ذكر الثورة الفرنسية
إنه في سنة ١٧٩٢ مسيحية الموافقة لسنة ١٢٠٧ هجرية، حدث في مدينة باريز بلبلة عظيمة؛ إذ هاج شعب هذه المملكة هياجًا عظيمًا، وتظاهر ظهورًا جسيمًا ضدَّ السلطان والأمراء والأشراف، في يوم كان شديد الارتجاف، وأبرزوا الكمين منذ أعوام وسنين، وطلبوا نظامات جديدة وترتيبات حديثة، وادَّعوا أن وجود السلطان بصوت منفرد أحدث خرابًا عظيمًا في المملكة، وأن أشرافها يتنعَّمون في خيراتها وباقي شعوبها يكابدون أتعابها ومشقَّاتها؛ فلأجل ذلك نهضوا جميعهم سويَّةً؛ تلك الشعوب الفرنساوية، ودخلوا إلى سراية الملك، فخاف منهم خوفًا عظيمًا مع أرباب دولته، وسألهم عن مرامهم والسبب الداعي إلى قيامهم، فأعلموه أنه من الآن وصاعدًا لا يبرز الملك أمرًا أو يبثُّ رأيًا من تلقا ذاته، بل يكون بثُّ الأحكام والترتيب والنظام بموجب ديوان عظيم ومحفل جسيم، ويكون الملك له الصوت الأوَّل، ثم من بعده مشايخ الشعب الذين عليهم المعوَّل؛ فبذلك يهون الصعب ويرتفع الظلم عن الشعب، فلمَّا فهم الملك لويس قيام هذا الشعب المذكور وما أبدوه من تلك الأمور أجابهم: وأيضًا أنا أودُّ عمار هذه المملكة وخيرها، وأطيع لما تروه مناسبًا لرفع ضرِّها وضيْرها، فقالوا له: إن كنت كما زعمت اختم لنا الشروط التي تلائم إصلاح هذه المملكة وقيام المشيخة، فقبل ذلك خوفًا من الشعب وختم لهم الشروط التي قدَّموها له.
ثم بعد أيَّام جهز الملك نفسه للهرب، وخرج ليلًا من مدينة باريز، وصحبته أخوه وبعض أصحابه قاصدًا الإنبراطور مَلِك النمسا؛ لأنه كان نسيبه شقيق زوجته، وعندما بلغ مشايخ الشعب خروج هذا الملك جدُّوا في طلبه، فوجدوه في إحدى اللوسطاريات التي في الطريق، فقبضوا عليه ورجعوا به إلى المدينة ووضعوه في السجن مع امرأته وولده، وأمَّا أخوه فإنه نجا منهم وسار إلى بلاد النمسا.
وبدأ جميع الشعب يصيح صارخًا: فليُقتَل الملك بموجب الشريعة؛ لأنه نكث في عهده مع شعبه، وقد هرب لكي يلتجئ إلى ملك النمسا الذي هو أخو زوجته التي قد تسبَّب لنا هذا الخراب بسببها، ثم إن بعدما سجنوا الملك أربعة أشهر، أحضروه أمام الشعب في يوم الإثنين في الحادي والعشرين من كانون الثاني، وقد أبرزوا عليه الحكم بالموت، فطلب الملك لويس أن يخاطب عيلته، والمتوكِّلون عليه أحضروا له امرأته وبنته وشقيقته، واستمرُّوا معه في المكان الذي كان يأكل فيه نحو ساعتين ونصف، وخاطب ابنته مريم أنطونينا قائلًا لها: تعلَّمي من مصايب والدك ولا تجزعي من موتي، وطلبت عيلته منه أن ينظروه عند الصباح فلم يجبهم إلى ذلك.
وفي الصباح أعلموا المتوكِّلون عليه أن الجمهور قد حكم عليه بالموت، فطلب الملك لويس دقيقة لكي يتكلَّم مع معلِّم اعترافه فأذنوا له بذلك، ثم أعرض مغلَّفًا على أحد المتوكِّلين وتوسَّل إليه أن يرسله إلى مجمع الجمهور فأجابه: إنني لا أستطيع هذا الأمر؛ لكوني متفوِّض أن أرافقك إلى منقع الدم، ثم أعطى ذاك المغلَّف إلى شخص آخر وأوعده أنه يوصله إلى الجميعة، وكان بذلك المغلَّف وصيَّته:
باسم الثالوث الأقدس الأب والابن والروح القُدس أنا لويس السادس عشر، باسم ملك فرنسا، في اليوم الذي هو الخامس والعشرون من كانون الأوَّل في سنة ١٧٩٢؛ إذ كان لي أربعة أشهر مسجونًا في الحصن المسمَّى طَمْبل في باريز، ففعل هؤلاء الذي كانوا خاضعين لي، وممنوعًا عن كل اشتراك حتَّى مع عيلتي نفسها منذ أحد عشر من هذا الشهر، ومشتغلًا في فحص لا يمكن يُعرف نهايته بسبب الآلام البشرية التي لا يوجد لها اعتذار ولا مثال في شريعة من الشرايع، وإذ لم يكن شاهد آخر لأفكاري ولا مَن ألتجئ إليه سوى الله — تعالى — وحده فأوضح لدى حضرته الإلهية إرادتي الأخيرة، وأني تارك نفسي لله سيِّدي وخالقي، وأتوسَّل إليه بأن يقبلها برحمته، ولا يحاسبها حسب استحقاقها بل حسب استحقاق سيِّدي يسوع المسيح؛ الذي قدَّم ذاته لأبيه السماوي لأجل خلاص كلِّ البشر الذي أنا أوَّلهم، ولو كنت غير مستحقٍّ لذلك، بل إنني أموت بالاتِّحاد مع الكنيسة الكاتوليكية الرسولية الرومانية التي اقتبلت سلطانتها بتسلسل متَّصل من القدس بطرس الرسول، مستودعة له من السيِّد المسيح نفسه، وإنني أؤمن إيمانًا ثابتًا وأعترف بكلِّ ما هو متضمن في قانون الإيمان وفي وصايا الله وكنيسته وفي الأسرار كما تعلمه الكنيسة الجامعة.
وإنني قد علمت دايمًا بأني لم أدَّعِ قد أصلًا في أنني أقيم ذاتي قاضيًا في أنواع تفسير الاعتقادات المختلفة التي تمزق كنيسة السيِّد المسيح، بل إنني قد تصرفت وسأتصرف دايمًا إن منحني الله الحياة مسلِّمًا للتحذيرات التي تُعطى لي من رؤساء الكنايس المتَّحدين مع الكنيسة الجامعة المقدَّسة الرسولية، والمتفقين معها من إتيان سيدنا يسوع المسيح، وإني أندب من كل قلبي أوليك الذين يوجدون في الضلال، إنما لا أدينهم بل أحبُّهم سويةً بسيِّدي يسوع المسيح، كما ترشدني المحبَّة المسيحيَّة، وأتوسَّل لله — تعالى — أن يغفر لي كلَّ خطاياي؛ لأنني قد اجتهدت بالفحص المدقَّق عنها لكي أعرفها وأمقتها، وأتضرَّع أمام عزَّته — تعالى — بأن إذ لم يمكنِّي أحصل على كاهن كاتوليكي فأسأل الله أن يقبل اعترافي وندامتي الخالصة؛ لكوني وضعت اسمي وكان ضدَّ إرادتي في بعض قضايا مضادًّا الاعتقاد بالكنيسة الكاتوليكية وتهذيبها، وإنما قد استمريت دايمًا متحدًا معها بخلاصة قلبي، وأتوسَّل لله — تعالى — أن يقبل قصدي الثابت أن أستخدم كاهنًا كاتوليكيًّا حال ما يمكنِّي إن منحني الحياة؛ لكي أعترف بكلِّ خطاياي، وأقبل من يده سرَّ التوبة.
وإنني أتضرع لكلِّ أوليك الذين قد أمكن أن أكون أغضبتهم بعدم الانتباه؛ إذ لم يبكِّتني ضميري أنني سبَّبت لأحد أدنى إهانة، والذين قد أمكن أن أكون قد أعطيتهم مثلًا رديًّا أو شكوكًا فأتوسل إليهم أن يسامحوني بالشرِّ الذي يظنون أنني سبَّبته لهم، وإنني أيضًا أتوسَّل لكلِّ أوليك المحبين أن يصنعوا تضرعاتهم مع تضرعاتي؛ لكي أنال من الله مغفرةَ آثامي.
وإنني أغفر من كلِّ قلبي لأوليك الذين قد أعلنوا ذواتهم أعداء لي من دون أن يسبق لهم منِّي أدنى سبب يوجب ذلك، وأسأل الله أن يسامحهم ويغفر لهم، ولأوليك الذين قد صنعوا معي شرًّا عظيمًا؛ إمَّا من قبل غيرة كاذبة أم من قبل جهل.
وإنني أستودع لله امرأتي وبنيَّ وشقيقتي وإخوتي وعمَّاتي وكلَّ أوليك المرتبطين معي بارتباط الدم أو بنوع آخر، وأتوسَّل لله أن ينعطف برحمته نحوهم وأن يقوِّيهم بنعمته على افتراض فقدهم إيَّاي كلَّ الزمان الذي يستمرُّونه في هذا وادي الدموع، وإنني أستودع بنيَّ لامرأتي، ولا أرتاب أصلًا بحنوها الشفوق نحوهم، وأوصِّيها بالخصوص أن تهذِّبهم تهذيب المسيحيين الكاملين، وأن تصيِّرهم بأن يعتبروا عظمة هذا العالم كخيرات خطرة قابلة الفقد والانقلاب، وأن يرفعوا ألحاظهم نحو المجد الثابت الحقيقي، وإنني أتضرَّع إلى شقيقتي أن تستمرَّ ملاحظة بنيَّ بحنوِّها المعتاد، وأن تقوم مقام والدتهم إن حصلوا على فقدها من قبل التعس، وإنني أسأل امرأتي بأن تسامحني بكلِّ الشرور التي احتملتها بسببي، وبكل غيظ قد يمكن أن أكون سبَّبته لها في مدة اقتراننا، وليكن محقَّقًا عندها أنني لست بواجدٍ عليها شيئًا من الأشياء، وإنني أوصِّي بنيَّ بكلِّ حرارة أنهم من بعد أن يتَّقوا الله؛ إذ كان — تعالى — واجب أن يتقدَّم إكرامُه على كل شيء، ويكونوا متفقين دايمًا مع بعضهما بعض، وخاضعين لوالدتهما وحافظين نحوها كلَّ معروف، وأن يعتبروا شقيقتي كوالدة ثانية.
وإنني أوصِّي ابني على افتراض أنه إذا ما حصل على التعس أي أضحى سلطانًا أن يفتكر بأنه يلتزم أن يوجِّه كل اهتمامه نحو سعادة أهل بلاده، وأنه يلتزم أن ينسى كل بغضٍ وضرر خاصَّة لأوليك الذين سبَّبوا إليَّ ما أنا محتمله الآن، وأنه لا يستطيع أن يصيِّر الشعوب سعداء إن لم يحكم حسب الشرايع، وإنني أوصِّي ولدي أن يهتمَّ بكل أوليك الأشخاص الذين كانوا متعلقين بي، وأن يفتكر بأني قد حصلت على التزامٍ مقدسٍ نحو أولاد وأقرباء أوليك الذين ماتوا لأجلي، والذين قد حصلوا على التاعسة بسببي، وإني عالم أنه كان يوجد أشخاص كثيرون من الذين كانوا متعلقين بي ولم يسلكوا معي بحسب التزامهم بل أظهروا عدم المعروف معي، فأنا أسامحهم من كل قلبي، وأسأل ولدي أنه إذا تقدمت له الفرصة لا يفتكر سوى بسعادتهم والخير لهم.
وإنني أودُّ أن أظهر معروفي نحو أوليك الذين قد حفظوا تعلُّقًا حقيقًا نحوي من دون نفعهم الخاصِّ، كما أنني قد شعرت بألم من قلبي رداوة بعض أشخاص لم يظهر مني نحوهم ونحو أولادهم وأصدقائهم إلا كل جودة وخير، وهكذا قد شعرت بتعزية بنظري ما قد ظهر من تعلُّق حقيقيٍّ من كثيرين نحوي، ثم أسألهم أن يقبلوا شكري لأفضالهم؛ إذ كنت في هذه الحال لا أستطيع أن أبدو في المعروف نحوهم، إنما أوصِّي ولدي أن يستقصي إلى الفرصة الملائمة إلى مكافأتهم، وإنني أظن أني قلَّلت اعتباري للطايفة الفرنساوية، إن كنت لا أوصِّي صريحًا ولدي بأوليك الذين انعطافهم الخاصُّ نحوي قد جذبهم لينحبسوا معي، ويطوِّحوا ذواتهم بخطر الموت لأجلي.
وأوصِّي ولدي بكلري الذي ليس لي سبيل عادل أن لا أمدح اهتمامه وخدمته نحوي منذ وجد معي ولم يزل مستمرًّا الآن وإلى النهاية، وأسأل أسياد الجمهور أن يسلِّموه كتبي وساعتي وكيس خرجيتي والأشياء المختصَّة بي، التي هي مودوعة عند مجمع الجمهور، وإنني أسامح أوليك الذين كانوا يحرسوني، وأصفح عن مقتلاتهم الردية والمضايقات التي ضايقوني بها، وقد وجد بعض أنفس شفوقة فليتمتع هؤلاء بالراحة التي تحصل لهم، وأن يقبلوا شكري لأفضالهم ورغبتي بالمعروف نحو كل سعيهم ومهمَّاتهم التي فعلوها لأجلي، وإنني أنهي وصيتي موضِّحًا أمام الله؛ إذ كنت قريبًا أمتثل بإزاء حضرته الإلهية أن ضميري لا يبكتني على ذنب من الذنوب المنسوبة لي، وقد حرَّرت هذه الوصية نسختين في حصن الطَّمْبل في خامس عشر كانون الأول سنة ١٧٩٢.
وفي الساعتين ونصف بعد نصف الليل صعد القايد العام نحو الملك لويس، وعرَّفه أنه يزمع أن يذهب إلى الموت، فأجابه الملك: إنني مستعدٌّ لذلك، وإذ خرج من مكانه وصعد إلى الكروسي حيث كان معلِّم اعترافه، وقد اصطفَّت العساكر في التبيعة حيث كان مكان الموت، وقد كان صمت كلِّي، وأما الملك لويس بعدما قرأ صلاة المنازعين تعرَّى من ثيابه بشجاعة فريدة وقلب غير مرتجف، وصرخ بصوت عالٍ: أيها الفرنساويُّون إنني أموت بريًّا، وأغفر لكل أعدائي، وأرغب أن موتي يكون مفيدًا للشعب، ثم أمر القايد العام إلى الجلَّاد أن يتمِّم وظيفته، وفي الحال قطع رأسه، وكان حزنًا عظيمًا عند الذين كانوا من حزب الملك.
وأما الشعب فكان عنده سرور عظيم وصنعوا في مثل ذلك اليوم عيدًا في كل سنة؛ تذكارًا لقتل الملك وانتصار الشعب، وكان ذلك في مبادي شهر أيلول في سنة ١٧٩٣، وجعلوه بدو سنَّتهم ولقبوه تاريخًا للمشيخة، وغيَّروا الأشهر النصرانية ورتَّبوها أشهر جديدة، وسموها أسامي مختلفة، وأبقوها ثلثين يومًا على خلاف عدَّتها الأولى، وفي ذلك الوقت رفضوا الديانة، وأقفلوا الكنايس والأديرة الرهبانية، وقتلوا الرهبان والراهبات وعدَّة من الأساقفة، وأرموا الأيقونات، وكسروا الصلبان، وكان خراب عظيم في تلك المملكة وأهوال متلفة مهلكة، وحدث عدة مواقع بينهم وبين حزب السلطان، ولا زالت تزداد وتنمو الأحقاد وتتجنَّد الأجناد وتهلك العباد حتى ضعف حزب السلطان وقويت شوكة المشيخة قوة عظيمة.
إن كل من يقرُّ بمشيختنا فهو حبيب لنا، ومن لم يقرَّ بمشيختنا فهو عدوٌّ لنا ويستعد إلى محاربتنا؛ لأننا قد استعدَّيْنا أن نحارب المسكونة بأسرها.
وكان ذلك الانتصار والتملُّك عن يد ذلك الليث الظاهر والأسد الكاسر، الفرد الفريد والبطل الصنديد؛ أمير الجيوش بونابرته، وكان هذا من بعض كبار المشيخة الفرنساوية، وكان قصير القامة رقيق الجسم أصفر اللون، باعه اليمين أطول من اليسار، مملوًّا من الحكمة مشمولًا بالسعد والنعمة، يبلغ من العمر ثمانية وعشرين سنة، وهو أطلياني الأصل من جزيرة كورسيكا، وتربيته في مدينة باريز كرسيِّ دولة الفرنساوية، وعندما اقتربت تلك الجيوش الفرنساوية إلى كرسيِّ مملكة الإنبراطور؛ أي ملك النمسا عقد أمير الجيوش بونابارته صلحًا مع الملك الإنبراطور على شروط مكتومة غير ظاهرة، ونهض من هناك سايرًا إلى مملكة البندقية ودخل دخولًا عجيبًا؛ لأن مدينة البندقية هي بكر الأبكار؛ لكون أنها من حين ما بنيت وقامت مشيختها قطُّ ما دخلها داخل ولا سطا عليها عدوٌّ، واستولى على جميع مدنها وجزايرها وتملَّك على كنوزها وذخايرها، ثم إنه سلَّم مدينة البندقية إلى ملك النمسا، وأبقى جزيرة كورفو له، ووضع بها ستَّة آلاف صلدات، ومن هناك سار بالجيوش إلى مدينة رومية العُظمى.
وبعد حروب شديدة وأيام عديدة مع عساكر البابا تملَّك رومية، وهزم البابا واستولى على كنوزه وذخايره، وسلب أموال أهل الجزيرة، وخرب نظام تلك المدينة الجليلة، وأهان طغمة الأكلريكين والرهبان، وازدرى بالذخاير والصلبان، وكان اضطهاد عظيم على المسيحيين، وكثير من أهل رومية تبعوا رأي الفرنساوية، ومكث مدة في رومية وأتى إلى مدينة باريز.
وكان مدة حروبهم في البلاد الإفرنجية ستة سنوات، وطاعتهم غالب البلاد المذكورة، وقد كانت الفرنساوية جهزت عمارة عظيمة في طولون، وكان عدتها أربعماية وخمسين مركبًا، وعدَّة عساكرها ستين ألفًا، ورؤساء العساكر ستة وعشرون رجلًا معروفين بالشجاعة والقوة والبراعة، وعدة الصلدات الحربية ستة وثلاثون ألفًا، وباقي العساكر فيسالية وأصحاب صنايع ونوتية، وحين تمَّت العمارة ركب بها وصار طالبًا جزيرة مالطة، وعندما وصل إليها حاصرها مدة قليلة، وافتتحها في شهر أيار المطابق إلى شهر ذي القعدة سنة ١٢١٢ هجرية بعد قيام تلك المشيخة بخمسة سنين، وقيل إن ذلك كان بولس الكوليرية الفرنساويين الذين كانوا موجودين بها، وبعد تولِّيهم على مدينة مالطة رفعوا منها الحكَّام الكوليرية الذين كانوا من قبل ساير الملوك الإفرنجية، وأطلقوا المأسورين بها من الإسلام وأرسلوهم إلى بلدانهم بالسلام، وأوعدوهم بأن ما عاد يسير استئسار على الإسلام من المالطية على الدوام، ثم أمرهم أن يبشِّروا بذلك في جميع بلدان المسلمين، ويشكروا بذلك فضل الفرنساوية، وبعد ذلك وضع في مدينة مالطة ستة آلاف مقاتل من الفرنساويين، وأخذ عوضها من المالطيين، وصار في تلك النية قاصدًا مدينة الإسكندرية، هذا ما كان من أمير الجيوش بونابارته.
وأما الإنكليز لمَّا بلغهم خروج هذه العمارة العظيمة، وظنوا أنهم قاصدون بلدانهم فحصَّنوا ثغورهم ومكاناتهم، ولما حقَّقوا أنهم قصدوا الديار المصرية جهَّزوا أربعة عشر مركبًا بكلك كبار، وصاروا إلى محاربتهم؛ لأنه كان بين الإنكليز والفرنساوية عداوة عظيمة وحقود قديمة، وقد تسلموا بعض بلدان في الهند كانت للفرنساويين، وبهذا السبب كان مسير الفرنساويين إلى الديار المصرية مؤملين أنه بعد تملُّكهم الأمصار المصرية يستسيرون في بحر السويس إلى بلاد الهند؛ لأن المسافة قريبة، وحين دخلت مراكب الإنكليز ثغر الإسكندرية أرسلوا قاربًا يطلبون حاكم المدينة، فتوجَّه إلى مقابلتهم كمركجي الإسكندرية السيد محمد كريم الذي كان متروِّسًا من قِبل الأمير مراد بيك، وبعد وصوله للمراكب سألهم عن سبب قدومهم، فأخبروه أنهم طالبون عمارة الفرنساوية؛ لكي يصدُّوها عن الدخول إلى ثغر الإسكندرية، فارتاب السيد محمد كريم، وقال في نفسه: ما هذا إلا خداع عظيم، وأجابهم أن الفرنساوية غير ممكن أنهم يحضروا لبلادنا، ولا لهم في أرضنا شغلٌ، ولا بيننا وبينهم عداوة، ولا جلبنا عليهم رداوة، وهذا كلام غير ممكن أن نصدِّقه، وإن حضروا — كما تزعمون — فنصدُّهم عن الدخول وليس لهم إلينا وصول، وأمَّا أنتم فليس لكم الإقامة بهذه الديار، وإنما إذا جئتم تأخذون شيئًا من الماء والمأكل فلكم الاختيار، فأجابوه الإنكليز: أنتم لستم في هذا الحين كفوًا لصدِّ الفرنساويين، ولكن سوف تندمون على عدم قبولكم إيَّانا، وعلى ما يحلُّ بكم تتحسَّرون، وفي الحال أقلعوا من مقابل الإسكندرية، وكان ذلك في ثلاثة عشر من شهر محرَّم افتتاح سنة ١٢١٣.
فرجع السيِّد محمد كريم وهو حاير من ذلك البلاء العظيم، وفي الحال أعرض ذلك الأمر إلى مراد بيك إلى مصر، وفي ثالث الأيام من بعد قيام مراكب الإنكليز من ثغر الإسكندرية عند العصر نفد مركب عظيم في البحر، ولما قرب إلى البوغاظ أرسل قاربًا إلى أسكلة الإسكندرية يطلب قنصل الفرنساوية، ولما بلغ أهل المدينة خافوا خوفًا عظيمًا، وعقدوا ديوانًا واتفق رأيهم على عدم توجُّه القنصل، وكان يوميذٍ مركب الريالة في البوغاظ وقبطانه في المدينة، فأمرهم أن يطلقوا القنصل وقال لهم: وإن حصل سؤال عن ذلك فعليَّ الجواب، وسار في القارب إلى المركب، ثم ما أغربت الشمس إلا وأقبلت العمارة العظيمة التي ليس لها عدد، فسقط على أهل الإسكندرية خوفٌ عظيم وهمٌّ جسيم حين نظروا وجه البحر تغطَّى من المراكب، وحرَّر السيد محمد كريم يعلم مراد بيك عن قدوم تلك العمارة في هذه الألفاظ: سيدي إن العمارة التي حضرت مراكب عديدة ما لها أول يُعرف ولا آخر يوصَف، لله ورسوله داركونا بالرجال. وفي تلك الليلة أرسل ثلاثة عشر ساعيًا بلا خلاف، وقد أيقنوا بالموت والتلاف.
وأما الفرنساوية بقوا تلك الليلة ينقلون العساكر من المراكب إلى البر بالقوارب إلى مكان يُقال له العجمي بعيدًا من مدينة الإسكندرية مسافة ساعتين، وعند الصبح نظرت أهالي البلد إلى العساكر في البرِّ، ليس لهم عدد ولا لهم على حربهم جلد، فتأهَّبت الإسلام إلى الحصار، ومحاربة تلك الكفَّار، وأطلقوا المناداة: اليوم يوم المغازاة، ولكن إذ كانت المدينة مؤامنة من تلك الحوادث، وغير مستعدة لمثل هذه النواكس، فما وجد في قلع هذه المدينة إلا قليل من البارود، وأكثره كالتراب من طولة الأيام، وعند طلوع الشمس هجمت عليهم تلك العساكر كالبحار الزواخر والأسود الكواسر، فما مضى نحو ساعتين من النهار حتى تملَّكت الإفرنج الأسوار، ودخلت المدينة قوةً واقتدارًا، وكان ذلك في ١٥ محرم سنة ١٢١٣، الموافق لشهر حزيران سنة ١٧٩٨، وطلبت الأمان الرعية من العساكر الفرنساوية، فأعطاهم أمير الجيوش الأمان وعدم المعارضة والعدوان.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك بملكه
من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية، والسر عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية، نعرِّف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية، يعاملون بالذل والاحتقار في حق الملَّة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدِّي، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم، وحسرت من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من جبال الأباذا والكرجستان يفسدوا في الأقاليم الإحسان ما يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء قد حتم في انقضاء دولتهم.
يا أيها المصريون قد يقولوا لكم: إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، وذلك كذبٌ صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمت إليكم؛ إلا لكيما أخلِّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله — سبحانه وتعالى — وأحترم نبيه محمد والقرآن العظيم، وقولوا لهم أيضًا: إن جميع الناس متساوين عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم بعض فهو العقل والفضايل والعلوم فقط، وبين المماليك ما العقل والفضل والمعرفة التي تميزهم عن الآخرين وتستوجب أن يتملَّكوا وحدهم كل ما تحلو به حياة الدنيا، حيثما يوجد أرض مخصبة فهي للمماليك، والجوار الجمال والحلل الحسان والمساكن الأشهى فهذه كلها لهم خاصةً، فإن كانت الأرض المصرية التزام للمماليك فليوردوا الحجة التي كتبها لهم الله رب العالمين، هو رءوف وعادل على البشر، بعونه — تعالى — من اليوم وصاعدًا لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبِّروا الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، سابقًا في الديار المصرية كانت المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما زال ذلك إلا لطمع وظلم المماليك.
- المادة الأولى: جميع القرى القريبة ثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها العسكر الفرنساوي ترسل للساري عسكر بعض وكلاء؛ لكيما يعرِّفوا المشار إليه أنهم أطاعوا ونصبوا السنجق الفرنساوي، الذي هو أبيض وكحليٌّ وأحمر.
- المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تُحرق بالنار.
- المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي الواجب عليهم نصب السنجق الفرنساوي، وأيضًا نصب سنجق السلطان العثماني محبِّنا، أدام الله بقاه.
- المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختموا حالًا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك؛ متاع المماليك، وعليهم الاجتهاد الزايد؛ لكي لا يضيع أدنى شيء منها.
- المادة الخامسة: والأيمة أن يلازموا وظايفهم، وعلى كلٍّ من أهل البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنًّا، وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجامع على العادة، والمصريون بأجمعهم يشكروا فضل الله — سبحانه وتعالى — لانقراض دولة المماليك قائلين بصوت عالٍ: أدام الله — تعالى — إجلال السلطان العثماني، أدام الله — تعالى — إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح الله حال الأمة المصرية.
الواجب على المشايخ والقضاة تحريرًا في عسكر إسكندرية، في ثلاثة عشر من شهر مسيدور سنة ستٍّ من إقامة الجمهور الفرنساوي؛ أعني أواخر شهر محرَّم سنة ١٢١٣ هجرية.
ثم إنه توجهت تلك الفرمانات إلى الديار المصرية، وفي ثاني الأيام أرسل أمير الجيوش بونابارته العساكر من الإسكندرية إلى دمنهور وبندر رشيد، وعندما بلغ أهالي رشيد قدوم الفرنساوية خرج إلى لقاهم علماء وأعيان البلد فسلموهم البندر خوفًا من الضرر، وتسلم بندر رشيد الجنرال منو حاكمًا به، وهذا الجنرال كان بطلًا من الأبطال الكبار.
وكنا ذكرنا أن السيد محمد كريم قد أخبر مراد بيك بذلك البلاء العظيم والخطب الجسيم، ولما وصلت النجابة إلى مصر، وأخبروا مراد بيك بقدوم الفرنساوية إلى مدينة الإسكندرية؛ طرح الكتاب من يده، وصاح على عساكره وجنده، واحمرت عيناه واضطرمت النار في أحشائه، وأمر بإحضار الخيل للركوب، وسار إلى منزل إبراهيم بيك على ذلك الأسلوب، وشاع الخبر واضطربت البشر، وهاجت تلك الأمم على ساق وقدم، وحلَّ في القوم الأسف والندم، واجتمعت الكُشَّاف والأمراء والأشراف لقصر إبراهيم بيك بلا خلاف، وحضر باكير باشا من القلعة السلطانية إلى المعنية، وحضروا جميع السناجق والأعيان؛ مثل إبراهيم بيك الكبير، ومراد بيك الكبير، ومصطفى بيك الكبير، وأيوب بيك الكبير، وإبراهيم بيك الصغير، ومراد بيك الصغير، وسليمان أبو دياب، وعثمان بيك الشرقاي، ومحمد بيك الألفي، ومحمد بيك المنوفي، وعثمان بيك البرديسي، وعثمان بيك الطبجي، وقاسم بيك المسكوبي، وقاسم بيك أبو سيف، وقاسم بيك أمين البحر، والأمير مرزوق بن إبراهيم بيك الكبير، وعثمان بيك الطويل، وشروان بيك، وحضر من العلماء الشيخ محمد الساده، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ خليل البكري، والسيد عمر نقيب الأشراف، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري، وأما العلماء الصغار فلا نقدر نعدهم لكثرتهم.
فهؤلاء السناجق المذكورين مع العلماء المشهورين والوزير السلطاني باكير باشا العثماني عقدوا الديوان، وحضرت السبع أوجاقات وعدة من الأغاوات، وجملة من العوام أرباب الصوت والكلام، وبدوا يتداولون بأمر الفرنساوية ودخولهم إلى الإسكندرية، ويستغربون من هذا الخطب المهول والأمر المجهول، فأمير اللواء مراد بيك بما أنه عارف أن خاطر الدولة العليَّة متغير عليه؛ فالتفت إلى الوزير وقال له: إن هؤلاء الفرنساوية ما دخلوا على هذه الديار إلا بإذن الدولة العثمانية؛ ولا بدَّ الوزير عنده علمٌ بتلك النية، ولكن القدرة تساعدنا عليكم وعليهم، فأجابه الوزير: لا يجب عليك أيها الأمير أن تتكلم بهذا الكلام العظيم، ولا يمكن أن دولة بني عثمان تسمح بدخول الفرنساوية على بلاد الإسلامية، فدعوا عنكم ذلك المقال وانهضوا نهوض الأبطال، واستعدوا للحرب والقتال، ثم اتفق رأيهم أن يسجنوا القنصل والتجار الموجودين من الفرنساوية في مصر القاهرة؛ خوفًا من الخون والمخامرة، وسجنوهم جميعًا في قلعة الجليلة، وبعد ذلك اتفق الجميع الكبير منهم والوضيع على القتال والصدام، وأن مراد بيك يسير في العساكر المصرية لملاقاة الفرنساوية عند دمنهور، وإبراهيم بيك الكبير وباكير باشا الوزير مع بقية العساكر والقواد والدساكر يقيمون في المدينة، وكان قد هاج أكثر العلماء والأعيان وقالوا: لا بدَّ نقتل بالسيف جميع النصارى قبل أن نخرج لا حرب الكفار، وقال الوزير وشيخ البلد إبراهيم بيك: غير ممكن أن نسلم إلى هذا الغرم والرأي؛ لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والشان، وأما النصارى فوقع عليهم وهمٌ عظيمٌ وخوف جسيم، وبدوا الإسلام يتهدَّدوهم بالقتل والسلب، ويقولوا لهم: اليوم يومكم قد حلَّ قتلكم ونهبكم وسلبكم، وكانت مدة مهولة مرعبة ونار ثايرة ملهبة، ولكن بالمراحم المولى — عزَّ شانه — إذ إنه قد عطف وحنَّن عليهم قلب الوزير وشيخ البلد، وكانوا في كل يوم يرسلوا إليهم سليم أغا أغة الإنكشارية حالًا؛ يطمِّنوهم على أرواحهم وأموالهم، ويطلق المناداة في كل البلد على حفظ الرعايا وعدم المعارضة لهم.
فلنرجع إلى ما كنا في صدده؛ وهو أن مراد بيك جمع الفرسان والغزَّ والعربان وأهل تلك الأطراف، ما ينوف عن عشرين ألف مقاتل من كل فارس وراجل، وسار في العساكر كالبحور الزواخر نهار الجمعة إلى أرض الرحمانية، وهي بلاد بالقرب من رشيد، وكان قد أرسل الجبخانات والذخاير مع عسكر كريد في بحر النيل، وكان صحبتهم علي باشا الجزَّام، الذي كان مطرودًا من جزاير الغرب ومقيمًا في مدينة مصر، وناصيف باشا بن سعد الدين باشا العظم مطرودًا من الدولة، فهؤلاء كانوا ملتجيين إلى مراد بيك في ذلك الوقت، فأرسلهم مع الذخاير والجبخانات، وسار مراد بيك مع العساكر على شاطئ النيل أمامهم، وعندما وصلوا إلى أراضي الرحمانية فقابلوا الجيوش الفرنساوية قادمين كالسيل القاطر، وكانت غلايطهم سايرة تجاههم بحرًا، وعندما نظروا الغلايط إلى تلك المراكب التي بها الذخيرة، فتجاروا إليهم ووقع الكون بينهم، وأرموا بعضهم بالمدافع والقنابر، فسقطت إحدى القنابر على المركب الذي كانت به الجبخانة فطار البارود، واحترق المركب والذي بقربه من المراكب، وكانت الناس تتطاير بالجو كالطيور، ووصلت إلى الجبخانة التي على البر فشعلت فيها، وانوعرت العساكر لما شاهدت تلك النار، واستفئلوا من الانكسار، وأيقنوا بالعدم والدمار، وفي ذلك الوقت دهمتهم العساكر الفرنساوية، وأنزلت بهم البلية، فولَّت العساكر المصرية مُدبرين، وإلى النجاة طالبين، ولا زالوا راجعين وفي مسيرهم مُجدِّين إلى أن وصلوا إلى محلٍّ يقال له الجسر الأسود، وأقاموا هناك في غاية الذل والنكد، فهذا ما كان من مراد بيك وذلك التدبير، وما أصابه عسكره من الذل والتدمير.
وأما ما كان من باكير باشا وإبراهيم بيك الكبير؛ فإنهم بعد مسير مراد بيك نزلوا إلى بولاق ونصبوا الخيام والوطاق، وابتدوا يبنوا المتاريس على شاطئ النيل، وعندما أتتهم الأخبار بما قد حصل بعساكر مراد بيك من الدمار والانكسار من الأعداء الكفار الفرنساوية الأشرار، فتقطَّعت ظهورهم وحاروا في أمورهم، ووصلت الأخبار إلى مصر، فكان يومًا مهولًا، وقامت أهالي البلد بالسلاح والعدد وتهدَّدوا النصارى وصاحوا: اليوم قد حلَّ قتلكم يا ملاعين، وصرتم غنيمةً للمسلمين، ثم أرسل إبراهيم بيك إلى مراد بيك أن يحضر إلى إمبابة تجاه بولاق، ويبنوا المتاريس على شاطئ البحر، ويضعوا المدافع، ويبقى إبراهيم بيك وعسكره في بولاق، ومراد بيك وعسكره في إمبابة تجاه بعضهما والبحر بين الجهتين؛ احتسابًا بأن الفرنساوية إذا أتوا بحرًا يتلقَّاهم إبراهيم بيك، وإذا أتوا برًّا يتلقَّاهم مراد بيك.
وفي نهار الجمعة سادس عشر يوم من شهر صفر صعدت علماء مصر وعامة الناس إلى القلعة السلطانية، وأحضروا البيراق النبوي بضجيج عظيم واحتفال جسيم، وأتوا به إلى مدينة بولاق، وهم يموجون كالبحر الدفَّاق، وجميع تلك الأقاليم في الوجل العظيم، ويضجون بالدعا المستديم إلى الرب الكريم، وقد صعدوا إلى المنابر، وفتحوا المصاحف وهم في غاية المخاوف، ونهار السبت سابع عشر صفر أقبلت الجيوش الفرنساوية برًّا وبحرًا، وتقدَّمت العساكر المصرية، واستعدوا لحرب الفرنساوية، وقرعوا طبول الحرب ووطدوا نفوسهم على الطعن والضرب، وتقدم إلى المحاربة الجبَّار العنيد والمُعدُّ في الحرب بألف صنديد الجنرال دُبوي، فتلاطما العسكران وتصادما الجيشان، وتهاجمت الشجعان وفرَّ الجبان وبان القويُّ من الجبان، وجادت العربان وتقدَّموا إلى الضرب والطعان، وتجارت الفرسان إلى حومة الميدان، وعجَّت بالمناداة: اليوم يوم المغازاة، ثم انقضَّت السناجق كانقضاض البواشق بالسيوف البوارق والرماح الخوارق والخيول السوابق، وأطلقوا المدافع كالصواعق، وثار العجاج وزاد الهياج.
وقد هجم في ذلك الوقت البطل المغوار والأسد الهدَّار أيوب بيك الدفتردار، وقحم بحصانه وسط الغبار، وصاح في الأعداء: ويلكم يا لئام! ساقكم الغرور لفتح هذه الثغور، اليوم نملي منكم القبور، ونجعله عليكم يومًا مشهور، وفي مثل هذا الأوان تبان الشجعان وتبلغ المنازل العالية الفرسان، وتكسب الحمد والثناء، فمن مات منَّا احتوى بالجنان، ومن عاش ربح من دون خسران، وكان بدنياه سعيد، ومن مات راح بالله شهيد، ولمَّا طال الحرب واشتد البلاء والكرب، ودام الطعن والضرب، فعند ذلك الوقت قرعت الفرنساوية الطبول النحاسية، وهجم ذلك البطل الذي ذكره تقدم الجنرال دُبوي المعظم، ولا زالوا يلتقون الكلل في صدروهم، ويدوسون مجروحهم ومقتولهم، حتى ملكوا المتاريس، وكان ذلك على الغزِّ أنكيس، وبدوا يطلقون المدافع على الإسلام ويورثوهم مواريث الإعدام، وجادت الإفرنج في القتال لما ملك دبوي المتاريس.
وكانت الإفرنج ثلاثين ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وكان كلٌّ من هؤلاء الصلدات في كل دقيقة يطلق الرصاص سبع دفعات، فعند ذلك صاحت الغزُّ: الفرار الفرار من حرب هؤلاء الكفار، وولت العربان وانهزمت الشجعان، وإذ ضاق عليهم ذلك السبيل؛ ألقوا أرواحهم في بحر النيل، فما سلم منهم إلا القليل، وكان قد سقط قتيل وداسته الخيل ذلك الجبار والأسد المغوار أيوب بيك الدفتردار، ولم يبان له علائم ولا آثار، بعد أن قتل جمعًا غفير وثبت قدام تلك الجماهير.
وأما مراد بيك فرَّ في رجاله وأبطاله، طالب النجاة لنفسه العزيزة ودخل إلى الجيزة، وقد أحرق مركبه الكبير الذي كان أنشأه؛ خوفًا لِيَلَّا تكسبه أعداؤه، ثم سار نحو الصعيد.
وكان باكير باشا وإبراهيم بيك حين انهزموا من بولاق، وقلوبهم بنار الاحتراق ودمعهم ينحدر من الآماق، وقلوبهم مغترمات بالحسرات وهم يتأسفون على ما فات، ثم أخذوا أعيالهم ورجالهم وخرجوا من المدينة من باب النصر قاصدين البرِّية والديار الشامية، وبقت بقية أهل القاهرة تلك الليلة بمخاوف وافرة، وعند الصباح اجتمع القاضي والأعيان وقالوا: إن الحكام ولَّت وأحوالهم اضمحلت، فالتسليم لنا أصلح، وحقن دماء الإسلام أوفق وأربح.
وقد كنا ذكرنا أن القنصل والتجار الفرنساوية تحت اليسق في قلعة الجبل، فأحضروهم وطلبوا منهم أن يسيروا معهم إلى بولاق ويأخذوا لهم الأمان، فأشار عليهم القنصل أن يتوجه اثنان من التجار ومحمد كتخدا إبراهيم بيك، وساروا إلى برِّ إمبابة، وفي وصولهم تقدموا إلى مقابلة الجنرال دبوي، وترحب بهم، وسألهم عن أحوال مدينة، وما هو مراد أهلها، فقالوا له: إن الحكام ولَّت والرعية ذلَّت، وقد أتينا من قبل علماء البلد والأعيان نطلب لهم الأمان، فأجابهم الجنرال دبوي: من ألقى سلاحه حُرِّم قتاله، فلهم مني الأمان ومن أمير الجيوش ومن كل من في هذا المكان، وإنما يلزمكم في هذه الليلة ترسلوا المعادي والقوارب؛ لننقل بهم العساكر؛ لأن مرادي في هذه الليلة أدخل البلد، ثم رجعوا محمد كتخدا والتجار وأعلموا العلماء بتلك الأخبار، فأمرت العلماء والحكام البلد حالًا بمسير القوارب والمعادي إلى بر إمبابة، ونزل الجنرال دبوي بماية وخمسين صلدات إلى بولاق حيث كانت العلماء بذلك الاتفاق، وحين تقابلوا أعطاهم الأمان، وساروا قدَّامه بالمشاعيل إلى أن دخلوا المدينة، والمنادية تنادي أمامه بالأمان على الرعية والأعيان، وجلس الجنرال دبوي في منزل إبراهيم بيك الصغير، وأرسل بعض الصلدات تسلمت قلعة السلطان، واتَّقدت تلك الليلة النار بمنزل مراد بيك، وكان ذلك من الذين ينهبون وهم من أولاد البلد، فنهض الجنرال دبوي وأطفأ تلك النار.
وعند الصباح في تاسع صفر نهار الإثنين ابتدأت تنتقل العساكر من برِّ الجيزة وإمبابة إلى مصر، فعندما قدم أمير الجيوش بونابارته فخرجت العلماء والأعيان والنصارى والإسلام لملتقاه، وكان يترحب بهم ويلتقيهم بالبشاشة والإكرام، ويوعدهم بالخير والنظام، ثم أمر أن يفرشوا له منزل بقرب النيل، ففرشوا له منزل محمد بيك الألفي الكاين على شاطئ بركة اليزبكية، ونزل كبير الأقباط المتسلمين الأقاليم المصرية؛ وهو جرجس الجوهري، وباشر بفرش المنزل، وفي يوم الثلاثة دخل أمير الجيوش ونزل بذلك المنزل، ودخلت جميع تلك العساكر التي ليس لها أول من آخر.
وأمر أمير الجيوش أن جميع أهالي مصر يضعوا على رءوسهم أم صدورهم علامة المشيخة وهذا النشان، هو من الحرير الأبيض والكحلي والأحمر قدر زهرة الورد، وقد وضعتها جميع الناس من الرجال والنساء وأطلق المناداة: أن كلَّ من دخل من دون علامة يجب له القصاص، وحين دخلت العساكر الفرنساوية كانوا ينهبون من بيوت الغزِّ والمماليك، فأمر أمير الجيوش برفع النهب، وكانت الغزُّ قد دفنت أموالها تحت الأرض ولم يبق سوى الفرش والأمتعة، وقد نهبت أهالي المدينة منهم شيء كثير، وفي ١٢ ارتفع النهب واطمأنت الناس في أماكنها، فهذا ما كان من دخول الفرنساوية.
وأما إبراهيم بيك وباكير باشا؛ فإنهم بعد خروجهم من مصر ساروا إلى مدينة بلبيس وهم في الذل والتعكيس، وأما مراد بيك فسار إلى أراضي الصعيد، وفارقت الغزُّ الكنانة وبليوا بالذل والإهانة، وقد وقعوا بالشتات والخبال، وانتهب أموالهم وسُبيت أعيالهم، وناحوا على فراق مصر وتفرُّقهم في كل قطر، وأرموا من رءوسهم القواوين الصفراء، ولم يبق القووق الأصفر في مملكة مصر آثار، وذاقوا من الغربة أمرَّ كاس وبقوا كعامَّة الناس.
وكان أمير الجيوش بونابارته بعد دخوله إلى أرض مصر أحضر تجار ديوان البهار المعروف بديوان البنِّ الوارد من الأقطار، وطلب منهم ألف وستماية كيس، وطلب من الأقباط المباشرين الدواوين ألف وستماية كيس، ومن تجار النصارى ثمانماية كيس، وتسلم تلك الأربعة آلاف كيس في ستة أيام، وأوعدهم بوفائها عندما يروق الحال ويتسع المجال.
وبعد ذلك ابتدأ في النظامات في مدينة مصر كما يأتي ذكره، فأحضر أولًا خمسة أنفار من العلماء الكبار؛ وهم الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الضاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ سليمان الفيومي، وأحضر معهم اثنين من الأوجاقات وواحد من التجار؛ وهم علي كتخدا باشي، ويوسف شاوش باشي، والسيد أحمد المحروقي، وأفرز إلى هؤلاء محلًّا معينًا، وعين لهم علايف شهرية، وأقامهم رؤساء في ديوان خصوصي، وكانوا في كل يوم يجتمعون، وأقام معهم رجلًا فرنساويًّا مترجمًا من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية.
ثم إن أمير الجيوش بونابارته رتب ديوانًا ثانيًا سبعة أنفار من التجار، ومعهم رجلًا فرنساويًّا مترجمًا؛ وذلك ليكون ديوان البحر، وأفرز لهم محلَّات معلومة لاستماع دعاوى التجار والمتسبِّبين، وأحضر أمير الجيوش محمد كتخدا المسلماني، فهذا كان أصله أرمنيًّا وأسلم وترقَّى في زمان المماليك إلى أن صار كتخدا إبراهيم بيك الصغير الذي غرق في النيل يوم الحرب، فجعل هذا الرجل أغة الإنكشارية، وأحضر أيضًا رجلًا من الأوجاقات وجعله على الاحتساب، وأحضر أيضًا رجلًا يسمى علي أغا وجعله واليًا على البلد، ثم أمر أمير الجيوش بأن تُفرز محلات معينة لأجل المطابع التي أحضرها معه من رومية، وهي تطبع بجميع اللغات كما قدمنا ذكره، وجعل لذلك محلَّات على شاطئ اليزبكية.
ثم إن أمير الجيوش قسم البلد خطوطًا، وجعل لكل خطٍّ حاكمًا فرنساويًّا، وكانت الولاة من الفرنساوية واقفين على باب المدينة ليلًا ونهارًا، وخارجًا إلى حدود بولاق وإلى حدود الجيزة، وانقطعت جنس اللصوص والخطَّافين والعربان والسرَّاقين، وكانت حكام الخطوط في كل سبة يطلقون المنادات على الرعايا بكناسة الطرقات والشوارع ورش الماء لأجل النضافة ونظام الطرقات، ورسموا أن على كل باب بيت أو باب وكالة يكون قنديلًا شاعلًا كل الليل، وكانت حكام الخطوط تدور في الليل فكل باب لم يجدوا عليه قنديلًا فكانوا يضربون عليه مسمارًا، وفي الغد يقع على صاحبه القِصاص وكانت المدينة تضيء في الليل كالنهار.
ثم إن أمير الجيوش أحضر مصطفى أغا كتخدا باكير باشا وآمنه وألبسه فروًا، وجعله أمير الحاجِّ، وأمره أن يباشر لوازم الحاج وما يحتاج إليه، وقال: لماذا الوزير فر هاربًا مع المماليك؟ ألم يعلم أننا متحدين مع الدولة العثماينة؟ ونحن ما حضرنا إلى هذه الأمصار إلَّا بالإذن من السلطان سليم والاختيار، ثم أمر إلى مصطفى أغا أن يحرر إلى باكير باشا بأن يرجع إلى القلعة، كما كان وله الكرامة والأمان، ورجع مصطفى آغا من أمامه وهو منشرح الصدر مستغربًا هذا الأمر.
ثم إن أمير الجيوش شغَّل الضربخانة في القلعة، كما كانت، وأمر أن يضع اسم السلطان سليم حسب العادة، وأمر أيضًا أمير الجيوش أن يفرزوا محلات للمرضى والمجروحين المعروف بالاسبستار، وأفرزوا لذلك قصر المعنى الذي على شاطئ النيل بين القاهرة ومصر القديمة، فجعلوا أماكن لأجل صنع الأدوية، وأقام هناك رئيسًا للأطباء ورئيسًا للجرايحية.
وبعد ذلك أمر أمير الجيوش بونابارته بتفريق الجنراليات على الأقاليم المصرية، فأقام الجنرال ديزه على إقليم بلاد الصعيد، وكان هذا الجنرال برج مشيد وبطل عنيد، ثم أقام الجنرال مورا وكان من الأبطال الشداد، وقلده أحكام إقليم القلوبية، وكان شابًّا بالسنِّ بديعًا بالحسن، ثم أقام الجنرال لانوس الرجل الوديع المانوس، وكان خبيرًا بالحروب ومقدامًا على الشدايد والخطوب، وقلَّده إقليم المنوفية من الجهة الغربية، ثم أحضر الجنرال دُكا الحسن السورة صاحب الوقايع المشهورة، وقلده أحكام المنصورة، وهي بلد مشهورة، وإقليمها واسع وبرها شاسع.
ثم أحضر الجنرال ويال وكان حميد الخصال وبطلًا من الأبطال، وأرسله إلى مدينة دمياط، وصحبته ثلاثماية نفر صلدات، وسار بسرعة ونشاط إلى أن دخل البلد، فالتقوه العلماء والأعيان وأعطاهم الأمان، ثم نظم إقليم دمياط أحسن مما كان، أما ذاك البطل العنيد والليث الصنديد صاحب العز والنصر المشيد، الذي كان بين تلك الجيوش فريد الجنرال دبوي؛ فإن أمير الجيوش أقامه شيخ البلد مكانًا إبراهيم بيك؛ لأن ذاك الانتصار وفتح تلك الأمصار كان عن يد هذا الجبار، ثم إن أمير الجيوش أحضر أحد الكوميسارية الكبار المسمى بوسلنج، وقلَّده مُعاطاة الأقلام الميرية وضبط مداخيل الأقاليم المصرية، وأقامه في بيت الشيخ البكري الكاين في بركة اليزبكية، وكان المصريون يدعونه الوزير أي وزير المشيخة الفرنساوية، وارتقى هذا إلى رتبة علية، وكان عالمًا بعلم الحسابات كاملًا بجميع الصفات، ولفظة كوميسارية هم الذين لا يتعلَّقون بأمور الحرب، بل في مُعاطاة الكتابة والحسابات والصنايع وما ماثل ذلك.
ثم إن بونابارته أقام خزندار إلى المشيخة أحد الكوميسارية المدعو استيفو، وهو كان عالمًا بعلم الحسابات وجميع الأمور تصل إليه، ثم أمر أمير الجيوش أن العلماء الفرنساويين والفلاسفة يسكنون في البيوت التي إلى قاسم بيك وحسن بيك وما حولهم من بيوت الكشَّاف، التي هي في باب الناصرية النافذة إلى مصر العتيقة، ثم إن أمير الجيوش بونابارته أمر أن يفرزوا محلات معينة خارجًا من المدينة بحفظ الكرنتنا، وكذلك في مدينة الإسكندرية، ثم في مدينة رشيد، ثم لمدينة مصر تكون الكرنتينا في بولاق، ثم لمدينة دمياط فتكون الكرتينا في مدينة القربة، وشرعوا في بناية المحلات المعلومة؛ وذلك لمنع رايحة الطاعون المسمومة، كما جرت العادة في بلادهم.
ثم إن أمير الجيوش من بعد ما رتَّب الترتيب المقدم ذكره، أخذ جانب من العساكر وسار بهم قاصد مدينة بلبيس؛ لمحاربة الوزير باكير باشا وإبراهيم بيك، وخرج في شهر سفر، وحين قارب مدينة بلبيس بلغه أن الباشا وإبراهيم بيك هربوا إلى الصالحية، فتبع أثرهم، وهناك التقت بهم خيالة الإفرنج وهجمت عليهم في تلك المرج، وابتدأ الحرب واشتد البلاء والكرب، وإذ كانت الفرنساوية على الخيل لا يستطيعون مقاومة الغز المصريين، فرجعوا عنهم مكسورين، فمات منهم جملة مقتولين، ولما وصل الخبر إلى أمير الجيوش فسار في الحال، وحين بلغ الغزَّ قدومه فولُّوا منهزمين، ولم يزالوا سايرين إلى أن وصلوا لمدينة غزة، ورجعت العساكر الفرنساوية إلى مصر وهم مايدين بالسعد والنصر.
نخبِّركم يا أهل المداين والأمصار، وسكَّان الرياف والعربان، كبارًا وصغارًا أن إبراهيم بيك ومراد بيك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى ساير الأقاليم المصرية؛ لأجل تحريك الفتن بين المخلوقات، ويدَّعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه، وذلك كله كذب وبهتان؛ وسبب ذلك أنه حصل لهم شدة الغم والكرب والهم، واغتاظوا غيظًا شديدًا من علماء مصر ورعاياهم؛ حيث ما وافقوهم على الخروج معهم وترك أعيالهم وأوطانهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتن والشر بين الرعية والفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كل الرعيَّة والعباد؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزايد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية، ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين وأنها من حضرة سلطان السلاطين لَكان أرسلها جهارًا مع أغاوات من طرفه معينين.
ونخبِّركم أن الطايفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوايف الإفرنجية دايمًا يحبون المسلمين وملَّتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، وهم أحباب لمولانا السلطان قايمين بنصرته، وأصدقاء له ملازمين لمودته ومعونته، ويحبون من والاه ويبغضون من عاداه، وكذلك بين الفرنساوية والمسكوب غاية العداوة الشديدة؛ لأجل عداوة المسكوب للإسلام وأهل الموحِّدين، وأعلمهم أن المسكوب يتمنى الأخذ لإسلامبول المحروسة، ويعمل أنواع الحيل والدسايس المعكوسة في أخذ ساير الممالك العثمانية الإسلامية، لكنه لا يحصل على ذلك بسبب اتحاد الفرنساوية وحبهم وإعانتهم إلى الدولة العلية، ويريدون يستولون على أياصوفية وبقية المساجد الإسلامية ويقلبوها كنايس للعبادة الفاسدة والديانة القبيحة الردية، والطايفة الفرنساوية يُعينون حضرة مولانا السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله، ولا يبقون منهم بقية.
وننصحكم يا أيها سكان الأقاليم المصرية أنكم لا تحرِّكوا الفتن ولا الشر بين البرية، وإياكم تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية؛ فيحصل لكم الضرر والبلية، فإذن لا تسمعوا كلام المفسدين، ولا تطيعوا كلام المصرفين بالفساد في الأرض الغير مصلحين؛ فتصبحون على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكل الملتزمين؛ لتكونوا في أوطانكم سالمين، وعلى أعيالكم وأموالكم آمنين؛ لأن حضرة السرعسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا أنه لا ينازع أحدًا على دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شُرع من الأحكام، ويرفع عن ساير الرعية الظلم، ويقتصر عن أخذ الخراج، ويُزيل ما أبدعته الظلمة من المغارم، ولا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مالك الممالك وخالق العباد، فقد قال نبيُّه ورسوله الأكرم: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأُمم.» عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثم إن أمير الجيوش بعد ما طرد إبراهيم بيك وباكير باشا في شهر سفر، ورجع إلى مصر، أحضر القنصل كارلو وأمره أن يتوجَّه إلى مراد بيك في الصعيد، ويتكلم معه أن يُقدم الطاعة إلى أمير الجيوش، ويكون عضوًا من أعضاء المشيخة، ويتقلد أحكام مدينة جرجة وأعمال الصعيد، ويكتسب راحته وراحة البلاد والعباد، ويكون له الأمان، فسار القنصل إلى مراد بيك بذلك الخطاب، وفي وصوله ترحب به مراد بيك غاية الترحيب، وقابله مقابلة الحبيب؛ لأن كان هذا القنصل له مدة مستطيلة في مصر وكان محبوبًا من ساير السناجق ولا سيما من مراد بيك، وكان له عنده مبلغ من المال، ثم إن مراد بيك سأله مستخبرًا عن أحوال مصر، فأخبره القنصل بكل ما دبره أمير الجيوش، ثم قال له: إن بونابرته أرسلني إليك لأجل الاعتماد على إجراء الحب والوداد، وأن تحقن دما العباد وتكتسب راحة البلاد، فقال مراد بيك إلى القنصل: ارجع وقل له يجمع عساكره ويرجع إلى الإسكندرية، ويأخذ منها مصروف عسكره عشرة آلاف كيس، ويكسب دما أجناده ويُريحنا من كفاحه وجلاده، فرجع القنصل إلى مصر، وأخبر بونابرته بما سمعه من مراد بيك، فغضب أمير الجيوش من ذلك، وفي الحال أمر الجنرال ديزه المعيَّن على إقليم الصعيد بأن يسير بالعساكر إلى حرب مراد بيك، فأخذ الجنرال أربعة آلاف مقاتل وسار بها إلى الصعيد.
فنرجع أن أمير الجيوش بونابرته في ابتداء قدومه أخرج العساكر من المراكب إلى البرِّية في ثغر الإسكندرية، وأمر إلى سرعسكر البحر أنه يبقى مقيمًا في البوغاظ لحماية الحصون؛ لأنه قد احتسب إن لم يتوفَّق له فتوح مصر، فيحتاجوا إلى العمارة، وأوصاه أن لا يلقي مراسيه في المينا، بل دايمًا يطوف أمام إسكندرية وهو مُشرع القلوع، ثم بعد أن أمير الجيوش فتح مصر، أرسل إلى السرعسكر نجابًا يأمره بالقيام، وقيل إن ذلك النجاب مات في الطريق، ثم أرسل له نجابًا ثانيًا فلم يصله من العربان.
وكان السرعسكر أرمى مراسيه في مينة أبوقير واطمأن، وكانت مراكبه الكبار الحربية ثلاثة وعشرين مركبًا، ومنهم مركب عظيم وهو المدعو بنصف الدنيا، وكان محموله ماية وثمانون مدفعًا، وفيه ألف من العساكر، وكان فيه أموال جزيلة وذخاير ثمينة، أسلبوها من تلك الممالك التي تملكوها كما قدمنا ذكرها، وعندما كانت تلك العمارة رابطة في البوغاظ وغافلة عن الإيقاظ، فدهمتهم مراكب الإنكليز على بغتةٍ، وبدوا يطلقون عليهم القنابر والمدافع، واشتد عليهم الحرب يومًا وليلةً، فاحترق من تلك العمارة العظيمة أربع مراكب كبار، ومنهم تلك السفينة العظيمة والقلعة الجسيمة المسماة بنصف الدنيا، واستمرت تتقد في البحر أربعة أيام، ومات من فيها من العسكر وسرعسكرها الذي بسوء تدبيره قد هلك وأهلك معه نفوسًا كثيرةً، واحتوت الإنكليز على أكثر تلك المراكب، واستأسرت من فيها من العساكر، وأكثرهم هلكوا من ضرب المدافع والقنابر، ولما وصل ذلك الخبر المريع والخطب الشنيع إلى أمير الجيوش، فصار كالمدهوش، وصفَّق بكفه ودبَّ برجليه، واحمرَّت مُقلتاه، وتسخَّط على ذلك الجنرال لعدم إطاعته والامتثال، وقال: جزاه ما حلَّ به من الوبال، وصاحت الفرنساوية: يا لها من بلية، لقد خابت الآمال وهلكت الرجال، وذهب الحال والمال، لقد امتنع عنا الإمداد وخرمت علينا البلاد، وشمتت بنا الأعداء والحسَّاد، وطمعت بنا الإسلام وزاد علينا الخصام، وكان ذلك بدأ الإنكيس وأول التعكيس، وقد أيقنت الفرنساوية بالتهلكة بعد كسب المملكة؛ لحجز الإمداد عنهم ونفور الإسلام منهم؛ لأن الفرنساوية قد استعملت احتيالات كثيرة، وسلكوا مسالك غزيرة لأجل الضرورة، كاشتهارهم بالإسلامية ونكرانهم النصرانية، وإظهارهم للحرية وإقرارهم بالاتحاد مع الدولة العثمانية، وأنهم بإذنها دخلوا الديار المصرية، وأنهم مع الإسلام على أخلص طوية وأصلح نية، ويرغبون راحتهم ويحبون ديانتهم.
وكان الفرنساوية مؤانستهم غريبة وطول أناتهم عجيبة، وكانوا أحسن سلوكًا من ساير الجنوس، واشَّهروا بالأمن وطولة البال، وطيبة النفوس، ونشروا العدل وحسن الأحكام، وقد احتووا الشرايع الحقيقية على التمام، ومع كل ذلك قلوب الإسلام غير آمنة، والأحقاد في ضمايرهم كامنة، ويشتهون لهم المهالك والوقوع في أضيق المسالك؛ فهذا ما ألجأ أمير الجيوش إلى المخافة، فبدأ الاحتيال بحسن الرقة واللطافة؛ لجذب القلوب وتحصيل المطلوب، وكان هذا الأمير المشتهر أسد من الأسود ونادرًا في الوجود، رهط من الأرهاط العظام حكيمًا عليمًا بمكايد الأيام.