامة، فأَقلَق وأَضطرِب ويَركبُني في الليل كابوسٌ يَتَمطَّى بِصُلبه ويُردِف أَعجازًا، وينوء بِكَلكلي … فأستيقظ مُرتجِفًا كالورقة، وأحيانًا باكيًا.
كثيرًا ما كانت تتوسل المرحومة والدتي إلى عمِّها شيخي لِيَكُف عن إقرائي في هذا الكتاب الذي تَفزَع لقراءته الكِبار، كما سمِعتُها تقول. أمَّا جدي فلم يكن يرعوي، وكان يجيبها: العِلم في الصِّغَر كالنقش في الحَجَر؛ فهو يريد أن يُوطِّد بنيان الدين ومخافة الله في صدر خليفته العتيد …
قرأنا مرة: أنه في سنة ألفٍ وخمسمائة وسبع وثلاثين أمطر الله على مدينة بولونيا حجارةً ثقل كل واحدٍ منها يُنيفُ على أربعة أرطال ونصف، ويُؤيِّد صاحب ميزان الزمان هذا الزعم بقوله: فلم يأتِ حزقيال النبي بأخبارٍ واهية بقوله: إنه في انتهاء العالم تقع حجارةٌ ثقيلة جدًّا. ويقول صاحب الجليان إن ثقل كل حجرٍ يُوازي قناطيرَ كثيرة، ثم يقول: خَبَّرونا أنه في بلاد سيتيا سُمِعَت رَعودٌ مفزعة مات من صوتها خَلقٌ كثير، فماذا يكون ضجيج العواصف الأخيرة وشدَّة إرهابها حينما يُريد الله أن يُلاشي هذا العالم؟
فسألتُه وعيناي مُغرورِقتان: متى تكون نهاية العالم؟ فأجابني: تُؤلَّف ولا تُؤلَّفان، ومعنى ذلك لا تبلُغ الألفين بعد المسيح حتى يكون الكتاب قد تم.
فقلت: إذن تكون النهاية على أيامنا؟ فنظر إليَّ بعينَين تفيضان حَنانًا وحبًا وقال: لا تَخَف. إن تلك الساعة لا يعلمها أحد ولا الابن إلا الآب. هكذا يقول الرب يسوع في إنجيله الطاهر.
وانصَرَفتُ إلى اللعب ولكنَّ تَصوُّرَ تلك الحجارة لم يَبرَح مُخيِّلتي، كنت أَنتظِر تساقُطَها بين ساعةٍ وأخرى، وأخاف أن أنهض في الصباح على خَبر القيامة …
وكنا نقرأ مرةً عن عذاب الهالكِين فبلَغْنا هذه العبارة: ولهذا قال القديس نيقولاوس نيصص: إنه لو لم يَضطرِم كلُّ الحطب الذي في العالم، ويصير جميعه نارًا واحدة مُتَّقِدة لم تكن قُوَّتها تُوازي شرارةً واحدة من نارِ جَهنَّم.
فقُلتُ له بسذاجة الأطفال: الاذاوا خلص اتلحطب تنطفي نار جهنم.
فأجابني: قال المخلص: إن دودهم لا يموت ونارهم لا تُطفأ.
وبُلِّغنا مرةً خبرًا مزعجًا جدًّا إليك نصه: ذكر الأنبا كانتبراني أنه كان في نواحي مملكة النمسا جنديٌّ باسل، كان محبًّا ركوب الخيل وسِباقَها، ومُتمرِّغًا في حياة اللذَّات الدَّنِسة، فماتَ موتًا شقيًا، وكانت له امرأةٌ تقية عابدة سالكة في طريق القَداسَة فاختُطِفَت بالروح، فرأت زوجها كأنه عائش بعدُ في جسده. وبهذه الرؤيا عَرفَت شقاء حاله؛ لأنها أبصرت حوله جمًّا غفيرًا من الشياطين، وقد أَمَرهم أركونهم بأن يُلبِسوا ضيفهم الجديد ثوبًا من حديد داخله أشواكٌ حديديةٌ مسنونة وحَسَك حاد، ثم أَمَرهم بعد ذلك أن يضَعوا على رأسه خَوذةً حديدية، وأن يُسمِّروها بمسمارٍ طويلٍ يَنفُذ من رأسه إلى رِجلَيه.
فقلت: أوف!
فقال: اقرأ قُدَّامَك، فأَذعَنتُ وقَرأتُ خوفًا من العصا: «ثم يُعلِّقوا على عُنقه تُرسًا حديديًّا ثقيلًا يُرضِّض عِظامه، فتَمَّم الشياطين أوامر أركونهم بِتدقيقٍ وإسراع، فحينئذٍ قال لهم الأركون هكذا:
إن هذا الرجل كان يحب لَهْو الرَّكضِ على الخيل، والحمَّام، واستنشاق الروايح الزكية، والرُّقاد على الفُرش الناعمة، والتنعُّم في اللذَّات اللحمية، فقَدَّموا له قليلًا مما يُناسِب ذلك من اللذَّات المُستعمَلة ها هنا، فأَمسَكَته حينئذٍ الشياطين وأدخلوه في وَسَط لهيبٍ مُتَّقد، ثم بعدما احتَرقَ هناك مدةً أضجعوه على فِراشٍ من حديدٍ مُحمًى، عليه ضِفدَعة طُول الفِراش، بأعيُنٍ مُرعبة جدًّا، فامتدَّت عليه تلك الضفدعة واعتنقته اعتناقًا شديدًا.
فهذا ما رَأَته امرأتُه الفاضلة، فلنَرهَبنَّ إذن العدل الإلهي ولْنَتحقَّقنَّ غاية التحقيق أن الذي أخطأنا به هنا بأعظمِ استلذاذٍ نُعاقَب عليه هناك بأَشَدِّ تعذيب.»
وكنتُ أَتنهَّد بعد كل قراءة وأُصعِّد الزَّفراتِ كمن تَسلَّق عَقبةً عمودية دون أقل استراحة. كان جَدِّي يتلذذ بهذه الأخبار ثم ينصرف بعدها إلى صلاته، فيُصلِّي صلاةً حارَّة، وكثيرًا ما كانت تَدمَع عيناه، وتارةً يسمع المارة بكاءه.
وقرأنا مرةً عن أنواع العذاب الجَهنَّمي: إن العقل يتعذَّب بأفكارٍ مؤلمةٍ محزنة جدًّا، فلا يجد حينئذ أرسطو لذةً في حِكمته، ولا سنيكا في فلسفته، ولا جالينوس في طبِّه، ولا غيرهم من العلماء في علومهم ومعارفهم.
وقد جاء في الأخبار أنه ظَهَر، لأسقف من أساقفة باريس، مُعلِّمٌ ما، كان قد هلك في جهنم، فسأله الأسقف: هل بقي لك شيءٌ من العلوم في جهنم؟
فأجابه المعلِّم الشقي: إني لست أعرف الآن سِوى ثلاثةِ أَشياء: أَوَّلها أنه قد حُتم عليَّ بالهلاك الأبدي، ثانيها أنَّه لا رجوع بهذا الحكم، ثالثها أني خسرت مشاهدة الله إلى الأبد لأجل مَلذَّاتِ الجسَد.
وقرأنا مرةً عن الدينونة العامة وهو رأيٌ لِلقِدِّيس توما اللاهوتي: ما أَكثرَ ما كان مَجدَ إسكندر الكبير ويوليوس قيصر في هذه الحياة! ولكن كيف حَصَلا على هذا الشَّرف؟ أليس بالجَور والظلم، وسَفكِ دماء أُناسٍ أبرياء؟ فهذه الأفعال التي مُدِحَت في دُهورٍ كثيرة سوف تُهان وتُشنَّع في اليوم الأخير، قِصاصًا من امتداحها الماضي. وهكذا يَصِير بالآباء الذين يُولدون ثانية ويحيون بأشخاص أولادهم، فيُدانون ويُشجَبون ثانيةً بِمقدارِ أَمثالِهم الرديئة التي قَدَّموها لأولادهم.
فقلْت لِجَدِّي: وكيف يرجع الجسد بعدما أكَلَته الغِربان والوحوش، فأجابني بكل ما فيه من قُوى الإيمان والرجاء والمحبة: الذي قال لها كوني فكانت قَادرٌ على كل شيء.
قال هذا وفتح شُحَيمتَه يُصلِّي، وأخذتُ أنا شُحيْمَتي. كنا نُصلِّي معًا جوقَين: بيت مني وبيت منه، وكل ذلك باللغة السريانية، ولا فَرقَ بيننا إلا أن صوتَه رَخيمٌ جَهوَري كأنه الأرغن. وكان بعد كل صلاة يُعرِّب لي ما اعتَقَد أنني لم أَفهَمه من شِعرِ مار أفرام ومار يعقوب، ثم نختم النهار بالتسبيح والتهليل والتلبية وكلُّ ذلك باللغة السريانية:
وتدور الأيام، وما أَسرعَ دورانها! فإذا بي وأنا أحبو إلى الستين، يستوقفني في طريق الحياة شيخٌ آخرُ غيرُ شيخِ عين كفاع، هو شيخ المعرة المُناوح لشيخ عين كفاع. الشيخان تَوءَمَان، والتَّوءَمَان لا يلتقيان، كما قال شاعر الإنكليز كبلنغ.
إن شيخي هذا بِضدِّ ذاك، لا يُصدِّق شيئًا مما يُصدِّقه جَدِّي، «يَنتحِل العقل، كما قال داعي الدعاة أيضًا، ويزعم أنه حُجَّة الله تعالى على عباده، مُبطِلًا لجميع ما النَّاس فيه، مُستخِفًّا بأوضاع الشرائع.» وهو القائل:
إنه لا يعني أن الديِّن لا عقل له، ولكنه يريد أن يقول، وهذا الذي يُفهَم من كلامه في رسالة الغفران: إن الديِّن يُهمِل عَقلَه ولا يُحكِّمه في دينه ومُعتقَده فيمضي على آثار السلَف.
لَستُ أُحدِّثك عن آراء شيخيَ الجديد فقد مَرَّت بك كلُّها، ولا يجوز أن نُقلِّل من قَدرِك فنَدُلَّك على الفرق ما بين شيخيَّ. إنه لواضح، ولكني أُريد أن تَفهَم عني أن شيخيَّ مختلفان متفقان؛ متفقان سيرةً وسريرةً ونُسكًا، ومختلفان كل الاختلاف في الطريق التي تؤدِّي إلى الطاحون؛ فجَدِّي لا يعرف إلا أن المسيح قال: أنا هو الطريق والحق والحياة. وأبو العلاء يعتقد ما عَرَفتَ.
كِلا الشيخين ناسكٌ مُتقشِّف يخاف ربه، وكلاهما علَّمني أنَّ أسمى ما يسعى إليه المرء هو أن يتقي الله ويعمل الخير، لا طمعًا بالنعيم ولا خوفًا من الجحيم.
أحسن الله جزاء شيخيَّ، وعسى أن يجمعني بهما — إن صَحَّ للأموات وَشكُ التقاء — كما قال شيخي اليوم، وأن يُجمِّلَني في آخر العمر بما جمَّلَها به من خير وصدق ومحبة.
كان شيخي الأول لاهوتيًّا قديرًا في عصره، لا يَحِيدُ قيدَ شَعرةٍ عن الأنطوين وألفونس ليكوري، وتوما الأكويني، وعما أقرَّته وأثبتَته وتُقِرُّه وتُثبِته روما العُظمى من تعاليم، ولا يُصغي إلا إلى دعوة القلب.
وكان شيخي الثاني لاحقًا بأبناء الأكروبول لا يسمع إلا صَوتَ عَقلِه. أمَّا أنا فواقفٌ على مَفرِق الطُّرق أَنتظِر ساعة النعمة، وأَرقُب فِكاك المشاكل …