لقاء في «الكارلتون»!
قال رقم «صفر» بعد لحظة: إن بنك إسبانيا قام بعملية إصلاح للعقول الإلكترونية التي لديه منذ عدة أشهر، فعندما أعلن عن حاجته إلى تنفيذ ذلك تقدَّمت إحدى الشركات وهي «شركة العقول الإلكترونية» لتنفيذ ما طلبه البنك، وهذه المسألة عادية. غير أن عملاءنا بحثوا عن هذه الشركة فلم يجدوها. يبدو أنها شركة وهمية، أو أنها شركة تابعة لجهةٍ ما. ومن الممكن طبعًا أن تكون الشركة تابعة لإحدى العصابات، وعن طريق معرفة برنامج البنك وأرقامه السرية التي تعمل بها العقول يمكن أن تتم السرقة، فما معنى اختفاء الشركة إذا كانت واحدة من الشركات الكبرى والمعروفة بالفعل؟ وصمت رقم «صفر».
وتنفَّس الشياطين في ارتياح؛ فإن العمل مع العصابات أصبح تخصُّصهم، فكل مغامراتهم كانت ضد عصابات كبيرة مثل عصابة «سادة العالم» مثلًا، أو «الأصابع الذهبية»، أو غيرها من العصابات التي اصطدموا بها. وإذا كانت هناك عصابة تقف خلف شركة «العقول الإلكترونية» فإن ذلك يكون أسهل وأسرع، فإن شخصًا واحدًا يمكن أن يختفي ولا يظهر، لكن بالنسبة للعصابة فإن نشاطها الدائم يمكن أن يكون الطريق إليها.
أخيرًا أضاف رقم «صفر»: إنني أعرف كيف تفكِّرون الآن، فهذه ليست مهمة عسيرة بالنسبة لكم. غير أن المسألة أنها يجب أن تتم بسرعة حتى لا تتكرَّر. إن التقارير التي جاءتنا من العملاء تقول إن بنوك العالم بدأت في وضع خطة لتغيير برامج عقولها الإلكترونية، ورغم أن هذه عملية شاقة إلا أنها ضرورية.
توقف لحظة، ثم قال: أنتم تعرفون أن السرقة تمَّت في «سويسرا»، وأن صفقة الماس قد تمَّت هناك أيضًا، وهذا يعني أنكم عرفتم مجال مغامرتكم، إن مهمتكم قد تحدَّدت في البحث عن الشركة الوهمية.
توقف رقم «صفر» عن الاستمرار في الكلام؛ فقد لمعت بقعة الضوء في أعلى الخريطة، وبسرعة اختفى صوت أقدامه، والتقت أعين الشياطين في حديث صامت سريع، فقد وضح كل شيء أمامهم الآن. إن ما يفكِّرون فيه في هذه اللحظة هو الانطلاق إلى حيث يمكن أن يبدأ الصراع.
قطع تفكيرهم صوت أقدام رقم «صفر» وهو يقترب حتى توقَّف تمامًا، وقال: إن صفقة الماس التي تمَّت ظهرت في مدينة «لوجانو» على شاطئ البحيرة المشهورة، ويمكن أن تتم سرقة أخرى، أو عملية نصب أخرى واسعة. فأنتم تعرفون أن كثيرًا من أثرياء العالم يفضِّلون هذا المكان لجماله وهدوئه، وظهور الماس يمكن أن يظهر كتجارة عادية، لكنه يمكن أيضًا أن يكون مقدمة لجرائم أخرى.
صمت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: شركة العقول الإلكترونية كان مقرها مدينة زيورخ في سويسرا، هكذا قدَّمت الشركة أوراقها. والآن إنني في انتظار أسئلتكم.
ساد صمت في القاعة الهادئة، ولم يسأل أحدٌ من الشياطين أيَّ سؤال، وفي النهاية قال رقم «صفر»: أتمنى لكم التوفيق!
ثم أخذ صوت أقدامه يختفي حتى لم يعُد يُسمَع.
قال «مصباح»: علينا أن ننطلق الآن.
في دقائق كان الشياطين قد غادروا القاعة إلى حجراتهم لتجهيز حقائبهم السرية.
وعلى شاشة التليفزيون في حجرة «أحمد» جاءته أوامر رقم «صفر» يحدِّد المجموعة التي سوف تقوم بالمهمة، كانت المجموعة تضم: «أحمد»، «مصباح»، «بو عمير»، «قيس»، وعندما خرج من حجرته كان الثلاثة يتجهون معًا إلى حيث تقف السيارة التي سيركبونها، فانضم إليهم «أحمد». ولم تكَد تمضي دقائق حتى كانت السيارة تنطلق بسرعة وهي تتجاوز البوابة الصخرية للمقر. وعندما أُغلقَت البوابة في صوت مكتوم، كانت السيارة قد بدأت تغيب عن أعين بقية الشياطين في المقر، الذين كانوا يقفون في إحدى شرفاته المُطِلَّة على الطريق.
قال «قيس» الذي كان يجلس إلى عجلة القيادة: أعتقد أننا سوف نصل هناك مع غروب الشمس، هذا إذا وجدنا مقاعد في الطائرة.
ابتسم «أحمد» وهو يرد: إن المقاعد محجوزة منذ بدأنا الاجتماع، لقد أنهى رقم «صفر» اجتماعنا في التوقيت المناسب حتى لا يتأخر الوقت.
وتمامًا كما توقع «قيس»، كانت طائرة الخطوط الجوية السويسرية تنزل في مطار «زيورخ» مع غروب الشمس تمامًا، وغادر الشياطين المطار بسرعة، وفي خارجه كانت أشعة الشمس تكاد تنسحب من الوجود الذي كان يسبح في اللون النحاسي الذي خلفته الشمس. كان الجو بديعًا بعكس ما كان موجودًا خارج المقر السري. هذا الصباح في لحظة كان يقترب منهم أحد الرجال، ألقى عليهم تحية المساء، ثم قدَّم «لأحمد» سلسلة مفاتيح، وأشار إلى سيارة تقف قريبًا من الرصيف، ثم انصرف.
فأخذ الشياطين طريقهم إلى السيارة، وما إن فتح «بو عمير» الباب حتى رنَّ جرس التليفون الموجود في السيارة، أسرع يرفع السماعة ليسمع ما يُقال.
قال الطرف الآخَر: أهلًا بكم في «زيورخ»، سوف تنزلون في فندق «كارلتون». الحجرات ٨، ١٢، ١٤، ١٦. وأظن أنكم لن تظلوا طويلًا. تحياتي، أنا تحت أمركم. وُضِعَت السماعة في الطرف الآخَر، فوضع «بو عمير» السماعة، ثم نقل المكالمة إلى الشياطين.
جلس «مصباح» إلى عجلة القيادة، ثم ضغط زرًّا خاصًّا فتحرَّك مؤشر البوصلة يحدِّد موقع «الكارلتون»، انطلق بالسيارة في نفس اتجاه المؤشر، لم تكن الشوارع مزدحمة، وكانت الإضاءات الخافتة تميِّز الشوارع بهدوء كانوا يحتاجونه الآن؛ حتى يستعدوا للبداية بعد رحلة السفر الطويلة. بعد قليل ظهرت لافتة مُضاءة، قرأها «قيس»، وكانت هي نفسها لافتة «الكارلتون». دخل بالسيارة في مكان انتظار السيارات، فغادروها بسرعة، ثم أخذوا طريقهم إلى الفندق.
كان الفندق يعج بالنزلاء، حتى إن «مصباح» قال: أرجو أن نجد لنا صيدًا في هذا الزحام.
ولذلك فإن أحدًا منهم لم يتوجَّه إلى موظف الاستقبال مباشرة، فقد أخذوا ركنًا في الصالة الواسعة، وجلسوا حيث كان كثير من النزلاء في حالة أحاديث متناثرة. كان «أحمد» يمُرُّ بعينَيه فوق أوجه النزلاء، لكنه فجأة شعر بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة ما. وكانت ذبذبات معيَّنة تتردَّد، فعرف أن الرسالة من رقم «صفر». وضع يده على الجهاز في هدوء وكأنه يُخرج شيئًا من جيبه، وبدأ يتلقَّى ذبذبات الجهاز. لاحظ «بو عمير» ذلك إلا أنه انصرف عن متابعة «أحمد» حتى لا يلفت النظر إليه. مرَّت دقائق، أخرج «أحمد» بعدها يده من جيبه، ثم نقل إلى الشياطين الرسالة التي تلقاها.
كانت الرسالة تقول: «خبير العقل الإلكتروني متوسِّط العمر، رفيع جدًّا، يلبس نظارات بيضاء سميكة، غزير الشَّعر، يميل لونه إلى السُّمرة وكأنه من أمريكا الجنوبية، يتحدَّث بصعوبة؛ لأنه يثأثئ كثيرًا».
قال «بو عمير»: إنها رسالة جيدة، فهي يمكن أن تختصر لنا الوقت.
أصبح شغل الشياطين منذ هذه اللحظة هو مراقبة نزلاء الفندق، فربما كان بينهم هذا الخبير الإلكتروني.
ولقد فكَّر «أحمد»: إن العشرين مليونًا تحوَّلت إلى البنك المركزي السويسري في «زيورخ». وصفقة الماس تمَّت في «زيورخ» أيضًا، وهذا يعني أن احتمال وجود الخبير هنا كبير. لكن «أحمد» فكَّر في نفس الوقت: من الممكن أن يكون الخبير قد اختفى تمامًا من «زيورخ» بل من «سويسرا» كلها.
فجأةً وقف وهو يقول للشياطين: ينبغي أن نبدِّل ملابسنا الآن.
اتجه «قيس» إلى موظف الاستقبال، فأحضر مفاتيح الحجرات، وأخذوا طريقهم إلى المصعد، فاستقلوا واحدًا صعد بهم إلى الطابق الثامن عشر؛ حيث تقع حجراتهم. إن أرقام الحجرات كما هو مكتوب على الميدالية النحاسية تنتهي بحرف «ك»، ولذلك جاء الطابق مرتفعًا تمامًا. نزلوا في طابقهم ثم اتجهوا إلى حجراتهم. بعد ربع ساعة كانوا قد تجمَّعوا في حجرة «أحمد» التي كانت تطل على سلسلة من الجبال في منظر بديع. وقفوا جميعًا يشاهدون المنظر في نفس الوقت الذي كان الليل فيه قد غطى كلَّ شيء، فبدَت الجبال وكأنها أشياء غامضة لم يكن يظهر من تفاصيلها إلا تلك الأماكن التي يلمع فيها الضوء، فقد كانت هناك نقط إضاءة متناثرة في الجبال، وعلى مسافات متباعدة.
نظر «قيس» أسفل الشرفة، كانت هناك شرفة بلا سقف، ويبدو أنها كانت شرفة الطابق السادس. كان النزلاء يجلسون فيها وهم يوجِّهون أنظارهم تجاه الجبال، كان النزلاء واضحين تمامًا تحت الإضاءة المتوسطة. واستطاع «قيس» أن يحدِّد بينهم بعض العرب، بعضهم بملابسهم التقليدية، والبعض الآخَر بالملابس الأوروبية، وإن كانت ملامحهم لم تخفَ عليه، خصوصًا وأن بعضهم كان يربِّي لحيته بطريقة أنيقة. فكَّر: هل يمكن أن يكون هناك حالة نصب بين هؤلاء؟
لفت نظر الشياطين إلى الشرفة، وحركة الخدم وهم يقدمون طلبات النزلاء، ثم أخذ طريقه إلى داخل الحجرة، وعاد بعد لحظة وهو يحمل منظارًا مكبِّرًا وضعه فوق عينَيه، ثم أخذ يستعرض النزلاء في محاولة لأن يعثر على شيء، توقف عند اثنين في ركن منعزل، كانا يتحدثان باهتمام.
أَخرَج من جيبه فراشة دقيقة، ثم وجهَّها إلكترونيًّا وأطلقها، وهمس «لأحمد»: فليراقب أحد الفراشة، إنني أحاول أن أستمع إلى حديث الرجلين. ثم أشار إليهما.
راقبَ «أحمد» الفراشة التي طارت في اتجاههما، ثم دخلت أسفل المنضدة الصغيرة التي تفصل بينهما. وضع «أحمد» جهاز التوجيه الإلكتروني على أذنه، وبدأ يستمع إلى حديث الرجلين. كان الشياطين قد انهمكوا في مراقبة النزلاء، وسمع «أحمد» الحوار الذي يدور:
– إن مثل هذه الصفقات تحتاج إلى وقت، فأنت تعرف طبيعة الناس في هذه المناطق.
– نعم، لكن السوق يحتاج إلى هذه المواد هناك، وقد جاءتني رسالة تقول إن السوق يحتاج الآن بشدة لكل أنواع المأكولات المجمدة.
ظلَّ الحوار بين الرجلين يدور حول الأطعمة وتصديرها إلى منطقة الشرق الأوسط، فعرف «أحمد» أنها مجرد صفقة عادية، فاستعاد الفراشة بطريقة التوجيه.
فجأة همس «قيس»: هل ترون الرجلين الجالسين على اليسار في أقصى الشرفة وعند حافتها؟
جرت أعين الشياطين إلى حيث حدَّد «قيس» المكان. علَتِ الدهشة وجوه الشياطين؛ كان يجلس رجلان تكاد تقترب ملامحهما تشابهًا، أحدهما يلبس الملابس العربية، والآخَر يلبس قميصًا وبنطلونًا. توقَّفَت أعين الشياطين عند الرجل لابس القميص، كانت أوصاف خبير العقول الإلكترونية تنطبق عليه تمامًا، فهو رفيع جدًّا، أسمر اللون، يلبس نظارات سميكة وإن كانت ليست بيضاء، غزير الشعر.
قال «بو عمير»: كأنه هو!
أسرع «أحمد» بتوجيه الفراشة في اتجاههما حتى اختفت، ثم بدأ يستمع إلى حديثهما الذي ينقله جهاز الإرسال الدقيق الذي تحمله الفراشة.
كان الرجل الرفيع يضحك بصوت خشن لا يتناسب مع حجمه الضئيل، ثم قال بلغة إنجليزية سليمة دون أي عيب في النطق: إن ما قدمته لك يا سيدي لا يعدو أن يكون مجرَّد عينة، إن لدينا أحجامًا أكبر، وأنت تعرف أن هذه الأحجام الكبيرة نادرة.
قال الرجل العربي: لا بأس دعنا نرَ.
ضحك الرجل الرفيع مرة أخرى، وقال: إن ذلك يحتاج منا إلى رحلة ممتعة.
تساءل العربي: إلى أين؟
قال الرجل: إنني أدعوك إلى رحلة في بحيرة «لوجانو»، أظنك لم تشاهدها من قبل، إنها من أجمل بقاع «سويسرا».
قال الرجل العربي: إنها مكاني المفضل، ولا يكاد يمُرُّ عام دون أن أقضي هناك بعض الوقت.
ضحك الرجل، وكان يضحك كثيرًا: إذَن لقد اتفقنا و…
فجأة علَت الدهشة وجه «أحمد»؛ فقد ثأثأ الرجل، وأخذت ألفاظه تتلكأ فتبدو مضحكة، مما جعل الرجل العربي يضحك فعلًا. وأضاف الرجل: إذَن حتى نلتقي.
ثم نهض واقفًا، فوقف الرجل العربي وهو يقول: سوف أكون هناك يوم الأربعاء، أيْ بعد يومين، إنني أنزل في فندق «الشيراتون».
قال الرجل وهو يشد على يده مودِّعًا: لقاؤنا هناك إذَن، إلى اللقاء.
ثم انصرف.
كان الشياطين يراقبون ذلك كله، فقال «أحمد»: «مصباح» يسرع بمراقبته.
قفز «مصباح» خارجًا من الحجرة ليلحق بالرجل، في نفس الوقت الذي ظلَّ فيه «أحمد» يراقب الرجل العربي الذي جلس وحده، استعاد «أحمد» الفراشة، وانتظر. إن «مصباح» يمكن أن يكون بداية المغامرة.
مرَّت عدة دقائق، ولم يكن «مصباح» قد ظهر بعدُ، ولم يكن الرجل العربي قد غادر مكانه، لكن فجأةً دخل «مصباح» مُسرعًا، وكان يبدو حزينًا بعض الشيء.
سأله «قيس»: هل …؟ ولم يكمل سؤاله، فقد رفع «مصباح» يده وهو يقول: «لقد اختفى الرجل!»