دعوة أبي العلاء
كانت تَشغَل بال أبي العلاء أخبارُ المعز لدين الله الفاطمي الذي دانَت له مصر على يدِ قائده جوهر. وكان دويُّ تلك الكلمة التي سَمِعها المعري من أبيه عن هؤلاء الفاطميِّين لا يزال في أُذنَيه؛ فهو دائم التفكُّر بها. وزاده هيامًا بهم ما رواه أحد المُحدِّثِين عن المُعز، أنه دعا عدة من شيوخ كتَّامة في يومٍ بارد فرأَوه في مجلسٍ مفروش باللبود وحوله كِساء وعليه جبَّة، وحوله أبوابٌ مُفتَّحة تُفضي إلى خزائنِ كُتب، وبين يدَيه دواةٌ وأوراق، فقال: «يا إخواننا، أصبحتُ اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلتُ لأم الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أَتُرى إخواننا يظنُّون أننا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونَتقلَّب في المُثقل والديباج والحرير والفَنَك والسَّمُّور والمُسُك والخُمُر والقَباء كما يفعل أرباب الدنيا؟ ثم رأيتُ أن أُنفِذَ إليكم فأُحضِرَكم لِتُشاهدوا حالي إذا خلوتُ دونكم، واحتجبتُ عنكم. وإني لا أَفضُلُكم في أحوالكم إلا بما لا بُد لي منه من دنياكم وبما خصَّني الله به من إمامتكم. وإنِّي مشغولٌ بِكُتب تَرِدُ عليَّ من المشرق والمغرب، أُجيب عنها بِخطي. وإني لا أشتغل بشيءٍ من ملاذِّ الدنيا إلا بما يَصُون أرواحكم، ويُعمِّر بلادكم ويُذِل أعداءكم ويَقمَع أضدادكم، فافعَلوا، يا شيوخ، مثل ما أفعله، ولا تُظهروا التكبُّر فيَنزِع الله النعمةَ عنكم، ويَنقلُها إلى غيركم. وتحنَّنوا على مَن وراءكم ممن لا يصل إليَّ كتحنُّني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثُر الخير، وينتشر العدل. وأَقبِلوا بعدها على نسائكم والزموا «الواحدة» التي تكون لكم، ولا تَشرَهوا إلى التكثُّر منهن والرغبة فيهن، فيُنغَّص عَيشُكم، وتعودَ المضَرة عليكم، وتُنهِكوا أبدانكم، وتَذهَب قُوَّتكم، وتضعُف نحائزكم؛ فحَسْب الرجل الواحد الواحدة. ونحن محتاجون إلى نُصرتكم بأبدانِكم وعقولِكم. واعلموا أنكم إذا لزِمتم ما أمرتُكم به، رَجَوتُ أن يقرِّب الله بكم علينا أمر المشرِق كما قرَّب أَمرَ المغرب بكم. انهضوا رحِمَكم الله ونَصَركم.»
كان أبو العلاء في ذلك المساء يفكر بهذا الكلام الذي رأى فيه دستورًا جديدًا لم يسمع بمثله عن حياة الملوك في كل عصر، فتَمنَّى الاتصال بمثل هؤلاء الأئمة والقادة الذين يَنهَجون للناس نهجًا جديدًا قويمًا، فهاجت قَريحتُه فقال:
وسمِع من الكثيرِين عن الحاكم بأمر الله وتعفُّفِه عن مال الرعية، والزهد في المال عمومًا. وقابل في نفسه بين الحاكم وبين الذين حكَموا ويحكمون «العواصم»، فازداد تَعلُّقًا بهذه الدولة الفتيَّة التي أسَّسَتها هذه السُّلالة العريقة.
وبلغَه خبرُ مَرسومِ الحاكم الذي يمنع فيه النساء من مغادرة دُورهن والخروج إلى الطُّرقات بالليل والنهار، ولم يَستثنِ من ذلك سوى النساء المُتظلِّمات والخارجات إلى الحج، أو المسافرات اللواتي تضطرهنَّ ظروفٌ قاهرة إلى السفر والإماء اللاتي برسم البيع، والقابلات، وغاسلات الموتى، والأرامل اللاتي يَبِعن الغزل، وأن يكون خروج هؤلاء لمزاولة شئونهن برقاعٍ خاصة تُرفع إلى القصر، وتَصدُر بها «تصاريح» يقوم بتنفيذها مدير الشرطة. ومنع النساء من دخول الحمَّامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل أخفافهن. وأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يُباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه من النساء في منازلهن، وأن يَحمِل الباعة أداةً كالمِغرَفة لها ساعدٌ طويل يُمَد إلى المرأة وهي وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فتَتناوَله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمَح لها أن تَبدُو من وراء الباب.
وبلغ المعري أيضًا خبرُ تحريم الحاكم النبيذَ وغيره من الخمور، حتى مُنع بيع الزبيب والعنب والعسل إلا ثلاثة أرطال فما دونها، أو لمن لا تتجه إليه مَظِنَّة اتخاذه مسكرًا. وكانت عقوبات المُخالفِين تختلف بين التشهير والجلد وأحيانًا الإعدام.
وازداد إعجابه به؛ إذ سمِع عنه أنه عندما حرم النبيذ وأمر بإتلاف الكروم والزبيب والعسل، تقدم إلى قاضي القضاة شخصٌ أُتلِفَت بِضاعته من الزَّبيب والعسل، وادَّعى على الحاكم بأنه أَتلَف ماله الحلال بغير حق، وأنه لم يُحرِزِ الزبيب والعسل لِصنع الخمر وإنما لِصنع الحلاوة فقط، وطالَب الحاكم بأن يعِّوض له ما أَتلَف من ماله وقيمتُه ألف دينار، فقَبِل الحاكم الخصومة، وطلَب أن يحلف على صِدق دعواه، وأنه إنما أَحرزَ هذه البِضاعة لصنع الحلاوة فقط، فحلَف التاجر وحُكِم له بماله، وأدَّى له الحاكم ما طلَب.
فتهلَّل وجه أبي العلاء لهذا النبأ، وعرف أن في الدنيا نورًا جديدًا، كما قال والده منذ أعوام، ولا بُد لِذوِي الصلاح في هذه الأرض من مُناصَرته لِيَظل يَهدي الناس.
ثم تَذكَّر ما يتحدَّث الناس به عن زُهدِ الحاكم وتقشُّفِه وتواضُعه، واحتقارِه الرسوم والألقاب الضخمة، وكيف استعاض عن الثياب البيضاء بثيابٍ سُود، فكان يرتدي جُبةً من الصوف الأسود العادي، وقد يرتدي جُبةً مُرقَّعة من جميع الألوان، وكيف كان يرتفع عن مَفاسِد هذا المجتمع، وعن غرائزه هو وشهواته النفسية الوضيعة، حتى أَضربَ عن جميع الملاذِّ الحسية والنفسية، فأَطلَق نساءه وجوارِيَه، ومنهن من غرَّقهن، واقتصر في طعامه على أَبسَطِ ما تقتضيه الحياة من القوتِ المُتواضِع. وبالاختصار جَذبَته شخصيةُ الحاكم بأمر الله الفذة، ورأى فيه رجلًا نقيًّا، فآثرَه وبايَعَه في ضميره، ولا سيما إذ علم أنه ينظر إلى الأديان كلها نظرةً واحدة.
كل هذه الشئون كانت تَشغَل عقل المعري حين دخل عليه الشيخان، كما تَقدَّم. وبعد التحية والسلام قال له الشيخ الذي لا عَهدَ له بصوته: بلغني أن الشيخ، أيده الله، من رجال الكلام، وليس يقبل الأمور على عِلَّاتها، وأن عينه الثاقبة تخترق حُجب «الظاهر» لِتبلُغ «الباطن» وتستجلي غوامضه، وتقف على أَسْراره.
فأجابه المعري: ليت لي عينًا تُبصِر فأرى من يُحدِّثني، فأقرأ على الوجوه ما قد تُخفيه الصدور، ولا يَنمُّ عنه اللسان. العمى مصيبة، يا شيخي الأجلَّ. ولو أَقلَعتَ عن ذكره عندي لَرحِمتَني. إن ذِكره يؤذيني ويؤلمني.
فقال الداعي: عفوًا أيها المختار، لا يعزُّ عليك ذلك؛ فإنها مِحنةٌ تذهب وحالةٌ تَتبدَّل.
فردَّد المعري في نفسه: مِحنةٌ تَذهَب، حالةٌ تَتبدَّد! كلامٌ غريب.
قال هذا وسكت، ولم يستفسر عن شيء، ولكنه ظل يلُوكها في فكره ولا يستسيغها، فقال الداعية: سمِعنا لك شعرًا قُلتَه في أبي إبرهيم موسى بن إسحاق:
وقد سمِعنا بيتًا آخر قُلتَه لِأَحَد رجال هذه العِترة الطاهرة فزادنا لك استحسانًا، زادك الله عرفانًا. قُلتَ:
فجئناك لا لنزيد اتصالًا بنا؛ فأنت مِنَّا جئناك، بل أَمَرَنا «مولانا» أن نأتيك ونُلقي إليك بأَسْرار دعوتنا التي رأيناك، بالطبع، مَدعُوًّا إليها. قد جَرَت عادة الله وسُنَّته في عباده عند شَرعِ من نَصَبه أن يأخذ العهد على من يُرشده؛ ولذلك قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، ومن أمثال هذا؛ فقد أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقَّه إلا لمن أخذ عهده، فأعطِنا صفقةَ يمينِكَ، وعاهِدنا بِالمؤكَّد من إيمانِكَ وعقودِكَ على ألَّا تُفشِيَ لنا سِرًّا، ولا تظاهر علينا أحدًا، ولا تَطلُب لنا غيلة، ولا تكتمنا نُصحًا، ولا تُوالي لنا عدُوًّا.
وكان المعري يسمع وفمه مفتوحٌ نِصفَ فتحة، يريد أن يُكشَف له هذا السر، ولا يريد أن يحلف قبلَما يعلم. ورأى الداعية تردُّدَه فقال له: أعطِنا جُعلًا من مالك نجعله مقدمةً أمام كَشفِنا لك الأمور وتَعريفِك إيَّاها.
فأَدخَل أبو العلاء، وهو لا يدري ما يفعل، يدَه في جيبه، فوضع يدَه عليها ذلك الشيخُ الذي سمِع صَوتَه منذ سنين، وقال له: قد عَرفتُك صبيًّا، عندما دعوتُ أباك، فلا تُخرج شيئًا، مِثلُك لا تؤخذ منه «النَّجْوَى».
فانتفَض المعري وقَالَ: وما النجوى؟
فأجابه شيخُه: رَسمٌ اختياري يُؤدِّيه المؤمنون.
فصاح المعري: أمَا كفانا إيمانُنا العتيق حتى نزيد حِملَنا أثقالًا عنيفة؟
فقال الداعي: يُراد بكلمة المؤمنِين هنا من يعتقدون معتقدنا ويناصرون دعوتنا، فلنَدَع هذه المُجادَلات العَرَضية، وتهيَّأ لِأخطرَ منها وأجلَّ شَأنًا.
وتنَحنَح الشيخ الداعي، وأَحكَم جِلستَه، وقال بصوتٍ فخم: اعلم، يا أحمد بن عبد الله، يا أخانا الذي انتدبنا «مولانا» للاتصالِ به، والبَوحِ له بجميع أسرار دَعوتِنا مُعتمدِين على نُبله وشرفه؛ اعلم، أيها المستجيب، أن الناس قلَّدوا سَفَلتَهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم، اتِّباعًا للملوك، وطلبًا للدنيا التي هي في أيدي مُتَّبِعي الِإثمِ وأجنادِ الظَّلَمة، وأعوان الفَسَقة الذين يُحبُّون العاجلة، ويجتهدون في طَلبِ الرئاسة على الضُّعفاء، ومُكايَدة رسول الله ﷺ في أمته، وتَغييرِ كتاب الله، عز وجل، وتَبديلِ سنة رسول الله ﷺ، ومُخالفةِ دعوته وإفسادِ شريعته، وسلوكِ غير طريقته، ومعاندةِ الخلفاء والأئمة من بعده. اعلم أن دين محمد ﷺ ما جاء بالتحلِّي ولا بأمانيِّ الرجال ولا شهوات الناس، ولا بما حَفَّ على الألسنة وعَرفَته دَهْماء العامة، ولكنه صَعبٌ مُستصعَب، وأَمرٌ مُستقبَل وعِلمٌ خفي، ستَره الله في حُجُبه، وعظَّم شأنه عن ابتذال أسراره؛ فهو سر الله المكتوم، وأمره المستور الذي لا يُطيق حَمْله، ولا يَنهَض بأعبائه وثِقله إلا مَلَكٌ مُقرَّب، أو مُرسَل، أو عبدٌ مؤمن امتَحَن الله قلبه بالتقوى.
فهَزَّ أبو العلاء كتفَيه كأنه لم يسمع من داعيه شيئًا جديدًا، ثم قال له ضاحكًا: أعلَى هذا جِئتَ تُحلِّفني يا شيخ؟
فأجابه الداعية: لا، يا أحمد بن عبد الله، اسمع الآن. لا تستعجل. فكِّر معنا: ما معنى رَمْي الجِمار، والعَدْو بين الصفا والمروة، ولِمَ كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وما بالُ الجُنب يغتسل من ماءٍ دافق يسير، ولا يغتسل من البول النجِس الكثير؟ وما بالُ الله خلق الدنيا في ستة أيام، أَعَجَز عن خَلقِها في ساعةٍ واحدة؟ وما معنى الصراطِ المضروب في القرآن مثلًا والكاتبَين الحافظَين؟ وما لنا لا نراهما؟ أخافَ أن نُكابِره ونجاهِده حتى أَدلَى العيون، وأَقامَ علينا الشهود، وقيَّد ذلك في القرطاس بالكتابة؟ وما تبديل الأرض غَيرَ الأرض، وما عذابُ جَهنَّم؟ وكيف يصِحُّ تَبديلُ جِلدٍ مُذنِبٍ بِجلدٍ لم يذنب حتى يُعذَّب؟ وما معنى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ؟ وما إبليسُ، وما الشياطين وما وُصِفوا به، وأين مُستَقرُّهم، وما مِقدار قَدْرهم؟ وما يأجوج ومأجوج وهاروت وماروت، وأين مُستَقرُّهم؟ وما سبعةُ أبوابِ النار، وما ثمانيةُ أبوابِ الجنة، وما شَجرةُ الزقُّوم النابتة في الجحيم، وما دابَّة الأرض ورءوس الشياطين والشجرة الملعونة في القرآن، والتين والزيتون، وما الخُنَّس الكُنَّس، وما معنى ألم، وكهيعص، وحم عسق، ولِمَ جُعِلَت السموات سبعًا والأَرَضُون سبعًا، والمثاني في القرآن سبعَ آيات، ولِمَ فُجِّرت العيون اثنتَي عشرة، ولم جُعِلَت الشهور اثنَي عشر شهرًا، وما يعمل معكم عَملَ الكتاب والسنة ومعاني الفرائض اللازمة؟
فَكِّروا أولًا في أنفسكم، أين أرواحكم، وكيف صُورها، وأين مُستقرُّها، وما أَوَّل أمرها، والإنسان ما هو، وما حقيقته، وما الفرق بين حياته وحياة البهائم، وفَضلُ ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات، وما الذي بانت به حياة الحشرات من حياة النبات، وما معنى قول رسول الله ﷺ: «خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ضِلْعِ آدم.» وما معنى قول الفلاسفة: «الإنسان عالَمٌ صغير، والعالَمُ إنسانٌ كبير.» ولِمَ كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولِمَ كان في يدَيه من الأصابع عَشرٌ وفي رجلَيه عشر، وفي كل إصبعٍ من أصابع يدَيه ثلاثة شُقوق إلا الإبهام فإن فيه شِقَّين فقط؟ ولم كان في وجهه سبعة أثقب وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولِمَ كان في ظهره اثنتا عشرة عُقدة، وفي عنقه سبع عُقَد؟ ولِمَ جُعل عُنقه صورة ميم، ويداه حاء، وبطنه ميمًا، ورجلاه دالًا، حتى صار كتابًا مرسومًا يُترجم عن محمد؟ ولِمَ جُعل إذا انتَصبَت قامته صُورَة أَلِف، وإذا رَكَع صارت صورة لام، وإذا سجد صارت صورة هاء، فكان كتابًا يدل على الله؟ ولِمَ جُعِلَت عِظامُ الإنسان كذا، وأعداد أسنانه كذا، والأعضاء الرئيسية كذا، إلى آخر ما هُنالك من عروق وأعضاء، ووجوه ومنافع الحيوان؟ ثم قال: فلنُفكِّر في حالنا ونَعتَبِر ونعلم أن الذي خلقنا حكيمٌ غير مُجازِف، وأنه فعل ذلك لحكمةٍ وله فيها أَسرارٌ خفية حتى جمَع ما جمَع وفرَّق ما فرَّق، كيف يَسَعُنا الإعراض عن هذه الأمور والله تعالى يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، فأيُّ شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق حتى عَرَفوا أنه الحق؟ وأيُّ حقٍّ عَرفَه من جَحدَ الديانة؟
ألا نرى أنَّا جهَّلنا أنفسنا التي من جَهِلَها كان حَرِيًّا ألَّا يعلم غَيرَها؟
فتَنهَّد أبو العلاء وقال: هذا ما يَشغَل بالي، لا بل حَرمَني النوم. أين كنتما فلَمْ تأتيا لِتفريجِ كُربتي وتبديدِ حَيرتي؟ لا نوم الليلة …
وطال الجدال بينهم، وطلب أبو العلاء الاستزادة، فلم يَزِدْه الداعي، وضَربَ له موعدًا الليلة القادمة، وانصَرفَ الشيخان من عنده بعدما أكلا التينَ والفستق.
وقال أبو العلاء لِلشيخَين: لا نوم الليلة، ولكن الشيخين ناما نومًا هادئًا مُطمئنًّا؛ لأن فوزهما كان عظيمًا، أمَا نظَما في سلك الدعوة أَثمنَ دُرَّةٍ كانت واسطةَ العِقدِ الخالدة؟
أمَّا شيخ المعرة فبات وباتت له ليلةٌ دونها ليلة الذبياني. إنه لا يعنيه راعي النجوم كالنابغة؛ فسيَّان عنده غاب أو آب. الظُّلَم مسارحُ الأفكار، والليل أخفى لِلوَيل.
لقد طار نوم أبي العلاء، فاستيقَظَت قريحته. ألقى رأسه على مِخدَّته فتوارَدَت عليه الخواطر، فطَفِق يُهَمهِم ويُدَمدِم، يُردِّد ألفاظًا معلومة يُقلِّبها على جميع وجوهها. ظل يفعل ذلك حتى غفَا قُبَيل الصبح بقليل. ولم يستيقظ «المَدعوُّ» العظيم إلا على أذان العَصر، وهو يحسبه أذان الفجر، فتغدَّى وعاد إلى أبيات شِعره يُنقِّحها ويُهذِّبها.
وكان بين آونةٍ وأخرى يصيح بخادمه: ماذا من النهار يا غياث، أين صارت الشمس؟
وكان الخادم يتعجب من حال سيده؛ فما تعوَّد منه هذه الأسئلة.
ولمَّا أذَّن المغرب أَمَر غياثًا أن يهيئ شيئًا يَتنقَّل به. وجاء الشيخان في ميعادهما، فرَحَّب أبو العلاء بهما أَجملَ ترحيب وأحرَّه، وكانت مُقدمةً قصيرة ناقش فيها شيخَيه، وأخيرًا عَرَض عليهما أبياته التي نَظمَها أَمسِ بعد ذَهابِهما:
فكبَّر الشيخان تكبيرًا خطيرًا أقَلَّ من وَقارِهما، وحَارَ في تعليلِه جيرانُ الضرير. إن كلمة «الحق» كان لها في أُذنَيهِما دويٌّ دونه دويُّ قنابلِ اليوم.
أمَّا أبو العلاء فابتسم، على غير عادته، ابتسامةً فارهة، وأعجَبه جدًّا استحسانهما، وأطربه ثناؤهما، فتمادى في حريَّته الفكرية، ولم يحدَّ من مَداها كعادته، فهو واثِقٌ ممن يخاطب.
فتَح لهما صدره المَحشُوَّ شكوكًا ووساوسَ، فقال لهما: اسمعا ماذا قلتُ في رثاء المغفور له أخيكم والدي:
فتَناظَر الشيخان واهتزَّت لحيتاهما كما تهتز صَفصافةٌ مرَّت بها ريحٌ غير مهتاجة. أمَّا أبو العلاء فقال:
فصاح الشيخان: مَرحَى لك يا أحمد.
وقال له الداعي: لقد خُلِقتَ مِنَّا، ولا نظن أننا نزيدك علمًا، ومع هذا سيأتيك يقيننا.
فقال أبو العلاء: أستغفر الله، أستغفر الله. وأَطرَق قليلًا ثم قال: عندي ثلاثة أبيت أُخَر أظن أنها تُعجِبكما، وأنشد:
فصفَّق الشيخان حتى كادا أن يَخرُجا من جِلدهما، كما عبَّر الجاحظ. أدركا أن مدعوَّهما سبَّاقٌ قد لا يبلغ داعي الدعاة غايته، فقال له الداعي: يا أخانا أبا العلاء، كان في نيَّتِنا أن نُلقي إليك بالدعوة أقساطًا لأنها تِسعُ مراتب، ولكنَّنا وجدناك في المرتبة العليا فطرةً وغريزةً، فرأينا أن تضييعَ الوقت إثم، فوَجَب علينا، والحالة هذه أن نُراعي استجابتك لنا، ونُلقي دَعوَتنا عليك تباعًا الليلة؛ فلعلك تدعو غيرك إلى الحظيرة، فيُشدَّ أَزرُنا بك، أعطِنا الآن صَفقةَ يمينك.
فمدَّ أبو العلاء يمينه مُعاهِدًا على كَتمِ السر الذي أتعبه حَملُه طَوال الحياة، ومات ولم يَبُح به لأحد، حتى ولا لداعي الدعاة المؤيِّد في الدين — أبي نصر هبة الله بن موسى — الذي تَصدَّى له في آخر العمر، كما يعلم كل من له إلمامٌ بأدب المعري، ولكن الداعي عَرفَ صَاحبَه فكان سكوت، وكَفَى الله المؤمنِين القتال.
ووجِم أبو العلاء بعد إعطاء صَفقة يمينه، وأطبق شفتَيه إطباقةً صارمة تَنمُّ عن تصوُّرٍ وتصميم، ثم التفَت إلى الناحية التي يأتيه منها الصوت، فقال الداعي: «اعلم، يا أحمد، أن لكل عصرٍ إمامًا، ولا بد للناس من إمام يأخذون عنه.» ثم أفاض في شرح جميع الرموز التي سأَلَه عنها البارحة، فإذا هي — في عُرفهِم — دلالةٌ صارخة على «قائم الزمان الأخير»، ثم انتقل به إلى شرح شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والطهارة وغير ذلك من الفرائض، ففَسَّرها بأمورٍ مُخالِفةٍ للظاهر.
وتَنحنَح الداعية وسَعَل سُعالًا اهتزَّ له أبو العلاء، وسكت الشيخ قليلًا ثم قال: اعلم، يا أحمد بن عبد الله، أن هذه الأشياء وُضِعَت على جهة الرموز لمصلحة العامَّة وسياستهم، حتى يَشتغِلوا بها عن بَغيِ بعضهم على بعض، وتَصُدَّهم عن الفساد في الأرض. هي حكمة من الناصبِين للشرائع، وقوةٌ في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقانٌ منهم لما رتَّبوه من النواميس ونحو ذلك.
ونظر الداعي إلى أبي العلاء التفاتةَ مُستنطِق يقرأ أسرار الصدور على صفحات الوجوه، فأدرك أن أبا العلاء يعتقد كل الاعتقاد أن أحكام الشريعة كلها موضوعة على سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها — أو ليس لها — معانيَ أُخر غير ما يدل عليه الظاهر، فأسرع الداعي به ونقَلَه إلى الكلام في الفلسفة، وحثَّه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغوروس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار بالسمعيات، وزَيَّن له الاقتداء بالأدلة العقلية والتعويلَ عليها.
فردَّ عليه أبو العلاء بابتسامةٍ نصفِ ساخرة حين سمِعه يَحُضُّه على التبصُّر بكلام الفلاسفة، وكأنه يقول له ما قاله ذلك الرجلُ السائلُ المسيحَ عما يعمل لِيرثَ ملكوت السموات.
فتوقَّف الداعي وأخذ ينظر إلى رفيقه، وأبو العلاء لا يدري لماذا سكت، ولكنه عرف أن هناك سببًا فقال لداعيه: ما خطبك؟
فأجابه الداعي: إن الانتقال إلى الدعوة السابعة يقتضي زمنًا طويلًا.
فصاح به أبو العلاء: إن عقل من تَدعوه أكبر بكثير من الزمن الطويل الذي تُريد، هلُمَّ بنا، عَجِّل عليَّ فلست أصبر.
فقال الشيخ الذي عرفه أبو العلاء منذ سنين، في حضرة أبيه، مُوجِّهًا كَلِمته إلى شيخه: يا مولانا، إن الرجل كما سبَق وقلتُ، يفوتنا في اعتقاده، ولولا يقيني هذا ما دعوتُكَ من مصر لِتقومَ بِدَعوته وتَسمعَ بِأُذنك وترى بِعينك. لا بأس علينا إن فعلنا. سِر به إلى المرتبة السابعة ولْنُنجِزْ عمَلَنا الليلة. لا شك في أن «دار الحكمة» ستكون راضيةً عنا، ومولانا ﷺ يكون مَغبوطًا ويُبارك عملنا. نحن ندعو الآن «حُجةً» لا مستجيبًا وسيكون لهذا الحُجَّة أَعظمُ شأنٍ في تاريخ الدعوة.
فتوكَّل الداعي الأكبر على ربه وقال: اسمع، أيها الأخ، إن صاحب الدلالة والناصب للشريعة لا يستغني بنفسه. ولا بُد له من صاحبٍ معه يُعبِّر عنه ليكون أحدهما الأصل، والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العالم السفلي لما يحويه العالم العلوي؛ فإن مُدبِّر العالم، في أصل الترتيب وقِوام النظام، صدر عنه أول موجودٍ بغير واسطة ولا سببٍ نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، إشارة الى الأول في الرتبة. والآخر هو القَدَر الذي قال فيه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وهذا معنى ما نسمعه من أن الله أول ما خلق القَلَم فقال للقلم اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن.
فافتَكَر أبو العلاء هُنيهة، وأخذ الداعي يُحدِّق نَظَره إليه ليرى ما يكون من شأنه، فإذا بأبي العلاء يقول: وهذا أعرفه أيضًا يا شيخي الجليل؛ فقد قال الفلاسفة: الواحد لا يَصدُر عنه إلا واحد.
فصاح به الداعي: مُدَّ يدك لنتصافح، ونتابع؛ فأنت شيخي أيضًا كما أنا شيخك، وهَلُمَّ بنا إلى المرتبة الثامنة.
أمَّا الشيخ الذي عَرفَه أبو العلاء منذ سنين فدَمعَت عيناه، وقال الداعي: إن تقدُّم مدبِّر الوجود على الصادر عنه إنما هو تقدُّم السابق على اللاحق، والعِلَّة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئةً وكائنةً عن الصادر الثاني بترتيبٍ معروف. ومع ذلك يا أحمد، فالسابق لا اسم له ولا صفة، ولا يُعبَّر عنه ولا يُقيَّد. لا يُقال هو موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فالإثبات يقتضي الشركة بينه وبين المُحدَثات، والنفي يقتضي التعطيل. إنه ليس بقديمٍ ولا مُحدَث، بل القديم أَمرُه وكلمته، والمُحدَث خَلقه وفِطرته.
وبانَ في وجه أبي العلاء اطمئنانٌ كثير عندما انتهى به الداعي إلى هنا، ثم جَمزَ الداعي جَمزةً كبرى فقال: إن معجزة النبي الصادق الناطق ليست غَيرَ أشياء تنتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافةَ مَصلَحتُها بترتيبٍ من الحكمة يحوي معانيَ فلسفيةً تُنبئ عن حقيقةٍ آنيَّة السماء والأرض وما يشتمل عليه العالم بأَسْره من الجواهر والأعراض، فتارةً برموز يَعقِلها العالمون وتارةً بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبي شريعةٌ يتَّبِعُها الناس.
اسمع أيها الأخ الأكبر المستجيب.
فأصغى أبو العلاء كل الإصغاء حتى حَبَس أنفاسه، فقال داعي الدعاة: إن القيامة والقرآن والثواب والعِقاب معناها سِوى ما يفهمه العامة، وغَيرُ ما يَتبَادر الذهن إليه، وليس هو إلا حدوث «أدوار» عند انقضاء أدوارٍ من أدوار الكواكب وعوالم اجتماعاتها من كون وفساد جاء على ترتيب الطبائع.
ولمَّا رأى الداعي أن تلميذه يقبل قبولًا لا شك فيه ما دعاه إليه، طار به إلى القِمَّة؛ أي إلى الدعوة التاسعة، فقال له: قد صِرتَ أهلًا لكشف السر والإفصاح عن الرموز، فاعلم أن ما ذُكِر من الحوادث والأصول رموزٌ إلى المبادئ وتقلُّب الجواهر، وإنما الوحي هو صفاء النفس، يا ابن عبد الله، فيجد النبي في فَهمِه ما يُلقى إليه ويَتنزَّل عليه، فيُبرزه إلى الناس، ويُعبِّر عنه بكلام الله الذي يَنظِم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذٍ العمل بشريعته تلك إلا بحسب الحاجة من رعاية مَصالح الدَّهْماء. أمَّا «العارف» مثلك الآن، يا أحمد، فإنه لا يَلزمه العمل بها، وتَكفيه مَعرفتُه؛ فإنها اليقينُ الذي يجب المَصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أَثقالٌ وآصارٌ حمَلَها الكفَّارُ أهلُ الجهالة لِمعرفة الأعراض والأسباب.
واعلم أيضًا، أيها المُستنير، أن الأنبياء النُّطَقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة. واعلم أخيرًا: أن الفلاسفة هم أنبياءُ حِكمة الخاصَّة، وأن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أَمرِه ونَهيِه على لسان أوليائه.
وتَنهَّد الثلاثة تنهيدةً قارعة، وقال الداعي لأبي العلاء: «هاتِ يَدكَ الآن، وكن لنا ناصرًا؛ فإنما نحن نقوى بأمثالك وأشباهك. إن في معرَّة النعمان كثيرًا من إخواننا حتى المغفور له والدك، ولكنَّ السابقَ منهم لم يبلغ الدرجة الخامسة من درجات سلَّم الحكمة، فتهيَّأ لِنصرتنا بما أُوتيتَ من ذكاءٍ وفهم وجُرأة، واعلم أن حولك أناسًا يفهمونك إذا حدَّثتَهم، فاهدهِم وقُدهم وكُن لهم في المُلمَّات.
وأخيرًا أقول لك إنَّنا فضَّلناك على جميع الإخوان؛ فلم نأخذ منك مِيثاقًا. إنني أتلو عليك خاتمة المِيثاق الذي نأخذه على من ندعوهم لِتعلمَ حقيقةً أننا أجللناك وعظَّمناك، فاسمع بعض ما نقوله للمدعو:
وليس لك أن تَتأوَّل في هذه الأَيمان تأويلًا، ولا تَعتقِد ما يُحِلُّها، وإنك إن فَعلتَ شيئًا من ذلك فأنت بريء من الله ورسله وملائكته، وجميعِ ما أنزل الله في كتبه، وأنت خارجٌ من حزب الله وحزب أوليائه، وبريء من حول الله وقُوَّته، وعليك لعنة الله، ولله عليك أن تحُجَّ إلى بيته الحرام ثلاثين حجَّةً ماشيًا حافيًا، نَذرًا واجبًا، وكل ما تملك في الوقت الذي تُخالِف يمينَك فيه فهو صَدقةٌ على الفقراء والمساكين، وكل مملوكٍ لك من ذكرٍ وأنثى فهو حرٌ لوجه الله، وكل امرأةٍ لك أو تَتزوَّجها إلى وقت وفاتك فهي طالقٌ ثلاثًا، طَلاقَ الحَرَج، لا مَثوبة لك ولا رجعة، وكل ما كان لك من أهلٍ ومالٍ وغيرهما فهو حرام عليك. والله تعالى الشاهِد على نيَّتك وعَقدِ ضميرك فيما حَلَفْت، وكَفَى بالله شهيدًا بيننا وبينك.»
فلَم يَدْرِ أبو العلاء ماذا يُجيب، فصَمَت، ولكنه تَنكَّر، فيما بعدُ، لحياته السابقة بعض التنكُّر، وأمسى ينكمش في بيته رويدًا رويدًا حتى صارت دارُه مجلسًا لِلمُستجيبِين المُخلِصِين. ومَرَّ في خاطره أن يرحل إلى العراق، فاستشار الوالدة والإخوان، ثم رَحلَ إليه.