لا تضع البيض في سلة واحدة!
كان الجو عاصفًا هذا الصباح؛ ولذلك بعد أن انتهى الشياطين من تمريناتهم اليوميَّة جلسُوا في الشُّرفة الزجاجية العريضة، يرقبون اهتزاز أشجار الفاكهة في حديقة المقر السِّري. لم يكن هناك ما يفعلونه الآن. حتى مناقشاتهم الدائمة في السياسة الدولية توقفت. كانوا ينتظرون مغامرةً ما؛ فهم يعتبرون المغامرة نوعًا من الإجازة. وعندما يكونون بلا عمل فإنهم يعتبرونها نوعًا من العذاب، حتى إن «مصباح» قال: يبدو أن رقم «صفر» يعاقبنا بهذه الراحة، فنحن لم نتعود عليها.
ابتسمت «إلهام» وقالت: هذا صحيح، أقترح أن نطلب اجتماعًا معه لنعرف السبب.
فجأةً رنَّ جرس متقطِّع جعلهم ينظرون إلى بعضهم في فرح.
قالت «ريما»: ها هو يستدعينا، يبدو أنه سمع شكوانا.
ابتسموا جميعًا وهم يأخذون طريقهم إلى قاعة الاجتماعات في نشاط، فها هم أخيرًا سوف يقومون بإجازة. نفس الإجازة التي كانوا يفكِّرون فيها. لقد كان الجرس المتقطِّع يعني اجتماعًا سريعًا وخطيرًا، وهذا ما جعلهم يُسرعون إلى القاعة من جهة. ومن جهة أخرى كان شعورهم بالسعادة، فمثل هذا الاجتماع يعني أنه ليس اجتماعًا مطوَّلًا، إنه اجتماع سريع للحركة السريعة.
عندما دخلوا القاعة كانت كعادتها غارقة في ضوئها الهادئ. غير أن الذي لفت نظرهم لأول وهلة هو خريطة الوطن العربي التي كانت مُضاءة فوق اللوحة الإلكترونية. فبعد أن أخذوا أماكنهم بدءوا يفكِّرون فيما تعنيه هذه الخريطة، لقد فكَّروا جميعًا أن المغامرة سوف تكون في المنطقة العربية، لكنهم لم يستطيعوا تحديد المكان بالضبط.
كان «أحمد» قد استغرق في التفكير، ثم دارت عيناه على وجوه الشياطين ليعرف فيمَ يفكِّرون، وفي لَمْحة سريعة استطاع أن يعرف، لكنه كان يفكِّر بطريقة أخرى. ظلَّت أعين الشياطين معلَّقة بالخريطة المُضاءة التي لم تكن تحمل أيَّ تحديد، في نفس الوقت كانت آذانهم معلَّقة بأي صوت يصدر؛ في انتظار وصول صوت أقدام رقم «صفر».
لحظة ثم تغيرت الخريطة، وظهرت «إسبانيا» ومعها ظهرَ التساؤل على وجوه الشياطين. إلا أن «أحمد» ابتسم؛ فقد تأكَّد أنه كان يفكِّر بطريقة صحيحة.
بعد لحظات تغيَّرت الخريطة مرةً أخرى، وظهرت سويسرا، تحدُّها فرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلا أن التفاصيل تركَّزت في سويسرا وحدها، لقد ظهرت العاصمة «برن»، ومدن «جنيف»، و«زيورخ»، و«باسل»، ثم جبال «جورا» و«الألب»، وعددٌ من البحيرات الصغيرة، ونهر «الراين» و«الرون». وعلى الحدود السويسرية الإيطالية ظهرت بحيرة «لوجانو». كان الشياطين يتابعون هذه التفاصيل بسرعة ويختزنونها في ذاكرتهم؛ فهي في النهاية سوف تكون مجال تحرُّكهم.
مضت دقائق أخرى حتى بدأ القلق يسيطر عليهم. لكنَّ ضوءًا خافتًا لمع في أعلى الخريطة جعل الشياطين يعرفون أن رقم «صفر» يتلقَّى رسالة من أحد عملائه، تنفَّس الشياطين في ارتياح؛ إن هذه الرسالة تعني مزيدًا من المعلومات، وهذا يعني في نفس الوقت سرعة الحركة وسرعة الصدام، فما دامت المعلومات كافية فإن هذا يعني الوصول إلى الهدف مباشرة. تأخَّر وصول رقم «صفر» وبدأ القلق يعاود الشياطين، إلا «أحمد» الذي كان ينظر لهم مبتسمًا حتى إنهم نظروا إليه، وكادت «ريما» تسأله إلا أن صوت أقدام رقم «صفر» جعلها تتوقَّف في آخِر لحظة، ظلَّت أقدام رقم «صفر» تقترب أكثر فأكثر حتى توقفَت تمامًا، ومرَّت لحظة قبل أن يرحِّب بهم بصوته الهادئ الذي لا ينفعل أبدًا.
مرَّت لحظة أخرى قبل أن يقول: ربما لا تكون مغامراتنا على نفس الدرجة من الأهمية مع مغامرات كثيرة سبقَت، إلا أن أهميتها هذه المرة هي أن بطلها مواطن عربي.
صمت بعد هذه الكلمات؛ فقد تركها لتُعطي تأثيرها فيهم، وهذا ما حدث فعلًا، فقد ظهرت الدهشة على وجوههم، وبدا عليهم التحفُّز، وكان ذلك كافيًا حتى يعود مرة أخرى للحديث.
قال: لقد حدثت أغرب جريمة بَنْكية في تاريخ البنوك، وكان ضحيتها ثري عربي، لا نريد أن نذكر اسمه؛ فهذا ليس مهمًّا، إن المهم أن هذه السرقة يمكن أن تتكرَّر، وأنتم تعرفون أن الأثرياء العرب يمثِّلون مطمعًا لرجال العصابات، وهم طبعًا يعرفون ذلك ويفهمونه جيدًا.
صمتَ قليلًا ثم أكملَ بعد لحظة: لقد طلب الثري العربي من بنك «إسبانيا» أن يقوم بتحويل مبلغ عشرين مليونًا من الجنيهات إلى بنك «سويسرا» المركزي، وأجاب البنك أنه قد تم التحويل فعلًا، وعندما سأل في البنك المركزي اكتشف أنه لم يحدث التحويل. أعاد الاتصال بالبنك الإسباني، فأخبره أنه قد تحوَّل المبلغ منذ خمسة أيام تحت رقم «م–د–٨» وهو الرقم الشفري في البنك الخاص بالثري العربي.
كان الشياطين يتابعون كلمات رقم «صفر»، إن عشرين مليونًا ليست مبلغًا بسيطًا في رصيد فرد، هكذا كانوا يفكرون. لكن رقم «صفر» قطعَ عليهم تفكيرهم قائلًا: إن العشرين مليونًا من الجنيهات ليست مبلغًا ضخمًا في رصيد بنك يتعامل في مئات الملايين يوميًّا، لكن خطورة المسألة تكمن في: كيف تم تحويل هذا المبلغ؟ فإذا كانت هناك سرقة قد تمَّت، فهذا يعني أن البنك وربما بنوكًا أخرى غيره معرَّضة لنفس السرقة.
صمت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: إن الرقم الشفري «م–د–٨» لا يعرفه سوى صاحبه والمسئولين في البنك. أما الموظَّفون فإنهم لا يعرفونه. وهذا الرقم الشفري يمكن أن يقوم بصرف أو تحويل أي مبلغ يريده صاحبه — في حدود رصيده طبعًا — والتحويل يمكن أن يتم تليفونيًّا. إن ما يحدث هو أن رقمًا معيَّنًا يظهر كلَّ يوم في البنك لا يعرفه إلا المتعاملون معه. وعندما يريد عميل أن يصرف مبلغًا من المال فإنه يذكر رقم الصرف اليومي، ثم يذكر رقمه الشفري، فإذا كان الرقمان صحيحَين فإن المبلغ يتحوَّل تلقائيًّا.
وأنتم تعرفون أن البنوك اليوم أدخلَت نظام العقول الإلكترونية، فهي التي تقوم بالعمل لسرعة الإنجاز وعدم الخطأ؛ فالعقل الإلكتروني لا يخطئ أبدًا، ما دمتَ تغذِّيه بمعلومات صحيحة، وهذا ما حدث.
لقد اتصل الثري العربي بموظف البنك، وذكر رقم الصرف اليومي وكان ٩١٩٩٩١، فطلب منه الموظف رقمه الشفري فذكره له. في نفس الوقت هناك حجرة للمراقبة، أي تراقب ما يحدث، اسمها «الكونترول»، وهي التي تُعطي الأمر في النهاية. لقد عرفت حجرة الكونترول أن الرقم صحيحٌ. وهكذا يلقِّن موظفُ البنك العقلَ الإلكتروني بالمعلومات فيتم التحويل.
لكن في حالتنا هذه فقد قالت حجرة «الكونترول» إن المبلغ تم تحويله، وهذا صحيح من جهة، وغير صحيح من جهة أخرى؛ فهو صحيح لأنه قد تم التحويل فعلًا، وهو غير صحيح لأن الثري العربي لم يتلقَّ التحويل، فقد تلقَّاه آخَر لا يعرفه أحد. فكيف تمَّت هذه السرقة الغريبة التي تجاوزت كلَّ شيء، وضحكت على بنك من أكبر البنوك؟
ظهرت الدهشة على وجوه الشياطين أمام هذه اللعبة الذكية، في نفس الوقت كان رقم «صفر» قد صمتَ. فجأة لمعت بُقعة ضوء في أعلى الخريطة، فعرفوا أن هناك رسالة ما. ابتعدَت أقدام رقم «صفر» في الوقت الذي أخذ الشياطين فيه يراقبون الخريطة جيدًا. إن ما قاله رقم «صفر» يعني أن المبلغ اختفى في «سويسرا» بعد تحويله إلى البنك المركزي هناك. وظهر تساؤل: لماذا لا يُسأل البنك المركزي السويسري حتى تنتهي المشكلة؟ ظلَّ هذا التساؤل معلَّقًا، فمن الممكن سؤاله لرقم «صفر» عند نهاية الاجتماع.
كان «أحمد» مستغرقًا في التفكير، حتى إن «بو عمير» سأله: هل توصَّلتَ إلى شيء؟
نظر له «أحمد» في هدوء، ثم قال: هناك احتمال أن يكون أحد من داخل البنك على اتصال بعصابة ما، فلا أظن أن أحدًا يقوم بهذه المهمة وحده. كذلك لا أظن أن أحدًا من المسئولين في البنك يمكن أن يعرِّض نفسه لمثل هذا الموقف، لأن ذلك يقضي عليه نهائيًّا، بجوار أنه قد يقضي على سُمعة البنك.
كانت أقدام رقم «صفر» قد بدأت تقترب، فصمت الشياطين. وعندما توقفت تمامًا قال رقم «صفر»: إن معلومات جديدة جاءت من عميل لنا في «سويسرا»، إن صفقة ماس قد تمَّت، وإن حجم الصفقة يُساوي مبلغ خمسة عشر مليونًا من الجنيهات، وهذه الصفقة لا يقوم بها أفرادٌ عادةً؛ فلا بدَّ أن تكون شركة من شركات الماس. غير أن الذي اشترى هو فعلًا فرد.
صمت رقم «صفر» في نفس الوقت الذي غرق فيه الشياطين بحثًا عن علاقة الماس بالسرقة.
لكنه قطع عليهم تفكيرهم بقوله: قد تبدو المسألة غريبة، لكن لحظة تأمل واحدة تقول إن تحويل المبلغ المسروق إلى ماس يمكن أن يكون لعبة ذكية، فحجم الماس لن يزيد على كيلو ونصف، في حين أن الخمسة عشر مليونًا من الجنيهات يمكن أن تمثِّل مشكلة. في نفس الوقت عندما تتحوَّل الملايين إلى سلعة مثل الماس فإنها تكون قد خرجت من دائرة العمل البنكي إلى دائرة أخرى أكثر أمنًا.
ظهرت الدهشة على وجوههم؛ فهذه فعلًا ملاحظة شديدة الذكاء، هذا إذا كانت صحيحة فعلًا، لكن هذا كان مجرَّد افتراض قد يكون صحيحًا وقد لا يكون.
قال رقم «صفر»: هناك سؤال، لماذا لم يتم حتى الآن سؤال البنك المركزي السويسري؟
اتسعت أعين الشياطين دهشةً؛ فقد كان هذا السؤال هو نفسه ما فكَّروا فيه.
قال رقم «صفر»: أنتم طبعًا فكَّرتم في هذا السؤال. إن عالم البنوك عالمٌ سريٌّ، ولا يملك أي بنك أن يقدِّم أي معلومات عن عملائه أو عن أرصدتهم، بالإضافة إلى أن المبلغ الذي تم تحويله من البنك الإسباني قد أصبح داخل رصيدٍ آخَر في البنك السويسري.
أي إن المبلغ قد اختفى نهائيًّا. المهم أن نعثر على منفذ هذه اللعبة الذكية والخطيرة في نفس الوقت.
ثم صمت رقم «صفر».
وبدأ الشياطين يفكِّرون في خطة المغامرة، إن المعلومات التي لديهم الآن تكفي كي ينطلقوا إلى «سويسرا»، حيث دارت أغرب سرقة بنكية، وحيث تحوَّلت الملايين إلى ماس.
قال رقم «صفر» يقطع تفكيرهم: إنني في انتظار أسئلتكم.
مرَّت دقائق دون أن يسأل أحدٌ من الشياطين. وعندما بدأ رقم «صفر» يتمنَّى لهم التوفيق، ارتفع صوت «قيس» يقول: ربما يكون السؤال خارجًا عن محيط السرقة ذاتها، لكني أسأل لماذا يتوزَّع رصيد إنسان ما في عدد من البنوك؟
أجاب رقم «صفر»: إن هناك قاعدة تقول: لا تضع البيض كله في سلة واحدة، والمقصود أنك لو وضعتَ البيض كله في السلة ثم حدث لها شيء، فإنك سوف تفقد البيض جميعه. لكنَّك لو وزَّعتَ البيض في أكثر من سلة، فإن بعضه سوف ينجو إذا حدث شيء، ورأس المال كذلك. وصاحب رأس المال يقوم بتوزيعه في أكثر من بنك لأن أي مكان معرَّض لأي خطر، تمامًا كما حدث مع مواطننا العربي. فلو أنه وضع كل أمواله في بنك واحد فالمؤكد أنه كان سيندم الآن.
صمت لحظة، ثم قال: أظنك فهمتني.
ما كاد رقم «صفر» يقول جملته الأخيرة حتى لمعت بقعة الضوء مرة أخرى، فتحرَّك مبتعدًا حتى اختفى صوت أقدامه.
وقالت «زبيدة»: إنها معلومات جديدة في الطريق إلينا!
قال «عثمان»: هل يكون الجاني قد وقع، وهكذا تنتهي المغامرة؟
لم يرُدَّ أحد بكلمة، كانوا جميعًا يفكِّرون في العشرين مليونًا، وفي المواطن العربي. في نفس الوقت الذي كان «أحمد» ينظر فيه إلى خريطة سويسرا مستغرقًا في تفاصيلها، وكأنه يرسم في ذهنه خطة التحرُّك. كان «أحمد» يفكِّر: إن البنك المركزي السويسري يقع في «برن»، وفي نفس المدينة تمَّت صفقة الماس. غير أنها لا بد أن تخرج من «سويسرا» إلى مكان آخَر، وهو في الغالب واحد من ثلاث: إما إلى ألمانيا، أو إلى إيطاليا، أو إلى فرنسا.
توقَّف عن التفكير لحظةً، ثم رسم بيده على المنضدة التي أمامه موقع «سويسرا» بين الدول الثلاث، ثم توقف إصبعه عند نقطة ما على شاطئ بحيرة «لوجانو» التي تقع على الحدود بين إيطاليا وسويسرا، وقال في نفسه: إن هذه المنطقة مزدحمة بالسياح وطالبي الراحة، وينزل فيها كثير من أثرياء العالم.
وهي ذات حراسة خاصة لطبيعة النزلاء فيها، وهذا يعني أن الذي يذهب إليها يخضع لنفس الحراسة، ويكون في أمان.
رفع وجهه إلى سقف القاعة الأزرق الهادئ، وكأنه ينظر إلى مياه بحيرة «لوجانو». غير أن صوت أقدام رقم «صفر» جعله يُعيد النظر إلى حيث مصدر الصوت الذي جاء بعد قليل ليقول: إن الرسالة التي وصلت الآن تُعتبر مفاجأة؛ لأنها تكشف تمامًا كيف تمَّت السرقة.
ثم توقف رقم «صفر» عن الكلام، بينما كانت علامات التساؤل قد غطَّت وجوه الشياطين في انتظار المفاجأة التي أعلن عنها.