عصر أبي العلاء
العصر الذي كان فيه أبو العلاء عَصرٌ ثائرٌ فائر؛ فبعد أن أَشعلَت «الفاطميةُ» القيروانَ والمغرب، وافق دُخولُ إمامها — المعز لدين الله — مصر عام مَولد المعري، وفي العَقدِ الذي وُلد فيه شيخ المعرة ودَرَج كانت جمعية إخوان الصفاء تَزدهِر وتنمو نُموَّ الصبي (٩٧٠–٩٨٠).
تأمَّلْ أي ثوراتٍ دينيةٍ واجتماعية وسياسية سَبقَت مولد هذا الغلام، ورَافقَت حياته التي افتُتِحَت بمحنة العمى. هبَّت عليها أعاصير النكبات فأطفأتها، ولكنَّ نُورها لم ينطفئ، وإنما تَغلغَل في أعماق تلك النفسِ البائسة فاستحالت منارةً عالميةً تَشِعُّ أنوارًا خالدة ولا يَنفَد زيتُ حِكمتها الأزليَّة.
ها نحن اليوم نُمشِّط — كما قال أَحَد أُدبائِنا المَعروفِين في دفاعه عن أدبه — رأسًا شَمشونيًّا، ونَحمَد الله على أننا لا نُمشِّط رءوسًا قَرْعاءَ تُعيِي المِقصَّ والمُوسى، ولا تَجِد أسنان المُشط فيها مَجالًا …
إن الفَترة العَلائية كانت زُبدة الحِقبة العربية، وتَركَت في تاريخنا عُصارة الفِكر العربي، فما وَثبَت تلك الموجة البشرية من شَطِّ جزيرة العرب حتى غدَت تيَّارًا جارفًا أَلقَى إلى اليابسة حِيتانًا روَّعَت العالم.
انفَتحَت عين العربي على نور الحضارة فأفلَت عقله من غُلَّال الصحراء وقُيودها، فتَفتَّق عن أكمامٍ سَريَّة. استنارت بصيرتُه ففكَّر في المسألة الخالدة المُستعصِية.
كان العربي ساذجًا يُصدِّق كل ما يسمع. لم يكن يؤمن إلا بملكوت الرغيف، فلا يحسب لِمَا وراء القبر حِسابًا، يعيش طبقًا للآية التي وَصفَته: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، أو كما قال الشاعر الجاهلي:
كانت القبيلة فوق الجميع، وكان العربي وهَّابًا، فلما شعَّت أنوار الدين الجديد آمن سُكان المَدَر إيمانًا لا يعتَوِرُه شك، فاندفعوا إلى الفتوحات باسم الله العظيم، فعَضَّدهم سبحانه وتعالى، وشدَّ أَزْرهم بملائكةٍ غضاب، كما قال شوقي، فحاربوا معهم حتى غُلب وزَهقَ الباطل.
ما انفصل العربي عن صحرائه واستقر في العمران حتى عَلِق يفكر، والحياة المستقرة مدعاة التفكر والتفلسف.
رأى عالَمًا لم يكن يتخيل له وجودًا. كان في جاهليته كالطفل الذي يحسب ما تقع عليه عينه، حول ضيعته، كل الدنيا. عرف أديانًا غير دينه الجديد المُستحوِذ على شعوره، فأخذ يُقابل ويُقايس ويُحلِّل ويُعارِض هذا الدين بتلك المذاهب، واستوى منه علماءُ فتَح أذهانَهم كتابُ الله العزيز الذي أنزله على رسوله قرآنًا عربيًا.
نظَروا إلى أشياءِ غيرِهم فتَذكَّروا قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، فانبَرَوا يُجادِلون أهل الكتاب، ثم رَأَوا أن ذلك لا يكفي؛ ففي الميدان أهدافٌ وأغراضٌ لا بد من بلوغها والسعي لإدراك بعضها؛ فهناك كُتب الأقوام والجماعات الدينية فيها ما يُوافِق الكتاب العزيز وفيها ما يُعارِضه. ووقَعوا على كُتبٍ أنتجها العقل الإنساني في عصوره المُتقادِمة؛ كُتب تدرس مسائلَ عويصةً لا بد لِلمُفكِّر من التأمُّل في مُعضِلاتها لِيهتديَ إلى فكِّ أختامها، فعَكَفوا عليها يتدارسونها. ورَأَوا علومًا لا عهد لهم بها يذهب المتبحر فيها مَذاهبَ شتَّى؛ فهي تمس يقينه حينًا وتُشكِّكه أحيانًا؛ فهناك الطب والصيدلة والكيمياء والحساب والهندسة والهيئة والحيل والتنجيم وغيرها؛ علومٌ كُلُّها تَنخُس العقل البشري المُطمئن بِمِهماز الشك، فيَشرئِب ويَثِب.
رَأَوا حولهم علماءَ يُفلسِفون في أديانهم، ولا يَقبَلون الأمور على عِلَّاتها كما تُعلِّمهم إياها أديانهم في كتبها المنزلة؛ لأن العقل يرفض الكثير منها ولا يُصدِّقها، فنهَجوا نَهجَ أولئك العلماء.
حاول فريقٌ منهم — كما في كُلِّ ملة — أن يُوفِّق بين الحكمة والدين، وفريقٌ آخر خلَع نِير الإيمان وفكَّر تفكيرًا حُرًّا أدَّى به إلى الكفر والإلحاد، فطاح سيف الإمام برءوسٍ كثيرة لِيرُدَّ الأمة إلى حظيرة الاستسلام، ولكنَّ الدم لا يُوقِف تيَّار العقائد ولا يَصُده، فهو كالفِصاد يُخفِّف الضغط ولكنه يعود.
كانت الثقافات المختلفة في تفاعُلٍ مستمر، تَخلُق كل يوم جسدًا جديدًا؛ فهناك ثقافةٌ نصرانية سلاحها المنطِق، ورجالها معروفون؛ فلسنا هنا نُؤرِّخهم ولا نُترجِم لهم، وثقافةٌ يهودية ولأحبارها يدٌ طُولى في الشرح والتفسير والتأويل والاستنباط، ولهم تَلْمُودُهم، فغَذَوا الأذهان بأساطيرهم وحكاياتهم، فكان لِلمُسلمِين مثلُها فيما بعدُ، وكما انتظر اليهود مجيء المسيح ولا يزالون، وكما يترقَّب النصارى المؤمنون المسيح الدجال، ثم المسيح الفادي لِيقتله عند أبواب أورشليم المُقدَّسة، تولَّدَت في أذهان الخاصَّة والكافَّة من المُسلمِين حكاية المَهدي المُنتظَر، الذي وَصفَه ابن عربي، فيما بعدُ، بقوله:
«إن لله خليفةً يخرج وقد امتلأت الأرض جَورًا وظلمًا فيَملَؤها قِسطًا وعدلًا، لو لم يَبقَ في الدنيا إلا يومٌ واحد طوَّل الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة من عِترة الرسولِ يواطئ اسمه اسم رسول الله … وهو أَجلَى الجبهة، أَقنَى الأنف.» إلى آخر الأُسطورة، كما وَردَت في كِتاب الفتوحات المكية.
وهناك الثقافة الفارسية وفيها، كما في التوراة، حكاية الخَلق وما يليها من مَبادئَ وِجدانية؛ مَبادئ يُواجِه بعضها بعضًا، ويُشبه بعضها بعضًا، فتَنبري الشُّكوك، وتَدلهِمُّ ظُلُمات الظنون. وهناك المجوسية، والزرادشتية والمانوية والمزدكية. وهناك ثقافةٌ هندية قديمة الأجيال استَمدَّت منها الأديان الجديدة بعض العناصر الغذائية. وهناك آراءٌ ومذاهبُ لا نستطيع تَفصيلَها حتى ولا عَدَّها؛ فنحن لا نُعِدُّ لقارئنا سِماطًا بل ما يَقرُب من السندويش.
ونظر العرب إلى الكتاب العزيز فرَأَوا غمائم الشك تَنتشِر في الأجواء حتى بَلغَت القِحَة بزعيم المعتزلة — النظَّام — أن يُنكِر الإعجاز ويقول: إن القُرآن مُعجِز بالنسبة إلى عَصرِه، ولكن من الممكن أن يَتوصَّل البشر إلى تأليف مِثله، فهال هذا القول العلماءَ المؤمنِين، فانبَرَوا للدفاع والتأويل والتفسير، وظهرت المذاهب الأربعة والسُّنَّة والشيعة، ثم تنَاسلَت البِدَع والطُّرق فمَلأَت الأرض، فكانت المعتزلة والرافضية والقَدَرية والجَبْرية والخوارج والمُرجئة والمُعطِّلة.
ومن الشيعة، التي هي أعظم ثورةٍ فكريةٍ في الإسلام، ظَهرَت الزيدية والكيسانية والإمامية والموسوية والإسماعيلية والفاطمية والسبيئية والباطنية والمُشبِّهة والحُلولية والقَرمَطية والصوفية، ومن كل فرقة اشتُقَّت عشَرات الفِرق، وهكذا دوالَيك، إلى ما لا آخر له.
وظل تفاعُل هذه المبادئ مستمرًّا حتى قام الأشعري يُحلِّلها، فكوَّن منها مذهبًا عُرِف باسمه وأَحبَّه كثيرون واتبعوه.
أمَّا الصوفية فظهر فيهم أئمةٌ لا يُحصيهم العد، وكُلُّهم يُحاوِلون التوفيق بين الدين والقلب. وذهَبوا مذاهبَ غريبة، فتعدَّدَت عندهم الطرق التي يَزعُم أصحابها أنها تؤدِّي بهم إلى الله ذاته لا إلى ملكوته. كل واحدٍ يزعُم أنه يقول الحق. و«الله أعلم» كانت تفُضُّ أخيرًا مشاكل الجميع.
في هذه الحِقبة الثائرة المُضطرِمة وبعدها وُجد أبو العلاء. جاء وجميع هذه الآراء في طَورِ النُّضج، ولكنها لم تُؤتِ ثمرًا يُؤكَل ولا يرتكز عليه عقل ذلك الفتى، فحاول أن يخلُق منها جميعًا شيئًا واحدًا بِعَينه.
فما من ناطقٍ نطَق، ولا نبيٍّ بُعث، ولا وصيٍّ ظهر إلا وقد أشار إلينا ولوَّح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه، ومنار إعلامه ومرموز كلامه فيما هو موجودٌ غيرُ معدوم، وظاهر وباطن يعلمه من سمع النداء، وشاهد ورأى من الملأ الأعلى. فمن أَغفَل منكم ونسي، أو ضل أو غوى، فلْيَنظُر في الكتب الأُولى والصحف المُنزَّلة، وليتأمَّلْ في القرآن وما فيه من البيان، ولْيَسألْ أهل الذكر إن كان لا يعلم؛ فقد أمر الله عز وجل بالسؤال فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حُجج و«دعاة» يدعون إلينا، ويَدلُّون علينا، ويأخذون تَبِعَتنا، ويَذكُرون «رَجعَتنا» وينشرون علمنا، ويُنذِرون بأسنا، ويُبشِّرون بأيامنا بتصاريف اللغات واختلاف الألسن … فيا أيها الناكث الحانث، ما الذي أرداك وصَدَّك؟ أشيءٌ شَكَكتَ فيه أم استَربتَ به، أم كنت خليًّا من «الحكمة» وخارجًا عن «الكلمة»؟ … حتى انقَلَبتَ على الأدبار، وتَحمَّلتَ الأوزار، لِتُقيم «دعوة» قد دَرسَت ودَولةً قد طُمِسَت. إنك لَمِن الغَاوِين، وإنك لَفي ضلالٍ مبين.
وكانت الأقاليم والأمصار تَتذَبذَب بين تلك الدعوات تتحدث عنها — كما نتحدث نحن اليوم عن شئوننا العظمى وحوادث دهرنا الجُلَّى، عن البلشفية والنازية والفاشية، وعن ظهور المُسَحَاء؛ فقلما خلَت بُرهةٌ من مَعتوهِين يدَّعون أنهم ذاك المُنتظَر بِالمِرصاد — وكان الناس عامَّتهم وخاصَّتهم لِلفاطمي المُنتظَر بالمِرصاد، ينتظرونه ويَرْوُون عنه الغرائب، كما يَرقُب الفلكيون مُذنَّب هالي الذي تحدَّث عنه أبو تمام، فيخافونه ويخافون منه على كُرتهم الأرضية ويُخوِّفون الناس به، والأرض ما زالت أرضًا، وعقول بَنِيها هي هي.
وفي ليلةٍ من ليالي الدهر العابس المُضطرِب كان فريقٌ من أهل المَعرَّة في دار قاضِيهم عبد الله بن سليمان — والد أبي العلاء — يَتذاكَرون أخبار الحوادث وماجَرَياتها في دولة القاهرة الجديدة، يَتحدَّثون عن عظمة المَلِك الفاطمي في عهد المعز بالله، وكيف حَوَّر الفاطميون وبدَّلوا حتى في الأذان، فقالوا: «حَيَّ على خير العمل» بدلًا من «حَيَّ على الفلاح»، ثم جَرى حديث المهدي، ذلك الإمام المنتظر: «فلا بد في آخر الزمان من ظهور رجلٍ من أهل البيت يؤيد الدين، ويُظهِر العدل، ويَتبَعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بَعدَه من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أَثَره، وأن عيسى ينزل من بَعدِه فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتمُّ بالمهدي في صلاته» (مقدمة ابن خلدون: ص٣١١).
فتَذكرَّوا عند هذا الحديثِ فقرةً من كتاب المعز لدين الله الفاطمي الفاتح إلى الزعيم القَرمَطي الثائر عليه الآنف الذكر، فانحرف مولانا القاضي إلى صندوقةٍ كانت إلى يمينه فأخرج منها كرَّاسًا ودفعه إلى أحدهم فقرأ ما فيه على الجماعة، وها نحن نُورِد منه أيضًا هنا ما يعني بحثنا هذا:
«فإن اعتبَر مُعتبِر، وقام وتدبَّر ما في الأرض وما في الأقطار والآثار وما في النفس من الصُّوَر المختلِفات، والأعضاء المؤتلِفات، والآيات والعلامات والاتفاقات، والاختراعات والأجناس والأنواع، وما في كون الإبداع من الصور البشرية، والآثار العُلوية، وما يشهد به حروف المُعجَم، والحساب المقوَّم، وما جَمعَته الفرائض والسنن، وما جَمعَته السنون من فصل وشهر ويوم، وتصنيف القرآن من تحزيبه، وأسباعه، ومعانيه، وأرباعه، ومواضعِ الشرائع المتقدمة، والسنن المُحكَمة، وما جَمعَته كلمة الإخلاص في تقاطيعها وحروفها وفصولها، وما في الأرض من إقليم وجزيرة وبر وبحر وسهل وحقل وطول وعرض وفوق وتحت، إلى ما اتفق في جميع الحروف من أسماء المُدبرات السبعة والأيام السبعة النُّطَقاء، والأوصياء والخلفاء، وما صَدرَت به الشرائع من فرض وسنَّة وحدود. وما في الحساب من آحادٍ وأفراد وأزواج وأعداد، تثاليثه وترابيعه، واثنا عشرينه وتسابيعه، وأبواب العشرات والمئين والألوف، وكيف تجتمع وتشمل على ما اجتمع عليه، وما تقدم من شاهد عدل، وقول صدق، وحكمة حكيم، وترتيب عليم … وليعلم من الناس من كان له قَلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، أنَّا كلمات الله الأزليات، وأسماؤه التامَّات، وأنواره الشعشعانيات، وأعلامه النيِّرات، ومصابيحه البينات، وبدايعه المنشآت، وآياته الباهرات، وأقداره النافذات، لا يخرج منا أمر، ولا يخلو منا عصر، وإنَّا لكما يقول سبحانه وتعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فاستَشعِروا النظر؛ فقد نُقر في الناقُور، وفار التنُّور، وأتى النذير بين يدَي عذابٍ شديد، فمن شاء فلينظُر، ومن شاء فليتدبَّر، وما على الرسول إلا البلاغ المُبين … وكتبنا هذا من فِسطاط مصر، وقد جئناها على قَدَرٍ مقدور، ووقتٍ مذكور، فلا نرفع قدمًا ولا نضع قدمًا إل بعلمٍ موضوع، وحكمٍ مجموع، وأجلٍ معلوم، وأمرٍ قد سبَق، وقضاءٍ قد تحقَّق.»
فلما بلَغ القارئ هذا الكلام كبَّر السامعون وقال قاضيهم الجليل: حقًّا إن أمر سادتنا الفاطميِّين يدعو إلى التفكير والتأمُّل والتذكُّر؛ فما نَصرُهم إلا من الله، فأَمَّن الشيوخ الآخرون على كلامه.
وكان الفتى — أبو العلاء — يَسمَع هذه الأحاديث وما يَجُول فيها من مناقشات ومُذاكَرات. ومُذاكَرات الرجال لقاح الألباب.
كان الفتى يُفكِّر أكثر من أولئك الشيوخ. كان يقبع في زاويةٍ من مجلس أبيه يسمع ويعي، ويظل في بَحرانٍ مستمر، وينتظر تلك الساعات التي يَعمُر فيها المجلس، ويَكثُر فيها الجدَل حول المَذاهبِ المُنتشِرة انتشارًا ذريعًا، فتُشعِل عقله في وَحدَته، وتَستبِد بذهنه حتى تُصبِح منه كالفكرة الثابتة. إنه وُجد في زمنٍ سَدَاه ولُحمتُه الجدل، وخير كلمةٍ تصف لنا ذلك العصر الحافل بالآراء المُتضارِبة هي التي كتبَها الذهبي في حوادث سنة ٩٨٢؛ أي حين كان أبو العلاء ابن تسعٍ أو عشر، قال: «في هذا الزمان كانت الأهواء والبِدَع فاشيةً بمثل بغداد ومصر من الرفض والاعتزال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.»
وقال غيره: «سمعتُ أبا محمد بن أبي زيدٍ الفقيه يسأل أبا عمر بن سُعدى عند وصوله من بلاد المشرق إلى القيروان، فقال: هل حَضرتَ مجالس أهل الكلام؟ قال: نعم، مرتين ولم أَعُد إليها. قال: ولماذا؟ فقال: أمَّا أَوَّل مجلسٍ حَضرتُه فرأيت مجلسًا قد جمَع الفِرقَ من السنة والشيعة والكفار واليهود والنصارى والدهرية والمجوس، ولكل فرقةٍ رئيسٌ يتكلم ويُجادل عن مَذهبه. فإذا جاء رئيسٌ قاموا كلهم على أقدامهم حتى يجلس. فإذا تكاملوا قال قائلٌ من الكفار: قد اجتَمعتُم للمناظرة، فلا يَحتجَّ أَحدٌ بكتابه ولا بنبيِّه؛ فإننا لا نصدق ذلك ولا نَعتدُّ به، وإنَّنا نتناظر بالعقل والقياس، فيقولون: نعم. ولمَّا سمِعتُ ذلك لم أعُد.
ثم قِيل لي: هذا مجلسٌ آخر للكلام، فذَهبتُ إليه، فوَجدتُهم على مِثلِ سيرة أصحابهم، فقَطَعتُ مجالس أهل الكلام.»
في هذا العصر وُجد الفتى أبو العلاء، وكان بيتُ أبيه صورةً مُصغَّرة عن تلك المجالس، وإن لم تبلُغ ما بَلغَته تلك المجالسَ التي حدَّثناك عنها، فكان الفتى يسمع تلك المُشاحَنات صغيرًا، وكان يَلفِت سمعَه شيخٌ من شيوخ مجلس أبيه حر التفكير أكثر من نظرائه، يدُسُّ كلامه دسًّا، ثم يتعوذ بالله مُتبرِّئًا من ذلك الكلام وقائلِيه، فكان أبو العلاء يرتاحُ إلى كلامه ويَتمنَّى لو يُتاح له أن ينفرد به ساعةً عندما يكون والده جالسًا لِلمَظالم، ليسأله عن قضايا تملأ دِماغَه، ولكنَّ الأعمى غيرُ مستطيع، فليصبر إذن حتى يأذن الله بذلك …
وسأل الفتى أَحدَهم عن ذلك الشيخ فأجابَه أنه عابرٌ في البلد يختلف إليه بين آونةٍ وأخرى، فتَأوَّه وسَكَت.
وسمع الفتى الحديث الذي رَوَوه عن «الإمام المنتظر» وفكَّر في ذاته لعلَّه يكون هو ذاك الإمام، فأخذ يُقلِّب كلامهم على جميع وجوهه، فوجد أن اسمه يواطئ تمامًا اسم رسول الله؛ فهو أحمد بن عبد الله، وضَرَب يده إلى أَرنَبة أنفه فما رأى أنفه أَقنَى، وأَمَرَّ يده على جَبهَته فما وجدها كما وصفوا جبهة الإمام، فقال في نفسه: قاتل الله الجُدريَّ؛ فلو كان مُستطيعًا لَلَبِس قِناعًا كما فعل المُتمهدِي الكذَّاب … وهناك عائقٌ أَعظمُ خطرًا من كل هذا؛ فهو تَنوخيٌّ من قُضاعة، وقُضاعة من قحطان. إذن فلينبذ الفكرة وإن كان لا بُد من شيءٍ فليكن غير هذا، فَعدَّى عن هذه الفكرة وإن قال: «وإني وإن كُنتُ الأخيرَ زمانُه …»
بيد أن هذا الإمام المنظر قد أَعجَبه جدًّا، وترجَّى أن يَظهَر ويُطهِّر الأرض التي يرى ما فيها من فساد، فمال إلى حيث يَرتَجي أن يَبزُغ الإمام المهدي، وأخذ يُغذِّي شِعره الصبياني بتلك الفِكرة، ففات المتنبي في الغلو والإيغال، وارتحَلَ بعدما فُجِع بموت أبيه إلى أنطاكية واللاذقية يطلُب علم ما وراء الطبيعة، فعاد له منها عنصرٌ جديد، فقال:
ثم استحال هذا الجسم الكيماوي الجديد جسمًا آخر ما زلنا حائرِين في تحليلِه ورَدِّه إلى موادِّه الأولى.
إنَّه يَعصِي علينا وإنِ استجاب لنا من جهة، حَيَّرَنا من جهاتٍ أخرى كما تَحيَّر هو قبلنا، فقال:
أجل، إن أبا العلاء هو ذلك الرأسُ المُحيِّر الذي نمشِّطه اليوم، فيَخرجُ النور من تحت أسنان المُشط، فنُوقِد بين الشعر نار الحُباحِب.
كان أبو العلاء ينصرف إلى الشَّطرنج واللهو في خانات المعرَّة ليريح باله من شكوكه، ولكن فكرته لا تفارقه؛ فهو حائرٌ بين هذه المذاهب جميعها، فهل من حلٍّ لهذه المُعضِلة؟
وفيما كان يفكر، ذات يوم، في الأحداث السياسية، وما يُروى من الأخبار والآراء العجيبة الغريبة المتضادة عن «الفاطمي» — الحاكم بأمر الله — الذي وُلِّي الحكم صبيًّا تحت كَنَف الأوصياء، ثم اشتدَّ ساعِدُه فاستبدَّ بهم وبه، ودانت لِهَيبتِه أَعاظِم الرجال في دولته، وخرَّت لها جَبابرتُها ساجدة. كان يُفكِّر عصر النهار في تلك المُعضِلات المستعصية على الحل، فذُهل عن العَشاء، ولكنَّ خادمَه نبَّهه إلى ذلك، فتعشَّى وعاد إلى تفكيره.
وفيما هو كذلك إذا ببابه يُقرع، ففتَح ودخل شيخٌ ومعه شيخٌ آخر يسأل أبا العلاء خلوةً به، فعَرفَه أبو العلاء من صوته بعد سِنين، وذكر أنه الشيخ الذي كان يَلفِت سمعه في مجلس أبيه، فصرف الضرير خادمَه ليخلُو له المكان بِزائرَيه الكريمَين.
وبدَت على وجه أبي العلاء المُتجهِّم أَماراتُ الاستئناس، وكانت جلسةً طويلة تلَتها جلساتٌ أَطوَل. وإليك خَبرَها …