الليلة الثانية
وجاء الداعي إسماعيل في الموعد المضروب فألفَى الحاكم متهيِّئًا لِلسماع فقال:
ويقول في الدين والنفس:
يا ظَالمًا عَقدَ اليدينِ مصليًا
من دون ظُلمِك يُعقد الزُّنَّارُ
أَتَظنُّ أنك لِلمَحاسنِ كاسِبٌ
وخَبِيءُ أَمرِكَ شِرَّةٌ وشَنارُ
ومع الفتَى من نفسِه نُمِّيَّةٌ
ما زال يَحلِف أنها دِينارُ
•••
توهَّمتَ يا مغرورُ، أنك دَيِّنٌ
عليَّ يمينُ اللهِ ما لَكَ دِينُ
تَسيرُ إلى البيت الحرام تنسُّكًا
ويشكوك جارٌ بائسٌ وخَدِينُ
ويقول:
سبِّحْ وصلِّ وطُفْ بمكةَ زائرًا
سبعينَ لا سبعًا فلَستَ بناسِكِ
جهلَ الدِّيانةَ من إذا عَرضَتْ لَهُ
أطماعُه لم يُلفَ بِالمُتماسِكِ
ويقول:
الدين إِنصافُكَ الأقوامَ كلَّهمُ
وأيُّ دينٍ لآبي الحقِّ إن وَجبَا؟
والمرءُ يُعيِيه قَودُ النفسِ مُصحبةً
لِلخَير، وهو يقودُ العَسكَرَ اللَّجِبَا
ففارق الحاكمَ شيءٌ من أُبَّهتهِ ووَقارِه وهتف: ويلي عليكِ، وويلي منكِ، نفسي! وماذا
يقول في
الجسم؟
وإنما الجِسمُ تُربٌ خَيرُ حالتهِ
سُقيَا الغَنائمِ فاستَسقُوا له السُّحُبَا
•••
جسمي أودى مَرُّ السنينَ بهِ
فلْتَطلُبِ النفسُ منزلًا بَدَلَهْ
•••
قلَّمْتُ ظُفْريَ تَاراتٍ وما جَسَدي
إلا كَذاكَ متى ما فارَقَ الرُّوحَا
•••
ويُصبِح الجِسمُ بعد الروح مُنتبَذًا
صِفرًا كنَبذكَ مَكسُورَ البَواقيلِ
•••
يا نفسُ جِسمُك سِربالٌ له خَطرٌ
وما يُبدَّل في حالٍ بِسربالِ
قد أَخلَقَته الليالي فاترُكيهِ لقى
فما يَزينُك لبسُ المُخلقِ البالِي
فإن خَرَجتُ إلى بؤسي فَوَا حَرجِي
وإن نُقِلتُ إلى نُعمَى فطُوبَى لِي
وكان الحاكم يسمع وهو محتار، فقال إسماعيل:
وسيسمع مولانا أوضح:
وإنْ صَدِئتْ أَرواحُنَا فِي جُسُومِنا
فيُوشِكُ يومًا أن يُعاوِدَها الصَّقْلُ
•••
واللهُ يَنقُلُ من شَا
ءَ رُتبةً بَعدَ رُتبَهْ
وقد أملى عليه قصيدةً طويلة على التاء في المرأة كأنه استمدها من «السجل المكرم»
فأَلتمِس من مولانا أن يُشرِّفها بالمطالعة في خَلوَته، وقد قال لي: مولانا الحاكم، سلمه
الله،
عرف جرثومة الشَّر فسدَّ على الحيَّة باب الجُحر، أطال الله مُدَّته.
وأخذ الحاكم القصيدة وكأنه غير مُنتبِه، وتَحرَّكَت شفتاه ولم يعلم أَحدٌ ماذا قال
… ثم التفَت
إلى الداعي وقال:
– ألم يقُل غير هذه القصيدة؟
– بلى يا مولانا، هو عدو المرأة الألدُّ.
فطابت نفس الحاكم للحديث فقال: أَسمِعنا.
فقال إسماعيل:
لا تَتبَعنَّ الغانياتِ مُماشيًا
إن الغواني جَمَّةٌ تَبِعاتُها
واحذَرْ مَقَالَ النَّاسِ إنَّك بينَها
سِرحانُ ضأنٍ حين غابَ رُعَاتُها
ودَعِ القِراءةَ إن ظنَنتَ جَهيرَها
ذَكرَتْ به الحاجاتِ مُستمِعاتُها
فالصَّوتُ هَدْرُ الفحلِ تُؤنِسُ رِكزَهُ
آلافُه فتُجِيب مُمتنِعاتُها
•••
إذا بَلغَ الوليد لديك عشرًا
فلا يدخلْ على الحرمِ الوَلِيدُ
فإن خالَفتَني وعَصَيتَ أَمرِي
فأنتَ وإن رُزقتَ حِجًى بَلِيدُ
ومَن جَمعَ الضَّرَّاتِ يَطلُبُ لذَةً
فقد باتَ في الأَضرار غيرَ سَديدِ
وإن يَلتمِسْ أُخرى جَديدًا لحاجةٍ
فلا يَأمنَنْ منها ابتِغاءَ جَديدِ
ويقول، يا مولانا، في المرأة والحمام:
نَصَحتُكِ أَجْسامُ البريَّةِ أجناسٌ
وخيرٌ من الأَعراسِ بُرسٌ وعِرناسُ
ولا تَلجِي الحمَّامَ قد جاءَ ناصحٌ
بتحريمِه من قبلِ أن يَفسدَ الناسُ
فكيفَ به لما اغتدَى في طريقِهِ
رَجيبٌ وحوَّاشٌ وتنجٌ وأشناشُ
تخافِين شيطانًا من الجن ماردًا
وعندكِ شيطانٌ من الأنسِ خَنَّاسُ
ووافَقتِ الأبياتُ هوى الحاكم لأنه منع كل هذا، ولَحِظَ ذلك إسماعيل فقال:
تزوَّجَ بعد واحدةٍ ثلاثًا
وقال لِزوجِه يَكفيكِ رُبعِي
فيُرضِيها إذا قَنعَتْ بِقُوتٍ
ويَرجُمُها إذا مالَتْ لِتبعِ
ومن جمَع اثنتَين فما تَوخَّى
سبيلَ الحقِّ في خُمسٍ ورُبعِ
وعَقلُكَ يا أخا السبعينَ واهٍ
كأنك في مَلاعِبِكَ ابنُ سَبعِ
ظَلَمتَ وكلُّنا جانٍ ظَلومٌ
وطبعُكَ في الخِيانةِ مِثلُ طَبعِي
فتذكر الحاكم كلمة جَدِّه «واحدةٌ تكفيكم» وقال: يا سبحان الله! فقال إسماعيل:
لا تَجلِسَنْ حُرَّةٌ مُوفَّقةٌ
مع ابنِ زَوجٍ لها ولا خَتَنِ
فذَاكَ خَيرٌ لها وأَسْلَمْ للْـ
إنسانِ إنَّ الفَتَى مَعَ الفِتَنِ
ويقول:
هَلْ قَبِلَتْ من ناصحٍ أمةٌ
تَغْدو إلى الفصحِ بِصُلبانِها
كنائسٌ يَجمَعُها وصلةٌ
بَينَ غَوَانِيهَا وشُبَّانِها
ما بَالُها عَذراءَ أو ثيِّبًا
كوَردةِ الجاني بأبَّانِها
راحَت إلى القِسِّ بتقريبها
وبَيتُها أَوْلى بِقُربَانِها
قد جرَّبَت من فعلِه سيئًا
والطِّيب جارٍ بجُربَانها
ورَبَّها تُسخِط بل زَوجها الْـ
سائسَ في طاعةِ رُبَّانِها
وزارَتِ الدَّيرَ وأَثوابُها
ضَامنةٌ فتنةَ رَهبانِهَا
وقال الداعي: أمَّا الخمرة يا مولانا، فهو أَلدُّ أعدائها وعلى دين مولانا في كرهها
وتحريمها، هو على دينك في كل مذاهبه، هو حَواريُّك.
فابتسم مولانا هذه المرة ولم يَمتعِض بل قال للداعي: كذا تقول؟
فأجابه الداعي: نعم يا مولانا، نعم، وإذا شئتَ فأُسمِعك ما يقول فيها:
البابليَّةُ بابُ كل بليَّةٍ
فتوقَّينَّ هُجومَ ذاك البابِ
وإذا تأمَّلتَ الحوادثَ أُلفيتْ
صُهبُ الدِّنانِ أَعاديَ الأَلبابِ
•••
قُل لِلمُدامة وهي ضدٌّ للنُّهَى
تنضُو لها أبدًا سُيوفُ مُحاربِ
لو كان لم يحظرْكِ غيرَ أذيَّةٍ
شيءٌ لبتِّ مُبَاحةً للشَّارِبِ
لكن حمَاكِ العقل وهو مُؤمَّرٌ
فانأَيْ وَراءَك في الترابِ التاربِ
ويقول:
هي الرَّاحُ أَهلٌ لِطُول الهِجاءِ
وإنْ خصَّها مَعشر بالمَدحِ
قبيحٌ بمن عدَّ بعض البِحَارِ
تَغريقُه نَفسَه في قَدَح
ويقول:
أيأتي نبيٌّ يَجعلُ الخمرَ طِلقةً
فتَحمِلَ ثُقلًا من هُمومِي وأَحزَانِي؟
فقَطَّب الحاكم عند سماعه هذا البيت، أمَّا إسماعيل فأتم:
وهيهاتِ لو حلَّتْ لما كُنتُ شَاربًا
مُخفِّفةً في الحِلمِ كِفَّةَ مِيزانِي
ونُفِخ في البوق إيذانًا بالطَّواف، فانصَرف الحاكم مسرورًا جدًّا، وقال لإسماعيل:
تعود
غدًا أيضًا، فانصَرف إسماعيل من الحَضرة وهو ظانٌّ أنه صَرفَ الحاكم عن استدعاء أبي العلاء.