ذكر أمير الحجِّ لما خرج في الحجِّ قبل دخول الفرنساوية
إنه في سنة ١٢١٢ خرج الحج الشريف من مدينة مصر وكان صالح بيك أمير الحج، وبعد رجوعه من الزيارة الشريفة في الطريق وصلت له الأخبار عن دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية وخروج الغزِّ، فبكى صالح بيك على خراب أوطانه وتفرُّق خلَّانه وذهاب ماله وسبي أعياله، وغاص في بحر الأفكار وخاف من رجوعه إلى تلك الديار، وصار حايرًا من تلك المصايب وفرقة الحبايب، وقطع رجاه والأمل ولم يعرف كيف العمل؟ وأخذ بالمشورة مع أصحابه وخلانه، فثبت رأيه أن يتوجه إلى القدس الشريف صحبته المحمل المنيف، ولم يزل سايرًا بعزم ضعيف إلى أن وصل إلى القدس الشريف، فحينما شاهدوه أهالي المدينة بدوا يشتمون ويقولون: لعنكم الله يا ملاعين ويا أظلم الظالمين، سلمتم مدينة الإسلام إلى الفرنساوية اللئام، وهربتم من وجه الكفار، وابتديتم تخربوا هذه الديار، فلما سمع صالح بك تلك الشتايم المغمَّة والألفاظ المسمَّة، فاتقدت بقلبه النيران، وغاص في البحران، ونزل في منزله وهو مثل النشوان، ومرض جملة أيام من قهره ثم توارى في قبره، وهكذا جرى إلى إبراهيم بيك ولمن معه لما حضروا إلى أراضي الشام، فكانوا يسمعون من الناس غليظ الكلام، وقد ذاقوا المشقة والأتعاب وقضوا الإهانة والعذاب في البراري والقفار من الذلِّ والأضرار، وكانوا أهالي الشام يعيِّرونهم في الكلام، ويلومونهم وهم لا يستحقون الملام، وما كانوا يدرون ما قاست الغزُّ في الحرب والصدام من الكفرة اللئام، وكانوا يظنون أن الغز هربت من تلك البلدان من دون حرب ولا طعان، ولم يدروا ما جرى عليهم من أوليك الشجعان، فهذا ما كان من الغز بأرض الشام.
وأما ما كان من أمير الجيوش؛ فإن بعد قيام الفرنساوية بمدة طويلة في مصر علموا أن عداوتهم في سراير الإسلام مستكنَّة؛ فلذلك لم تكن قلوبهم مطمئنة، وكانوا يخشون تسليم كتاباتهم للسعاة من أهل تلك البلاد، فأمر أمير الجيوش بإبطال السعاة من مصر إلى البنادر، وكانوا يرسلون المكاتيب في المراكب، وكانوا يضعون فيها عدة من الصلدات؛ لأن المراكب كانت لأهل تلك البلاد والنوتية منهم، ومن كون أن أهل تلك البلاد عازمين على ضرر الفرنساوية ومهمُّين على تلك النية، فكانوا يضيعون كثيرًا من الصلدات مع الذين يسافرون إلى البنادر، فالتزم أمير جيوش أن يبطِّل ذلك، ورجَّع السعاة من أهل البلاد كالمعتاد.
وقد كنا ذكرنا أن أمير الجيوش حينما تسلم مدينة الإسكندرية قلد السيد محمد كريم لتدبير أمور البلد، كعادة في أيام مراد بيك، ففي ذلك الزمان وقع منه مكاتبة إلى مراد بيك يحثه على الحضور إلى الإسكندرية؛ لكي يسلِّمه البلد، فلما وصلت تلك المكاتيب إلى أمير الجيوش ففسَّرهم وفهم ما فيهم، وفي الحال أرسل إلى الجنرال الحاكم في الإسكندرية بأن يقبض على السيد محمد كريم ويرسله له، وحين حضر السيد محمد كريم قدَّام أمير الجيوش سأله عن تلك الكتابات فأنكر ذلك، فأخرج له إياهم، وحين نظر كتاباته صار مذهولًا ولم يعلم ماذا يقول، فأمر أمير الجيوش بإرساله إلى شيخ البلد، وقد أتت العلماء والأعيان يترجَّونه بإطلاقه، فأجابهم: أن قد عرض أمره على الشريعة وحكمت عليه بالموت، ودفعوا عنه خمسين كيس فلم يقبل ذلك، وقال لهم: إن شريعتنا لا تقبل الرشوة، ولا يقدر أحد أن ينقذه من الموت، حتى ولا أمير الجيوش؛ لأن الشريعة إذا حكمت على أحد بالموت فلا بد له من ذلك، ثم أعرض عليهم تلك الكتابات، وأحضر السيد محمد كريم وقال له: هذا خطُّك، قال: نعم، ثم رجَّعه إلى السجن إلى أن انصرفت العلماء، وأمر بأن يمضوا بالسيد محمد كريم إلى ساحة الرملة ويطلقوا عليه الرصاص، وكان وهو ساير ينادي: يا أمة محمد اليوم بي وغدًا بكم، وحين قتل كان حزن عظيم عند المصريين، ومن ذلك الوقت تنافرت قلوبهم بالزيادة.
وقد كانت الإنكليز بعد تملكهم عمارة الفرنساوية، قد ربطت عليهم البواغيظ وحاصرتهم في الديار المصرية، فأرسل سرعسكرهم وأعلم ملكهم بذلك الاقتدار، فهاجت المملكة واستبشرت بالانتصار، وهيجوا معهم الدول الإفرنجية، واستنهضوا لمحاربة الفرنساوية، ومن حيث إن الجمهور الفرنساوي قد قهر ساير الممالك الإفرنجية وظفر بهم وسلب أموالهم وتملَّك منهم مُدُنًا وقلعًا حصنيةً، وذلك ببطش مقدَّمهم وناشر أعلامهم الفرد الظاهر والليث الظافر أمير جيوشهم بونابرته، وقد ترك في ساير الأقاليم الإفرنجية مخافة قلبية، سيما بعد اطِّلاعهم على التملك في الديار المصرية، ولكن حين بلغهم ما فعلت بهم الإنكليز، وأن قد ربطت عليهم البواغيظ، فقويت قلوبهم وأملوا بنيل مطلوبهم، فصمموا النية على طرد العساكر الفرنساوية التي قد كان تركها في الأقاليم الإفرنجية، وأشهر الحرب ملك النمسا، واستنهض معه ملك بروسا، ونهضت ممالك إيطاليا مع رومية الكبرى، هذا ما كان، وسيأتي الكلام عنه في غير مكان.
وقد ذكرنا أن الفرنساوية حين تملكوا مالطة أبقوا بها ستة آلاف من العسكر وأصحبوا عوضها، وفي هذه الأيام توجَّهت الإنكليز إلى تلك البواغيظ، وحاصرت مدينة مالطة أشد حصار إلى أن أضر بهم الجوع وأيقنوا بالفجوع، فتسلَّموا الإنكليز المدينة بالأمان، وقويت شوكة الإنكليز، فاشتد بأسهم في تملك مالطة؛ لأنها بالقرب من الإسكندرية.