الليلة الأخيرة
وفي الليلة السابعة والعشرين من شوال سنة ٤١١ كان الداعي إسماعيل مُنتصِبًا لدُن الحاكم
بأمر الله، ومولانا الحاكم مُضطرِبٌ كئيب. وكان سكوتٌ وكان كلامٌ فقال الداعي: ويقول
في
البعث والحساب:
قالوا جَهنَّم قلتُ إن شِرارَها
ولَهِيبَها يَصلاهُما المُتشَرِّرُ
لا تُخبِرنَّ بِكُنهِ دِينِكَ مَعشرًا
شُطُرًا وإن تَفعلْ فأنت مُغرِّرُ
ويقول في البعث أقوالًا ذاتَ باطنٍ وظاهر وهذا أسلوبه في بث أفكاره:
لو هَبَّ هُجَّادُ قَومٍ في الثَّرى سَكَنوا
لَضَاقَتِ المُدْنُ والبِيدُ الأَمَالِيسُ
ويقول:
لو صَحَّ ما قالَ رسطالِيسُ مِن قِدَمٍ
وهبَّ مَن ماتَ لم يَجْمعْهُمُ الفَلَكُ
ويقول:
لو قَامَ أَمْواتُ «العَواصِمِ» وَحدَهَا
أَعْيَا المَحلُّ علَى المُقيمِ السَّاكِنِ
لَغَدَوْا وقَد مَلأَ البَسيطَةَ بَعضُهمُ
ورَأَيت أَكثَرَهُم بِغَيرِ أَمَاكنِ
ويقول:
وأَعجَبُ ما تَخشاهُ دَعوةُ هاتفٍ
أتيتُم فهُبُّوا يا نِيامُ إلى الحَشرِ
فيا ليتَنا عِشنَا حياةً بلا ردًى
يَدَ الدَّهرِ أو مُتنَا مَماتًا بلا نَشرِ
ويقول:
وقِيلَ لا بَعثَ يُرجَى لِلثَّوابِ ومَا
سمعِتَ من ذاكَ دَعوَى مُبطِلٍ هَزَلَا
وكيف لِلجِسم أن يُدعَى إلى رَغَدٍ
مِن بَعدِ ما رَمَّ في الغَبراءِ أو أَزِلَا؟
وهل يَقومُ لِحَملِ العبء من جَدَثٍ
ظَهرٌ وأَيسَرُ ما لاقَاه أن جُزِلَا؟
ويقول:
إذا حان يَومِي فلْأُوسَّدْ بِموضِعٍ
منَ الأرض لم يَحفِرْ به أَحدٌ قَبرَا
فيا ليتَني لا أَشهَد الحَشرَ فِيهِمُ
إذا بُعِثُوا شُعثًا رُءوسُهُمُ غُبْرَا
ويقول:
قَالَ المُنجِّم والطبيبُ كِلاهُما
لَا تُبعَثُ الأمواتُ قلتُ إليكُما
إن صحَّ قولُكُما فلَستُ بِخاسرٍ
أَوْ صحَّ قَولي فالخَسارُ عليكُما
ويقول في هذا أخيرًا، وأَلفِت نظَر مولانا إلى ما فيه:
إن كنتَ صاحبَ جَنَّةٍ في رَبوةٍ
فتَوَقَّ أن يَنتابَها إِعصارُ
لم أُسمِعْكَ يا مولانا، إلا نُتَفًا من قصائد، ولو أردتُ أن أتلُو على مسامعِك العُلوية
كل ما
نَقَلتُ عن الشيخ لانقضى الليل، ولكن لا بُد من إطلاعِكَ على بعض ما يقول في التحول:
أَتَيتُ لي خالقًا حكيمًا
ولَستُ من مَعشرٍ نُفاةِ
خَبَطتُ في حِنْدِسٍ مُقيمٍ
وأَعجَزَتْ علَّتي شُفاتِي
فمِن تُرابٍ إلى تُرابٍ
ومن سُفَاةٍ إلى سُفَاةِ
ويقول:
الغَيبُ مجهولٌ يَحارُ دَليلُهُ
واللُّبُّ يأمُر أهلَهُ أن يتَّقُوا
لا تَظلِموا الموتى وإن طالَ المَدَى
إنِّي أَخَافُ عَلَيكمُ أن تلتَقُوا
أمَّا مذهبنا فاسمع ماذا يقول فيه، وكيف يدعو إليه:
و«الخيرُ» أفضلُ ما اعتقدتَ فلا تكُن
هَملًا، وصلِّ بقِبلةٍ أو زمزمِ
فصاح الحاكم: حيَّ على خير العمل، بارك الله فيه. هو مِنَّا، هو من «أهل الخير».
فقال الداعي: ويقول أيضًا مُلمِّحًا إلى دعوتنا:
بني زمَني هل تعلَمون سَرائرًا
عَلِمتُ ولكنِّي بها غيرُ بائحِ
مَتى ما كشَفتُم عن حَقائقِ دِينكمْ
تَكشَّفتُمُ عن مُخزِياتِ الفَضَائحِ
فهتف الحاكم: صانه الله، ولا كَشَف له سِترًا.
فقال إسماعيل: وإليك قولًا لا التباس فيه:
دعا مُوسى فزالَ، وقام عيسى
وجاء محمدٌ بصلاةِ خَمسِ
وقيل يجيء دينٌ غيرُ هذا
وأَودَى النَّاسُ بين غدٍ وأمسِ
فمَن لِي أن يعودَ الدينُ غَضًّا
فيَنقَعَ من تَنَسَّك بَعدَ خَمسِ؟
فأَبرقَت عينا الحاكم حين سَمِع البيت الأخير. وأدرك إسماعيل في تلك اللحظة شيئًا
لم
يُدرِكه من قبلُ، فصاح الحاكم: هِيهِ يا إسماعيل! فتماسك الداعي بعد تَزعزُع وقال:
ومهما كان في دُنياكَ هذي
فما تُخلِيكَ من قمرٍ وشمسِ
إذا قُلتُ المُحالَ رفعتُ صَوتي
وإن قُلتُ الصَّحيحَ أطلتُ هَمسِي
فهتف الحاكم: لا بد من مجيئه إلينا رضي أم أبى.
فانحنى إسماعيل مُتضرعًا: رُحماك مولانا، دعه في وَحدَته ينشر تعاليمكم؛ فهو هناك
أنفع
لنا منه هنا، ماذا يستفيد شيخٌ مثله من «دار الحكمة» وهو الذي يقول في العقل:
فشاورِ العقلَ واترُك غَيرَه هَدرًا
فالعَقلُ خيرُ مُشيرٍ ضمَّه النَّادِي
•••
عليكَ العقلَ وافعَلْ ما رَآهُ
فإن العقلَ مُشتارُ الشوارِ
ولا تَقبَلْ من التَّوراة حُكمًا
فإنَّ الحقَّ عنها في تَوارِ
•••
النَّاسُ مختلفون، قِيلَ المَرءُ لا
يُجزى على عملٍ وقيل يُجازَى
واللهُ حَقٌّ في تَدبُّر أَمْرِهِ
عَرَفَ اليقين وآنَسَ الإعجازَا
فاسأَلْ حِجاكَ إذا أردتَ هِدايةً
واحبِسْ لِسانَكَ أن يقُولَ مَجازَا
•••
سَأتبَعُ من يَدعُو إلى الخيرِ جاهدًا
وأَرحَلُ عنها ما أَمَامي سِوى عَقلِي
وأَشعُر أن العَقلَ يَصحبُ تارةً
ويَنفِرُ أُخرى وَهْو غَيرُ مُليمِ
وقال أُناسٌ ليس عيسى مُقرَّبًا
فقِيلَ ولا مُوساكمُ بِكَليمِ
ويقول:
تَسَتَّروا بِأُمورٍ في دِيانَتِهِم
وَإِنَما دِينُهُمْ دِينُ الزَّناديقِ
نُكَذِّبُ العَقلَ في تَصديقِ كاذِبِهِم
وَالعَقلُ أَولى بِإِكرامٍ وَتَصدِيقِ
وأخيرًا ينضو كُلَّ لبسٍ ويقف على قمة «الدعوة» ويهتف بالناس:
أيُّها الغِرُّ إن خُصِصْتَ بِعَقلٍ
فاسأَلَنهُ فكُلُّ عَقلٍ نَبيُّ
وظن إسماعيل أنه أُوتي فَصلَ الخِطاب فالتَفتَ إلى الحاكم ولسانُ حالهِ كأنه يقول:
وبَعدَ هذا
ماذا؟ فإذا بالحاكم يقول: لا بُد من حضوره، ارجِع إليه يا إسماعيل، وقل له: الحاكِمُ
بأَمرِ
الله يُرِيد أن يُفضِي إليك بِسِر الأسرار، فبَدارِ بَدارِ … «المُهلة» تكاد تنتهي. آهِ
من
«النجم المشئوم» إذا طلَع!
لم يُدرِكْ إسماعيل ماذا عَنَى الحاكم ﺑ «النجم المشئوم» فقال: تسمح لي يا مولانا
أن أَتلُو
عليك ثلاثةَ أبياتٍ تُثبِت لك أن الرجل منا وفينا، وأنَّه يعرف أَسْرار «دار الحكمة»
جميعَها؟
اسمع كيف يُخاطِبنا وبأيِّ رِفق، بَينَا هو يُنازِل غَيرَنا بِحُججِه وبَراهِينِه.
فوَضَع الحاكم يدَه خَلفَ أُذنه، فقال إسماعيل:
نَبذتُمُ الأديانَ من خلفكم
وليس في «الحِكمة» أن تُنبَذَا
لا قَاضِيَ المِصرِ أَطعتُم ولَا الْـ
ـحَبْرَ ولا القَسَّ ولا المُوبَذَا
إن ذُكِرَت مِلَّتُكُمْ عِندَهُمْ
قال جَميعُ القَومِ لا حَبَّذا
فقال الحاكم: قد أَمَرتُ بإعداد بريدٍ خاصٍّ يحملك غدًا إلى مَعرَّة النعمان، فاستعد.
فمشى الداعي إسماعيل التميمي القَهقَرى حتى خرج من الحضرة، نَوَى في تلك اللحظة أن
يَتَوارى
في بلاد الشام إلى أن يَقضِيَ الله أمرًا كان مفعولا.
ونُفِخ في البوق فرَكِبَ الحاكم حِمارَه «القمر» وخرج كعادته، وانتهى به الطَّواف
إلى خَلوَته في
المُقطَّم فطَلَع «النَّجم المشئوم» ولم يَعُدِ الحاكم.