مُعتقَدُه
خالط أبو العلاء الناس، فلَقي بينهم عَناءً وكدًّا. وارتحل من المعرة إلى اللاذقية وأنطاكية وطرابلس طالبًا «علم الأوائل»، فانفتح له كهف المعرفة، فمنَّى النفس بِرحلةٍ إلى العراق، ولم يَثنِه عن ذلك عَمَاه ولا عَجزه ولا بُكاء أمه، فلقي في تلك الهجرة ما لقي. لم تَشفِ نفسه، ولا أَبرأَت سُقمَها تلك المجامع العلمية ولا الجمعيات السرية، كما كان يَترجَّى، فانقلب راجعًا إلى المعرة بعد سنة وبضعة أشهر، و«مرض العصر» قد تَمكَّن منه كل التمَكُّن، فحاول الاستشفاء منه في وَحدةٍ قاسيةٍ فَرضَها على نفسه ولم يَحِد عن صِراطها المستقيم قيدَ شَعرة إلا مرةً واحدة، حين خرج إلى «صالح» يشفع بالمعرة بلده، فأسمعه «سجع الحمام» وسمِع منه «زئير الأسد» …
كان شيخنا نحيل الجسم غريب الأطوار، حاد الذكاء والطبع. كان عجيب الذاكرة، قُفَلة، فجنى عليه ذكاؤه، وحَصَرَته ذاكرته في «نقطة البيكار» فعاش في بؤرة فكرةٍ ثابتة. والفكرة الثابتة تكون في الحب كما تكون في الحرب، وتكون في العفة كما تكون في الغُلْمة والشَّبَق، وتكون في العِلم كما تكون في الجهالة، وتكون في الغَزَل كما تكون في الفلسفة؛ فعمر بن أبي ربيعة وبشار كالمتنبي والمعري. لِكلٍّ من هؤلاء فكرةٌ ثابتة لا مَحيص عنها وإن يَختلف الاتجاه والهدَف.
رأى أبو العلاء عَطْف الناس عليه صَدَقةً وإحسانًا ومَنًّا فآثر العُزلةَ في بيته القاتم الأعماق الخاوي المُخترَق، ورفَع عقيرته مُتغزِّلًا بِتفرُّدِه المُبدِع فقال:
ثم طَفِق يَنعَى على الناس مساوئ أخلاقهم ويُعيِّرهم مَكرَهُم ورياءهم؛ فهم طُغاةٌ يعدو بعضهم على بعض، كالذئب يأكل عند الغِرَّة الذِّيبا، وهم:
إننا نُجِلُّ قَدْر الشيخ إن يكون كما تواضع وقال، ولكنه، رحمه الله، يجود بما جاد عن طبعٍ، وقد يكون مصيبًا إذ يقول:
ثم تَفُورُ قِدرُ سويدائه فيَشتمُنا كصاحبنا الآخر — المتنبي — بلا حسابٍ فيقول:
وتَوغَّل في إساءة الظن بالإنسانية ففَضَّل على بنيها الحطَبَ اليابس، وهو فيما يقول كما قال النابغة في مَدحِ صاحبه: ولا أُحَاشِي منَ الأَقوامِ مِن أَحَد.
النابغة استثنى واحدًا، وهو سليمان، أمَّا ابن سليمان هذا فقال:
وتَذكَّر الأعمى «الحبيس» أنْ ليس كُلُّ ضرير يستطيع أن يَحكُم على نَفسِه بالحبس المُؤبَّد فتَذكَّر الرَّحمَة، وهي من طَبعِه وطَبعِ كل عاجزٍ غير مستطيعٍ مِثلَه، فأَلَان جانِبَه وقال يخاطبهم:
ثم ذَكَر أن الناس يقولون: «اطرُدِ الأَعمَى واكسِر عَصَاهُ، ما أنت أَدرى من رَبِّه الذي أعماه.» فكيف يطلب منهم الحسنة بالدبوس فيقول لهم: «أنتم عُميان مثلي، فلا تغرَّكم عُيونُكم المُفتَّحة!» ففتَّش عن تُؤَدة ورِفقٍ فقال:
حَسْب المعري أنه يستريح من تكاليف الحياة إذا اعتزل الناس؛ فما انقضَت سنة على تلك الرسالة التي وجَّهَها إلى «الجماعة» في المعرة مُعلِنًا خطته الجديدة، حتى طار له صِيت في الأقطار، والناس يُعجِبهم كلُّ غريب، فتَهافَتوا عليه يطلبون عنده العِلم في عصر الخَفاء والأَسرار، يَحدُوهم إليه قولُه الذي ملأ الآفاق:
والشيخ، كما نبَّأنا، عنده ما عند جميع الناس من شعور وإحساس، فما ضاق ذرعًا بهؤلاء الذئاب، نَزلوا عنده أو جَاورُوه، وشَرَع يُملي عليهم فَلسفَته وآراءه، ثُمَّ ما تمالك أن قال:
وبما أن الكثيرِين يُفلسِفون حول أقوال هذا الضرير فما علينا لو ألقينا دَلوَنا بين الدِّلاءِ وتَحَذلَقنا هُنيهة، فنتساءل مثلهم: هل يُرِيد أبو العلاء من كلمة نطق وصمت شيئًا أَبعَد؟ هل خَطَر على باله شيءٌ مما سَمِعوه في عصره الباطني «ناطقًا وصامتًا»؟
إنني لأرى الشيخ يمُد جذوره في القلوب، وينشُر فروعه في العقول، وهو يَجرِي لِغايةٍ في كل ما يكتب. إنه يقف بيكاره عند نقطة وَيبسُط ساعده الآخر ليجعل كل شيءٍ وسط الدائرة.
الأشبه عندي أن شيخنا يهدم ويبني، يَسردُ كل ما عنده من أفكار في أحوالٍ مختلفة، ويَنظِمها شِعرًا لِتُحفَظ وتَرسخُ في أذهان تلاميذه، فجاء ما نُسمِّيه «اللزوميات» صورةً حقيقية للتفكير الإنساني الذي يختلف بين ليلة وضحاها، ولكن هذا الاختلاف الذي نرى لا يُواري عنَّا وجه الرجل؛ فله أساليبُ خاصة يصطنعها في بث ما يعتقد. فإذا رأيته يهاجم بعنفٍ وعتوٍّ وطغيانٍ فاعلم أنه ينفي ويَهدِم ويُقوِّض ويَنسِف ويَدُك دكًّا. وإذا رأيته يُواري ويُوارب، ويُلقي تبعة الكلام على غيره، فاعلم أنه كالرجال السياسيِّين الذين يُشيعون الشائعات عما ينوون عمله وينتظرون بوادر تأثيره. فإذا قال الشيخ: «قال قوم، أو زعموا، أو يُقال.» فاعلم أنه يُرائيك ويُداوِرك ليرى ما تبدي، وكن واثقًا أن هذه اﻟ «يُقال» وقال قوم ستُصبِح في مقامٍ آخر عقيدةً يُدافِع عنها الشيخ بِسيفِ برهانه وتُرسِ مَنطقِه.
أسمِعتَ بالمخلوطة، تلك الأكلة المعمولة من جميع الحبوب التي تُؤكَل؟
إن هذه الحبوب متى اعتَلجَت في القِدْر تُؤلِّف طعامًا خاصًّا. وأبو العلاء هو تلك المخلوطة الفاطمية الطَّعم.
وإذا قلنا فاطمي، فكأننا نقول فيثاغوري أفلاطوني فيه من الأرسططالية بمِقدار البهَارَات والأبازير.
يُضحِكني ذاك الذي يتساءل: أين عرف أبو العلاء أبيقور؟
وما شأن أبيقور هذا مع أبي العلاء، وعند أبي العلاء الدعوةُ الفاطمية وعُلومُها السِّريَّة المُستَقاةُ من رأس نَبعِ الفلسفة؟ ما حاجة شيخنا إلى الجداول، إلى ترجمة جالينوس لأبيقور؟ ففلسفة اليونان، في عهده، قد تغَلغَلَت في العقائد المشرقية وهضَمَها علماء المُسلمِين والشباب المُفكِّر، وكانت تغلي بها الصدور والضمائر، في عَصرِ أبي العلاء، غلَيانَ القِدْر على النار الدائمة، لا فوق نار الحُباحِب، كما عبَّر أبو العلاء في الفصول والغايات عن حياته.
العَنزة مقتولة والذئب حدها، فما لنا نُفتِّش عن الغريم.
تلك شِنشِنةٌ نعرفها من أَخزَم … يريد أن يَزعُم أنه اختَرَع البارود …
إن فلسفة أبي العلاء، لا بل آراءه كلها نوعان: نوعٌ مُستمَد، كما قُلتُ سابقًا، من الاختبار الإنساني، وهو ما يُطلَق عليه اسم الفلسفة العامة، وبالاختبار يهتدي كُلُّ من في رأسه عقل. ونَوعٌ يتجه اتجاهًا معلومًا، ويُعبِّر أو يُترجِم عن مَذهَبٍ بِعَينه هو مَذهب الفاطميِّين؛ فمِن نَوع الفلسفة العامة قوله:
يُذكِّرني قول المعري هذا خُلفًا وقع بين خالي وجَدِّي لأمي. مَنَّ جَدِّي على خالي بِتَخليفِه إيَّاه بما يُشبِه فلسفة الحبيس، وهنا أقول كما قال صاحبنا هذاك، عن المعري وأبيقور ولوكريس: لا أدري أهذا تَوارُد خَواطِر بين المرحوم الخال طنوس والمعري، تُرى أين قرأ الخال لزوميات المعري حتى سرق فَلسفتَه هذه؟ إنه لم يكن يقرأ ويكتب. أَتظُن أن خالي أخذ هذه الفلسفة العلائية عن الأطبَّاء الدَّجالِين، عن جالينوس، عن أبيقور؟ …
ألَا يشبه قول المعري هذا قولَ صاحب «الميجانا»: أُمي وبيِّي كيَّفوا تا جيت أنا؟
فهل نَعُد هذا فلسفة؟ لا ورحمة خالي الفيلسوف، إن شيخنا أبا العلاء داعي طريقة وشاعرُ مذهبٍ معروف لا صاحب فلسفة، وهذا واضح في أقوالٍ عديدة تنطق بما يعني نُطقًا صريحًا.
وأَعجَب من هذا زعم صاحبنا أن «الفصول والغايات» هي أَصلُ اللزوميات مع أن رائحة الهَرَم تَنبعِث من الفصول والغايات، وهي تَدُل دلالةً صارخة على أنها أُعِدَّت زادًا للرحلة الكبرى … ففيها رائحة الزَّبور الداودية، رائحة التوبة النَّصوح.
إن جميع رسائل المعري وفصوله مضمونُها واحد ونَواتها اللزوميات، وكأنما كتبها كلها لِيُقرِّر طريقته ويُؤيِّد مذهبه.
ويَتعجَّب بعضهم مما يَرَون عند الشيخ من مُتناقِضات ويُفتِّشون عن «سره» تحت الألفاظ، وأَسخَفُهم تفتيشًا ذاك الذي قال بالتَّشابُه بين المعري ولوكريس الشاعر اللاتيني؛ إذ قرأ هذَين البيتَين:
إني أراهم يَتقعَّرون جِدًّا حتى يَبعُدوا بأبي العلاء إلى آفاقٍ وأجواءٍ غريبة عجيبة.
لا أدري إذا كان المعري يَعني هؤلاء بقوله في «سِقط الزَّند»:
ولا عَجَب؛ فلِهؤلاء أضراب؛ أعني أولئك المُلوفِكِين الذين يُغربون في استيحاء نبوءة دانيال ورؤيا يوحنا وأخبار نوستراداميس …
والأَعجَب من هذا وذاك أن يقول هذا الرجل: «إن تكلُّف أبي العلاء قافيتَين في اللزوميات والفصول نتيجة عَبثٍ وتسلية ونتيجة فراغٍ ولعِب.» كأنه يجهل أن المعري عاش في عصر الصَّنعة، وأنه مُعلِّم مدرسة لو كانت في زَمَانِنا لَسُمِّيَت جامعة، وكان عميدها سبعة دكاترة مثل تنين الرؤيا … فهو في تآليفه نثرًا وشِعرًا يمد يده إلى كل دوحة، وخصوصًا إلى تلك التي أَورَفَت في أعلى عليِّين، وإلى تلك التي نجَمَت في قَعرِ الجَحيم.
فِكرٌ جبَّار يعنيه كل ما يعني طُلَّابه الآتِين إليه من كل فجٍّ عميق يَطلُبون العلم عنده، وهو يخاطبهم:
كان شيخهم يُعالج جميع قضاياهم ويُهذِّب نفوسهم وأجسادهم وأخلاقهم؛ فهو يُعلِّمهم عمليًّا ونظريًّا، ومَصدَر نظريَّاته عَقلُه الجبَّار، ومُختبَر عمليَّاته جَسَدُه النحيل الذي قسَا عليه إذ صَيَّره حَقْلَ اختِبار، فكان لِمُريدِيه وقاصدِي فَضلِه واعظًا باللسان والمثل، يُطبِّق عِلمه على عَمله.
وأيُّ حرج على الشيخ إن ترك قضايا مُعلَّقة؟ فكم تَركَ الفلاسفة قبله من قضايا وقَفوا حِيَالَها حَيَارَى. وإن ناقَضَ نفسه فليس هو بِأَعظمَ من أرسطو وأفلاطون، فكم من تناقُضٍ عندهما.
ولكنَّ أبا العلاء لم يُناقِض نفسه قَط؛ فما يَعُده بعضهم تناقضًا ليس إلا تقيةً في عصر كانت فيه كلمة «عِلم الأوائل» تَقضِي على الرجل. وكم قضَت على رجالٍ جاءوا بعد المعري بِقرنٍ وقرنَين.
إن ما يَعُدُّونه تناقُضًا ليس إلا سُخرية، فاقرأ بِتأمُّل وتجرُّد تتبيَّنْ صحة زَعمِي.
يظن بعضهم أن أبا العلاء يبتعد عن الفاطمية حين يقول نافيًا ظهور الإمام:
وهذا الظن مُنتهى الشَّطَط لأن «الإمام» يتوارى في قمة الدعوة الفاطمية — الدعوة التاسعة — ويَحُل مَحلَّه العقل. يصير الإمام رمزًا لِمعنًى ليس أكثر، وإليك النص: «الفلاسفة أنبياءُ حِكمةِ الخاصَّة. وإن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا إليه بالرياضة في المَعَارف، وظهوره الآن إنما هو ظهور أَمرِه ونَهيِه على لسان أوليائه.»
وفي هذا المُعتقَد أن الإنسان ينتقل من حالٍ إلى حالٍ إذا صفَّى نفسه ونقَّاها، وهذه هي غايتهم من الزهد والتقشُّف، أي بلوغ التسامي إلى أعلى حَدٍّ يستطيع بَشَريٌّ بلوغه.
أمَّا «العقل» العَلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بِعَينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضًا؛ فهو يرى، كما يرى الفيثاغوريون، أن الطهارة في خلاص النفس من البدن؛ لأن الجسد قبرٌ للنفس وهو عَدوُّها اللدود، وفي هذا قال المعري:
ومذهب الفيثاغوريِّين أن وسيلة النجاة هي التطهير والزهد وتَغليبُ العقل على الحواس؛ فإن الحواسَّ كثرةٌ وشِقاقٌ تخدعنا بأمورٍ زائلة، والعقل وَحدَةٌ ومحبة، والغاية القصوى العودة إلى المَحبة والوَحدَة، وإلى هذا ذهب أفلاطون بعدهم فقال: «إن حياة النفس لا تتحقق تمامًا إلا بخَلاصها من المادة في عالمٍ روحيٍّ مثلها.» و«العقيدة الثابتة» يُدافَع عنها بشدة.
والفيثاغورية كالمُنظَّمات الدينية اليوم، عاش أعضاؤها في عفَّةٍ وبساطة لبس ومأكل، وقد حرَّمَت أكل لحم الحيوان وبعض النبات — كما حرم الحاكم أكل الملوخية مثلًا.
لسنا نقول إن أبا العلاء حذا حَذْو هؤلاء، كما أننا لا نتساءل إن كان المعري عرف ذلك ومن أين عَرفه؛ فهو من لِدَات «إخوان الصفاء» وقد حضر مَجلِسهم، وقد يكون ناقَشَهم وجادَلَهم، حين استَشَارهم قبل أن يختَطَّ خطَّته التي سار عليها طُول حياته.
أليس يقول كما مَرَّ بك في رسالته إلى «الجماعة» في المعرة: «فأجمَعتُ على ذلك واستَخَرتُ الله فيه، بعد جَلائِه على نَفَرٍ يُوثق بخصالهم؛ فكلهم رآه حزمًا وعدَّه، إذا تم، رشدًا»؟
لا يليق باللبيب أن يتساءل عن كل هذا لأن عصر المعري أَنضَجُ عصور الفلسفة العربية، وأبناؤه عَرفوا مثلنا فلسفة اليونان وتأثروا به، كانوا عُصَبًا عُصَبًا وجماعاتٍ جماعات يُطعِّمون الأديان بهذه البراعم الجديدة القديمة، والحكومة تُطارِدهم وتقتلُهم فُرادى وَثُنًى، صَبرًا ونقدًا، تَصلُب وتُغرِق وتُشرِّد وتنفي، والفلسفة تزداد نُموًّا وانتشارًا.
كانوا يُسمُّون هؤلاء زنادقة، وأبو العلاء يُحدِّدهم لابن القارح بقوله: «أمَّا غيظه — أي ابن القارح — على الزنادقة فآجَرَه الله عليه كما آجَره على الظمأ في طريق مكة، واصطِلاء الشمس بعرفة، ومَبِيته بالمُزدلفة.»
«ولا ريب أنه ابتهل إلى الله، سبحانه، في الأيام المعدودات والمعلومات أن يُثبِّت هضاب الإسلام، ولكن الزندقة داءٌ قديم … وقد كانت ملوك الفرس تقتل على الزَّندَقة. والزنادقة هم الذين يُسمَّون «الدهرية» ولا يقولون بنبوَّة ولا كتاب.» ويقول له في مَقامٍ آخر إذ يُحدِّثه عن الحُلوليِّين: «ولم تكن العرب الجاهلية تُقدِم على هذه العظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلَف من كُتب القُدماء؛ إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبيٍّ.»
وبعد، فما هو الدين عند المعري؟ أليس كالذي عند سقراط؟ تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية؟ لا تقديم القَرابِين وتِلاوة الصلوات من أيدٍ وأفواهٍ ملطَّخة بالإثم. وإن النفس مُتمايِزةٌ من البَدَن؛ فلا تَفسَد بفساده، بل تَخلُص بالموت من سجنها وتعود إلى الصفاء طبيعتها؟
القوانين العادلة صادرة عن العقل ومُطابِقة للطبيعة الحق؛ فمن يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان يُريد الخير دائمًا ويهرب من الشر، فمتى تبيَّن ماهيته وعَرفَ خيره بما هو إنسان، أراده حَتمًا، أمَّا الشهواني فرجلٌ جَهِل نفسه وخيره، ولا يُعقَل أن يرتكب الشر عمدًا؛ وعلى ذلك فالفضيلة عِلم والرذيلة جهل. وقد جاء في كتب الفاطميِّين (الدروز): «الناسُ مولودون جُهَّالًا.»
هذا إيمانُ سقراط بالعقل وحُبه للخير، وما رأيت أبا العلاء يدَّعي أكثر من هذا، ولا يدعو إلى أبعد من ذلك.
وأبو العلاء لم يخفَ على مُعاصرِيه، فعرفوه واكتشفوه قبل أن نكتشفه نحن كما ادَّعى بعضنا. لقد عرفوه كما عرف ابن الزيات الجاحظ فقال: «أَثِق بِظُرفه ولا أَثِق بِدينه.»
وبعدُ، أليس كل ما تحدثنا عنه مدموجًا في الدعوات والعلوم الفاطمية؟ فلا حاجة إذن أن يُفتِّش عنه أبو العلاء هنا وهناك، كما أنه ليس لنا أن نتساءل إن كان قرأ سقراط وأفلاطون وأبيقور ولوكريس وموكريس … فكل هذا كان معروفًا من القوم، ناهيك بأن العقل في كل زمانٍ ومكانٍ يَدُل على هذا، وأَبو العلاء لم يُؤمِن بغير العقل الذي قدَّسه فلاسفة اليونان جميعًا وبه استعانت الدعوة الفاطمية وعليه بنَت أُسُسها، حتى اليوم.
أمَّا «الخير» فهو عندهم بمثابة الله، بل هو الله، وهذا ما دعا إليه الفاطميون، وأَذَّنوا به، وذَكَروه مع الله، «حيَّ على خير العمل.» وفي الخير يقول أفلاطون: «الخير شيءٌ أسمى من الماهية بما لا يُقاس كرامةً وقَدْرًا، وهو رِباطُ كل شيءٍ وأساسُه، والخير غاية العقل القُصوى.» والمحرك الأول يصير عند أرسطو «هو الخير بالذات؛ فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المُتعلِّقة به السماء والطبيعة.»
ويقول أرسطو أيضًا: «كل فنٍّ وكل فحصٍ عقليٍّ، وكل فعل وكل اختيارٍ مروَّى فهو يرمي إلى خيرٍ ما؛ لذلك رسم الخير بحقٍّ إنه ما إليه يَقصِد البشر وعلى مَعرِفة الخير يَتوقَّف توجيه الحياة.»
أمَّا اللذة التي عافها المعري فهي عند المعلم الإلهي «غاية العبيد والبهائم، وهي حياة العوامِّ الأجلاف»، والسعادة تتحقق «بتأمُّل الخيرِ الأعظم والاتحادِ به»، والميول تصير خيِّرةً باتباع العقل، وشِرِّيرة بِعِصيانِه.
«ومن يتوهَّم أن المُثابَرة غير لازمة للحصول على الكمال مثلُه مثلُ المريض الذي يريد الشفاء ولا يستعمل وسائله.»
ويقول أرسطو: «الخير يُسمَّى بأسماءٍ كثيرة فيقال له الله، أو العناية أو العقل.»
أمَّا أبو العلاء فدعا إلى الخير، وفَهِمَه كما فهم النصارى «الندامة الكاملة»؛ أي لا خوفًا من الجحيم ولا طمعًا بالنعيم، وهي عندهم تُوصل إلى ملكوت الله توًّا وبلا واسطة. أمَّا الكهنة فيقولون إنها صعبة جدًّا فلا يخاطر المؤمن بنفسه ما زال الكاهن موجودًا. وشاعرنا يقول في هذا:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وأخيرًا يُصرِّح:
لقد مَرَّت بك كلمة «طوفان» فاعلم أن أبا العلاء لا يَعني الطوفان المعلوم، وإنما يعني معنًى فاطميًا أَبعدَ وهو قوة الخير التي تَطغَى على كل شيءٍ في المُنتهَى فتَغسِل أَدرانَ الكون، ويَسُود «أهل الخير».
أَخَالُنا شَبِعنا كلامًا عن «العقل» والخَيرِ العلائيَّين، فلنَنتقِل إلى حياة شاعِرِ العَقلِ العمليَّة.
بعد وَفاة سقراط أَسرَفَ تلميذه انتسانتس في محاكاته معيشةً وحريةَ قول، وكذلك فَعَل تلامذة انتستانس؛ فأَوجَبوا على «المريد» أن يَعدِل عن خَيراتِ الدنيا وملاذِّها، وأن يَتنزَّل عن مكانته الاجتماعية، ويُرسِل شَعر الرأس واللحية، وسُمِّي هؤلاء «بالكلبية» لاجتماعهم في مكان اسمه «الكلب السريع» فكانوا يُجابِهون الحضور بنقائصهم في قولٍ جريء، مُدَّعِين أنهم يُؤدُّون مهمةً كلَّفَهم بها الإله «تزوس»، وما مهمَّتهم تلك غير ملاحظة عيوب الناس والتشهير بها، مُتخذِين من اسمهم — الكلبية — تشبيهًا، فيقولون إنهم حُرَّاس الفضيلة يَنبَحون على الرَّذيلة.
وفي الإنجيل الطاهر شيءٌ من هذا: «ملعونٌ كل كلبٍ لا ينبح.» فهل نَقدِر أن نقول كغيرنا إن شيخنا تَشبَّه بهؤلاء وأولئك بالقول والعمل والزهد وشظف العيش؟
وإذا التفَتنا إلى «مولانا» الحاكم؛ الإمام الفاطمي، رأينا أنه نَزَع في آخر حياته، قبل «الغيبة»، إلى مثل هذا الزهد، كما سترى. ناهِيكَ بأننا لا نطلب شيئًا عند فلاسفة اليونان إلا وجدناه عند «الفاطمية» وتَعاليمِها السرية والعلنية، قولًا وعَملًا.
وفي استقصائي الأخير عن فلاسفة اليونان عامةً، والكلبيِّين خاصة، رأيتُ أنهم أقلُّ أَهلِ بلادهم شعورًا بالوطنية الضيِّقة؛ فهم لا يحرصون عليها، أولا يُبالون بها، بل يميلون إلى الإنسانية الجامعة: الدولية. وهذا ما وَجَدتُه عند شيخنا أبي العلاء؛ فهو تنوخيٌّ عربي قح، ولا يَذكُر القومية ولا العروبة، إن لم يقل بالعكس، كأنه ليس يعنيه من الدنيا إلا المعرة والذين يُسمِّيهم «الجماعة». وفيما خلا فهو يخاطب الناس أَجمعِين.
فهل هذا اتفاقٌ أو تَشبُّه بالفلاسفة؟ لستُ أدري، والذي أدريه أن هذا هو الواقع، ولكن الذي يبدو لي هو أن الفاطمية لا تَقُوم على العروبة وإن كان أَيمَّتُها أَحفادَ النبي ﷺ.
لم أرَ لِلعرب والعروبة ذكرًا عند الشيخ، بل رأيته يتعدَّى ذلك إلى التبرُّؤ من شِعار قَومِه فيقول:
وإذا فتَّشنا عن سببِ تَركِ المعري الزواج، فإننا نجده عند فلاسفة اليونان أيضًا؛ فأبيقور يقول: «الصداقة نافعةٌ لذيذة، والحكيم يتعهدها كوسيلة للسعادة، ولكنه يتجنب الحب لأنه مَصدرُ اضطراب للنفس، كذلك لا يتزوج الحكيم في الأكثر لِمَا يَجرُّه الزواج من شواغلَ مُتعدِّدة. ولِلسبب عَينِه يَنبذُ الحكيم المناصب الحكومية ويَنفُض يدَه من الشئون العامِّية.»
ولا أَخالُك نَسيتَ ما مَرَّ بنا من قول المُعز الفاطمي — جَد الحاكم — لجماعته: «واحدةٌ تكفيكم.»
أمَّا الجسم في رأي أبي العلاء ورأيهم فثوبٌ يَخلَق وبيتٌ يَتهدَّم، وما أجساد الصبيان الذين قضَوا صغارًا إلا ثيابٌ غيرُ مُحكَمة النَّسج:
وفي المذهب الفاطمي أن النفس لا تستطيع حياةً بلا جسم؛ ولذلك عَبَّر عنها المعري بالقرون في رسالته إلى الجماعة. أمَّا كيف نُسِج هذا القميص — ومنها جاء التقَمُّص عندهم — فإليك رَأيَ الشيخ:
رَحِم الله الشيخ! الجسم طبخةٌ طيبة يَدُبُّ إليها الفساد متى بَردَت، فبالله نعوذ من البرد، ومن النَّومة الطويلة في عُبِّ الأرض.
أمَّا «الرَّجعة» أو «العَودة»، يُراد بها عودة الإنسان إلى الحياة بنفسه وجَسَده، فأبو العلاء يجحدها. وهذا أيضًا مذهبٌ يوناني فيثاغوري، وفيه يقول أوديموس تلميذ أرسطو لتلاميذه: «إذا صدَّقنا الفيثاغوريِّين فسيجيء يومٌ نجتمع به ثانيةً في هذا المكان، فتجلسون كما أنتم لِتَسمعوا إليَّ وأتحدَّث أنا إليكم كما أفعل الآن.»
وهذا ما يُعبِّر عنه إخوان الصفاء بِالكَور والدَّور، ويُسمُّونه «السنة الكبرى»، ومِقدارُها سِتٌّ وثلاثون ألف سنة.
إن أبا العلاء لا يؤمن بها، ولكن لا تنسَ أن العودة والتناسُخ غير التقمُّص الذي يؤمن به أبو العلاء كما سترى؛ ولهذا يُهاجِم البعث بكل ما فيه من قُوًى وسُخْر وهُزْء فيقول:
وقد كَتَب في هذا كتابًا — «رسالة الغفران» — سخر به أيما سُخْر، كما أنه نفى «العَودة» نفيًا باتًّا لا لبْس فيه فقال:
وقال في موضعٍ آخر:
أمَّا التناسُخ فالشيخ ينفيه نفيًا ويَشجُبه شجبًا، وذلك ظاهر خصوصًا في رسالة الغفران حيث يَسخَر بالنُّصَيريَّة — جيرانه — أصحاب هذا المُعتقَد — كما يُقال — فيقول بلسان أحدهم:
وكقَولِه في اللزوميَّات:
فهل لي أن أظن كما ظن ذاك أنه أخذَها من قول أكسانوفان حين مَرَّ ذات يومٍ برجلٍ يضرب كلبًا، فَأخذَته الشفَقة فصاحَ وهو يَنتحِب: لا تَضرِبه يا هذا. إنها نفسُ صديقٍ لي قد عَرفتُه من صَوتِه.
وللشيخ المعري خبران يُشبِهان ما حكي عن أكسانوفان؛ فقال في رسالة الغفران: «وحُدِّثتُ عن رجلٍ من رؤساء المُنجِّمِين من أهل حَرَّان، أقام في بلَدنا — المعرة — زمانًا، فخرج مع قومٍ يتنزهون فمَرَّ والثَّور يكرب، فقال لأصحابه: لا شَكَّ في أن هذا الثور رجلٌ كان يُعرف بخلف ﺑ «حَرَّان»، وجعل يصيح به: يا خلَف، فيتفق أن يخور ذلك الثَّور فيقول لأصحابه: ألا تَرَون صِحةَ ما خَبَّرتكُم به؟»
«وحُكِي لي عن رجلٍ ممن يقول بالتناسُخ أنه قال: رأيتُ في النوم أبي، وهو يقول: ابني، إنَّ رُوحي قد نُقِلَت إلى جَملٍ أَعوَر في قطارِ فلان، وإنِّي قد اشتَهَيتُ بِطِّيخة، فأخَذتُ بِطِّيخة وسأَلتُ عن ذلك القِطار، فوجدت فيه جملًا أَعوَر، فدَنوتُ منه بالبطيخة فأخَذَها أَخذَ مُريدٍ مُشْتهٍ.»
أرأيتَ كيف يَسخَر؟ إن أبا العلاء يُساوِر ما يَجحَده مُساوَرَة؛ فهو يعتقد نوعًا من التناسُخ، وهو ما يُعبَّر عنه بالمذهب الفاطمي — الدرزي — بالتقمُّص، فاسمَع كيف يُحدِّثنا الشيخ عن التناسُخ.
أليس تدلُّك كلمة «غلَوا» على أن الشيخ يرى النسخ؟ وإن كابَرتَ وقلتَ لا، فسَأدلُّك دلالةً قاطعة مانعة … أما الآن فاسمع ما هذا النَّسخ والمَسخ والفَسخ والرَّسخ: فالنَّسخ هو نقل الروح من جسم إلى جسمٍ أرفع منه وهذا ما يعتقده الشيخ ويَترجَّاه، ولا إكراه في الدين. أمَّا المَسخُ فنَقلُ الأرواح إلى أجسام البهائم ذوات الأربع، والفسخُ نَقلُها إلى الحَشَرات، والرَّسخُ هو أن تُنقَل إلى النبات والجماد كالحجارة والحديد، وهذه الثلاثة الأخيرة يُنكِرها شيخنا كل الإنكار. أمَّا النَّسخ، وهو ما يُسمُّونه التقمَّص، فسنُحدِّثك عنه قريبًا جدًّا.
وقد علِمنا مما قرأنا في أَحَد كُتب المذهب الفاطمي، أن إخواننا بني معروف يَشجُبون التناسُخ ويَلعَنون النُّصيرِي الذي يقول بذلك؛ إذ لا يُعقل أن الله يُعاقِب رجلًا عاقلًا يُدرِك بمسخه خِنزيرًا أو بتحويله حديدًا؛ فالحكمة أن يكون عاقلًا لِيَعرِف العذاب ويتوب.
وعند أفلاطون يكون التناسُخ بِتحوُّل بعض الأحياء إلى بعضٍ بِحسَب ما يَكسِبون أو يَخسَرون من العقل، وفي هذا يقول أبو العلاء:
أمَّا التقمُّص الذي قُلتُ لك إن الشيخ يعتقده فنحن لا نفتري ذلك افتراءً.
ويَعتقِد أبو العلاء أن هذا الجسم غيرُ مسئولٍ عما جَنَى لأنه لِباسٌ يَبلَى، أو بيتٌ يَتداعَى؛ فيقول في هذا أبياتًا عديدة أَذكُر لك منها:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وإليكَ الآن، بعدما رأيتَ ما رأيت، مُوافقَته للمذهب الفاطمي القائمِ اليومَ بكل وضوح:
•••
وإذا رأيتَ ما يُناقِض هذا عند الشيخ فاعلم أنه تَقيَّة، ولا تُحاوِل أن تُفتِّش عن سِرِّه الذي يُلهِيكَ به.
وقبل أن نقفل باب هذا البحث، لا بُد من كلمة: خلَط بعضهم في فهم أبي العلاء إذ رَأَوا في اللزوميَّات وغيرها حملةً على الشيعة؛ فهو لا يَعني بذلك الشيعة المعروفة، بل يَعني جِيرانَه النُّصَيريِّين الذين — يُقال — إنهم يُحلِّلون أَخْذَ بناتهم وأخواتهم، فيقول فيهم:
وظن بعضهم أن أبا العلاء يَسخَر ويَهزَأ في البيت الأخير، فليس هنا شيءٌ من هذا، إنه يعني النُّصَيرِي الذي استجاب للدعوة الفاطمية ثم ارتَدَّ عنها وقال بمذهبٍ خاصٍّ أجاز به نكْحَ البَناتِ والأَخَوات. ولا أتعجب أنا إن رأيتُ أبا العلاء وكتاب المذهب الدرزي يَشجُبان هذا الرجل ويلعنانه؛ فكِلاهما يَصدرُ عن نبعٍ واحد هو «الفاطمية».
وإذا أردتُ أن أطابق بين أقوال الشيخ والمذهب الفاطمي فالأدلة صارخة، وهذا هو سِرُّ أبي العلاء المكتوم الذي يقول فيه:
ولكنك سترى، إن شاء الله، أن سِرَّه لم يُدفنْ معه، بل باح به حين اطمأنَّ إلى رأسِه ودمِه.