دعوة إلى مشارف الجبل!
كان «مصباح» يدرك ذلك من البداية؛ فقد وضع في حسابه أن الرجلَين لم يكونا وحدهما، ولذلك فإن صوت أول طلقة كان كفيلًا بأن يجعله ينبطح بسرعة على الأرض خلف السرير. في نفس الوقت كان «بو عمير» قد انزلق إلى الأرض هو الآخَر، لكنه لم ينتظر؛ فقد ترك «مصباح» يتعامل مع الهجوم الجديد، وأخرج إبرة مخدِّرة بسرعة فأطلقها على الرجل الأول، فاستغرق في النوم. ثم أطلق أخرى على الثاني فأصبح بلا حراك. كان «بو عمير» يدرك أنهما سوف يكشفان وجوده هو و«مصباح» فلجأ إلى الإبر المخدِّرة. لم يطلق «مصباح» أي طلقة، فقد تعامل مع الهجوم الجديد بالصمت. كانت الطلقات التي أطلقت من النوع الكاتم للصوت فظل ينتظر ظهور أحد.
مرَّت دقائق، وكانت الطلقات قد توقفت، جاء صوتٌ يُنادي في همس: أين؟ أين أنت؟
ولمَّا لم يسمع صوتًا، همس مرة أخرى: كامي. ألستما هنا؟ ولم يجبه سوى الصمت.
لحظة ثم ظهرت فوهة مسدس تسبق صاحبها، جهَّز «مصباح» مسدسه في انتظار ظهور صاحب المسدس، مرَّت لحظات ثم ظهرت قدم الرجل. وضع «مصباح» إصبعه فوق الزناد … توقَّفَت القدم قليلًا، ثم ظهر وجه الرجل، ظلَّ يتلفَّت يمنة ويسرة، ثم بدأ يدخل بجسده.
انتظر «مصباح» حتى أصبح الرجل يقف في فتحة الباب بكامله. كان الترقُّب يظهر على وجهه. فجأة ظهرت الدهشة عليه، وتراجع بسرعة، حتى لم يعُد يظهر منه شيء. سمع «مصباح» همسًا لم يستطع أن يفهم منه شيئًا. أغلق الباب قليلًا.
فكَّر «مصباح» بسرعة: لا بد أن معه آخَر، هل يقومان بهجوم مفاجئ؟
انتظر لحظة، ثم نظر إلى «بو عمير» وأشار إليه إشارات فهمها، زحف «بو عمير» في اتجاه الشرفة، وكانت عينا «مصباح» على الباب خوفًا من حدوث مفاجأة، لكن الباب ظلَّ مفتوحًا.
فكَّر لحظة: هل يقوم بحركةٍ ما تكشف مَن يقف في الخارج؟ أم يتركه حتى يكشف نفسه بأي حركة يقوم بها؟ واختار أن يظلَّ ساكنًا.
فجأةً دقَّ جرس جهاز الاستقبال، وكانت هذه حركة كافية ليظهر أحد، وهذا ما حدث فعلًا، فبعد أن توقف جرس الجهاز، ظهرت فوهة المسدس من جديد. راقب «مصباح» حركة المسدس الذي لم يتقدَّم أكثر من ذلك، كان جهاز الاستقبال قد سجَّل الرسالة، لكن «مصباح» لم يستطع الحركة ليعرف ما بها، استخدم جهازه الخاص فأرسل رسالة إلى أحمد. لكن فجأةً ظهر جزء من وجه أحد الرجال، غير أنه لم يظهر في الباب، لقد ظهر في جانب الشرفة، وهذا ما توقَّعه «مصباح» وما أشار إلى «بو عمير» به. ألقى نظرة سريعة إلى «بو عمير» الذي هزَّ رأسه علامة أنه يرى كلَّ شيء، وأنه ينتظر اللحظة المناسبة. ظهر جزء أكبر من الوجه، كان يتحرك بحذَر، لكنه لم يكن يعرف أنه مكشوف للشياطين تمامًا.
جاء الرد من «أحمد»، فاستقبله «مصباح»، كان يقول: «نحن في الطريق».
كان «مصباح» قد أرسل رسالة موجزة يقول فيها إنه و«بو عمير» مشتبكان في معركة، ولذلك أسرع «مصباح» يرسل رسالة أخرى يحدِّد فيها الموقف بالضبط حتى يتصرَّف «أحمد»، وحتى لا يقع في أيدي الموجودين خارج الحجرة.
ظهر رجل الشرفة كاملًا الآن، كان يتقدَّم ببطء، أصبح يقف عند الباب الفاصل بين الحجرة والشرفة، كانت هذه لحظة مناسبة حتى يصطاده «بو عمير»، وقد كان «مصباح» مشغولًا بمراقبة باب الحجرة الخارجي. فجأةً كان الرجل يضغط زناده بعد أن وجَّه المسدس في اتجاه «بو عمير» الذي استطاع في اللحظة المناسبة أن يتحرَّك من مكانه، فأصابت الطلقة جانبًا من السرير واختفى الرجل.
في نفس الوقت جاءت من الباب الخارجي طلقات على أثر سماع الطلقة التي أطلقها رجل الشرفة، لكنها كانت طلقات طائشة، فقد أطلقها صاحبها لتخويف الشياطين أو إرهابهم. غير أن أحدًا منهما لم يرُدَّ على الطلقات، فقد ظلَّا صامتَين في انتظار فرصة أحسن. في نفس الوقت عرف «مصباح» و«بو عمير» أن الرجال قد اكتشفوا وجودهم داخل الحجرة.
مرَّت دقائق دون صوت، فزحف «مصباح» في اتجاه الباب حتى أصبح عند نهايته، ثم دفعه برفق حتى يضطر مَن بالخارج إلى عمل أي حركة، لكن لم يحدث، ففهم أن الموجودين قد انصرفوا. جذب «فوطة» من فوق السرير، ثم كورها في شكل كرة، وقذف بها من الباب، لكن أحدًا لم يرد. فكَّر قليلًا: ربما يكون أحد في الخارج لكنه ينتظر فرصة أفضل.
فجأة جاءته رسالة من «أحمد»: «نحن في الفندق الآن».
ردَّ بسرعة: انتظر قليلًا.
اقترب من الباب، ونظر إلى الخارج، لكنه لم يجد أحدًا، وكانت «الفوطة» ملقاة في الممر. خرج في حذَر لكنَّه لم يرَ أحدًا، عاد إلى الحجرة بسرعة، ثم تحدَّث إلى «بو عمير» بلغة الشياطين. تحرَّك «بو عمير» إلى الشرفة في حذَر، لكنه في النهاية لم يجد أحدًا. عاد إلى «مصباح» فنزلا معًا بسرعة إلى حيث يوجد «أحمد» و«قيس» بعد أن أغلقا الشرفة والحجرة جيدًا. في الصالة الواسعة كان يجلس «أحمد» و«قيس» في انتظار استدعاء «مصباح»، لكنهما فجأةً وجدا «مصباح» و«بو عمير» أمامهما.
سأل «أحمد»: ماذا حدث؟
شرح له «مصباح» كلَّ ما دار، وأنهى حديثه بقوله: هناك اثنان في الحجرة مشدودا الوثاق.
أسرع «أحمد» إلى حجرته وخلفه الشياطين. لم يكن المصعد موجودًا، حاولوا استخدامَ أيٍّ من المصاعد الخمسة، إلا أنه لم يكن أيٌّ منها موجودًا. فكَّر «أحمد» بسرعة: هل يستخدم السلم؟ إن الطابق الذي ينزلون فيه هو الخامس عشر، فهل يصعدون خمسة عشر طابقًا؟
توقَّف عن التفكير لحظة، في نفس الوقت الذي تحدَّث فيه «قيس»: إن هناك شيئًا غير عادي، فلا يمكن أن تتعطَّل المصاعد كلها، ولا يوجد عامل من عمَّال المصاعد.
أسرع «مصباح» إلى استعلامات الفندق، وتحدَّث إلى الموظف الذي أقبل بسرعة. وحدث هرج في الصالة؛ فهذه أول مرة تتعطَّل فيها المصاعد دفعة واحدة. فجأةً لمعت في لوحة الأدوار أرقام متتالية، وكان هذا يعني أن المصاعد قد تحركت. وصل أحد المصاعد فاندفع الشياطين داخله برغم زحام النزلاء، وارتفع المصعد بسرعة حتى الطابق الخامس عشر. انطلق الشياطين إلى حجرة «أحمد» التي كانت لا تزال مغلقة، وفتحها بسرعة ثم دخلوا، وكانت المفاجأة أن الرجلين غير موجودين، ووقف «مصباح» ينظر في دهشة، في نفس الوقت الذي اندفع فيه «بو عمير» إلى الشرفة التي كانت مغلقة هي الأخرى.
قال «أحمد»: هل توجد مصاعد أخرى؟
مرَّت لحظة صمت قبل أن يقول «قيس»: مصاعد الخدمة، لا بد أنها في خلفية الفندق.
أسرع «قيس» خارجًا في نفس الوقت الذي رفع فيه «أحمد» سماعة التليفون ليتحدَّث إلى استعلامات الفندق، وبعد كلمات قليلة وضع السماعة، ثم قال: لا بد أنهم استخدموا مصاعد الخدمة.
عاد «قيس» قائلًا: نعم، توجد مصاعد كما توقَّعت.
فقال «أحمد»: يبدو أنهم استخدموها. ثم أضاف بعد قليل: هذا لا يعني أننا فقدنا كلَّ شيء. إن ما حدث يعني شيئًا واحدًا، أننا مُراقَبون، خصوصًا وأن أحد الرجلين قد طلب من «مصباح» أن نبتعد عن «سعد».
قال «بو عمير»: أعتقد أكثر أننا مُراقَبون في كل لحظة، ولا أستبعد أن تكون المراقبة قد شملت لحظة ذهابنا إلى حيث مقر «شركة العقول الإلكترونية»، بل ربما تكون موظفة الاستعلامات واحدة منهم.
جلس الشياطين صامتين، لكنَّ كلًّا منهم كان يفكِّر فيما حدث. أخيرًا قال «أحمد»: إن ما حدث في صالحنا تمامًا، ونحن لم نخسر شيئًا، نحن كسبنا أشياء. وما داموا قد ظهروا فهذا يعني أننا نسير في الطريق الصحيح، وأننا سنقابلهم حتمًا. وسكت لحظة ثم أضاف: هيا بنا نتناول بعض المرطبات، إنني في حاجة إليها. ومَن يدري؟ قد نشرب المرطبات في صحتهم! قال ذلك ثم ابتسم.
نزل الشياطين إلى صالة الفندق، ثم أخذوا طريقهم إلى الكافيتريا، كانت قليلة النزلاء فجلسوا في ركن فيها، وطلبوا بعض المثلجات، وعندما أحضرها الجرسون وقف يتحدَّث إليهم، مع أن هذه ليست عادة العمَّال في الفندق. كان الجرسون ظريفًا حتى إنه أضحكهم كثيرًا.
وعندما ابتعد عنهم قال: إنني في خدمتكم في أي لحظة. ثم أخرج كارتًا عليه عنوانه ورقم تليفونه! هذه حركة لفتت نظر الشياطين.
غير أن «بو عمير» قال: إنني أعتقد أنها مسألة عادية؛ فهو يعرض خدماته ومصاحبته لنا في جولتنا، لكن ذلك لن يكون بلا أجر، إنه في النهاية سوف يتقاضى أجره منا.
لكن ذلك لم يغِب عن «أحمد»؛ فقد أخذ يتابعه في حركته. كان الرجل كثير الوقوف عند الزبائن يتحدَّث إليهم، ويرسل نكاته، فترتفع الضحكات. حتى إنه قال: يبدو أن هذه طبيعة فيه، فهو يتحدث مع كل الموجودين.
مرَّت نصف ساعة، واختفى الجرسون فترة، ثم ظهر وقد أبدل ملابسه، واقترب منهم يحييهم، وقال: أرجو ألا تكونوا قد نسيتم «بوش» … إنه أنا.
ابتسم الشياطين، بينما غرق هو في الضحك، وقال: لقد أنهيت عملي، هل أدعوكم لقضاء السهرة في مكان هادئ عند سفح الجبل؟ إنه حقًّا مكان ممتع، ولا يجب أن تفوتكم زيارته قبل رحيلكم. إنه جزء من عمل خاص أديره أنا وبعض الزملاء. ونحن ندعو إليه مَن نتوسَّم فيهم حب الأماكن الشاعرية.
وصمت لحظة، ثم أضاف: ما رأيكم؟ ثم هزَّ رأسه مبتسمًا، ثم قال: أعتقد أنكم موافقون. ونظر في ساعة يده، ثم قال في تأكيد: إنكم سوف ترون أجمل منظر في «سويسرا»، إن الشمس سوف تغرب بعد نصف ساعة، وهي تغرب خلف الجبل، إنه منظر لا يُنسَى.
كان الشياطين يتابعونه باهتمام. فجأةً اقترب منه زميل له، وهمس في أذنه بكلمات، ثم انصرف. تقلَّصَت عضلة وجهه. لمحَها «أحمد»، لكنه ابتسم بسرعة، ثم قال: إن هناك مَن يدعوني، سوف أتحدَّث إليه وأعود إليكم لأعرف قراركم، ثم تركَهم وانصرف مسرعًا.
نظر الشياطين إلى بعضهم، كانوا جميعًا يفكِّرون في سؤال واحد: هل يقبلون الدعوة؟
قال «قيس»: إنني موافق.
بو عمير: أعتقد أننا لن نندم.
مصباح: إنني أشك فيه.
وقف «أحمد» وهو يقول: إننا لن نخسر كثيرًا. فجأة ظهر «بوش» وهو يقول: أعتقد أنكم قبلتم دعوتي.
وفي خطوات متمهِّلة تحرَّك الشياطين خلف «بوش» الذي كان يتقدمهم بخطوة. لكن كلماته تردَّدت في خاطر «أحمد»: هل يكون «بوش» واحدًا منهم؟ وهل هو السبيل لبداية الصدام؟