ذكر ما تمَّ في ممالك الدولة العثمانية
إنه من المعلوم عندكم اتحاد الدولة الفرنساوية مع الدولة العثمانية بالحب والصدوقية منذ أعوام عديدة، ثم لا خفاكم عداوتنا مع دولة الإنكليز، وسطاها على بلداننا التي في أراضي الهند، فاضطرنا إلى الحضور إلى هذه الأقطار المصرية، وذلك بإذن الدولة العثمانية وبإرادتها الكلية؛ أولًا: لقطع شجرة المماليك العُصاة على الدولة العلية، ثانيًا: لكي بعد قطع هؤلاء الظالمين وتمهيد المملكة وخلاصها من يد القوم الفاجرين، فنسير إلى الأقطار الهندية؛ لتخليص بلادنا وأرضنا من الدولة الإنكليزية، وها نحن مباشرين في قرض المماليك العصاة على السلطان، وما أتينا إلا أننا نحامي عن المسلمين، ونرفع شرايع الدين، ونسيِّر محمل الحج الشريف إلى المقام المنيف، ونبقي السكة والخطبة باسم حضرة محبِّنا السلطان سليم دام بالعز والتنعيم؛ فبنًا على ذلك أصدرنا لكم هذا الكتاب؛ لتعلموا منا حقيقة السبب الداعي لهذا الإياب، وتكونوا من قبلنا في حيز الأمان وغاية الاطمئنان، وتفتحوا البنادر، وتسيِّروا المتاجر لعمار البلاد وراحة العباد والسلام.
ثم إن الجزار ابتدأ يحرر إلى ساير الأقاليم المصرية، ويستنهضهم على القيام على الفرنساوية، وكانوا الغز الذين حضروا إلى بر الشام تهيِّج الفلاحين والعربان لذلك المرام، ويكتبوا لهم على النهوض والقيام، وقد تظاهرت المصريون في العصاوة والأسيَّة على الطايفة الفرنساوية، وقامت الأربع أقاليم المصرية؛ القبلية والبحرية والغربية والشرقية، وكان في كل وقت يقع الخصام بينهم وبين الجنرالية من الأربع الجهات المصرية، وتُحرق البلاد وتهلك العباد، إلى أن هلك عربان كثيرة العدد ومن فلاحين البلد.
وأما ذلك الكوميسارية الذي رجع من عند الجزار فإنه وصل إلى دمياط، وفي الغد سار إلى مصر، وأخبر أمير الجيوش بما تم له من الجزار، فاشتد بالغضب من ذلك السبب، وبدأ من ذلك الحين يباشر بتجهيز السفر وما يحتاج إليه من الاستحضار.
وقد كنا ذكرنا أن في المنصورة أقام من الفرنساوية ما ينيف عن ماية وثلاثين صلدات، وفي ذلك الوقت بدت أهالي البلد يتشاورون على قتلهم، وإذ كانت هذه البلدة بعيدة عن مدينة مصر، وبرُّها مُتَّسعٌ وعربانها كثيرة، وقد كان في كل جمعة نهار الخميس يصير السوق، ويجتمع فيه كثير من الناس لأجل البيع والشرا، ففي أحد الأيام قامت أهالي المدينة، وكبسوا أوليك الصلدات الفرنساوية، وانتشب الحرب بينهم، وإذ تضايقت الفرنساوية، وكاد يخلص ما عندهم من البارود، فخرجوا إلى البر ونزلوا في إحدى المراكب، فتكاثرت عليهم أوليك العوالم المجتمعة في يوم الخميس، وقد كان ذلك الوقت أيام جبر النيل، فلم تسير معهم المراكب، والتزموا بالرجوع إلى البر، وقصدوا يسيروا برًّا إلى مصر، فلم تمكِّنهم أوليك الأمم، وأورثوهم مواريث العدم، ولم يزالوا يكافحون وعن أرواحهم يدافعون، إلى أن قُتلوا عن آخرهم، ولم يبق بقية من أوليك الصلدات الفرنساوية، وحين وصلت الأخبار فاشتد بأمير الجيوش الغيظ والغضب، وأمر الجنرال دوكا بأن يتوجه إلى المنصورة ويُحرقها، ويقتل كل من بها، فسار الجنرال بثلاثة آلاف صلدات، وحينما بلغ أهالي المنصورة قدومه، فهربوا منه ولم يبق إلا القليل، وحين وصوله رأى البلد خرابًا، وتقدم إليه أوليك الباقون، وابتدوا يعتذرون له بقولهم: إن أهالي المدينة ليس لهم ذنب بذلك الصنيع، وإنما صدر ذلك من الفلاحين والعربان لكثرتهم في ذلك الميعاد من كل البلاد، وإن أهل المدينة حيث تحققوا أن ليس لهم اقتدار عن منع أوليك الأقذار فروا هاربين خوفًا من الفرنساويين، فلما سمع الجنرال ذلك الكلام قَبِل اعتذارهم وعفا عن خراب ديارهم، وأمرهم في الرجوع والطاعة والخضوع.
ثم إن الجنرال دوكا صنع ديوانًا وقال لهم: إنني مأمور من أمير الجيوش بأن أُحرق هذه المدينة وأقتل كل من وُجِد بها، ولكنني قد قبلت عذركم وصفحت عن ذنبكم، ولكن من حيث أن قبل ما تقع هذه الشرور ما أعرضتم عن ما أنتم مطلعين عليه من حقايق الأمور، مع أنكم تعرفون رداوة أهل البلاد وما هم عليه من العناد؛ فيلزمكم أن تدفعوا جريمة قصاصكم أربعة آلاف كيس فدا دماكم، فقبلت الرعية ذلك المقال، وفي مدة قليلة أوردوه المال، وبعد ذلك أرسل الجنرال دوكا وأعرض على أمير الجيوش ما تدبَّر، فرجع له الجواب بأن يأمر أهل تلك الأقاليم أن يرفعوا بيراق الفرنساوية على رءوس المآذن، وكل بلد لا ترفع ذلك السنجاق حالًا تُحرق.
وقد كنا ذكرنا أنه حين دخل أمير الجيوش إلى القاهرة ورتَّب أمورها وقلد الجنرالية الأحكام في الديار المصرية، وأرسل الجنرال ويال إلى مدينة دمياط، فهذا الجنرال كان ذا مكر واحتيال وبطل من الأبطال، فلما استقر في مدينة دمياط أحضر إليه سبعة أنفار من التجار الكبار، وأقامهم لتدبير البلد وتلك الديار، ثم رتب أغا إنكشارية وأقام واليًا للبلد ومحتسبًا للديوان، ورتب الترتيب القديم، وأحضر شيخ قرية الشعرا وهي بالقرب من مدينة دمياط وألبسه فروًا وقلده سيفًا، وأحضر لديه شيخ إقليم المنزلة المعروف بالشيخ حسن طوبال وقلده سيفًا مذهَّبًا.
وهذا الشيخ المذكور كانت أهالي تلك الأقاليم تمتثل رأيه وتقتدي به، وبعدما تقلد ذلك الالتزام أتت إليه الكتابات من أحمد باشا الجزار ومن إبراهيم بيك، وبها يحثُّوه أن لا يقبل الفرنساويين في أرضهم، وأن يستنهض أهالي الأقاليم ضدهم ويكون مجاهدًا في حربهم، وكانوا في كتاباتهم له يوعدوه بسرعة وصولهم إليه بالعساكر الوافرة، ومن ذلك السبب تشاهر هذا الشيخ المذكور في خبث النية ضد الفرنساوية، وقد استنهض أهل تلك القرايا الذين حوله، وعمدوا رأيهم أن يجتمعوا في قرية الشعرا بالقرب من دمياط ويكبسوا الفرنساوية ليلًا، وأوصلوا العلم مع أهالي دمياط، واتفقوا جميعًا على ذلك الرباط، وفي شهر ربيع الثاني كبست الرجال البلد ليلًا، وقد كان مسكن الفرنساوية في الوكايل التي على البحر، وهجموا بضجيج عظيم وعجيج جسيم وهم ينادون: اليوم يوم المغازاة من هؤلاء الكفار ومن يتبعهم من النصارى، اليوم ننصر الدين ونقتل هؤلاء الملاعين، فانتبهت الفرنساوية من المنام، واستعدوا للحرب والصدام، والتقوا في تلك الأمم وأورثوهم مورث العدم، واصطفُّوا صفوف وضربوهم بالرصاص والسيوف، ومنعوهم عن الدخول، وكانت ليلة مرعبة ونار ملهبة، فلله درُّهم من الرجال! ما أشدهم بالحرب والقتال! لأن كانت تلك الأمم قدرهم أضعاف فكسروهم بلا خلاف وأوردوهم موارد التلاف، وقبل أن يطلع النهار أخرجوهم من البلد قوةً واقتدارًا إلى البر والقفار، ورجعوا إلى قرية الشعرا خاسرين وفي أمورهم حايرين.
وكان قد وصلت الأخبار عند طلوع الشمس إلى أهالي الغربة، وهي قرية صغيرة عند بوغاظ البحر المالح أن المسلمين كبست دمياط وقتلوا أوليك الكفار ولم يبقوا منهم آثار وقتلوا جميع نصارى البلد ولم يبقوا منهم أحد، وكان في قرية الغربة خمسة أنفار من الإفرنج فهجموا عليهم وقتلوهم، وقدم مركب فيه ثلاثة أنفار فقتلوهم، ثم هجموا على قلعة الغربة وكان بها عشرين من الفرنساويين، فأغلقوا الأبواب وأرموهم بالرصاص فرجعوا عنهم خاسرين، وعند نصف النهار تحققت الأخبار بأن الرجال المسلمين رجعوا منكسرين والفرنساوية في دمياط مقيمين، فندم أهل الغربة على تلك الفعال، وخافوا على الحريم والعيال، وفي ساعة الحال جمعوا أموالهم وأخذوا عيالهم وانحدروا في المراكب هاربين، وإلى نواحي عكَّا قاصدين، ووصل الخبر إلى دمياط بما صار في الغربة من الاختباط، فركب الجنرال ويال إلى الغربة فلم يجد بها أحدًا، فنهبوا ما وجدوه وأحرقوها بالنار، ورجع إلى دمياط، وابتدأت الإفرنج تبني في الغربة حصونًا للعساكر.
ثم بعد رجوع الجنرال ويال إلى دمياط بلغه إن لم تزل أهل تلك البلاد مجتمعين وفي قرية الشعرا مقيمين، فعزم الجنرال ويال على المسير إليهم والقدوم عليهم، وأمر بأن المجاريح والمرضى من الإفرنج ينزلوا إلى المراكب خوفًا من مسلمين البلد ومما يتجدَّد، وحين شاهدت النصارى أن الفرنساوية عازمين على تخلية البندر فساروا إلى ذلك السرعسكر وقالوا له: ما يحل لك أيها الجنرال أن تذهب وتلقينا بأيدي هؤلاء الأشرار؛ لأننا قد سمعنا منهم أمرارًا قايلين: اقتلوا النصارى قبل الفرنساوية؛ لأنهم متحدين معهم سويةً، فلما نظر الجنرال ويال ما حلَّ بالنصارى من الخوف والوبال انثنى عزمه عن القتال، وكتب إلى الجنرال دوكا حاكم مدينة المنصورة يطلب منه الإسعاف، فوجَّه له ماية وخمسين صلدات، وحين حضروا سار بهم إلى قرية الشعرا بعد ما ترك أجناده في دمياط، وحين وصل إلى الشعرا انهزمت منه تلك الجموع، فأحرق البلد وقتل من وجد بها، ورجع إلى دمياط بقوة ونشاط، وصنع شنلك عظيم، ونشر البيارق علامة الانتصار، ونكس البيراق العثماني الذي كان ناشره سابقًا، حيث كان قد أمر أمير الجيوش أن في كل مكان توجد الفرنساوية فلينشروا سنجاق الدولة العثمانية.
وبعد أيام يسيرة حضر الجنرال دوكا إلى دمياط، وعقد المشورة مع الجنرال ويال على أخذ الجيزة وبلدة المنزلة، ثم رجع الجنرال دوكا إلى المنصورة، ومن هناك سار بالعساكر إلى البحر الصغير قاصدًا إقليم المنزلة، فخرجت له عربان ذلك البر في محلة يقال لها الجملة، والتقى في جماعة وفيَّة وفرسان قوية، فصادمهم هذا الشجاع والقرم المنَّاع وشتت عسكرهم وأفنى أكثرهم، وأحرق تلك البلدة، ثم سار إلى المنزلة فحين بلغ الشيخ حسن طوبال قدوم ذلك الأسد المغوار فارتجَّ رجةً عظيمةً، وطلب الهزيمة، وفر من ساعته إلى الأقطار الشامية، وعندما وصل الجنرال دوكا إلى بلدة المنزلة التقته أهلها، وقدموا له الطاعة، وأخبروه بانهزام الشيخ حسن طوبال، فأعطاهم الأمان، وأحضر أخا الشيخ حسن طوبال وأقامه شيخًا على تلك الديار، وضبط القوارب التي كانوا يسيرون بها من المنزلة إلى دمياط في البحيرة المالحة، وأرسل تلك القوارب إلى دمياط وكانت كثيرة في العدد تنوف عن خمسة آلاف، وقد أمنت الإفرنج في دمياط من نواحي إقليم المنزلة؛ لأن قد كان حسن طوبال منتظرًا قدوم عساكر الجزار ليركب بتلك القوارب ويأتي بها إلى مدينة دمياط، وبعد أيام يسيرة رجع الجنرال دوكا إلى المنصورة من بعد ما حارب في طريقه عربانًا كثيرة، الذين كانوا يقصدون حربه ويقفون في دربه، واستمر إقليم المنزلة وبرُّ دمياط طايعًا للفرنساوية، والعداوة في ضمايرهم مخفيَّة.
وقدمنا الشرح في تحكُّم الجنرالات الفرنساوية في الأقاليم المصرية، فكان الجنرال ميراد قد قلده أمير الجيوش أحكام إقليم القليوبية، وكان هذا الجنرال ذا شجاعة في القتال قوي البطش في الحرب والجدال، وحين سار في العساكر القوية إلى إقليم القليوبية، وكان هذا إقليم أصعب الأقاليم؛ لكثرة عربانه العُتاة وقومه العُصاة، وبراريه الواسعة ووديانه الشاسعة، فهذا البطل الشجاع أطاعته آل تلك البقاع والأصقاع من بعد ما أذاقهم حروبًا شديدة، وأحرق بلدانًا وأهلك عربان، وبحروب كثيرة أفنى قبايل غزيرة، وكان شيخ هذا الإقليم يدعى الشيخ الشواربي، وكان يجمع خلقًا وافرًا، وبلده كان بعيد يومًا عن القاهرة، وكان من القوم الجبابرة وعربان إقليمه فاجرة، فالتزم أن ينكس هامًا ويطيع قهرًا وإرغامًا، ثم إن هذا الجنرال من بعد ما تملَّك هذا الإقليم جمع الأموال الميرية والترتيبات السلطانية، ورجع إلى مدينة مصر بكل عزٍّ ونصر.
وأما الجنرال لانوس حاكم الإقليم المنوفية والجهات الغربية، فهذا الجنرال سار إلى مدينة منوف ومكث بها وجمع الأموال منها ومن القرى والجبال، وفرق عساكره على بلدانها، وأطاعته جميع سكانها، وهذا الإقليم كان ألين الأقاليم وأهونها وأجملها وأحسنها، ولم يحتاج هذا الجنرال النبيل إلا لحرب قليل؛ لأن كان أغلب أهالي الأرض المصرية هابت شجاعة الفرنساوية، ورجعت قلوبهم من شدة حروبهم؛ لأن الفرنساوية من بعد دخولهم إلى الديار المصرية وحريق عمارتهم على بوغاظ الإسكندرية انقطع آمالهم من الإمداد مع ما شاهدوه من الكره من أهالي البلاد وما لهم في قلوبهم من البغض والأحقاد، فكانوا يتنفسون الصعداء من صميم الفؤاد، ويهجمون ولا يهابون كثرة العدد، ويحاربون بأمور حكمية وفنون علمية وقلوب صخرية، غير هايبين الموت ولا خاشيين الفوت، ومكث هذا الجنرال في إقليم المنوفية مدة وفيَّة، وجمع الأموال الميرية، ومهَّد البلاد وطمَّن العباد، ورجع إلى مدينة مصر بعزٍّ ونصر، وقد ترك في مدينة منوف وكيلًا عوضًا عنه.
وقد ذكرنا أيضًا أن الجنرال ديزه تقلد من أمير الجيوش بونابرته إقليم الصعيد، وقد تعيَّن بالعساكر لحرب مراد بيك، وبعد ما فرَّ مراد بيك إلى الصعيد، قد ذكرنا عن توجه القنصل لعنده من أمير الجيوش في الخطاب وما كان من الجواب، فأمر أمير الجيوش الجنرال ديزه بالمسير بالعساكر إليه، وكانت أربعة آلاف مقاتل، وكان مراد بيك قد تجمَّع عنده الجيوش من الهوارا والفلاحين والعربان إلى المنية، وكانت مسافة ثلاثة أيام عن القاهرة، واجتمع إليه ما ينيف عن عشرين ألفًا، وكان في بر الصعيد عدة من المماليك الهاربين فحضروا لعنده، وحضر أيضًا حسن بيك الجرداوي، وعثمان بيك مماليك علي بيك الكبير، وهؤلاء كانوا مطرودين من الغزِّ، وعندما تقابلوا مع مراد بيك تصافحوا وأخلصوا الوداد وتركوا الأحقاد وغفروا السيئات وصفحوا عما فات، وقرءوا الفواتح على المغازاة في سبيل الله، وصاحوا: يا غيرة الدين ونصرة المسلمين، الله أكبر على هؤلاء الكافرين، واستعدُّوا غاية الاستعداد لملاقاة الأعداء والأضداد، وكانت الغز أفرس الفرسان في ركوب الخيل والحرب والطعان.
وكان الجنرال ديزة ساير إليهم في العساكر وهو غير فاكر إلى أن وصل إليهم وكشف عليهم، فوجدهم جيوش كثيرة وطموش غزيرة، فصفَّ عسكره صفوف بالترتيب الموصوف، وقرع الطبول النحاسية وتقدم بالعساكر الفرنساوية، وأطلق مدفعًا واحدًا للتنبيه، ثم أمر بإطلاق ثانية، فنهضت الغزُّ والعربان نهوض الأسود والشجعان بالسيوف الهندية والرماح السمهرية على ظهور الخيل العربية، وانقضَّت انقضاض الغربان إلى حومة الميدان، وصرخوا: اليوم يوم المغازاة وترك النفوس والمعاداة، وحملت العربان والغز والفرسان، واندفقت على الفرنساوية اندفاق البحور العرمرمية، وتساقطت من الجبال سقوط الصواعق العلوية، حتى خيل للناظرين أن الجبال تزعزعت والتلال تمزقت، وانتشب الحرب والقتال، وابتدأ ذلك الجنرال يروغ روغ المحتال حتى تملك في المجال، ودهمهم بالقنابر والكلل والرصاص الغير المحتمل، وبدأ يريهم فنون الحرب الغريبة وأنواع الأهوال العجيبة، التي لم تدركها العربان ولا تعرفها الغز والفرسان، وصاح بهم صيحة الأسد الغضبان في تلك الجبال والوديان، حتى لم يعودوا يقدروا على الثبوت تجاه ذلك البهموت، وزحمتهم أوليك الأسود، حتى ملكوا متاريسهم وأشهروا تنكيسهم وشتاتهم في الجبال والتلال بشدة الحرب والقتال، وملكوا مدافعهم وأعلامهم ومضاربهم وخيامهم، وكسروا تلك الجماهير بقوة العزيز القدير.
وذهب مراد بيك مع عزوته إلى أعلى الصعيد، وهو متحيِّر من صلابة هؤلاء الصناديد وقوة قلبهم الشديد، وفنونهم العجيبة وشجاعتهم الغريبة، ودخل الجنرال ديزه إلى مدينة المنية، وأقام بها وحصَّن قلعها وأبراجها، وبدأ يسير ورا مراد بيك مرحلة بعد مرحلة إلى محلٍّ يقال له الأهون، وهناك حدثت بينهم وقعة عظيمة، وكان قد تجمع مع مراد بيك جموع كثيرة وطموش غزيرة، فشتَّتهم ذلك الجنرال في البراري والقفار، ولم يزل ذلك الجنرال يقاتل في إقليم الصعيد حتى أطاعه الشيخ والوليد، وهابته الأسياد والعبيد، وهرب منه مراد بيك إلى مدينة أصوان، ثم إلى بريم، ومن هناك رجع الجنرال ديزه إلى الصعيد، ودبر الإقليم المذكور برأيه السديد، وأمر في بنيان الحصون الرفيعة في جميع تلك المدن المنيعة، ثم إنه جبى الأموال الميرية والمعاليم السلطانية، ورتب الصعيد ومهد ذلك الإقليم غاية التمهيد، وكَلَّ مراد بيك من حروب الفرنساويين من بعد حروب عديدة وأهوال شديدة.
وكان حينما بلغ أهالي الحجاز دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية فارتجت سكان تلك الأرض وماجت واضطربت وهاجت، فتحرك من الأشراف السيد محمد الجيلاني، وقد جمع سبعة آلاف أماجيد، وحضر بهم إلى الصعيد، واجتمع إليه العربان من أهل تلك البلدان عشرة آلاف من غير خلاف، وظهر أمره واشتهر خبره، فبلغ الجنرال ديزه قدوم ذلك العسكر، فما هابه ولا تفكَّر، بل إنه كبس عليهم بالليل بكل قوة وشدة وحيل، فما سلم منهم غير القليل، والذي سلم تشتت في البراري والقفار وبليوا بالذل والدمار، ومات في تلك الوقعة السيد محمد الجيلاني؛ إذ كان هو على نفسه جاني؛ لأنه كان يزعم أنه يحذف الرمال والغبار في وجوه الكفار ويُعمي منهم الأبصار ويقبض عليهم باليد، فخاب منه الكد والجد، ثم بعد مدة تجمع الذين سلموا، ورجعوا يُفسدون في البلاد ويستنهضون بالعباد، فأرسل عليهم الجنرال ديزه شردمة من العسكر فهزموهم في البر الأقفر، وبعد ذلك راق الصعيد من محاربين الفرنساوية، واطمأن حال الرعية، وأحبوا الجنرال ديزه محبة عظيمة؛ لأجل سلوكه وأحكامه المستقيمة، وكان يحب العماير الملاح كريم بالعطاء والسماح، وكان رهطًا من الأرهاط العظام، ونظم إقليم الصعيد أحسن نظام.
وقد كان عنده من الأقباط المباشرين يعقوب الصعيدي، وهو رجل شديد البطش مشهورًا بالفروسية والهمة القوية، وهو الذي عند سليمان بيك، وكان الذين خدموا من النصارى أولهم الرجل السافرلي المدعو باترو، وهذا الذي كان يدعونه أهل مصر فريد الزمان؛ لما عنده من العلوم والفصاحة والقوة والشجاعة، وكان يعرف في جميع اللغات وفاق بالحسن عن حد الصفات، وكان قد خدم عند الفرنساوية، وانقاد إليه جماعة من الغز المماليك واحتموا به، ثم الرجل الرومي المدعو نقولا قبودان، فهذا المذكور كان خادمًا عند مراد بيك، ومتروِّسًا على عدة عساكر ومراكب في بلدة الجيزة، وكان شابًّا موصوفًا بالشجاعة، وهذا المذكور كان متسلم المتاريس في عسكر الأروام حين دخلت الفرنساوية إلى بر إمبابة وامتلكوا القاهرة، ولما امتلكت الإفرنج المتاريس ألقى نفسه في بحر النيل وطلع إلى مصر، ثم خدم المشيخة، وأما الذين خدموا الفرنساوية من الإسلام فهم كثيرون في العدد كالمقدمين والقواصة والمترجمين.