ذكر ما حدث بمصر
إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر، فكان المسلمون يظنون أن تورد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر بإرادة السلطان سليم، وكانوا يوعدونهم في وزير إلى القلعة السلطانية من طرف الدولة العثمانية، وقد كان يخبِّر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر، وأعدَّ له منزلًا لينزل به وأمر بتدبيره وفرشه، وإذ مضت المدة المعينة ولم يحضر أحد؛ فتسبَّب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور وإبداع الفتن والشرور؛ من قتل السيد محمد كريم لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين بالاستنهاض إلى أهل تلك الأقاليم، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلدان المصرية واستنهاضهم على الفرنساوية، وأن قادم عليهم العساكر العثمانية، ثم قيام أهالي بر دمياط، والحوادث التي بدَّتها العرب والفلاحين، وعفو الفرنساوية عنهم وعدم القصاص لهم، وقد كان الفرنساوية يُخرجون النساء والبنات المسلمات مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جوامع ومنارات في بركة اليزبكية؛ لأجل توسيع الطرقات لمشي العربانات.
وكان المسلمون يتنفسون الصُّعداء من صميم القلوب، ويستعظمون هذه الخطوب، وصاحوا: لقد آن أوان القيام على هؤلاء الليام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام، فشعر أمير الجيوش بما في ضمايرهم وما أكتموه في سرايرهم، فأبرز أمرًا لساير حكام الخطوط بأن كلًّا منهم يأمر بخلع الأبواب المركَّبة في الشوارع، وفي يوم واحد خُلعت تلك الأبواب العظام، وبعضها أُحرقت بالنيران، فركب أمير الجيوش، وأخذ معه المهندسين ومنهم الجنرال كفرال الملقب أبو خشبة؛ لأن كانت رجله الواحدة مقطوعة من ساقه ومصطنع له رجل من خشب، فهذا الجنرال كان أعظم المهندسين في مملكة الفرنساوية، وبدأ أمير الجيوش يجول بهذا الجنرال على ساير الأماكين التي حول دايرة مصر، وغرس على رأس كل مكان بيرقًا؛ إشارةً لبناية القلع.
فإذا شاهدت الإسلام هذا الاهتمام تحركت للقيام، وبدوا ينادون متبادرين إلى الجامع الأكبر المعروف بجامع الأزهر، وهناك عقدوا المشورة، وأبرزوا ما بالضماير المُضمرة، وأرسلوا أحد الفقهاء في شوارع مصر ينبه المسلمين بالمبادرة إلى الجامع الأزهر حيث اجتمع العسكر، وبدأ ذلك الشيخ المذكور يدور وينادي بالجمهور: كل من كان موحدًا يأتي لجامع الأزهر؛ لأن اليوم المغازاة بالكفار ونزيل عنا هذا العار ونأخذ منهم الثار، فبادر المسلمون وأقفلت الحوانيت والوكايل لما سمعت صوت القايل، ووصلت الأخبار إلى دبوي الجنرال بأن قامت أهالي البلد من الشيخ إلى الولد، وكان ذلك في عشرة جماد الأول نهار الأحد، فنهض الجنرال المومى إليه والشرار تتطاير من عينيه، ظانًّا أن هذا القيام عليه، وأن هذا القتال لأجل ما طلب منهم من المال، وسار بثمانية أنفار ليطمِّن أهل تلك الديار ويفرق تلك الجماهير ويسكن روع الكبير والصغير، ولم يعرف أن ليس ذلك علة المال فقط، بل هي علل كثيرة الشطط وغزيرة النمط، وأحقاد كامنة في جوارح القلوب، وعداوة لا يدركها سوى رب الغيوب، وفيما هو ساير في سوق النحَّاسين، فبرز إليه أحد الأتراك وضربه بخشبة على خاصرته، فسقط عن ظهر جواده مغشيًّا، فحملوه أصحابه ورجعوا به إلى جنينة الإفرنج القديمة، وفي وصوله مات هناك وشرب كاس الهلاك.
وكانت العساكر الفرنساوية متفرقين في المدينة، ولعدم معرفتهم باللغة العربية ما يكونوا يدرون ما هي الحادثة في المدينة، فهجمت عليهم تلك الجماهير من كل ناحية، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في طريقهم من الإفرنج الفرنساوية والملَّة النصرانية من المعلمين والرعية، وكان يومًا مهولًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا، ثم هجمت جماهير الإسلام على طور سينا فقتلوا البعض من الرجال، ونهبوا بيوت النصارى، وأخذوا ما أحبوا من الحاجات، وسبوا النساء والبنات، واحتموا بقوة الرجال داخل دير الطور، وكان يومًا مشهور، وكان أوليك الأمم هايجين هيجات وحشية، فتهاربت الفرنساوية إلى البركة اليزبكية، وكان في ذلك الوقت أمير الجيوش في مدينة الجيزة، فحضر لما بلغه تلك الهيجة، وفي دخوله التقى مع ذلك الجمهور فولوا من أمامه، ووصل إلى بركة اليزبكية، وفرق العساكر حول البلد، وأمر أن تضرب من القلعة المدافع والقنابر، وكانت جماهير الإسلام في باب النصر والنحاسية وخان الخليل وخط الأزهر والغورية والفحَّامين خط المغاربة، وهذه المحلات داخل البلد، وكانت الإسلام قد بنت متاريس في تلك الأماكن المذكورة، فسقط خوف عظيم على الفرنساوية، وذعرهم هذا القيام وداخلتهم الأوهام؛ لمعرفتهم بكثرة الخلايق التي في مصر؛ لأنها كانت تجمع مليونًا من الناس ولا لكثرتهم قياس، وضربت الفرنساوية أوليك الجيوش الكثار بالقنابر والمدافع الكبار، فتضايقت الإسلام من كثرة الكلل والقنابر والرصاص المتكاثر، واستقام الحرب ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الأزهر، فهربت الإسلام بالذل والتعكيس، وامتلكوا منهم المتاريس، وأبلوهم بالضرر وملكوا منهم الجامع الأزهر، وسلبوا ما كان فيه من الودايع والذخاير، وابتدوا بعد ذلك يمتلكون مكانًا بعد مكان، إلى أن تملكوا أكثر المدينة، واختفت الإسلام في المنازل والجدران، وألقوا سلاحهم وصاحوا: الأمان، وكانت الفرنساوية كل من يرونه بلا سلاح لا يعارضوه، والذي يكون متسلحًا يقتلوه.
وحينما نظرت علماء الإسلام أن جيوشهم انكسرت والفرنساوية انتصرت، فساروا إلى أمير الجيوش بعقل مدهوش وقلب مرعوش، وأخذوا يتراموا عليه بقيام العسكر من الجامع ورفع الحرب من كل مكان والمواضع، فبكَّتهم أمير الجيوش بذلك الفعل الذميم والخطب العظيم، وكانوا يقسمون له بالله أن ليس عندهم من ذلك آثار ولا علم ولا أخبار، بل علة الحال طلب المال، وما قام إلا أوباش الرجال، فأبى أمير الجيوش تصديقهم وأنكر تحقيقهم، ولم يسمح لهم بتخلية الجامع من العساكر، وأحرف وجهه عنهم وهو متعكِّر الخاطر، فانصرفوا من أمامه وهم باكين وعلى أحوالهم نايحين، وتأسفوا على جامع الكنانة وخراب الديانة، ثم في ذلك النهار أرسلوا له الشيخ محمد الجوهري، وكان في كل حياته ما كان يقابل أحدًا من الحكام ولا يعترض إلى أمور العوام، وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكمًا عادلًا كان أم ظالمًا، والآن قد أتيت متوسلًا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الغجر، واتخذني مدى العمر داعيًا لك ناشرًا فضلك. فانشرح أمير الجيوش من ذلك الخطاب وانعطف وجاب قائلًا: إنني عفوت وصفحت عن أحبابك لأجل خطابك، ثم أمر أمير الجيوش برفع العسكر من الجوامع وأطلق المناداة في المدينة بالأمان، وعقد الفحص عن الذين كانوا مجتمعين في المشورة على قيام تلك الأمور المنكرة، فقبض على شيخ العميان الشيخ سعيد، والشيخ الذي نادى في المدينة بجمع ذلك الجيش العديد، وعدة فقهاء وأناس فلتية، وأخذوهم إلى القلعة وأذاقوهم كئوس المنية، وقد كان مات بهذه الوقعة ألفين صلدات، ومن أهالي المدينة ما ينيف عن خمسة آلاف، وقد خسرت الإسلام ولم تربح بهذا القيام سوى الذل والإهانة وافتضاح جامع الديانة.
وكان عندما استعدت أهالي مصر على القيام ضد الفرنساوية كتبوا إلى الشيخ الشواربي شيخ الصعيد يستنجدوه إلى إعانتهم، وعينوا له زمانًا ليحضر به بعشاير العربان، وقد أتى في الميعاد إذ كانت الفرنساوية محيطة بالقاهرة، وحين نظروا العربان مقبلة ضربوهم بالمدافع والرصاص، فولوا منهزمين؛ لأن الفلاحين والعربان لم يكونوا يستطيعوا على مقابلة النيران وحرب أوليك الشجعان، ورجعوا بالذل والخسران، وحين سكنت تلك الفتن سار الجنرال ميراد إلى بلدة قليوب، وقبض على ذلك الشيخ وحرق البلد، ثم أرسله إلى أمير الجيوش، فقتله وولى أخاه مكانه.
ثم إننا قد ذكرنا عن الجنرال المهندس لأجل بناية القلع، وبعدما سكنت تلك المفاسد من أهل مصر أمر أمير الجيوش في بناية أربع قلعات بالقاهرة على أربع جهات، فالواحدة في كوم العقارب فوق الناصرية، وواحدة في كوم الليمون فوق اليزبكية، وواحدة في كوم الغريب فوق خط الأزهر، وواحدة فوق جامع أبي برص خارجًا من باب النصر، وفي أيام قليلة تمت الأربع قلع، ونقل إليها جبخانة والمدافع والقنابر، وحصَّنها بالعساكر، وبنى في القلعة الكبيرة أبراجًا، ونقل إليها مدافع كثيرة، وأرسل إليها الزيت والمشاقة ليرى أهالي مصر أن إذا نهضوا مرةً ثانيةً يُتلف المدينة بالحراقة، وهكذا خبَّر علماءهم أن يُخبروا الرعية، ثم عين في بلد الجيزة من الفرنساوية أصحاب الحرف والذين يسكبون المدافع والكلل، وأبنى في إمبابة أفرانًا لأجل البقسماط، وعمَّر طواحين في الهوافي الجيزة وفوق كوم الليمون، وكانوا يطحنون ما يكفيهم كل يوم، وأمر بعمل البارود في مصر، مع أن قد كان معه الجبخانة تكفيهم عشر سنوات إذا كانوا يحاربون كل يوم.
ثم إن بعد نهاية تلك الحركات التي قد حدثت وقتل الجنرال دُبوي شيخ البلد أحضر أمير الجيوش الجنرال دوسطين، وولاه شيخ البلد على مصر مكان الجنرال دبوي، وكان هذا عاقلًا فاضلًا، وفرحت أهل البلد بموت الجنرال دبوي؛ لأنه كان صعب الأخلاق وبطل لا يطاق.
وكان حينما قامت الإسلام على الفرنساوية فهرب محمد أغة الإنكشارية، وكان ذلك الرجل جبانًا، وهذه الرتبة لا يوافقها ذلك؛ لأنه يلزم أن يكون أغة الإنكشارية بطلًا شديدًا في الحرب والقراع صاحب مكر وخداع لأن؛ عليه ضبط البلد الليل والنهار، ولا يسأل عما يفعل، وبعد هذه الفتنة أمر أمير الجيوش بعزله وأقام عوضه مصطفى أغا جُربجي، وهو من مماليك عبد الرحمن أغا الذي كان قديمًا أغة الإنكشارية في زمان علي بيك، وحين دخل مصطفى أغا على أمير الجيوش لبَّسه فروًا فاخرًا وقلَّده سيفًا، وولاه منصب الأغاوية على الإنكشارية وقال له: قد بلغني عن سيدك أنه كان رئيسًا في الأحكام خبيرًا بالأيام متدبرًا بالنظام ومُتقنًا وظيفته على التمام، فأود أن تكون مثله وتقتفي أثره، فقبَّل يده وانصرف من قدَّامه مسرورًا، وبالحقيقة أن هذا المذكور أخلف سيده في أحواله وأفعاله، وكان صادقًا في خدمته شديدًا في همته، وقيل إنه قتل مماليك كثيرة، كما كان يفعل سيده في حكمه، وكان ذلك الرجل يكره المماليك وزمرتهم؛ كونهم قتلوا سيده، وكان حينما وجد مملوكًا مستخفيًا في المدينة يقتله سرًّا؛ لأنه كثيرًا كانت تدخل المماليك إلى مصر مستخفيين.
وبعد تلك الحوادث استكنت مصر، وكلَّت أهلها من الحروب مع الفرنساوية، وطاعتهم الطاعة الرغمية؛ لما كابدوا من شدة بأسهم وقوة مراسهم، وقد كان الفرنساويون قد جربوا أكثر الناس بحسن أحكامهم العادلة وعدم ميلهم للمشاكلة، وحسن سياستهم وعدم خيانتهم، وحبهم المفرط للمسلمين ورفع المظالم عن الفلاحين، وضبط عساكرهم وتواضع أكابرهم، وصدق كلامهم وحسن زمامهم، وانطلاق الحرية لساير الرعية، وإعطاء الأمان في كل مكان، والتفاتهم العجيب لنظم البلاد وودهم الغريب لراحة العباد، وقد قطعوا آثار اللصوص والنهابين والعربان الخطَّافين، وأتقنوا الأحكام بأحسن نظام، وتظاهروا بالكرم والسخا ورخص القوت والرخا.
وبدأ أمير الجيوش يجهز الركبة على الأقطار الشامية، وأرسل القومانية والمدافع والجبخانات إلى مدينة بلبيس والصالحية، ونبَّه على العساكر بتحضير ما يحتاجون من آلات الأسفار، وقد شاعت الأخبار بقدوم ذلك الجيش الجرار إلى أراضي عكا وتلك الديار، فأسرع أحمد باشا الجزار بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار خشية من هجوم الكفار واستيلايهم على تلك الأقطار، وحصَّن مدينة عكَّا بالأبرجة والأسوار، ووضع عليها القنابر والمدافع الكبار، وحصَّن أيضًا مدينة حيفا وأرسل إلى يافا العساكر وحصنها بالمدافع والقنابر، وامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشايره، ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش وأقاموا بها، واتصل الإيراد إلى ساير البلاد، وتنبهت الغزُّ للجهاد، وفي شهر شعبان سنة ١٢١٣ خرجت العساكر الفرنساوية إلى مدينة بلبيس والصالحية، وكتب إلى الجنرال كليبر أن يتوجه من دمياط في البر على طريق قطية ويكون قايد العساكر الفرنساوية.
ثم إن أمير الجيوش بونابارته من بعد ما سيَّر العساكر أحضر علماء الديوان ومصطفى كتخدا الذي جعله أمير الحجِّ والأغا والوالي والمحتسب وقال لهم: إن الغزٍٍٍَّ المماليك الهاربين من سيفي في الأقطار قد التجوا إلى أحمد باشا الجزار المتولِّي بتلك الديار، فجمع لهم العساكر وحضروا إلى العريش وعازمين على الحضور إلى الديار المصرية لأجل خراب البلاد وقتل العباد وهلاك الرعية؛ فلذلك أخذتني الغيرة، واستخرت الله وهو نعم الخيرة، وعزمت أنني أسير إليهم بالعساكر، وأخرجهم من قلعة العريش بقوة سيفي الباتر، وأبذِّرهم بتلك البراري والقفار، وأجعلهم عبرةً للناظر وأقطع آثارهم من تلك الديار بعون الواحد القهار، وأريح منهم مصر وتلك الديار، وها قد وليت نايبًا عني وقايمقام في المدينة الجنرال دوكا، فكونوا له طايعين وإلى كلامه سامعين، وشيخ البلد عليكم الجنرال ضوصطين، فعليكم أيها العلماء والحكام والأعيان والتجار أن تنبِّهوا على أهل هذه الديار برفع الأذية والأضرار، وأن تكون الرعايا مطمئنين وفي منازلهم آمنين، وإن كان يبدأ في غيابنا أدنى حركة من الحركات ضد العساكر والصلدات فقد أمرت القايمقام وشيخ البلد وحاكم القلعة أن يهدموا البلد بالمدافع والقنابر، ويقتلوا أهلها بحدِّ السيف الباتر، فكونوا على حذر من القضاء والقدر. فأجابوه: إننا ضامنين وكافلين هدو الجمهور وعدم حدوث أمر من الأمور، ثم أمر إلى مصطفى كتخدا وعلماء الديوان أن يأخذوا الأُهبة للمسير معه إلى العريش، فأجابوه بالسمع والطاعة.
وفي خامس يوم من شهر رمضان ركب أمير الجيوش بونابارته في العساكر، وصحبته مصطفى كتخدا والعلماء قاصدًا مدينة بلبيس بالأبطال الجبابرة والعساكر الوافرة، وحين وصل إلى الصالحية هرب أمير الحاجِّ محمد كتخدا الذي كان سابقًا إلى مدينة غزَّة، ومن هناك سار إلى عكَّا، وحين دخل على الجزار قال له: أنت الذي كنت أغة الإنكشارية؟ قال: نعم، ولكنني هربت منهم وأتيت إليك، فقال له الجزار: ما أنت إلا جاسوس، ثم أمر بقتله.
صورة الكتابة
في محفل ديوان مصر الخصوصي إلى جميع الأقاليم المصرية: نخبِّركم أن أمس تاريخه خامس شهر رمضان المعظم توجَّه حضرة الدستور المكرَّم سرعسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية مسافرًا، يغيب مقدار ثلاثين يومًا؛ لأجل محاربة إبراهيم بيك الكبير وبقية المماليك المصرية حتى يحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم ولا رحمة في دولتهم على أحد من رعيَّتهم.
وقد وصل الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش، وعن قريب يأتيكم خبر قطيعة إبراهيم بيك ومن معه من المماليك نظير ما وقع في قطيعة أخيه مراد بيك ومن معه في إقليم الصعيد، فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتمام، ويبطل القيل والقال وتذهب الكاذبة التي تسمعونها من أوباش الرجال.
ونخبِّركم أن حضرة السرعسكر المشار إليه يتجدد له كل يوم نية الخير والرحمة، ويحدث في تصميم الشفقة والرأفة، هذه هي نيَّته لكم في كل آل الأقطار المصرية، ويحصل لهم النجاح والصلاح، ويكمل في ساير أقطارها السرور والإصلاح، وتفرح أقاليمها على يد سلطانها بونابارته بمشية الله الذي مكَّنه فيها ونصره على من ظلم فيها من المماليك المفسدين، ولا يتم خلاصهم بالكلية وتتطهر من دولة المماليك الردية إلا ببذل همته ورأيه السديد في تكميل نظامها بغنايهم لسيوفه الباترة، وتكمل زروعها الفاخرة وأنواع تجارتها الباهرة، ويُحدث فيها برأيه وحسن تدبيره التحف من أنواع الحرف والصنايع النفيسة، ويجدد فيها ما اندثر من صنايع الحكماء الأولين، ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين.
فالتزموا يا أهل الأرياف والفلاحين بحسن المعاملة والأدب، واجتنبوا في غيبته أنواع الكذب والقبايح حتى يراكم حين يقرب بعد هذا الشهر قد أحسنتم المعاملة ومشيتم على الاستقامة، وينشرح صدره منكم ويرضى عليكم وينظر إليكم بعين الشفقة، وإن حصل منكم في غيابه أدنى خلل ومخالفة حلَّ بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم ولا يقرُّ لكم قرار، واعلموا أن إذهاب دولة المماليك بقضاء الله وقدرته ونصرة سلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره، والعاقل يمتثل إلى أحكام الله ويرضى بمن ولَّاه، والله يؤتي بملكه من يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله.
وقد كنَّا ذكرنا أن أمير الجيوش أرسل إلى الجنرال كليبر أنه يسير بالعسكر الذي عنده في دمياط، ولما وصله ذلك الأمر سار من مدينة دمياط على طريق قطية، ومن هناك صار طالبًا قلعة العريش، فتاهَ في الطريق وسار ثلاثة أيام من غير زاد، وألجأهم الجوع حتى أكلوا لحم الخيل والجمال، ثم اهتدوا على الطريق، وعند وصولهم للعريش كانت بعض عساكر الجزار واردين بقومانية وذخيرة إلى القلعة، فعندما نظروا الفرنساوية مقبلين تركوا القومانية وهربوا، ووصلت الفرنساوية وقد فرحت بتلك الذخيرة واكتفوا بها ثلاثة أيام، ثم حضر أمير الجيوش وباقي العساكر ونصب الوطاق أمام القلعة.
وكان في قلعة العريش ثمانماية مقاتل، وكان بينهم أحمد كاشف الكبير تابع عثمان بيك الأشقر، وإبراهيم بيك كاشف الحبشي، وفي ثاني الأيام أرسل إليهم أمير الجيوش أن يسلموا القلعة فلم يرضوا بذلك، فأمر بضرب المدافع وبقي الحصار على القلعة ثمانية أيام، ثم فرغت مونتهم وبارودهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأعطاهم الأمان وأن يخرجوا من القلعة بغير سلاح ويحصل الصلاح ويفوزوا بالنجاح، فلم يرضوا بذلك، وبعد يومين حضر قاسم بيك المسكوبي بجملة عسكر وجبخانة، وبقي بعيد عن القلعة، وكان قصده أن في الليل يدخل بغتةً، فبلغ أمير الجيوش وصوله، وربطوا عليه الطريق، وكبسوه ليلًا وذبحوا عساكره، ولم يسلم منهم غير القليل، وقتل قاسم بيك وعدة من الكشَّاف والمماليك، وأخذوا كل ما كان معهم، وحينما بلغ ذلك الذين في القلعة حاروا في أمرهم وأرسلوا يطلبون الأمان بحيث يخرجون بسلاحهم، فأمر لهم أمير الجيوش بذلك، وخرجوا إلى قدَّامه فأطلق سبيلهم، وكل واحد منهم ذهب إلى بلاده، وأحمد كاشف وإبراهيم كاشف وجماعتهما طلبوا من أمير الجيوش التوجه إلى مصر إلى منازلهم وأعيالهم فأذن لهم بذلك، وأرسلهم مع بعض من الصلدات لأجل حمايتهم في الطريق، وساروا إلى القاهرة وأدخلوهم على قايمقام الجنرال دوكا، وشاعت أخبارهم في مصر، وحضرت خلايق كثيرة لأجل الفرجة عليهم، ودخلوا إلى دار الكنانة بكل ذلٍّ وإهانة راكبين الحمير بملابس رثة، ومن بعد مقابلة القايمقام وشيخ البلاد توجهوا إلى بيوتهم، وبعد ثلاثة أيام مات أحمد كاشف من قهره وتوارى في قبره.
صورة كتابة علماء الديوان للديار المصرية
لا إله إلا الله المالك الحق المبين، ومحمد رسول الله الصادق الواعد واليقين، نعرِّف آل مصر وساير الأقاليم: أن توجَّهت الفرنساوية إلى الديار الشامية وحاصروا قلعة العريش من عشرة في رمضان إلى سبع عشر، ووقعت مقاتلة عظيمة خارج القلعة، وكان في القلعة نحو ألف وخمسماية نفر غير من قتل خارجها، فلما طال عليهم الحصار وتهدمت أسوار القلعة من ضرب الفرنساوية بالمدافع عليها وتيقنوا بالهلاك، طلبوا الأمان من حضرة السرعسكر الكبير فأعطاهم الأمان الكافي، وسافر منهم نحو ثمانماية من ناحية الشول إلى بغداد، وأنعم عليهم حضرة السرعسكر بالحياة بعد أن تيقنوا بالهلاك، وهكذا أصحاب المروَّات، هؤلاء أعتقهم وأطلق سبيلهم وبعض الكشَّاف والمماليك الذين كانوا في القلعة نحو ستة وثلاثين جنديًّا طلبوا من حضرة السرعسكر أن ينعم عليهم برجوعهم إلى مصر إلى أعيالهم وبيوتهم، فأحسن إليهم وأرسلهم إلينا وإلى وكيله، ودخلوا عليه يوم الأحد في ستة وعشرين رمضان معزوزين مكرومين، وأرسل السرعسكر أن يوتي بإكرامهم إن داموا على عهدهم الذي حلفوا به بالعريش، وإن خانوا وهانوا فيحصل لهم من يده الانتقام، وأمر في الفرمان أن الجنرال دوكا يأمر التجار بالقوافل إلى بر الشام لينتفعوا بالمكاسب أصحاب التجارة، وينتفعوا سكان بر الشام ببضايع مصر حسب العادة السابقة؛ ليحصل الأمان بحلوله في تلك الأراضي.
وكتب إلى حضرة وزيره الجنرال إسكندر برتية فرمان يخبِّرنا ويخبِّر حضرة الوكيل بالحالة التي وقعت إلى عساكر إبراهيم بيك وبعض من عسكر الجزَّار المساعدين له، وأن الفرنساوية وجدوا في قلعة العريش مخازن رزٍّ وبقسماط وشعير، وثلاثماية رأس من الخيل الجياد، وحمير كثيرة وجمال غزيرة، اكتسبته جميعه الفرنساوية، ومع ذلك عندهم الصفح عن إخلاصهم عند قدرتهم عليهم، وهذا من صفات أصحاب المروَّة من الرجال الأبطال، فيا إخواننا لا تعارضوا الملك المتعال، واتركوا أنفسكم من القيل والقال، واشتغلوا في إصلاح دينكم والسعي في معاش دنياكم، وارجعوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم. والسلام عليكم ختام.
وأما أمير الجيوش في تسعة عشر رمضان نهض بالعساكر من قلعة العريش إلى خان يونس، وفي الغد صارت مقدمات العساكر على مدينة غزة بنفوس معتزَّة، وأولهم الجنرال كليبر سرعسكر الجيش، والجنرال ميراد، وكانت عساكر الجزَّار وعساكر الغز في مدينة غزة، فعندما شاهدوا عساكر الفرنساوية مقبلين ولَّوا منهزمين، فدهمهم الجنرال ميراد بالرجال الشداد على الخيول الجياد، وأطلق عليهم الرصاص، فما مكثوا أمامه برهةً يسيرةً حتى ولَّوا منهزمين وإلى النجاة طالبين.
ولما كان الجنرال ميراد يحاربهم دخل الجنرال كليبر إلى البلد من غير قتال، وبات تلك الليلة في غزَّة، وفي الغد سيَّر العساكر على مدينة يافا، وكانوا وجدوا في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير، وأربعماية قنطار بارود، واثني عشر مدفعًا، وحاصلًا كبيرًا من الخيام وكلل وقنابر عظام، فحازوا على الجميع، ولم يزالوا سايرين حتى وصلوا إلى يافا، وبنوا المتاريس أمام البلد ووضعوا المدافع عليها.
ومن بعد أربعة أيام من وصولهم وصل أمير الجيوش، واستخبر كم في البلد من العساكر؟ فقالوا له: نحو ثمانية آلاف، فكتب لهم وزيره إسكندر ينصحهم أن يسلموا البلد لسلامة أنفسهم، فلم يرضوا بالتسليم بل قبضوا على الرسول فتركوه مقتول، فبلغ أمير الجيوش ذلك فاغتاظ غيظًا شديدًا، وأمر بضرب المدافع والقنابر على المدينة، وابتدأ الحرب من أول النهار إلى الساعة التاسعة من ناحية حارة النصارى، ثم أمر أمير الجيوش بأن يهجموا على البلد هجمةً واحدةً، ويشنوا الغارة الجامدة، ويظهر ما عندهم من المكافحة والمجالدة، فغارت أوليك الشجعان، وكان ليلة عيد رمضان، فيا لها من ساعة كانت من ساعات القيامة! وتبًا لها من ليلة لم يكن بها سلامة! وهجمت الفرنساوية هجم الأسود، وإذ شاهدتهم عساكر الإسلام أيقنوا بالموت والعدم والخلود، وبقوا نادمين وفي أمرهم حايرين، وإذ لم يجدوا لهم سبيلًا للانهزام ولا منقذًا ينقذهم إلى بر السلام، فسلموا إلى قضاء الله والأحكام، وطرحوا سلاحهم وسلموا أرواحهم، فبدت الفرنساوية يزجرونهم زجر الغنم.
ولم يزل هول الحرب في إمداد والكرب في اشتداد، وتتناتر الرءوس وتهلك النفوس، وتنهتك الأحرار وتنكشف الأسرار والأستار، وتقتل الرجال والنساء والأطفال، وفاق صوت البكاء والعويل على صوت البارود الجزيل، وكنت تنظر واحد يقتل واحد جذيل، وآخر دمه يسيل، والآخر بالأسر ذليل، ولا من يقيل ولا من يزيل، ولم يزل الجيش الفرنساوي في قتل وفتك وسبي وهتك، ورنِّ سلاح وهزِّ صفاح، وأخذ أرواح من أول الليل إلى آخر الصباح، وكان يومًا أليمًا وحربًا عظيمًا، وسلبوا كل ما في المدينة من المال والأمتعة الغوال، ولم يزل يعمل الصارم البتار إلى آخر النهار، وكان ذلك نهار العيد والخلق في حزن شديد، وحلَّ الإنكيس في نهار ذلك الخميس.
صور الكتابات من علماء الديوان بمصر يعلموا الأقاليم بأخذ يافا
بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد، سبحان الحاكم العادل الفاعل المختار ذو البطش الشديد، هذه صورة تمليك الله — سبحانه وتعالى — جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الأقطار الشامية.
نعرِّف أهالي مصر وأقاليمها من ساير البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث وعشرين شهر رمضان، ووصلوا إلى الرملة في خامس وعشرين منه في أمان واطمئنان، فشاهدوا عسكر باشا الجزار هاربين بسرعة قايلين: الفرار الفرار، ثم إن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة اللُّدِّ مقدار كبير من مخازن البقسماط والشعير، ورأوا فيها ألف وخمسماية قربة مجهزة قد جهزها الجزار ليسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين، ومراده يتوجه إليها بأشرار العربان من سفح الجبل، ولكن تقادير الله تُفسد الحيل، قاصدًا سفك دماء الناس مثل عوايده السابقة، وتجبُّره وظلمه مشهور لأنه من تربية المماليك الظلمة المصرية، ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله وكل شيء بقضايه وتدبيره.
وفي سادس وعشرين من شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية إلى بندر يافا من الأراضي الشامية، وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية، وأرسلوا إلى حاكمها وكيل الجزار أن يسلِّمهم القلعة قبل أن يحل بهم وبعسكرهم الدمار، فمن خساسة رأيه وسوء تدبيره سعى في هلاكه وتدميره، ولم يردَّ لهم جواب وخالف قانون الحرب والصواب، وقتل الرسول النحاب، وفي آخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا، وصاروا كلهم مجتمعين وانقسموا ثلاثة طوابير، الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيد عن يافا أربع ساعات.
وفي السابع والعشرين من الشهر المذكور أمر حضرة السرعسكر الكبير بحفر خنادق حول السور؛ لأجل أن يعملوا متاريس أمينة وحصارات مُتقَنة حصينة؛ لأنه وجد سور يافا ملانًا بالمدافع الكبيرة ومشحونة بعساكر الجزار الغزيرة، وفي تاسع وعشرين من الشهر المذكور لما قرب حفر الخندق إلى السور مقدار ماية وخمسين خطوة أمر حضرة السرعسكر المشار إليه أن تنصب المدافع على المتاريس، وأن يضعوا الهاون الكبير بإحكام وتأسيس، وأمر بنصب مدفع صيانةً لعساكره الصاعدين والمشتغلين بخرق السور، وأمر بنصب مدفع آخر بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم من مراكب المينا؛ لأنه وجد في المينا بعض مراكب أعدَّوهم عساكر الجزار إلى الهروب، ولا ينفع الهرب من المقدَّر المكتوب، ولما رأت عساكر الجزار الكاينين بالقلعة أن عساكر الفرنساوية قلايل فيُرى ألفين للناظرين؛ لسبب اختفاء الفرنساوية في الخنادق وخلفَ المتاريس، فغرَّهم الطمع وفتحوا مجالهم من القلعة مسرعين مهرولين، وظنوا أنهم يغلبوا الفرنساوية، فهجمت عليهم الفرنساوية وقتلوا منهم جملة كثيرة في الوقعة، وألزموهم وألجوهم للدخول ثانيًا إلى القلعة.
لا إله إلا الله، وحده لا شريك له
بسم الله الرحمن الرحيم
من حضرة سرعسكر إسكندر كتخدا العسكر الفرنساوي إلى حضرة حاكم يافا: نخبِّرك أن حضرة سرعسكر الكبير بونابارته أمرنا نعرِّفك في هذا الكتاب: أن سبب حضوره إلى الطرف إخراج عسكر الجزار فقط من هذه البلد؛ لأنه تعدَّى بإرسال عسكره للعريش ومرابطته فيها، والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا، فلا يناسبه بالإقامة بالعريش؛ لأنها ليست من أراضيه، فقد تعدَّى على ملك غيره، ونعرِّفكم يا أهل يافا أن بندركم حاصرناه من جميع أطرافه وجهاته، وربطناه بأنواع الحرب وآلات والمدافع الكثيرة والكلل والقنابر الغزيرة، وفي مقدار ساعتين ليقلب سوركم وتبطل آلاتكم وحروبكم، ثم نخبِّركم أن حضرة السرعسكر المشار إليه بونابارته لمزيد رحمته وغزير شفقته خصوصًا بالضعفاء من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكره المحاربين، وإذا دخلوا إليكم بالقهر فأهلكوكم أجمعين، فأمرنا أن نرسل إليكم هذا الخطاب أمانًا كافيًا لأهل البلد والأغراب؛ ولأجل ذلك أخَّر ضرب المدافع والقنابر ساعة واحدة، وإنني لكم من الناصحين القلبية.
والحال أنهم جعلوا الجواب قتل الرسول مخالفين للقوانين الحربية والشرعية المطهرة المحمدية، وحالًا في الوقت والساعة هاج السرعسكر واشتد غضبه على الجماعة، وأمر بابتداء ضرب المدافع والقنابر الموجبة التدمير، وبعد مضي زمان يسير تعطَّلت مدافع يافا المقابلة لمدافع المتاريس، وانقلب عسكر الجزار في وبال وتنكيس، وفي الظهر من هذا اليوم انخرق سور يافا، وارتجَّ له القوم ونقب من الجهة التي ضرب فيها المدافع من شدة النار، ولا مرد لقضاء الله ولا مدافع، وفي الحال أمر حضرة السرعسكر بالهجوم عليهم، وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية البندر والأبراج، ودار السيف في المحاربين، واشتد بحر الحرب وهاج، وحصل النهب فيها تلك الليلة.
وفي ثاني يوم الجمعة غرَّة شوال وقع الصفح الجميل من حضرة السرعسكر الجليل، ورقَّ قلبه على أهل مصر من غنيٍّ وفقير ومتجبر وحقير، الذين كانوا في يافا وأعطاهم الأمان، وأمرهم بالرجوع إلى الأوطان مكرومين، وكذلك أمر أهل دمشق برجوعهم إلى أوطانهم سالمين؛ لأجل ما يعرفوا مقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته ويعفو عند المقدرة ويصفح وقت المعذرة؛ لكثرة تمكُّنه ومزيد إتقانه وتحصنه.
وقتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار في السيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف، وأما الفرنساوية لم يقتل منهم إلا القليل والمجاريح منهم ليس بكثير، وسبب ذلك سلوكهم للقلعة من طريق أمينة خافية عن العيون، وأخذوا ذخاير كثيرة وأموال غزيرة، ومسكوا المراكب التي في المينا، واكتسبوا أمتعة غالية ثمينة، ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفع، ولم يعلموا مع مقادير الله آلة الحرب لا تنفع؛ فاستقيموا يا عباد الله وارضوا بقضاء الله، ولا تتعارضوا على أحكام الله، وعليكم بتقوى الله، واعلموا أن الملك لله يؤتيه لمن يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم إن أمير الجيوش سار بالعسكر قاصدًا مدينة عكَّا على طريق الجبال، ولما وصلوا إلى أراضي قاقون فكانت عساكر الجزار والنوابلسية مكمنين في الوادي الذي هناك، وحينما بلغهم قدوم الفرنساوية أخرجوا منهم من فمِّ الوادي خمسماية مقاتل وبدوا يرمحون تجاه العسكر، وكان قصدهم أن يجرُّوهم إلى ذلك الوادي، فلما علم أمير الجيوش مرادهم قسم عساكره ثلاثة أقسام؛ فالقسم الأول سيَّره إلى فم الوادي، والقسمان أطلعهما إلى الجبل، وحين اقتربوا إلى الوادي ضربوا المدافع وأطلقوا الرصاص، فانحدرت إليهم الفرنساوية من أعلى الجبال، وانتشبت بينهم القتال وكثر القيل والقال.
وقد قتل من عسكر الإسلام أربعماية قتيل على التمام وولوا الباقون منهزمين وإلى النجاة طالبين، ومن هناك صارت الفرنساوية مطمئنين في تلك الديار، وباتوا تلك الليلة على العيون الصغار، وفي الغد ساروا إلى أن وصلوا إلى وادي الملك، وقد كان بلغ الجزار قدوم وقرب الفرنساوية إلى تلك الديار، فأرسل إلى حيفا أحضر الجبخانة والعسكر، وعندما وصلت الفرنساوية إلى تجاه مدينة حيفا خرجت أهالي البلد إلى مقابلتهم، وسلموا أمير الجيوش مفاتيح البلد والقلعة، فأكرمهم وأعطاهم الأمان، ودخلت الفرنساوية مدينة حيفا فوجدوا بها قاربًا صغيرًا فيه جماعة من مراكب الإنكليز فأخذوهم أسارى.
وبعد ذلك أمير الجيوش انتقل بالعساكر إلى تجاه مدينة عكا، ونصبوا المضارب والخيام في محلٍّ يقال له أبو عتبة، وبنوا المتاريس الحصينة ووضعوا فوقها المدافع المتينة، وشاعت الأخبار في تلك الأقطار بقدوم البطل المغوار في ذلك العسكر الجرار، الذي هو كالبحر الزخار، فخافت تلك الديار وعزموا جميعهم بالتصميم على الطاعة والتسليم لذلك البطل العظيم؛ لما بلغهم من عظم سطوته وعلو همته وشدة صولته، وبقوا ينتظرون بما يحلُّ بأحمد باشا الجزار بعد ذلك الضيق والحصار من الهلاك والبوار، وقالت المسلمين أجمعين: إننا لله وإننا إليه راجعين من شر هؤلاء الملاعين، وكان أمير الجيوش كتب إلى ساير مشايخ البلد ليحضروا إلى مقابلته ويحصلوا على أمانه ورحمته، وبدت تأتي إليه أهل تلك البلاد ويأخذون منه الأمان، وسار الجنرال كليبر والجنرال منو إلى مدينة الناصرة، وأرسل كومندا حاكمًا على شفا عمر.
ومن بعد إتمام بناية المتاريس ابتدا في الحرب على حكَّا خامس يوم من شهر شوال سنة ١٢١٣ وقام الحرب أربعة وعشرين ساعة، وكان حربًا شديدًا مهولًا لم يكن مثله قط؛ لأن كانت الفرنساوية تضرب المدافع والقنابر، وفي المدينة كذلك المدافع والقنابر من الأبراج والقلاع والحصون والأسوار، وكانت المراكب العثمانية والمراكب الإنكليزية تضرب كذلك المدافع والقنابر، حتى خيل للناظرين والسامعين أن مدينة عكا لم يبق منها حجر على حجر واقفين، وارتجَّ الجزار من ذلك رجةً عظيمةً، وكاد أن يخلو المدينة، وأحضر مراكبه للسفر والركوب، وهيَّأ نفسه للذهاب والهروب، فمنعه الجنرال سرعسكر الإنكليز الذي كان مقيمًا في عساكره على البواغيظ وطمَّنه قايلًا: إنني قد قطعت عزم أعدايك الفرنساوية؛ إذ قد أسرت منهم ثلاثة مراكب جبخانية ومدافع قوية، فشجعْ فؤادك على محاربتهم؛ لأنني قد أضعفت قوتهم.
وكان الأمر كما ذكر؛ لأن أمير الجيوش إذ كان لم يقدر على نقل الجبخانة والمدافع الكبار في البر فأمر أن يوسقوهم في ثلاثة مراكب ويرسلوها من دمياط، وحينما خرجت المراكب المذكورة اصطادتها مراكب الإنكليز، وكان سرعسكر الإنكليز المسمى سند سميت لم يزل يطوف في مراكبه على البواغيظ ليمنع الإمداد على الفرنساوية، وحين وقع الحصار على مدينة عكا حضر بمراكبه، وأخرج منهم طبجية إلى القلع والأسوار، ثم من بعد ذلك الحرب الشديد قلَّت جبخانة الفرنساوية، وبلغ أمير الجيوش أن الإنكليز استأسروا الثلاث مراكب التي أتت من دمياط في الجبخانة، فاشتعل فيه الغضب وأرسل أحضر ما كان في يافا من الجبخانة، ثم حضر إلى الجزار مركبين من إسلامبول بهم الجبخانة، ولما أقبلوا إلى أسكلة يافا وشاهدوهم الفرنساوية الذين كانوا باقيين هناك رفعوا لهم البيراق العثماني، ودخلوا إلى الميناء بكل أمان ناشرين الأعلام لظنهم أن المدينة بيد الإسلام، وبعد ما ألقوا المراسي نزلت القباطين إلى البلد، فقبضوا عليهم الفرنساوية وضبطوا المراكب بكل ما فيها من المدافع والقنابر والجبخانة، وكان ستةً وثلاثين ألف دينار مرسلة إسعافًا للجزار، فصار ذلك إسعافًا للفرنساوية.
وكنا قد ذكرنا أن أمير الجيوش بعد حضوره إلى تجاه عكا أرسل كتب إلى مشايخ البلد الذين بالقرب منه فحضر إليه الشيخ عباس بن ضاهر العمر وأعرض لديه أحواله، فترحَّب به وأعطاه السلاح والكسوة وعشرة أكياس، وكتب له أن يكون متولِّيًا بلاد أبيه، وحضر أيضًا مشايخ بني متوال فأعطاهم حكم بلادهم، وصاروا من عند أمير الجيوش إلى مدينة صور، وقدَّموا له الذخاير من البلاد، وتسلموا القلعة التي كانت لآبائهم، ثم حضر أيضًا رجل من جبل شيخا اسمه مصطفى بشير فأكرمه أمير الجيوش، وأمره أن يجمع عسكر من أهل تلك البلاد ويتوجه إلى مدينة صفد، فتوجه المذكور بخمسين نفر، ولما بلغ أهل البلد قدومه طردوا عسكر الجزار وسلموه البلد، وكان ذلك الرجل أصله من صفد.
وقد ذكرنا عن توجه الجنرال كليبر والجنرال منو إلى الناصرة، وكان قد اجتمع من الشام عساكر الإسلام من مغاربة وهوارا وعربان والغز الذين حضروا مع إبراهيم بيك، إلى أن بلغ جمعهم ثلاثين ألف مقاتل ما بين راكب وراجل، وخرجت هذه العساكر العديدة بقوة شديدة، ووصلت إلى مرج ابن عامر، فبلغ كليبر قدوم ذلك العسكر فسار إليهم بألف وخمسماية مقاتل، وحينما وصلوا وشاهدتهم تلك الجموع انهزموا من قدامهم مكيدة منهم، ولم يزل الفرنساوية في أثرهم إلى أن وصلوا إلى أطراف المرج، ومن هناك أحاطوا في الفرنساوية من كل جانب، ولما نظرهم الجنرال كليبر قد أحاطوا بالعسكر، فقسم رجاله أربعة أقسام مع كل قسمة منهم مدفع، واتصل الحرب بينهم، فعندما شاهدت أهالي الناصرة كثرة جيوش الشام وأن الفرنساويين قليلين جدًّا، فبادروا حالًا وأخبروا أمير الجيوش فأحضر حالًا الجنرال تركو وأمره بتحضير ثلاثة آلاف صلدات.
ومن بعد ساعة واحدة جهَّز العسكر المذكور، وأخذوا معهم أربعة مدافع وأمر الجنرال بونابارته أن يسيروا على وادي عبلين، ومن بعد مسيرهم بثلاث ساعات ركب أمير الجيوش وسار وراهم طالبًا أثرهم، وفي نصف الليل وصل بالعساكر إلى بير البدوية، وأرسل إلى امرأة قريبة منهم اسمها سافورا وطلب ما احتاجه من الذخيرة تلك الليلة، وعند الصباح سار بالعسكر إلى أن نفذ إلى مرج ابن عامر، وصعد إلى تلٍّ عالٍ فكشف أرض المرج ونظر إلى الجنرال كليبر في وسط البيدا وعساكر الإسلام محتاطة به، والهجمة من كل ناحية، وليس لهم عليه استطاعة، ثم نظر إلى جبل بعيد وعليه المضارب والخيام، وكان هذا أوردي الغزِّ، فنزل أمير الجيوش وأفرز خمسماية مقاتل، وأمرهم أن يسيروا على الجبل ويكبسوا على الأوردي، وقسم العسكر الذي بقي معه ثلاثة أقسام؛ قسمان منهم ألف والقسم الثالث خمسماية، فأخذ منهم قسمًا واحدًا ومدفعًا واحدًا وتوجه بذاته، والقسم الثاني تبعه من بعيد، والقسم الثالث الخمسماية ومعهم مدفعين أمرهم أن يسيروا إلى الحرب من الطرف الثاني إلى أن تصير العساكر المحاربين في وسطهم محتاطين بهم، وحينما وصل أمير الجيوش إلى عندهم ضرب مدفعًا واحدًا، ثم ضرب القسم الثاني ثم الثالث، وحينما سمعوا العساكر المحاربين المدافع، ونظروا قدوم النجدة، وعلموا أنهم صاروا في وسطهم، فولَّوا منهزمين وللنجاة طالبين، وصاروا يتراكضون في الجبال، وكانت الفرنساوية يضحكون عليهم.
وعندما انقطع أثرهم أتى أمير الجيوش إلى عند الجنرال كليبر وتصافحا مع بعضهما بعض وتعانقا وفرحا بانهزام الأعداء، وحينما كانا واقفين وإذا بالخمسماية صلدات الذين صاروا إلى الجبل راجعة بالغنايم الوافرة؛ لأنهم كبسوا على أوردي الغزِّ، وكان فيه مقدار ماية مملوك فقط، وأما باقي الغز فكانت تحارب في أرض المرج بعيدًا عن أورديهم مقدار ساعتين، فعندما نظرت المماليك أن الفرنساوية مقبلين عليهم تركوا الأوردي وولوا منهزمين، فكبسوا عليه الخمسماية صلدات واغتنموه، وكان فيه خيرات كثيرة، وأخذوا الخيل والجمال والخيام والأمتعة والأسلحة والملبوس، وبات أمير الجيوش تلك الليلة في أرض المرج، وحينما أصبح الصباح أرسل خمسماية صلدات إلى قرية جنينين، وأمرهم أن ينهبوها ويحرقوها ففعلوا كما أمرهم، ثم إن أمير الجيوش أحرق تلك القرايا التي في جبل نابلوس؛ لأنهم ما طلبوا منه الأمان، ثم رجع إلى الناصرة، وبعده حضر بالعسكر إلى تجاه عكَّا.
وقد كنا ذكرنا أن أمير الجيوش كان قد أرسل مصطفى بشير الصفدي إلى صفد وملك قلعتها، وصاروا الذين كانوا من قبل الجزار إلى الشام، وجمع ابن عقيل عسكر وحضر إلى صفد فنهبوها وحاصروا القلعة، ولعلمهم بقلة الرجال بها هجموا بقوة شديدة، وكانوا الذين في القلعة يضربوا عليهم بالرصاص، فهلك منهم عدة رجال، ثم إن رجل من القلعة سقط من شباك وهجم ورا عسكر الشام، وضرب البيرقدار برصاص فقتله، وأخذ البيرق ورجع إلى القلعة، وحين بلغ أمير الجيوش قدوم عسكر الشام إلى صفد أمر الجنرال ميراد أن يسير بخمسماية راكب، ولما بلغ عسكر الشام قدومه رحلوا إلى جسر بنات يعقوب، وحين دخل الجنرال ميراد صفد بلغه هروب عسكر الشام فتبعهم، ولما وصل إلى الجسر فما وجد أحدًا وأعلموه أنهم ساروا إلى الشام.
وأما مصطفى بشير حضر إلى عند أمير الجيوش فترحب به وأكرمه، وقد أخبروه عن فعل ذلك الرجل فأعطاه ماية وخمسين غرش، وأمر مصطفى بشير أن يعين عسكر من الفلاحين ولكل إنسان ثلاثين فضة كل يوم، فتوجه المذكور وعيَّن جماعة، وسار بهم إلى جسر بنات يعقوب لعند الجنرال ميراد، فتركهم الجنرال على الجسر محافظين ورجع إلى عكا.
وأما الجنرال منو كان لم يزل مع الجنرال كليبر في الناصرة، فبلغه أن في مدينة طبرية عسكر الجزار، فأخذ ثلاثماية راكب من الفرنساوية والشيخ صالح والشيخ عباس أولاد ضاهر العمر، ولما قربوا من طبرية خرج عسكر الجزار إلى ملاقاتهم، وكانوا نحو ألفين مقاتل، وحين تقابل العسكران وانتشبت بينهما الحرب انكسر عسكر الجزار وولَّوا منهزمين وللنجاة طالبين، ولحق هذا الشجاع رجل من العسكر وضربه بحسامه وأرماه شطرين، وقتل منهم أوفر من مايتين، ورجع الجنرال ميراد إلى طبرية، فوجد بها حواصل حنطة وشعير ودرا ما ينوف عن ألفين غرارة، فأرسل أعلم بها أمير الجيوش، فرجع الجواب أن يطحنهم ويرسلهم إلى العسكر.
وفي شهر شوال الموافق لشهر آدار تباين الطاعون في العساكر الفرنساوية، وكانت عليهم أعظم بلية ومات منهم خلق وافر، وكانت الحروب قايمة إلى مدينة عكا الليل والنهار، وهم يهجمون على الأسوار والكلل والقنابر عليهم مثل سيل الأمطار، وقد أهلكوا من العساكر الإسلامية والإنكليزية خلقًا لا يُحصى لما كانوا يخرجون إلى محاربتهم، وقد هدموا أبراج وأسوار عكا من ضرب المدافع والقنابر وهيجان العسكر، ولما نظر الجزار هدم البروج والأسوار فبدا يقيم حيطانها من الأزقَّة والشوارع، وخرق البيوت والمنازل إلى بعضها بعض وجعل لها منافذ خوفًا من هجوم الفرنساوية؛ لما شاهد من جسارتهم القوية، وكانت الفرنساوية لم تكلَّ عن الهجمات على الأسوار والوصول إلى الجدار، ولم يبالوا بذلك العمار، ولا يخشوا قصر الأعمار وهلاكهم في هذه الديار، بل هامِّين إلى العزِّ والانتصار وقهر أحمد باشا الجزَّار وتملُّكهم على هذه الأقطار، وإذ كان أعداؤهم الإنكليز الذين قد أهلكوا عمارتهم على البواغيظ، وأسعف عليهم ذلك العزيز، وألقاهم في تيار التغلُّب والتعجيز؛ فلذلك أظهرت الفرنساوية أنواع العجايب في هذه المعامع والمواقع التي تُذكر جيلًا بعد جيل إذ لم يكن لها مثيل.
وقد مات في هذه المواقع الجنرال كفريل المهندس الكبير والعالم الخبير والشهم الشهير، لأن هذا البطل المهول قد تقرَّر عنه القول: إنه كان برجل واحدة والأخرى كان مُلبسها خشب، وكانت أهل مصر تدعيه الجنرال أبو خشبة، فهذا المذكور أصابته كلَّة في كتفه، وأخذت الجرايحية يداوونه فسألهم: هل الجرح يطول ليبرا؟ فأجابوه: أنه يحتاج إلى مدة طويلة، وأما إذا قُطِعت اليد من الكتف فبرؤه قريب، فأجابهم: اقطعوا يدي ودعوني أنهض إلى تكميل خدمة المشيخة، ثم قطعوا يده من كتفه، وإذ كان هذا الجنرال لا يمكنه الكنون والسكون حتى يختم جرحه طفق يدور على المتاريس ليدبر الطبجية ويدلهم على الأماكن التي تضرب عليها المدافع والقنابر، فمن الشمس والهوا ورم عليه جرحه ومات، وعدمت المشيخة مهندسًا عظيمًا ومدبِّرًا عليمًا، وفي هذه المواقع مات الجنرال بون، فهذا البطل تعلق على السور وحدف البرنيطة إلى داخل البلد، وكان من الشجعان الشداد، وقد ارتعشت عساكر عكا ذلك النهار من فعل ذلك البطل المغوار، وبقوا يضعون اللحف بالزيت والقطران ويحدفوها على الأسوار بعدما يشعلوه بالنار، ويضربوهم بالقنابر والمدافع الكبار، وهم لا ينكفُّوا عن طلوع الأسوار والرصاص عليهم مثل سيل الأمطار، ويرموهم أيضًا من الأسطحة بالحجار الكبار، وهذا الجنرال أصابته حجر في رأسه وهو متعلق على السور، فسقط وحملوه العسكر، ومات وشرب شراب الآفات.
ثم بعد هجمات كثيرة وحروب خطيرة، وتعب شديد وهول مكيد عزم أمير الجيوش على القيام عن مدينة عكا العسيرة لعلةٍ خطيرة وأسباب كثيرة؛ وهو أنه أولًا: أن ورد مركب صغير من بلاد خرسان إلى الإسكندرية، وفيه رجل من مدينة باريس، ومعه مكاتيب إلى بونابرته من بعض رؤساء المشيخة المحبين له يخبروه: أن رؤساء المشيخة أرفاقه الكبار مخامرين عليه، وقد منعوا عنه الإمداد ليهلك في هذه البلاد، وأيضًا أن الإنكليز قد أخذت منهم كلَّ ما اكتسبوه من الأقاليم، وهيجوا ملوك الإفرنج عليهم، وإن لم يحضر إليهم سريع وإلَّا يذهب تعبهم ويضيع، فهذه المكاتيب التي حضرت من بعض رؤساء المشيخة، وأيضًا أتتهم الأخبار أن العمارة العثمانية العظيمة قد تجهزت، وقريبًا تصل إلى الديار المصرية، وسرعسكرها مصطفى باشا كوسا، وأيضًا أتتهم الأخبار أن العمارة المسكوبية حاصرت جزيرة كورفو من أعمال البندقية، وقد خرجت منها الفرنساوية.
ولما علم أمير الجيوش بتلك الأخبار وأن العالم كله نهض ضده، وأنه صار مضطرًّا أن يحارب جميع المسكونة بهذا الجيش القليل، وقلب ذلك البطل الشديد أقوى من الحديد، فما أراعته الأهوال ولا اعتراه الانذهال، ولا تغيرت منه الأحوال، ولا التوى عنانه ولا تزعزع جنانه، بل أخفى الكمد وأظهر الجلد، ثم أرسل أحضر الجنرال كليبر من الناصرة وأمره أن يهجم الهجمة الآخرة، فعند ذلك نهض هذا البطل المذكور، وأظهر حربه المشهور وقرع طبول الحرب، وتقدم إلى الكون والضرب، وكان يومًا أعظم الأيام وحرب يشيب منه رأس الغلام، وهاج ذلك الجنرال هيجان الأسد الأذرع الذي لا يهاب الموت ولا منه يفزع، واندفقت عليهم الكلل والقنابر برًّا وبحرًا، على هؤلاء العساكر اندفاق البحور الزواخر، واتَّقدت عليهم النيران وأظلم الجو من الدخان، واستدَّت المسامع من صوت المدافع، واشتدَّت المعامع، وقفزت الفرنساوية الأسوار، ودخلوا إلى الجامع.
وكانت ساعة من ساعات القيامة، وحربًا لم يكن فيه سلامة، ويوم غريب الأحوال شديد الأهوال عظيم الوبال، تشيب من هوله الأطفال وترتعب من ذكره صناديد الرجال، وتبادرت العساكر الذين في المدينة والمراكب التي في الميناء بالحراقة والنيران بالزيت والقطران، وجادوا بالكلل والرصاص والقنابر والقواص، وبالضجيج العظيم والصراخ الذميم، وارتدت الفرنساوية بحمية عن ذلك الشر والنكد بعدما كانوا دخلوا البلد المحمية، وخطفوا طاسات النحاس الأصفر من سبيل الجامع المشتهر، وخرجوا من المدينة كاسبين، وبقي منهم في الجامع ماية وعشرين، وكانوا قد انشغلوا في القتال إلى أن حالت عليهم الرجال، وبدوا يحاربون وعن أرواحهم يدافعون، فتراكمت عليهم العساكر كالبحور الزواخر، وقد أيقنوا بالموت والاقتناص وفرغ بارودهم والرصاص، وعند ذلك بادر إليهم الكومنضا سميت ساري عسكر الإنكليز، وطفق يكلمهم بالفرنساوية كلام حريز، وأن المشيخة ما أرسلوا رئيسكم إلى هذه الممالك إلا ليرموه في بحر المهالك وها نحن رابطين عليكم البواغيظ، ولا ندع أن يجيكم لا كثير ولا وجيز، وقد بقيتم مسجونين في هذه البلاد، وانقطع عنكم الإسعاف والإمداد، وجميع الممالك ضدكم مجاهدين على عدمكم، فكفاكم تهلكون نفوسكم وتطيعون هوى رئيسكم، فاطلبوا الإقالة من هذه الحروب والخلاص من هذه المصايب والخطوب، ونحن نضمن لكم الوصول بالسلام والأمان إلى أرضكم والأوطان، ولما سمعوا ذلك الكلام سلَّموا له وأخذهم بأمان.
وأما أمير الجيوش حين نظر أن ليس في ذلك الحرب محصول والدخول إلى عكا بعيد الوصول، وقد فهم أن الصلدات صاروا ينفرون من الهجوم والمصادرة، ويطلبون الرجوع إلى القاهرة، وأن قد مات ثلاثة آلاف وخمسماية صلدات على أسوار عكا، ومات في الطاعون وعلى الطرقات ما ينيف عن ألف صلدات، ومع ذلك المخاوف التي قضوها والبلايا التي ذاقوها، وهم لم يزالوا في طاعة غريبة ومحبة عجيبة إلى أمير الجيوش؛ إذ كان عندهم كإله يخضعون إلى أمره ويصبرون على مرِّه وحرِّه ملازمين على حمده وشكره.
وفي أحد عشر يوم من ذي الحجة سنة ١٢١٣ أمر أمير الجيوش بالقيام بجميع المضارب والخيام، وانتقل إلى مدينة حيفا، وكان فيها عدة حواصل قطن إلى الجزار، فأمر بحرق الجميع، ومن هناك ساروا إلى مدينة يافا، فأخذوا ما كان لهم من الأمتعة والمدافع الكبار ودفنوها في الأرمال، وقد كانوا آخذين من العساكر العثمانية أربعة آلاف بندقية، فأرموها في البحر، وأحرقوا المراكب التي كانوا أخذوها من الإسلام، وأخذوا الذين فيها أسارى، وكانوا نحو ثلثماية نفر، فأمر أمير الجيوش أن يصنعوا أخشابًا كالنعوش، ويضعوا عليها المجرَّحين والمشوَّشين، وكل أربع أنفار من هؤلاء المأسورين يحملوا على أكتافهم خشبة ويمشوا أمام العسكر، وقبضوا على السيد يحيى مفتي مدينة يافا وأربعة أنفار من التجار، وأخذهم صحبته، ونهض من مدينة يافا إلى غزة، وكان الجنرال القايم بها قبض على خمسة أنفار من التجار في البلد، وطلب منهم جانب من المال، ثم سار أمير الجيوش إلى قلعة العريش، وهناك وضع المشوَّشين والمجروحين، وأمر الجنرال كليبر أن يسري على قطية بعساكره إلى مدينة دمياط، وسار أمير الجيوش بباقي العسكر إلى مدينة القاهرة، وأمامه أوليك الأسرى ماشيين، ووصل إلى العادلية بالقرب من مدينة بلبيس، وأرسل أخبر القيمقام الجنرال دوكا بقدومه، فخرج المشار إليه مع شيخ البلد وساير الجنرالية والعساكر وعلماء البلد والحكام والأعيان وأرباب الديوان والأوجاقات، وأقبلوا عليه وهنوه بقدومه.
وبعد الجلوس قال لهم: لقد بلغني أن بعض المفسدين والأعداء الكاذبين قد أشاعوا عني الأخبار أنني قد مت في تلك الديار، فأمعنوا النظر بي لتتحققوا الخبر، وانظروا هل أن بونابرته مات أم بعده في الحياة، وقولوا للمفسدين: لا يتأملوا بهذا الأمل، بونابرته قد جاء سالمًا غانمًا بإذن المالك العزيز، ولم يمت حتى يدوس جميع الممالك. فأجابوه: لا بأس على أمير الجيوش، لقد كذب كل من قال، أطال الله لنا بقاك ولا شمَّت بك أعداءك وجعلنا من الدنيا فداك، وبالحقيقة كانت شاعت عنه تلك الأخبار، وفرحت أهل تلك الديار، ثم دخل مصر بموكب شهير ورآه الكبير والصغير، ومشت أمامه جميع العساكر الفرنساوية وحكام وأعيان وعلماء وأغاوات مدينة مصر المحمية، ودخل من باب النصر بالعز والنصر نهار الجمعة عاشر يوم من شهر محرم الحرام افتتاح سنة ١٢١٤ وكان يومًا عظيمًا وموكبًا جسيمًا، وحينما ولج بمنزله الكاين على بركة اليزبكية كتب فرمانًا باللغة الفرنساوية وأرسله إلى ديوان العلماء وأمرهم أن يترجموه إلى اللغة العربية خطابًا من علماء الديوان إلى ساير الأقاليم المصرية، ويطبعوه في اللغة العربية ويعلقوه على شوارع القاهرة، ويفرقوه على جميع الأقاليم العامرة.
من محفل الديوان الخصوصي بمصر المحروسة خطابًا إلى أقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحرية، النصيحة من الإيمان، قال الله تعالى في مُحكم القرآن: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وقال تعالى: وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، فعلى العاقل أن يدبر الأمور قبل وقوع المحذور، نخبِّركم يا معشر المؤمنين: أنكم لا تسمعوا كلام الكذابين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وقد حضر إلى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية؛ حضرة بونابرته محب الملَّة المحمدية، ونزل بعسكر في العادلية سليمًا من العطب والأسقام شاكرًا لله موحدًا للملك العلام، ودخل إلى مصر من باب النصر يوم الجمعة عاشر محرم سنة ١٢١٤ من هجرته — عليه السلام — في موكب كبير عظيم بشنك جليل فخيم وعسكر كثير جسيم، وصحبته العلماء الأزهرية، والسادات البكرية والعنانية والدامورشية والخضوية والأحمدية والرفاعية والقادرية، والأوجاقات السبعية السلطانية، وأرباب الأقلام الديوانية، وأعيان التجار المصرية، وكان يومًا مشهورًا عظيمًا لم يقع نظيره في المواكب السابقة قديمًا، وخرجت سكان مصر جميعًا لملاقاته فوجدوه هو الأمير الأول بونابرته بذاته وصفاته، وأظهر لهم أن الناس يكذبون عليه وشرح الله صدره للإسلام، ونظر الله بعين لطفه إليه، والذين أشاعوا عنه هذه الأخبار الكاذبة العربان الفاجرة والغزُّ الهاربة، ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية، وتدمير أهل الملة الإسلامية، وتعطيل الأموال الديوانية، ولا يحبون راحة العباد، قد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم.
وقد بلغنا أن الألفي توجه إلى الشرقية مع بعض المجرمين من العربان والقبايل الفجرة المفسدين يسعون في الأرض بالفساد، وينهبون أموال المسلمين، إن ربك بالمرصاد، ويزوِّرون على الفلاحين مكاتيب كاذبة، ويدَّعون أن عساكر السلطان حاضرة، والحال ليس لها تحضير، فلا أصل لهذا الخبر ولا صحة له ولا أثر، وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر، مثلما كان يفعل إبراهيم بيك في غزة حين كان يرسل فرمانات بالكذب والبهتان ويدَّعي أنها من طرف السلطان، ويصدقوه أهل الأرياف خُسَفاء العقول، ولا يعتبرون بالعواقب فيقعون في المصايب، وأهل الصعيد طردوا الغزَّ من بلادهم خوفًا على أنفسهم وهلاك أعيالهم وأولادهم فإن المجرم يؤخذ من الجيران، وقد غضب الله على الظلمة، ونعوذ بالله من غضب الديَّان، فكانوا أهل الصعيد أحسن عقولًا من أهل البحري بسبب هذا الرأي السديد.
ونخبركم أن أحمد باشا الجزار سموه بهذا الاسم لكثرة قتله الأنفس، ولا يفرق بين الأخيار والأشرار، وقد جمع طموش كثيرة من عساكر العثمانية ومن الغز والعرب وأسافل العريش، وكان مراده الاستيلاء على مصر وإقليمها، وأحبوا اجتماعهم عليه لأخذ أموالها وهتك حريمها، ولكن لم تساعده الأقدار، والله يفعل ما يشاء ويختار، والطاقة خفية والكلام على صفو النية، وقد كان أرسل بعض هذه العساكر إلى قلعة العريش، ومراده يصل إلى قطية فتوجَّه ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته وكسر عساكر الجزار الذين كانوا في العريش ونادوا الفرار الفرار بعد ما حل بأكثرهم القتل والدمار، وكانوا نحو ثلاثين ألف وملك قلعة العريش، وأخذوا ما فيها من ذخاير الجزار بلا خلاف، ثم توجه السرعسكر إلى غزة فهرب من كان فيها من عسكر الجزار وفروا منه كما يفر من الهرة العصفور، ولما دخل قلعة غزة نادى في رعيَّتها بالأمان وأمر بإقامة الشعاير الإسلامية وإكرام العلماء والتجار والأعيان، ثم انتقل إلى الرملة وأخذ ما فيها من ذخاير الجزار من بقسماط ورزٍّ وشعير، وقُرب أكثر من ألفين قربة عظام كبار كان جهَّزها الجزار لذهابه إلى مصر، ولكن لم تساعده الأقدار.
ثم توجه إلى يافا وحاصرها ثلاثة أيام، ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخاير الجزار بالتمام، ولنحوسة أهلها أنهم لم يرضوا بأمانه ولم يدخلوا تحت طاعته وسلطانه وشمول إحسانه، فدوَّر فيهم ضرب السيف من شدة غيظه وقوة سلطانه، وقتل منهم نحو أربعة آلاف ويزيد، بعدما هدم سورها بفعل الله الذي يقول للشيء كن فيكون، وأكرم من كان فيها من أهالي مصر وأطعمهم وكساهم وأنزلهم في المراكب، وغفَّرهم بعساكر خوفًا من العربان وأجزل عطاياه، وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار فهلكوا جميعًا وبعضهم ما غاطاهم إلا الفرار.
ثم توجه من يافا إلى جبل نابلوس فكسر من كان فيه من العساكر بمكان يقال له قاقون، وحرق خمس قرايا من بلادها وما قدَّره سبحانه فيكون، ثم أخرب سور عكا وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة، ولم يبق فيها حجر على حجر حتى إنه كان قد بنى حصاراتها وشيد أسوارها في نحو عشرين سنة، وظلم في بنايها عباد الله، وكذا عاقبة الظالمين، ولما توجَّهت إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة، فهل ترى لهم من باقية، ونزل عليهم صاعقة من السماء، فإن قال أهل الشام كما قلنا.
ثم توجه راجعًا إلى مصر المحروسة لأجل سببين؛ الأول: أنه أوعدنا برجوعه إلينا بأربعة أشهر، والوعد عند الحر دين. والسبب الثاني: أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان، فلما حضر سكنت الفتنة وزالت الشرور مثل زوال الغيم عند شروق الشمس وسط النهار، فإن همته العلية وأخلاقه المرضية متوجِّه في البكرة والعشية لإزالة الفجور والشرور من الرعية، وجدَّ لمصر وإقليمها شيء عجيب ورغبته في الخير لأهلها ونيلها وزرعها بفكره وتدبيره العجيب، يحب الخير لأهل الخير والطاعة ويرغب أن يجعل فيها أحسن التحف والصناعة، ولما حضر من الشام أحضر معه جملة أسارى من خاصٍّ وعامٍّ، وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعداء الأخصام.
فالويل ثم الويل لمن عاداه، والخير ثم الخير لمن والاه، فسلِّموا يا عباد الله لقضاء الله، وارضوا بتقدير الله؛ فإن الأرض لله، واقتبلوا أحكام الله؛ فإن الملك لله يؤتيه لمن يشاء من عباده، هذا هو الإيمان بالله، ولا تسعوا في سفك دماكم وهتك أعيالكم، ولا تسببوا في قتل أولادكم ونهب أموالكم، ولا تقولوا إن في الفتنة إعلا كلمة، حاشا لله! لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذلُّ أمة النبي — عليه السلام، والغزُّ والعربان يطغوكم ويغرُّوكم؛ لأجل أن ينهبوكم، إذا كانوا في بلد وقدمت عليها الفرنساوية ففروا هاربين منهم كأنهم جنود إبليس.
ولما حضر الساري عسكر إلى مصر أخبر أهل الديوان من خاصٍّ وعامٍّ أنه يحب دين الإسلام ويعظم النبي — عليه السلام — ويحترم القرآن، ويقرأ به كل يوم بإتقان، وأمر بإقامة شعاير المساجد الإسلامية وإجراء خيرات الأوقاف السلطانية، وسلَّم عوايد الأوجاقية وسعى في حصول أقوات الرعيَّة، فانظروا هذه الألطاف والمزية ببركة نبينا أشرف البرية، وأوعدنا بأمرين عظيمين في الإسلام أنه يبني لنا مسجدًا عظيمًا بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار — عليه أفضل الصلاة والسلام. ختام.
ثم وضعوا إمضاهم كما مذكور قبل وهم العلماء المصرية والأغاوات والأعيان الأوجاقية.
وقد طبع هذا الفرمان ووزَّعه على الأقاليم المصرية، وكان ما ذكر في هذا الفرمان عنه قصده لتهذيب أخلاقهم وتليين أعناقهم وترقيد الفتن والمشاجرات، وعدم المناكرات إذ كان عارفًا ما يورد عليهم من الحادثات، وأنه مضطرٌّ إلى الرحيل لما قد بلغه عن قيام الممالك، وأنه سيترك الفرنساوية بمصر بكل ضيق وحصر؛ فلذلك كان يودُّ المسلمين ويُظهِر لهم الحب اليقين، ويشهد لهم بحسن الدين وأنه وإياهم على الحق المبين، وهم كانوا لهذا الكلام غير محققين، وأن كل ذلك خداع ونفاق وابتداع فكانوا غير مطمئنين.
هذه وهو غير فاتر عن مسألتهم وجدب قلوبهم ومؤانستهم، وكان يباحثهم بأمور الدين ويريهم أنهم على الحق اليقين، وكان مملوءًا من الحكمة والعلوم، وقيل إنه كان يعلم بأمور القلم الفلكي؛ إذ إنه كان يتفوه بأمور تحدث في ميقاتها قبل أوقاتها، ويقول: هو المنصوص على ظهوره فلا ينتظروا أحدًا بعده، وهو الذي يملأ الأرض عدلًا، وقد صدَّق كثيرون منهم أنه هو المهدي، ولم تتغير عليهم سوى الملابيس الإفرنجية، فلو جاء بالفرجية لآمنت به الرعية.
وقد كنا ذكرنا كل ما جرى للفرنساوية في ابتداء دخول إلى الديار المصرية في نصف شهر محرم افتتاح سنة ١٢١٤، وما قضوا من المكافحات والجهاد والشرور والفساد، وقد مات منهم جمع غفير، وكابدوا تعبًا كثيرًا، وأعداؤهم الإنكليز رابطين عليهم البواغيظ، ونفور البلاد العربية وعدم ميلهم عليهم، ووصول الأذية إليهم؛ لأن أهالي البلاد قتلوا منهم أناسًا كثيرين بالانفراد، وكانوا يدخلونهم إلى منازلهم بالأمان ويقتلونهم ويخفوهم، وكانت الفرنساوية قلوبهم مطمئنة من قبل الإسلام، ولا ينقلون السلاح إلا في وقت الحرب والكفاح، وكانت نساء مصر وخوارجها كثيرة، فكانوا يأخذون الفرنساوية إلى منازلهم إلزامًا ويقتلونهم ويرمونهم في الأبيار ويخفون منهم الآثار، وقد فقد منهم كثيرون بهذه الوسايط والأنكاد، ووقع كثير منهم في علَّة الجدام من ذلك الفساد، وذلك المرض وجوده كثير في تلك البلاد، وقد مات من الفرنساوية من ابتداء دخولهم إلى الديار المصرية إلى حين رجوعهم من الديار الشامية ما ينوف عن خمسة عشر ألفًا، وقلَّ عددهم، ولكن لم يضعف جلدهم، وكانوا مع كل تلك الأحوال والبلاء والنكال ما ازدادوا إلا قوةً وباس وصعوبةً ومراس وحسن الشيم والعطا والكرم، وكثر في زمانهم في تلك الأقاليم الرخص والخير العميم، وعدم الظلم والعدوان وإظهار العدل والإيمان.
وكان بعد رجوع أمير الجيوش إلى مصر قد هرب القاضي وترك أعياله في البلد، فأمر أن يرفعوا ولده إلى القلعة ويختموا على جميع أرزاقه، فاجتمعت العلماء وأرباب الديوان وكتبوا عرض حال يترجَّوا أمير الجيوش بذلك الحال، وطلق ولده من القلعة ورفع الضبط عن المال والعيال، فقبل سؤالهم وأرثى لحالهم وأطلق الولد بشرط أن لا يقيم في البلد، وصرَّفه في ماله وأعياله، ثم إنه أحضر شيخ العريش وألبسه فروًا فاخرًا ثمينًا وأقامه قاضيًا أمينًا.
وفي شهر محرَّم الحرام افتتاح سنة ١٢١٤ ظهر في أراضي البحيرة عند دمنهور رجل مغربيٌّ، وقيل: إنه ابن سلطان الغرب، فجمع من المغاربة والهوارة والعربان والفلاحين جمعًا عزيزًا وقطع الطرقات، فبلغ خبره إلى حاكم الإسكندرية، فأرسل إليه شردمة من عسكر الفرنساوية، وكبسوا عليه وانتشر بينهم القتال فانهزم ذلك المغربي بعسكره في البراري والتلال، ولم تزل الفرنساوية في آثارهم حتى أهلكوا أكثرهم، وكان هذا الرجل يدَّعي النبوَّة ويقول: إنه حينما يلقي نظره على الكفَّار فيتلاشون كالغبار، فكان الأمر بضدِّ ذلك الإقرار، وقد جرَّعوه كئوس المهالك وتشتَّتت تلك الجموع، ورجعت الفرنساوية بالسكون والهجوع.
وفي اثني عشر صفر سنة ١٢١٤ هجرية حضر هجان من الإسكندرية بكتابة إلى أمير الجيوش يخبره أن العمارة العثمانية ظهرت في ثغر الإسكندرية، وعدَّتها ثمانون مركبًا كبارًا وصغارًا، وأنهم إذ لم يقدروا يستقبلوا البوغاظ من الكلل والقنابر الكثير فتعمَّدوا إلى قلعة أبو قير، وكان وصول ذلك الهجان عند الغروب، وهو على صفرة المأكول والمشروب، فنهض بالحال كالمرعوب، وأمر بحضور الخيل للركوب وفرَّق الأوامر على الجنرالية، وأمرهم أن يتبعوه بالعساكر إلى الرحمانية، وكتب إلى الجنرال كليبر أن يحضر من دمياط على طريق البرِّ، ثم ركب من ذلك المحضر بعسكره الخاصِّ الذي يلبس الجوخ الأخضر، وسار على تلك النيَّة حتَّى وصل إلى أراضي الرحمانية، فأتاه الخبر من الإسكندرية أن المراكب العثمانية ملكت قلعة أبو قير وهربت منها الفرنساوية، وأن العساكر جميعًا خرجت إلى البرِّية وبنوا بمساعدة الإنكليز متاريس عظيمة في تلك الأقطار، ووضعوا فوقها المدافع الكبار وفرَّقوا البيورلديات على جميع تلك الديار، واستنهضوا للقيام الفلاحين والعربان وأهل تلك البلدان، ولبسوا من مصطفى باشا الأكراك، وابتهجت الإسلام بورود عسكر الأتراك.
وخشي أمير الجيوش من قيام العامَّة من مصر وغيرها من البلدان، فكتب فرمان إلى علماء مصر وأرباب الديوان يخبرهم بورود المراكب وخروج عساكرها إلى البرِّ وأنهم مراكب النصارى، ولكن ربما معهم بعض مسلمين، وتعريفه بذلك استنادًا على الفرمان الذي ورد من الدولة العثمانية إلى الجزَّار والأقطار الشامية، حيث يقول: قريبًا تحضر لكم الضوننما الهمايونية مع ضوننما دولة المسكوبية المتَّحدة مع دولتنا بالحب والصدوقية ويحضر لكم أيضًا عشرين ألفًا مقاتل في البرِّ من الدولة القوية غير العساكر البحرية؛ لأجل طرد الملَّة الفرنساوية. وهذا الفرمان قد حضرت صورته إلى أمير الجيوش واطَّلع عليه العلماء والأعيان وأهل تلك البلدان؛ ولأجل ذلك حرَّر أمير الجيوش لهم ذلك الفرمان؛ لأجل ترقيد الفتن والهرج وأن تلك المراكب من النصارى الإفرنج.
من حضرة ساري عسكر أمير الجيوش الكبير بونابرته خطابًا إلى ديوان مصر المحروسة: أوله: لا إله إلَّا الله، محمد رسول الله ﷺ، نخبر محفل علماء الديوان بمصر المنتخب من أحسنهم وأكملهم في العقل والتدبير عليهم سلام الله ورحمته وبركاته: بعد مزيد السلام عليكم وكثرة الأشواق إليكم نخبركم يا أهل الديوان المكرَّمين: أننا وضعنا جماعة من عسكرنا بجبل الطونا، وبعد ذلك سرنا إلى إقليم بحيرية لأجل ما نردُّ راحة الرعايا المساكين وأقاصص أعداءنا المحاربين، وقد وصلنا في السلامة إلى الرحمانية وعفونا عفوًا عموميًّا عن كل أهل البحرية، حتى صار أهل الأقاليم في راحة تامَّة ونعمة عامَّة وسكنت الفتنة واطمأنت.
ثم نخبركم: أنه وصل ثمانون مركبًا صغارًا وكبارًا حتى ظهروا بثغر الإسكندرية، وقصدوا أن يدخلوها فلم يمكنهم الدخول لكثرة كلل والمدافع النازلة عليهم، فرحلوا عنها وتوجَّهوا إلى ناحية أبو قير، وابتدوا ينزلوا في برِّ أبو قير، وأنا الآن تركتهم وقصدي أنهم يتكاملوا الجميع في البرِّ، وأنزل عليهم وأقتل من لا يطيع، وأخلِّي في الحياة الطايعين، وآتيكم بهم محبوسين؛ لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر.
والسبب في مجيِّ هذه العمارة إلى هذا الطرف العشم بالاجتماع على الممالك والعربان؛ لأجل نهب البلاد وخراب الإقليم المصري، وفي هذه العمارة خلق كثير من الموسكوب الإفرنج، الذين كراهتهم ظاهرة لكلِّ من كان موحِّد الله، وعداوتهم واضحة لمن كان يؤمن برسول الله، يكرهون الإسلام ولا يحترمون القرآن، وهم نظرًا إلى كفرهم في معتقدهم يجعلون الآلهة ثلاثة، وأن الله ثالث تلك الثلاثة، تعالى الله عن الشرك، ولكن عن قريب يظهر لهم أن الثلاثة لا تعطي القوَّة، وأن كثرة الآلهة لا تنفع؛ لأنها باطلة، بل إن الله الواحد هو الذي يعطي النصرة لمن يوحِّده، وهو الرحمن الرحيم المساعد الأمين المعين المقوِّي للعادلين الموحِّدين، المبعث الماحق رأي الفاسدين المشركين.
وقد سبق في علمه القديم وقضائه العظيم وتقديره المستقيم أنه أعطاني هذا الإقليم العظيم، وقدَّر وحكم بحضوري إلى مصر؛ لأجل تغيير الأمور الفاسدة وأنواع الظلم وتبديل ذلك بالعدل والراحة مع صلاح الحكم وبرهان قدرته العظيمة ووحدانية المستقيمة أنه لم يقدِّر الذين يعتقدون أن الله ثلاثة قوَّةً مثل قوَّتنا؛ لأنهم ما قدروا أن يعملوا الذي عملناه، ونحن المعتقدون بوحدانية الله ونعرف أنه العزيز القادر القويُّ القاهر المدبِّر الكاينات المحيط علمه بالسماويات والأرضيات، والقايم بأمور المخلوقات، هذا ما في الآيات وبالكتب المنزلات.
ونخبركم بالمسلمين إن كانوا صحبتهم يكونوا من المغضوبين لمخالفتهم لوصية النبيِّ عليه أفضل السلام؛ بسبب اتفاقهم مع الخارجين الكفرة اللئام؛ لأن أعداء الإسلام لا ينصرون الإسلام، ويا ويل لمن كانت نصرته في أعداء الله، يكون المنتصر كافر أو يكون مسلم، فهؤلاء ساقهم التقدير إلى الهلاك والتدمير، وكيف المسلم أن ينزل في مركب تحت بيراق الصليب، ويسمع في حق الله الواحد الأحد الفرد الصمد من الكفار كلَّ يوم كلام تجديف واحتقار، ولا شكَّ أن هذا المسلم في هذا الحال أقبح من الكافر الأصلي في الضلال.
نريد منكم يا أهل الديوان أن تخبروا بهذا الخبر جميع القرايا والبلدان؛ لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعيَّة في ساير الأقاليم المصرية؛ لأن البلد الذي يحصل فيها الشر يحصل لهم الضرر والقصاص، وانصحوهم بحفظ أنفسهم من الهلاك خوفًا عليهم أن نفعل فيهم مثلما فعلنا في أهل دمنهور وغيره من البلاء والشرور؛ بسبب سلوكهم مسالك القبيحة قاصصناهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم إن أمير الجيوش بعد أن تكامل عنده جيش الفرنساوية سار من الرحمانية طالب قلعة أبو قير وحرب ذلك الجمع الغفير والجيش الكثير، وحين فهم أن متاريسهم منيعة عالية أخذ يدبِّر كيفية تملُّكها بحسن فطنته السامية، فأحضر الجنرال ميراد الذي كان من القوم الشداد وساري عسكر الخيالة، وأمره أن يهجم أولًا بالخيل حتى إذا أطلقت الأعداء مدافعها فتصيب الخيل وتسلم الرجال، ثم تهجم طوابير المشاة من اليمين واليسار على المتاريس ويملكوها في الحال.
ثم اصطفَّت الصفوف ودقت البوقات والطبول للحرب، واستعدَّا الفريقان للطعن والضرب، وبرز الجنرال ميراد بالخيل الشداد، وهجم على تلك العساكر بالفرسان الجواسر والليوث الكواسر، فضربت عليهم المدافع من متاريس الأتراك، فصابت الخيل وتساقطت من على ظهرها الرجال، وأكثرهم بُلي بالموت والنكال، والذي سلم ما خطر له الموت على بال، بل تقدَّم للحرب والقتال، وهجمت العساكر المشاة من اليمين والشمال، وعظمت الأهوال وكثر النكال، وذاقت الإسلام حربًا لم يخطر لهم على بال، وأخذهم الخوف والانذهال، وأيقنوا بالذلِّ والوبال، وتملَّكت الفرنساوية المتاريس وأبلوهم بالموت والتعكيس، وحاطوا بالإسلام من كلِّ مكان، وأبهتوهم بالضرب والطعان والقطيعة والخذلان.
وحين رأت الإسلام أن ليس نجاة وأيسوا من الحياة ألقوا السلاح طمعًا بسلامة الأرواح، وطلبوا الأمان، واختاروا الأسر والهوان، وصارت الفرنساوية تقبض عليهم باليد، وهم في عنا وكدٍّ، ولم يخلص من تلك القبايل لا فارس ولا راجل، بل أخذتهم الفرنساوية عن آخرهم، فمنهم قُتل ومنهم أُسر، ومنهم متخن بالجراح، وكثيرٌ أجساد بلا أرواح، والذي منهم كان هارب لم يقدر يصل إلى المراكب، وهجم أحد الصلدات على صيوان الوزير مصطفى كوسا باشا، وقبض عليه، وأراد قتله فعرَّفه بنفسه بعد أن كان ضربه بالسيف وجرحه بيده، فعفا عنه، وأحضره إلى قدَّام أمير الجيوش، فترحَّب به وأخرج من جيبه منديل ثمين وربط يد مصطفى باشا فيه، وأجلسه بالقرب منه، وأكرمه غاية الإكرام، ثم قبضوا أيضًا على عثمان خواجا، هذا كان متسلِّم بزمان الغزِّ على مدينة رشيد، ولمَّا حضروا الفرنساوية هرب إلى القسطنطينية، وحضر صحبة مصطفى باشا، وحين حضر إلى قدَّام أمير الجيوش وفهم أمره أمر بحفظه.
وكان دخلت شردمة من عسكر العثماني إلى قلعة أبو قير، ومعهم ابن مصطفى باشا، فأمر أمير الجيوش أن يضربوا عليه الكلل والقنابر، وبعد أربعة أيَّام سلَّموا بالأمان، وقبضوا على ابن مصطفى باشا، وأحضروه قدَّام أمير الجيوش، فأمر أن يأخذوه إلى خيمة أبوه بكلِّ إكرام، وكان أمر أمير الجيوش إلى المجروحين من تلك العساكر أن ينزلوا بثلاث مراكب، ويسافروا إلى بلادهم ويخبروا بحالهم وما جرى عليهم وما نالهم، وأبقى الأسارى السالمين تحت الأسر المهين، وغنمت الفرنساوية بهؤلاء العساكر إذ لم يخلص منهم أحد سوى الذين سافروا مجروحين في المراكب.
وكانت هذه الوقعة في أربعة وعشرين شهر صفر سنة ١٢١٤ وجمعوا أوليك الأسرى وكانوا نحو ثلاثة آلاف عدا عن تلك المجاريح الذين منَّ عليهم أمير الجيوش بخلاصهم وسيَّرهم إلى أعيالهم، وباقي تلك العساكر أفنتهم الفرنساوية بالسيف الباتر والرصاص المتواتر.
وكان قد انجرح الجنرال ميراد جرحًا بليغًا بحنكه من رصاص أصابه فاغتاظ لأجله أمير الجيوش غيظًا عظيمًا، وقتل الجنرال تركو مع مقدار ثلاثماية صلدات.
صورة مكتوب الجنرال دوكا قيمقام أمير الجيوش
من حضرة ساري عسكر الجنرال دوكا قيمقام أمير الجيوش بمصر حالًا إلى علماء الإسلام وكافة أرباب الديوان: بعد السلام عليكم وكثرة الأشواق إليكم، لا يخفاكم أنه وصلني خبر صحيح بأن العساكر الفرنساوية ملكت قلعة أبو قير في ١٤ شهر ترميدور الموافق إلى شهر صفر سنة ١٢١٤ وأنهم استأسروا فيها ثلاثة آلاف نفر ومن الجملة مصطفى باشا، وغاية ما وقع أن العمارة التي نزلت في أبو قير كانت بها عساكر خمسة عشر ألف لم يخلص منهم أحد بل الكلُّ تلاشوا وهلكوا.
ثم أخبركم عن لسان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته أنكم في الحال تُظهِرون هذا الخبر بين الخاصِّ والعامِّ، وتشهروه في الأقاليم المصرية؛ فإنه خبر فيه سرور وفرح، وألزمكم أنكم تعرِّفوني في الحال عن إشهار هذا الخبر الفاخر المعتبر، وأخبركم أن حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته يحضر إليكم عن قريب، والله تعالى يحفظكم. والسلام ختام.
وأمَّا أمير الجيوش بونابرته نهض بالجيوش من أراضي أبو قير إلى الرحمانية وأرسل عثمان خواجا إلى بندر رشيد وأمر بقتله هناك، وحين تواردت الأخبار إلى القاهرة بما جرى على العساكر العثمانية، فنزل على مسلمين مصر البلية وخابت منهم تلك الأملية، وحزنوا حزنًا عظيمًا؛ إذا كان في أملهم أن تملك الإسلام تلك الأقاليم.
وفي خامس شهر ربيع أوَّل حضر أمير الجيوش إلى مصر ودخل بالعزِّ والنصر، وبليت أعداؤُه بالذلِّ والقهر، وصحبته مصطفى باشا وولده مأسورين مع جملة الأسارى، وفي ثاني يوم من وصوله حضرت لعنده جميع الحكَّام والعلماء والأعيان وأرباب الديوان وهنَّوه بقدومه وانتصاره، فنظر إليهم بعين فراسته واعتباره وقد وجدهم في حزن عظيم وقد بلغه الهرج الذي حدث بغيابه، وعزمهم عليه في انقلابه، والكتابات التى أتت إليهم من مصطفى باشا وعثمان خواجا حين حضروا إلى أبو قير، فقال لهم: قد أخذني منكم العجب أيُّها العلماء والسادات إذ إنني أراكم تغتمُّون وتحزنون من انتصاري، حتى الآن ما عرفتم مقداري، وقد خاطبتكم مرارًا عديدة وأخبرتكم بأقوال بأنني أنا مسلم موحِّد وأعظم النبيَّ محمد، وأودُّ المسلمين، وأنتم إلى الآن غير مصدقين، وقد ظنتم أن خطابي هذا إليكم خشيةً منكم، مع أنكم شاهدتم بأعينكم وسمعتم بأذنكم قوَّة بطشي واقتداري، وحققتم فتوحاتي وانتصاري، فقولي لكم: إني أحبُّ النبيَّ محمَّد؛ وذلك لأنه بطل مثلي، وظهوره مثل ظهوري، بل وأنا أعظم منه؛ إذ إنني غزوت أكثر منه، وأما لي باقي غزوات غزيرة وانتصارات كثيرة سوف تسمعونها بآذانكم وتشاهدونها بأعيانكم، فلو كنتم عرفتموني لكنتم عبدتموني، وسوف يأتيكم زمان به تذلُّون وعلى ما فعلتم تندمون وعلى أيَّامنا تتحسَّرون وتبكون، فأنا قد بغضت النصارى ولاشيت ديانتهم وهدمت معابدهم، وقتلت كهنتهم وكسرت صلبانهم، ورفضت إيمانهم، ومع ذلك أراهم يفرحون لفرحي ويحزنون لحزني، فهل تريدون أن أرجع نصرانيًّا ثانيًا، فإذا رجعت فلا ترون في رجوعي فايدة، فدعوا عنكم هذه الأحوال واقتبلوا لأمر الله المتعال، وكونوا فارحين مطمئنين ليحصل لكم النجاح والصلاح، وقد نبهتكم مرارًا عديدة ونصحكتم نصايح مفيدة، فإن كنتم تعرفوها وتذكروها فتربحوا وتنجحوا، وإن كنتم رفضتوها تخسرون وتندمون. ثم انصرفت العلماء وهم منذهلين من هذا الخطاب، ومتعجِّبين كلَّ الإعجاب، ولم يقدر أحدٌ يردُّ له جواب، وأسكن مصطفى باشا وولده وبعض أتباعه في مسكن عظيم، وعيَّن لهم المصاريف التي تلزم إليهم، وابتدا يكاتب الدولة العثمانية عن يد مصطفى باشا، ويذكِّرهم صداقة الفرنساويين القديمة واتِّحادهم مع الدولة العثمانية من أعوام عديدة وأيَّام مديدة، ويحرصهم من باقي الدول الإفرنجية، وأن الأوفق لهم إقامة الفرنساوية في مصر، وأنهم أنسب من الغزِّ، ويعاهدوا أن يكونوا طايعين وإلى أوامر الدولة سامعين، وتبقى الخطبة والسكَّة كما هي باسم الدولة العثمانية، ويمشي الحج كعادته القديمة، ويدفعوا الأموال المعتادة للخزينة، وأرسل مصطفى باشا هذا الخطاب مع أحد أتباعه، وابتدا أمير الجيوش يدبِّر له أمر النفوذ إلى مدينة باريز؛ لأن التهب فواده من تملُّك الإنكليز.
وقد ذكرنا أن أمير الجيوش بونابرته قد أرسل عثمان خواجا إلى مدينة رشيد، وعندما وصل ألقوه في السجن، وأرسل الجنرال الموجود في رشيد أحضر عدَّة شهود إسلام واستشهدهم قدَّام الديوان الخصوصي، فشهدوا له قدَّام القاضي والمفتي أن عثمان خواجا في أيَّام مراد بيك كان رجل ظالم وهو الآن مستوجب الموت، وأخرج فتوى من جميع الأعيان، وأمر أن يطوفوا به المدينة ويقتلوه، وأرسل الفتوى إلى جميع الأقاليم المصرية؛ ليعلمهم بقتله.
وصلنا مكاتيبكم بالأمر أننا نستخبر ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت من طرف عثمان خواجا كرولي، وننظر إن كان حصل منه الشرُّ أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الخضاري مفتي حنفي، ونقيب الأشراف المكرَّم المحترم الشريف بدوي، وقدوة الأعيان الحاجِّ أحمد أغا السلحدار، والمكرَّم علي شاوش كتخدا، وقدوة التجَّار أحمد شحال، والمكرَّم سليم أغا، والمكرَّم إبراهيم الجمال، والشريف علي الجماني، والشيخ مصطفى ظاهر، والشريف إبراهيم سعيد، والمكرم محمد القادم، والحاجي باشي سليمان، وبحضور جماعة المسلمين خلاف المذكورين أعلاه، ثم حضر رمضان حمودي ومصطفى الجبَّار وأحمد شاوش وعبد الله والحاجُّ حسن أبو جودة والحاج بدوي المقرالي وعلي أبو زرازي وبدوي دياب وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهاداتهم أن عثمان الخواجا المذكور كان ظلمهم ظلمًا شديدًا بالضرب والحبس من دون حقٍّ ونهب أملاكهم.
وخلاف ذلك سئل من جماعة المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من طرف عثمان خواجا الشرُّ أكثر من الخير؟ فكلُّهم قالوا بلسان واحد أن حصل من طرف عثمان خواجا الشرُّ أكثر من الخير؛ وبسبب ذلك انقطع رأس عثمان خواجا حاكم رشيد سابقًا.
ومن بعد حضور أمير الجيوش إلى مصر في ١٢ ربيع الأوَّل صنع مولد النبيِّ حسب السنة الماضية، وعمل محفلًا عظيمًا، وأحضر مصطفى باشا وجميع العلماء والأعيان، وصنع وليمة عظيمة لها قدر وقيمة، وأحضر آلات الطرب والموسيقة، ثم بعد أربعة أيام ركب بعسكره الخاصِّ وأظهر أنه يريد يدور على الأقاليم المصرية لأجل تطمين الرعية، وأخذ معه الجنرال إسكندر وثلاثماية من العسكر والجنرال ميراد وقصد مدينة منوف، ومن هناك انتقل إلى الإسكندرية، وبعد أيَّام وجيزة دبَّر أمر السفر، وهيَّأ له ثلاثة مراكب، وأرسل لهم ليلًا عدَّة صناديق مملوءة الجواهر الثمينة، والأسلحة العظيمة، والأمتعة والقماش، والأمور التي كان اكتسبها، وعدَّة من الممالك الصغار كان استخدمهم عنده وزخرف أطواقهم وكساءهم.
وبعد ذلك التدبير صنع وليمة عظيمة إلى الجنرال سميت سرعسكر الإنكليز، وكان حين ارتفع الحصار عن الجزَّار توجَّه بمراكبه إلى تجاه الإسكندرية، ومن عادة الإفرنج أن في الأيَّام التي لم يكن فيها حروب فليس فيه امتناع عن بعضهم بعض، وحين حضر الجنرال سميت ساري عسكر الإنكليز قدَّم له أمير الجيوش غاية الإكرام، وأعطاه هدايا جزيلة الثمن، ثم طلب منه بأن يأذن له أن يرسل ثلاثة مراكب صغار إلى بلاد فرنسا، فأذن له بذلك، وبعد رجوع ساري عسكر الإنكليز إلى مراكبه في تلك الليلة نزل بونابرته في تلك المراكب بمن معه من الرجال، وخرج من البوغاظ بريح عاصف، وفي ثاني الأيَّام بلغ خبر مسيره إلى الجنرال سميت، فعظم عليه ذلك الأمر، وأقلع بمراكبه في طلبه فلم يجد له خبر ولا رأى له أثر، ونجا منهم بحسن خبرته ومزيد فطنته وسموِّ حكمته، وقد استغنم الفرص وفرَّ منهم كما يفرُّ العصفور من القفص، وبقوَّة المولى العزيز نجا من أعدائه الإنكليز، ووصل إلى مدينة باريز، وخلص حاله بتدبير ذلك الأمر، وكان نفوذه من عجايب الدهر واستغرب أهل ذلك العصر، وقالت الناس: ما ذلك إلَّا من غرايب الأمور ودليل على سعده المقدور.
صورة الكتابات
من محفل الديوان الخصوصي خطابًا إلى ساير الأقطار المصرية من الأقاليم جهة القبلية والبحرية وكامل الرعايا وفقهم الله، نخبركم أنه حضر إلى الديوان مكتوب من حضرة الجنرال دوكا القيمقام بأن ساري عسكر بونابرته الكبير أمير الجيوش الفرنساوية توجَّه إلى البلاد الفرنساوية؛ لأجل حصول الراحة الكاملة إلى الأقطار المصرية، وأنَّه كان حضر له استعجال من الجمهور في بلاده لطول غيابه، وأخبرنا الساري عسكر دوكا بأن السر عسكر الكبير قبل غيابه أقام عوضه رجلًا كاملًا عاقلًا فيه شفقة ورحمة عامَّة على الرعيَّة، جعله أميرًا على الجيوش الفرنساوية، وأخبرنا القيمقام أننا نكون في غاية الأمان والاطمئنان على ديننا وعرضنا ومتاجرنا وأموالنا وأسباب معاشنا، كما كنَّا في زمان حضرة السرعسكر الكبير بونابرته؛ فننصحكم يا أيها الرعايا: لا تطيعوا أهل الفساد، واتركوا الفتن والعناد، وامتثلوا أمر خالق العباد. والسلام عليكم ختام.
ثم حضر الجنرال كليبر من دمياط إلى بولاق، والتقاه القيمقام الجنرال دوكا وشيخ البلد الجنرال دوسطين، ودخل إلى مصر بالعزِّ والنصر، ونزل إلى منزل أمير الجيوش، وهو بيت محمد بيك الألفي الكاين على بركة اليزبكية، وفي ثاني الأيَّام حضر إليه ساير الجنرالية والحكَّام الفرنساوية والكوميسارية والفسيالية وهنَّوه بقدومه وإمرته، وحضر علماء الديوان والأغاوات والوالي والمحتسب والتجَّار والأعيان وهنَّوه بقدومه، فالتقاهم بوجه باشٍّ وأمَّنهم وطمَّنهم، وأمرهم يطمِّنوا الرعيَّة، فشملهم الاندهاش من هيبته والانذهال من صولته؛ إذ كان هذا المقدِّم أسدًا درغام ذا قوام واعتدال، مهابًا بالرجال، حسنًا بالجمال، له صورة ترعش الكبود وترعب الأسود، فنزلوا من أمامه وهم في خشية من كلامه، وبعد ذلك حضر مصطفى باشا وولده وهنَّوه بقدومه، فالتقاهم وأكرمهم.
وجلس أمير الجيوش كليبر على تخت القاهرة، وكان من القوم الجبابرة، وفحص الكتابات التي أبقاها له بونابارته، واطَّلع على جميع الارتشاد الذي أرشده به، وفهم الكتابات التي توجَّهت إلى الدولة العثمانية على يد مصطفى باشا، فابتدا أمير الجيوش كليبر يتداول مع مصطفى باشا بأمر الصلح، وكان قد انتشر الخبر في خروج صدر الأعظم يوسف باشا ضيا المعدني من مدينة قسطنطينية بالعساكر الهمايونية لاستخلاص المملكة المصرية من يد الفرنساوية، فوصلت الكتابات للأمير كليبر من الصدر الأعظم عن يد مصطفى باشا كوسا، وكان خروج وزير الختام من القسطنطينية في شهر ربيع الأوَّل سنة ١٢١٤، وقد استكنت حركة مملكة مصر في تمليك هذا الأمير، وكان هو يحبُّ الهدوء والسكون وعدم مقاتلة الناس، ويميل إلى التنعُّم والتعظُّم، وكانت آلات الموسيقة تضرب أمامه بكرةً ومساءً، وكان جولانه قليلًا وسقطت رعبته في قلوب المملكة، وأبقى هذا الأمير جميع ما كان نظمه بونابارته في الديار المصرية من دون تغيير ولا تبديل، وفي أيَّام جبر النيل خرج أمير الجيوش بمحفل عظيم مع ساير الجنود وقطَّان القاهرة، وكانت أيَّام ظاهرة وأفراح وافرة ومواكب فاخرة، وأمن عظيم وأنس جسيم، وضرب في تلك الوقت مدافع ليس لها عدد.
وبعد حضور الأمير كليبر من دمياط أقام مقامه حاكمًا الجنرال ورديه، ففي هذه المدَّة حضر نحو خمسين مركب من مراكب الدولة العثمانية إلى ثغر دمياط مشحونة بالعساكر وبعض مراكب من مراكب الإنكليز المقيمين على البواغيظ، وكانت هذه المراكب المذكورة هي التي أتت إلى بوغاظ الإسكندرية صحبة مصطفى باشا كوسا وعساكره، ولمَّا طلعت العساكر إلى برِّ أبو قير وحصل لهم ذلك الانكسار والتدمير، فأقلعت المراكب في البحر ورجعت جهَّزت جانب من العسكر، وحضرت إلى بوغاظ دمياط، وعند وصولهم أخرجوا العساكر من المراكب ليلًا إلى العزبة، فبلغ الجنرال ورديه بأن عساكر المسلمين خرجت إلى البرِّ وبنوا المتاريس، فنهض الجنرال المذكور وصار إلى العزبة بخمسماية صلدات.
وقبل شروق الشمس أقبل عليهم وقسم عساكره ثلاثة أقسام، وهجم على عساكر الإسلام وتارت نيران الحرب والقتال، وازدحمت الرجال والأبطال وحمي الضرب والطعان، وما مكثوا إلَّا برهةً من الزمان حتى ذاقوا الموت أشكالًا وألوان، فأرموا سلاحهم وطلبوا الأمان، وأكثرهم ألقوا أنفسهم في البحر خوفًا من الموت والقهر والذلِّ والأسر، فمنهم من صعد إلى المراكب ومنهم من مات غريق، وكانوا ثلاثة آلاف فأُسروا منهم ثمانماية بلا خلاف، ورجع الجنرال ورديه إلى دمياط بالعزِّ والنشاط، وصنع شنكًا عظيمًا لأجل ذلك الانتصار وافتخر أعظم افتخار، وكان قد قبضواعلى مقدِّم ذلك العسكر، وهو الزرناجي باشي وكان مجروحًا جرحًا بليغًا، وأحضر له الجنرال ورديه الحكماء وأمرهم بمداواته، وأخبر أمير الجيوش الأمير كليبر بذلك الانتصار على ذلك العسكر، فلامه على عجلته عليهم بسرعة القدوم إليهم وأنه كان واجب إمهال إلى حين تخرج الجميع من المراكب ويبليهم بالهلاك والمعاطب، ثم من بعد أربعة أيام مات الزرناجي باشي من ذلك الجرح الأليم والقهر العظيم، فأمر الجنرال ورديه أن يصنعوا له ميتمًا عظيمًا واحتفالًا فخيمًا كعادة رؤساء العساكر، وأحضر علماء المدينة وساير الأعيان وقواد العساكر وأرباب الديوان، وأمرهم يمشون قدَّام نعشه وبندقهم منكسة، وألبس الخيل الحُلل السود، ودفنه بأكبر الجوامع وأفخر المواضع.
وفي آخر شهر ربيع الأوَّل سنة ١٢١٤ قدم الوزير الأعظم والدستور الأفخم إلى أراضي الشام بالعزِّ والإنعام، بالعساكر الكثيرة والجيوش الغزيرة، وارتجت لقدومه الأقطار وخشيت سطوته الكبار والصغار، وكان وزيرًا عادلًا عاقلًا فاضلًا وعن أمور الشريعة مناضلًا، يبغض الظلم والعدوان ويحبُّ العدل والأمان، فامتلأت الأرض من العساكر والعشاير والجيوش والدساكر، وبادرت إلى حكمته الأمراء والحكَّام والخاصُّ والعامُّ، وأصحاب المقاطعات والأقاليم بالتحيَّة والتسليم، وقدَّموا له الهدايا الفخيمة والذخاير العظيمة، ثم انتقل إلى غزَّة بالإكرام والعزَّة، وصحبته الجيوش العظام والباشاوات الفخام والغزُّ المصريين الذين كانوا من الإفرنج هاربين وعن ديارهم مطرودين، ونشر العدل والأمان في جميع القرايا والبلدان، وطمَّن الرعيَّة وأن يكونوا في غاية الحمية حسب الخطوط الشريفة العثمانية والهبات السلطانية، وكان قد طلب الجزَّار إلى المسير إليه بعساكره القويَّة، فاعتذر عن الحضور وتباين بالعصاوة والنفور، وامتنع عن تقديم الذخاير وإرسال العساكر، وخالف الأمر الشريف الفاخر، وبعد وصول الصدر الأعظم إلى غزَّة ابتدأت المراسلات من أمير الجيوش الفرنساوية بالصلح والاتِّفاق، ورفع الشر والنفاق وكان متعاطي تلك الأمور مصطفى باشا كوسا المأسور الذي ذكره تقدم وسبق، وسنذكر إن شاء الله كلَّ ما تمَّ واتَّفق.
وكنَّا قد شرحنا أن أمير الجيوش الأمير كليبر قد تدبَّر حسب إرشاد سالفه بونابارته بالمراسلات عن يد مصطفى باشا بإقامة الفرنساوية بمصر، حسبما قدَّمنا وأبت الدولة العثمانية عن ذلك، وقدَّم الوزير الأعظم عقد الصلح بشروط حقيقية وعهودات ملوكية، وأن يسلِّم مملكة مصر المحمية ويخرج بالعساكر الفرنساوية على حمية، وحين تحقَّق أمير الجيوش عدم قبول الدولة العثمانية إلى إقامتهم بالديار المصرية أجاب إلى إذهابهم بشروط أمينة وعهود متينة، وأرسل أحضر الجنرال ديزه من الصعيد وكان هذا ساميًا في المقام صاحب عقل وتدبير ومقام خطير، وأحضر غيره من الجنرالات الكبار وعقد ديوان وقصَّ لهم الخبر، فنظر أن الأكثر لهم ميل إلى السفر لعدم الإمداد وكثرة الأخصام والاضطهاد، وقد خلص لميعاد الذي وعد به بونابارته وحضر كتابات من الوزير تهديد وتوعيد بالوبال والدمار إن لم يخرجوا من تلك الديار، ويدهمهم بالرجال والأبطال كالرمال والسيل إذا سال بفرسان جبابرة وسيوف باترة، وأن يسلِّموا البلاد ويربحوا دماهم ودما العباد، وإن لم يسمعوا نصيحته ولا يخشوا سطوته فيحلُّ بهم العدم ويندموا حيث لا ينفع الندم، فردَّ عليه الأمير كليبر الجواب: أمَّا قولك: إن عساكرك مثل نجوم السماء؛ فهذا حقيق معلوم، إلا أنها بعيدة عن طاعتك كبعد الأرض عن النجوم، وأمَّا قولك: إنها كالرمال؛ هذا ليس فيه محال فهم كثيرون في العدد قليلون على الصبر والجلد، وقلوبهم أصغر من حبَّة الرمل، وقوَّتهم أضعف من قوَّة النمل، وأما عساكرنا الشداد فهي قليلة التعداد، ولكنها قوية البطش في الجلاد، قريبة إلينا ودايمًا طوع لدينا، فإن دفعناها إلى الموت تندفع وإن ردنا رجوعها ترتجع، وإن منعناها تمتنع، ونحن في كلِّ دقيقة من الزمان مستعدِّين للحرب والطعان وقهر الفرسان والشجعان وقبول ما يقدِّر علينا العزيز الرحمن.
واستمرَّت الأمور على هذا المنوال، والخوف منقسم بين الفريقين على كلِّ حال؛ فلهذا جعل كلٌّ من الفريقين وسايط إلى الصلح والاصطلاح وعدم النزاع والكفاح، وحقن دم العباد وعدم خراب البلاد، وكان وسيط بذلك مصطفى باشا كوسا ما بين الأمير كليبر وبين الوزير، ثم تقدَّم إلى التوسُّط الجنرال سميت سرعسكر الإنكليز القايم في البحر ورابط البواغيظ، وانعقد الاتِّفاق على إرسال شخصين من طرف الوزير الأعظم وشخصين من طرف الأمير كليبر أن يتقابلا في حدود العريش، وهناك تتواقع المفاوضات والمداولات، وتوضح الفرنساوية شروطاتها وربوطاتها، ثم توجَّه من طرف الوزير الأعظم مصطفى أفندي الدفتردار ومصطفى أفندي رئيس الديوان، وتوجَّه من طرف أمير الجيوش الأمير كليبر الجنرال ديزه والكوميسار بوسلنج، وتقابلا الفريقان بأراضي العريش.
وابتدأت المداولة بين هؤلاء الأربعة أشخاص، وقدَّمت الفرنساوية شروطها، وقدَّمت العثمانلي ربوطها، وكلٌّ من الفريقين يكتب ما يتوقَّع إلى والي أمره ويستنظر الجواب، والوزير في أرض غزَّة، وكان حينما تمَّ ذلك الإيراد وشاعت أخبار الصلح بين العباد تقدَّمت بعض عساكر الإسلام إلى أراضي العريش ونصبوا الوطاق قريب من القلعة، وأمَّا عساكر الفرنساوية الذين في القلعة كانوا ثلثماية صلدات وسرعسكر الجنرال غزال، وبقي البعض من العساكر يتقدَّمون إلى القلعة، ويخاطبون العساكر الصلدات ويعرِّفوهم في الصلح الذي توقَّع فيما بينهم، وصارت الصلدات الفرنساوية تنزل من القلعة ويختلطون في عساكر الإسلام.
ووقع الوداد بين الجنرال غزال وبين مصطفى باشا أرناوط، فدعا الجنرال المذكور إلى مصطفى باشا إلى القلعة وصنع له وليمة عظيمة، وحضر الباشا إلى القلعة بأناس قليلين العدد، وأرشد عساكره أن بعد دخوله إلى القلعة يهجمون هجمةً واحدةً على الباب ويملكون القلعة ويقتلون من بها، وكان داير القلعة خندق وأمام الباب جسر من خشب، وكانوا الفرنساوية يرفعوه ويضعوه في الحبال، وكان من بعد دخول مصطفى باشا من باب القلعة هجمت أوليك العساكر بضجيج عظيم على الباب، فلم يعد يمكن الفرنساوية أن يرفعوا الجسر عن الخندق، ودخلت العساكر إلى القلعة ودار السيف بينهم، وعندما نظرت الفرنساوية هذه الخيانة سارع أحد الصلدات إلى جبخانة البارود وألقى فيها النار، وطلعت الجبخانة والناس متزاحمة وطارت تلك العوالم، ويا لها من ساعة كانت مهولة! إذ قد احترق بها خلق ما له عدد من العساكر العثمانية والصلدات الفرنساوية، وسقط حيط القلعة إلى ناحية الباب، ومات مصطفى باشا حريقًا بالنار، ولم يبق من الفرنساوية سوى نحو ماية نفر، فتراكمت العساكر وقبضوا عليهم، وحضرت الأخبار إلى أمير الجيوش كليبر فيما جرى على الفرنساوية الذين في قلعة العريش، فأخذه العجب واشتدَّ به الغضب، ونبَّه على العسكر بأخذ الأُهبة للسفر، وأحضر مصطفى باشا كوسا وأخبره بما جرى وتدبَّر على عسكره من الموت والضرر، وشرح له غدر الإسلام وخيانتهم وعدم أمانتهم، فتصاعب الأمر عليه وكبر ذلك لديه وقال له: على موجب هذا الأسلوب كيف تأمن منَّا القلوب؟ فبدأ مصطفى باشا يقدِّم له الاعتذار ويطرد من قلبه النار، ويدعي جهل عساكرهم وعدم طاعتهم إلى أكابرهم، ويلطِّف له الحادثة، ويتمنَّاه أن لا يجعل الأمور ناكثة، وكان أمير الجيوش لم يزل مصِرًّا على الركوب ومستعدًّا للحروب، وفي مبادي شهر شعبان سنة ١٢١٤ ركب من مدينة مصر إلى مدينة بلبيس بالصالحية بعدَّة عساكر قويَّة، وقبل خروجه من الكنانة أحضر العلماء وأرباب الديوان وباقي الحكَّام والأعيان، وأوصاهم على الصيانة وعدم الخيانة، ورفع البلابل والقلاقل، وحفظ الديار من القوم الأشرار، ويوعدهم بالدمار والدثار إن كانوا يذكرون عوايدهم السابقة ويتبعون الرأيات المنافقة والمشاقَّة، فتضمَّنت له العلماء والأعيان بهدوء الرعايا وعدم الافتنان.
وسار من مدينة القاهرة وشرار الغضب في فواده ظاهرة وتنفُّسات الصعداء من أحشائه طايرة، وعندما وصل إلى أرض الصالحية بدأ يختبر العساكر بفطنته الزكيَّة فوجد قلوبهم منقسمة ووجوههم غير مبتسمة، ونفوسهم قلقانة ومن النفور ملانة، وقلوبهم إلى السفر ظمآنة، ومتحسِّرين من نفور أهل الكنانة وخاشين من الخيانة، وقد كان أخبره حاكم مدينة بلبيس أنه طلب الصلدات إلى المسير فامتنعوا، ثم أخبروه أيضًا أن الجنرال ورديه حاكم مدينة دمياط أنه دق طبول المسير إلى أراضي قطية حسب أمر أمير الجيوش، فامتنعت الصلدات وأبدت التنكير وأبت عن المسير، فقلق الجنرال قلقًا عظيمًا؛ إذ كان ذلك ضدَّ عوايد العساكر الفرنساوية، ثم بلغه أيضًا من حاكم مدينة الإسكندرية أن الصلدات الفرنساوية نهضوا على بعض الكوميسارية المسافرين بأمر أمير الجيوش إلى البلاد الإفرنجية ومنعوهم عن السفر بالكلِّية، وقالوا لهم: نحن نظيركم بالسوية وبالحرِّية، ومن المحال أن ندعكم تسيروا بهذه الأموال ونحن نقاسي الوبال والنكال، إمَّا أننا نسير سويةً وإمَّا نمكث سويةً، ثم بلغه أيضًا أن أحد الجنرالية وهو جايز في أراضي طنطة؛ مقام السيِّد البدوي عليه أشرف السلام المشهور في أراضي مصر خرجت عليه شردمة من العربان والفلاحين وكان صحبته ثلاثة آلاف صلدات فلم يرضوا يحاربوهم، وحينما تواردت الأخبار إلى أمير الجيوش بذلك الديوان وعلم ذلك الشان، واتَّضح لديه بأن قلوب الفرنساوية غير مستوية، فكتم ذلك بسرِّه، وعمل على الصلح والتسليم.
هذا ما كان من الفرنساوية وأمَّا ما كان من صدر الدولة العثمانية أنه كان باذل جهده بإخراج الفرنساوية من المملكة المصرية من غير حرب ولا قتال، احتسابًا ممَّا يعلمه من بطشهم في الجدال، وقوَّة بأسهم وشدَّة مراسهم وعدم اكتراثهم، ومخافةً على خراب البلاد وهلاك العباد وتلاف الأجناد؛ فلذلك ما سرَّه أخذ قلعة العريش بالسيف مما حلَّ بعسكره من الحيف بذلك الحريق الفظيع والأمر المريع، فكان يُريهم الحرب والمصادمة ويتهددهم بالأوامر الصارمة، وأمَّا قصده ومرامه بأن يخرجوا بالسلامة وتستخلص دار الكنانة، وكان هذا هو الصواب لأن الفرنساوية من أصعب القوم الصعاب، وحربهم مرُّ العذاب، وكانوا قد تمكَّنوا القلع المكينة والحصون المتينة والأقاليم والمدينة، ويعلم بأن حروبهم كثيرة ومقاومتهم خطيرة؛ فلذلك كان يرغب أمر الصلح، وقد كان كلٌّ من الفريقين مقصوده الأمن والنجاح والتقريب والإيلاف وتدبير الأمور من غير خلاف، ورفع الخصام وبلوغ المرام، فولجت الوسايط بعقد الرباط، ورجعوا على ما كانوا عليه من الارتباط وتوفيق الشروط وتمكين العقد المربوط.
- الشرط الأوَّل: أن الجيش الفرنساوي يلزمه أن يتنحَّى بالأسلحة والعزال والأمتعة إلى الإسكندرية ورشيد وأبو قير؛ لأجل أنه يتوجَّه وينتقل بالمراكب إلى فرنسا، إن كان ذلك في مراكبهم الخاصِّ أم في تلك المراكب التي يقتضي للباب العالي أن يقدِّمها لهم قدر الكفاية، ولأجل تجهيز المراكب المذكورة بأقرب نوال، وقد وقع الاتِّفاق أن من بعد مضي شهر واحد من تقرير هذه الشروط يتوجَّه إلى قلعة الإسكندرية واحد من الباب العالي وصحبته خمسون نفرًا.
- الشرط الثاني: لا بدَّ عن المهلة وتوقيف الحرب بمدَّة ثلاثة أشهر بالأقاليم المصرية، وذلك من عهد إمضاء شروط هذا الاتِّفاق، وإذا صادف الأمر أن هذه المهلة قد تمَّت من قبل أن المراكب الواجب تجهيزها من قبل الباب العالي تحضر مجهَّزة في المهلة المذكورة، فيقتضي مطاولتها إلى أن ينجز الرحيل على التمام والكمال، ولمن الواضح أنه لا بدَّ عن إصراف الوسايط الممكنة من قبل الفريقين؛ لكيلا يحصل ما يمكن وقوعه من السجس إذ كان ذلك إلى الجيش أم لأهل البلاد إذا كانت هذه المهلة قد حصل الاتِّفاق بها لأجل الراحة.
- الشرط الثالث: فرحيل الجيش الفرنساوي يقتضي تدبيره بيد الوكلاء المنقامين لهذه الغاية من الباب الأعلى وساري عسكر كليبر، وإذا حصل خصام ما بين الوكلاء المذكورين بوقت الرحيل فمن هذا الصدر ينتخب من قبل حضرة سميت ساري عسكر الإنكليز رجل ينهي المخاصمات المذكورة بحسب قواعد السياسة البحرية السالكون عليها ببلاد الإنكليز.
- الشرط الرابع: فقطية والصالحية فلا بدَّ عن خلوصهما من جيش الفرنساوية في ثامن يوم وأعظم ما يكون في عاشر يوم من إمضاء الشروط والاتِّفاق، ومدينة المنصورة يكون خلوُّها من بعد خمسة عشر يوم، وأمَّا دمياط وبلبيس من بعد عشرين يوم، وأمَّا السويس فيكون خلوها بستَّة أيَّام قبل مدينة مصر، وأمَّا المحلَّة الكاينة في الجهة الشرقية من بحر النيل فيكون خلوُّها في اليوم العاشر، والضليطة أي إقليم البحرية فيكون خلوُّها بخمسة عشر يوم بعد خلوِّ مصر، والجهة الغربية لا بدَّ أنها تستمر بيد الفرنساوية إلى أن يكون انحدر العسكر من جهة الصعيد، فلهذا السبب جهة الغربية وتعلُّقاتها كما ذكر لا يتيسَّر خلوُّها إلَّا من بعد انقضاء وقت المهلة المعينة إن لم يمكن قبل الميعاد، والمحلَّات التي تترك من الجيش تسلم إلى الباب الأعلى كما هي حالها الآن.
- الشرط الخامس: إن مدينة مصر إن أمكن ذلك يكون خلوُّها بأربعين يومًا وأكثر ما يكون مدَّة خمسة وأربعين يومًا من إمضاء الشروط المذكورة.
- الشرط السادس: إنه لقد وقع الاتِّفاق صريحًا على أن الباب الأعلى يصرف كلَّ اعتناه في أن الجيش الفرنساوي الموجود في الجهة الغربية من بحر النيل عندما يقصد الذهاب بكامل ما له من السلاح والعزال نحو معسكرهم لا تصير عليه مشقَّة ولا أحدًا يشوِّش عليه، إن كان ممَّا يتعلَّق شخص كلِّ واحد منهم أم بأمتعته أم بإكرامه، وذلك إمَّا من قبل أهل البلاد أم من جهة العسكر السلطاني العثماني.
- الشرط السابع: وحفظًا لإتمام الشرط المذكور أعلاه وملاحظةً لمنع ما يمكن وقوعه من الخصام والمعاداة فلا بدَّ من استعمال الوسايط في أن عسكر الإسلام يكون دايمًا مبتعدًا عن عسكر الفرنساوية.
- الشرط الثامن: من بعد تقرير وإمضاء هذه الشروط فكلُّ من كان من الإسلام أم من باقي الطوايف من رعايا الباب الأعلى بدون تمييز الأشخاص أوليك الواقع عليهم الضبط أم الذين واقع عليهم الترسيم في بلاد فرنسا أم تحت أمر الفرنساوية بمصر يعطى لهم الإطلاق والعتق، وبمثل ذلك كلُّ الفرنساويين في كامل البلدان والأساكل من مملكة العثمانية، وكلُّ كامل أوليك الأشخاص من أيِّ طايفة كانت، أوليك الذين كانوا في تعلُّق خدمة المراسلات والقناصل الفرنساوية لا بدَّ عن انعتاقهم.
- الشرط التاسع: فترجع الأموال والأملاك المتعلِقة بسكَّان البلاد والرعايا من الفريقين أم مبالغ أثمانها لأصحابها فيكون الشرع به حالًا من بعد خلوص مصر، والتدبير في ذلك يكون بيد الوكلاء في إسلامبول المقيمين من الفريقين لهذا القصد.
- الشرط العاشر: فلا يحصل التشويش لأحد من سكَّان الأقاليم المصرية من أي ملَّة كانت، وذلك في أشخاصهم ولا في أموالهم؛ نظرًا إلى ما يمكن ما يكون قد حصل من الاتِّحاد ما بينهم وبين الفرنساوية بزمان إقامتهم بمصر.
- الشرط الحادي عشر: لا بدَّ أنه يُعطى للجيش الفرنساوي إن كان من قبل الباب الأعلى أو من قبل المملكتين المرتبطتين معه؛ أعني به مملكة الإنكليز والمملكة المسكوبية فرمانات الإذن وأوراق المحافظة بالطريق، ويمثل ذلك السفن اللازمة لرجوع الجيش المذكور بالأمن والأمان إلى بلاد فرنسا.
- الشرط الثاني عشر: عند نزول الجيش الفرنساوي الكاين بمصر الآن إن الباب الأعلى وباقي الممالك المتَّحدة معه يعاهدون بأجمعهم أنه من وقت ينزلون بالمراكب إلى حين وصولهم إلى أراضي فرنسا لا يحصل عليهم شيء قط من الضرر، فحضرة الجنرال كليبر ساري عسكر العام يعاهد من قبله وصحبته الجيش الفرنساوي الكاين بمصر بأنه لا يصدر منهم ما يُؤَوِّل إلى المعاداة على الإطلاق ما دامت المدة المذكورة، وذلك لا ضدَّ العمارة ولا ضدَّ بلدة من بلدان الباب الأعلى وباقي الممالك المرتبطة معه، وكذلك إن السفن التي يسافر بها الجيش المشار إليه ليس لها أن ترسي في حدٍّ من الحدود إلَّا بتلك التي تختصُّ بأراضي فرنسا إذا لم يكن ذلك في حادث ضروريٍّ.
- الشرط الثالث عشر: ونتيجة ما توقَّع الاتفاق عليه من الإهمال المشروط أعلاه بما يلاحظ خلو الأقاليم المصرية والجهة التي وقع عليها هذا الاشتراط فقد اتُّفق على أنه إذا حضر في بحر هذه المدَّة المذكورة مركب من بلاد فرنسا بدون معرفة غلايين الممالك المتَّحدة ودخل بميناء الإسكندرية، فلازم عن سفر حالًا، وذلك بعد أن يكون تحوَّج بالماء والزوادة اللازمة، ويرجع إلى فرنسا وذلك بسندات وأوراق الإذن من قبل الممالك المتَّحدة، وإذا صادف الأمر أن مركبًا من هذه المراكب يحتاج إلى الترقيع فهذا لا غير يباح له بالإقامة إلى أن ينتهي إصلاحه، وفي الحال من ثم يتوجه إلى بلاد فرنسا نظير الذين قد تقدم القول عنهم عند أول ريح يوافقه.
- الشرط الرابع عشر: وقد يستطيع حضرة الجنرال كليبر سرعسكر العامُّ أن يرسل خبر إلى أرباب الحكام الفرنساوية في الحال، ومن يصحب هذا الخبر لا بد أن يوطي له أوراق الإذن بالانطلاق كما يعتني ليسهل بهذه الواسطة وصول الخبر إلى الحاكم بفرنسا.
- الشرط الخامس عشر: وإذ قد اتضح أن الجيش الفرنساوي يحتاج إلى المعاش اليومي ما دامت الثلاثة أشهر المعينة نحو الإقليم المصري، وكذلك لمعاش الثلاثة الأشهر الأخيرة، التي يكون مبتداها من أوَّل نزولهم بالمراكب، فقد وقع الاتِّفاق على أنه يقدَّم له مقدار ما يلزم من القمح واللحم والرزِّ والشعير والتبن، وذلك بموجب القايمة التي تقدمت الآن من وكلاء الجمهور الفرنساوي، إن كان ذلك مما يخصُّ إقامتهم أو ما يلاحظ سفرهم، والذي يكون قد أخذه الجيش المذكور مقدار ما كان، وذلك من بعد إمضاء الشروط فينحسم مما قد ألزم ذاته بتقدُّمه الباب الأعلى.
- الشرط السادس عشر: ثم إن الجيش الفرنساوي منذ ابتداء وقوع إمضاء هذه الشروط المذكورة ليس له أن يفرض على البلاد فرضًا من الفرايض قطعًا بالأقاليم المصرية، وبالعكس فإنه يخلِّي للباب الأعلى كامل فرض المال وغيره مما يمكن توجيه قبضه وذلك إلى حين سفرهم، ومثل ذلك الجمال والهجن والجبخانة والمدافع وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بهم ولا يريدوا أن يحملوه معهم، ونظير ذلك شون الغلال الواردة لهم من تحت المرى، وأخيرًا مخازن الخرج فهذه كلُّها لا بدَّ عن الفحص عنها وتسعيرها من الناس وكلاء موجَّهين من قبل الباب الأعلى لهذه الغاية، ومن الجنرال الإنكليز، وأيضًا من الوكلاء المتصرِّفين بأمر الجنرال كليبر ساري عسكر، وهذه الأمتعة لا بدَّ عن قبولها من وكلاء المتقدِّم ذكرهم بموجب ما وقع عليه الشرط إلى حدٍّ قدر مبلغ ثلاث آلاف كيس، التي تقتضي إلى الجيش الفرنساوي المذكور لسهولة انتقاله عاجلًا ونزوله بالمراكب، وإن كانت الأسعار في هذه الأمتعة المذكورة لا توازن المبلغ المرقوم أعلاه في الخسس والنقص في ذلك؛ لا بدَّ عن دفعه في التمام من قبل الباب الأعلى على جهة السالفة التي يلتزم بوفايها أرباب الأحكام الفرنساوية بأوراق التمسكات المدفوعة من الوكلاء المعيَّنين من الجنرال كليبر سرعسكر العامِّ لقبض واستيلاء المبلغ المذكور.
- الشرط السابع عشر: ثم إنه إذ كان تقتضي الجيوش الفرنساوية ببعض المصاريف لخلوِّهم مصر؛ فلا بدَّ أن يقبض ذلك من بعد تقرير مسك الشروط المذكورة القدر المحدود أعلاه بوجه الذي نذكره، أعني من بعد مضي خمسة عشر يوم خمسماية كيس، وفي غلاقة ثلاثين يوم خمسماية كيس أخرى، وتمام الأربعين يوم ثلاثماية كيس أخرى، وعندما كمال الخمسين يوم ثلاثماية كيس أخرى، وفي الستين يوم ثلاثماية كيس أخرى، وفي السبعين يوم ثلاثماية كيس أخرى، وفي الثمانين يوم ثلاثماية كيس أخرى، وعند غلاقة التسعين يوم خمسماية كيس أخرى، وهذه كلُّ الأكياس المذكورة هي عن كل كيس خمسماية قرش عثمنليٍّ، ويكون قبضها من يد الوكلاء المعيَّنين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى، ولكي يسهل إجراء العمل بما وقع عليه الاعتماد فالباب الأعلى من بعد وضع الإمضاء بالنسختين من الفريقين يوجِّه حالًا الوكلاء إلى مدينة مصر وفي بقيَّة البلاد المستمرَّة بها الجيوش.
- الشرط الثامن عشر: ثم إن فرض المال الذي يكون قد قبضته الفرنساوية من بعد تاريخ تحرير الشروط المذكورة، وقبل أن يكون قد اشتهر هذا الاتفاق في الجهات المختلفة بالأقاليم المصرية فقد تنحسم من قدر الثلاثة آلاف كيس المقدم القول عنها.
- الشرط التاسع عشر: ثم لكي يسهل خلوُّ المحلَّات سريعًا، فالنزول للمراكب الفرنساوية المختصة بالحمولة الموجودة في المُيَن والأقاليم المصرية مباحٌ به ما دامت الثلاثة أشهر المذكورة المعيَّنة للمهلة، وذلك من دمياط ورشيد حتى إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية حتَّى إلى رشيد ودمياط.
- الشرط العشرون: فمن حيث إنه للاطمئنان الكلِّي في جهة البلاد الغربية يقتضي الاحتراس الكلِّي لمنع الوبا والطاعون عن أنه يتَّصل هناك؛ فلا يباح ولا لشخص من المرضى أو من أوليك الذين مشكوك بهم ريحة من هذا الداء الطاعوني أن ينزل بالمراكب، بل إن المرضى بعلَّة الطاعون أو بعلَّة اخرى أيَّتما كانت التي بسببها لا يقتضي أن يسمح بصرفه بمدَّة خلوِّ الأقاليم المصرية الواقع عليها الاتِّفاق، يستمرُّون في بيمارستانات المرضى حيث هم تحت أمان جناب الوزير الأعظم، ويعالجونهم الأطباء من الفرنساويين أوليك الذين يجاورونهم بالقرب منهم إلى أن يتم شفاهم، يسمح لهم بالرحيل الشيء الذي لا بدَّ منه اقتضا الاستعجال به بأسرع ما يمكن، ويحصل لهم ويبدو نحوهم بما ذكر في الشرطين الحادي عشر والثاني عشر في هذا الاتِّفاق نظير ما يجري على باقي الجيش، ثم إن أمير الجيوش الفرنساوي يبذل جهده في إبراز الأوامر بأشد صرامة لرؤساء العساكر النازلة بالمراكب بأن لا يسمحوا لهم بالنزول بميناء خلاف المين التي تتعيَّن لهم من رؤساء الأطبَّاء، تلك المين التي يتيسر لهم بها أن يقضوا أيام الكارنتينا بأوفر سهولة من حيث إنها من مجرى العادة ولا بدَّ عنها.
- الشرط الحادي والعشرون: وكل ما يمكن حدوثه من المشاكل التي تكون مجهولة ولم يمكن الاطلاع عليها في هذه الشروط فلا بدَّ عن نجازها بوجه الاستحباب ما بين الوكلاء المعيَّنين لهذا القصد من قبل جناب الوزير الأعظم وحضرة الجنرال كليبر ساري عسكر العامِّ بوجهٍ يسهل ويحصل الإسراع بالخلوِّ.
- الشرط الثاني والعشرون: وهذه الشروط لا تعدُّ صحيحة إلا من بعد إقرار الفريقين وتبديل النسخ وذلك بمدَّة ثمانية أيام، ومن بعد حصول هذا القرار لا بدَّ من حفظ هذه الشروط وحفظ اليقين من الفريقين كليهما، ثم صحَّ وتقرَّر بختوماتنا الخاصيَّة بنا بالمعسكر حيث وقعت المداولة بحدِّ العريش في شهر بلويوز سنة الثامنة من إقامة المشيخة الفرنساوية وفي رابع وعشرين شهر كانون الثاني ١٨٠٠ المسيحية الواقع في ثمانية وعشرين من شهر شعبان هلالي سنة ١٢١٤ للهجرة.
وهذه أسماء الوكلاء الممضين:
ثم إن الجنرال كليبر من بعد ما أمضى على الشروط المقدَّم ذكرها نهض من أرض الصالحية ورجع إلى القاهرة، وأرسل صورة الشروط إلى المطبعة الفرنساوية وطبعها في العربية، وأرسلها إلى الديوان الخصوصي بمصر، وهو ديوان العلماء، وشاع خبرها في ساير الأقاليم المصرية، وصار فرح عظيم عند الملَّة الإسلامية باستنقاذ مصر من يد الفرنساوية ورجوعها إلى الدولة العثمانية، وبدأ الأمير كليبر أمير الجيوش يجمع العساكر من الأقاليم ويرسلها إلى بندر رشيد وإلى الإسكندرية، وفي هذه الفترة عزم على السفر الجنرال ديزه وبوسلنج مدبِّر الحدود وسافر أيضًا عدَّة جنرالية وكوميسارية والجنرال دوكا والجنرال ويال وغيرهم، وهؤلاء جميعهم اتفقوا يبيعوا خيولهم وأثقالهم ويستحضرون لما يلزمهم في الطريق.
وأما ما كان من الوزير الأعظم فإنه من بعد مضي الشروط المقدَّم ذكرها أرسل فرمانًا إلى مصطفى باشا كوسا أنه يكون قيمقامه في القاهرة إلى أن يحلَّ ركابه السعيد، ثم أرسل فرمان للتاجر المعروف بمصر بأحمد المحروقي وأنه يكون مباشر مع مصطفى باشا أمور مدينة مصر وأقطارها، ثم أرسل صورة الشروط إلى الباب الأعلى وطلب مراكب السفر للفرنساوية من الإسكندرية حكم الشروط المحرَّرة، وصار في مدينة القسطنطينية فرحًا عظيمًا، وأمر السلطان سليم بزينة عظيمة، وضربت المدافع الكثيرة، وبدت تتجهز المراكب وتوسق البضايع من القسطنطينية وغيرها لمصر وإلى الإسكندرية، وسيأتي عنها النصُّ، وشاع أخبار هذا الصلح في ساير الأقطار وكامل الأمصار، وكان فرح عظيم وسرور جسيم، وانتشرت الأعلام في أراضي الشام وكان عند الإسلام الفرح التامُّ، وبدا الوزير الأعظم يتقدَّم بالجيوش والعساكر وكلَّما أخلت الفرنساوية محلًّا من البلاد يرسل له العساكر والأجناد.
وما زال الوزير يتسلَّم من الفرنساوية القلع والحصون والبلدان العامرة، إلى أن صار بالقرب من القاهرة، وحضر إليه الأمير مراد بيك الذي كان مقيم في أراضي الصعيد ومعه جملة من السناجق والكشَّاف، وأكرمه الوزير وأعطاه ولمن معه، وكان قد تضايق من طول الغربة، وترادفت العساكر العثمانية والجيوش السلطانية وامتدُّوا إلى مدينة بلبيس وإلى العادلية، وبقوا مسافة ثلاثة ساعات عن القاهرة بالجيوش الوافرة والعساكر المتكاثرة، واجتمعت عليه العربان وسكَّان تلك البلدان، وبقت العساكر تنوف عن ماية ألف، وخرجت أعيان مصر والعلماء والحكَّام وتجَّار وعوام إلى مقابلة وزير الختام، واندهش السمع والبصر من رؤيا ذلك العسكر والجيش المفتخر، وكادت القلوب أن تذوب من الفرح والسرور من تغيير تلك الأمور وخلاص بلاد المسلمين من يد الكافرين.
وفي أفضل الشهور وأحسن السنين تنكست أعلام الفرنساويين وسافر أكثرهم إلى الإسكندرية، وخليت منهم غالب أراضي المصرية وجعل الوزير الأعظم يرسل إلى مصطفى باشا أن يعلم الساري عسكر الأمير كليبر أنه يعجل بالخروج من مصر ولو أنه قبل الميعاد ويقيم في بلدة الجيزة، وهناك تكمل عدَّة الأيَّام المعلومة، وأخبر مصطفى باشا الأمير كليبر بذلك، فاغتاظ من ذلك الأمر وأجابه: أن الوزير أسرع بقدومه إلى أرض مصر ولم يسر على حكم ما تقرَّر في الشروط؛ لأجل ذلك نخشى وقوع الخلل بين العساكر؛ إذ إنني أرى عساكرهم مختلطين مع عساكرنا، وهذا ضدُّ الشروط التي أمضينا عليها، حتى إلى الآن لم أرى الذخاير تحضَّرت ولا المراكب تجهَّزت، وأنا فلا يمكني الخروج إلى الجيزة قبل تمام الميعاد وتتميم المدَّة المعيَّنة إلى آخر دقيقة، وأعرض مصطفى باشا على الوزير جواب الأمير كليبر، فلم يقنع الوزير من ذلك السبب ولم يكلَّ من الطلب من هرج الجماهير والعصب وميل العساكر لبلوغ الأرب، إذ كان عجبهم من عجب ولا يسلم العجب من العطب، فكانوا يلجون إلى الكنانة بقلوب من الأحقاد ملآنة وفي نفوسهم الغدر والخيانة، وهذا وعسكر الفرنساوية لم تزل على حال واحد مستوية سايرين على ما بينهم مُؤَامِنين من مكرهم.
وفي بعض الأيام جاز أحد الصلدات في أحد الشوارع فنهضوا عليه خمسة من الإنكشارية، وضربه أحدهم بالياتغان فقتله، وتراكضت الصلدات الفرنساوية وأخبرت أمير الجيوش، فأمر العساكر أن تتجهَّز وتستعد للمصافقة، وصارت رجَّة عظيمة في المدينة، فبلغ مصطفى باشا كوسا فركب حالًا من منزله وحضر إلى بيت الساري عسكر فوجده في حالة الغضب مستعد للافتراس والعطب، وبدأ يعاتب مصطفى باشا ويلوم الوزير على سرعة انتقاله وعدم ضبط رجاله، ويذكِّره ما تقرر في الشروط من عدم اختلاط العساكر خشيةً من مثل هذه المشاكل والمخاطر، فأخذ مصطفى باشا يبرِّر ذاته ويروِّق عكاره ويوعده بمنع العساكر عن الدخول وبقتل القاتلين الخمسة ديةَ المقتول، ولم يزل يرطبه بلين الخطاب حتى نزع ما بقلبه من الاضطراب، وأنعم له وأجاب، ثم نهض مصطفى باشا في الحال، وأعرض على الوزير ما حدث من التكدير، وأنذره غاية التنذير وحذَّره غاية التحذير، أنه يكون على حدق بصير، وينبِّه على الكبير والصغير، ويمنع عن الدخول إلى مصر القليل والكثير، ولا يترك أحدًا يدخل إلى مدينة القاهرة خشية من وقوع المخاصمة والمشاجرة، فلما فهم الوزير الأعظم ما أعرضه مصطفى باشا غضب غضبًا شديدًا ما عليه مزيد، وأمر بامتناع العساكر عن الدخول إلى القاهرة وبقتل الخمسة أنفار عوضًا عن المقتول، وقبض على الخمسة المذكورين وأرسل خنقهم قدَّام بيت الساري عسكر في بركة اليزبكية، ورقدت الفتنة واستكنت الفرنساوية. هذا والوزير الأعظم لم يزل يطلب الدخول إلى القاهرة قبل تمام الميعاد المعيَّن في الشروط من تقمقم العساكر عليه، وأمير الجيوش لم يمكِّنه من ذلك حتى تتمَّ الوعدة وتنقضي المدَّة، وكان الأمير كليبر يجمع الجبخانة والعساكر من القلع والحصون ولم يبق سوى القلعة الكبيرة فقط.
ولما انتهى الميعاد إلى التمام وفاض عليه خمسة أيَّام أرسل الأمير كليبر سرعسكر العامَّ إلى مصطفى باشا أن يتسلَّم القلعة الكبيرة، وكان ذلك نهار الأربعة الواقع في ثمانية من شهر شوَّال ذي المعامع والأهوال فأبى مصطفى باشا أن يتسلَّم القلعة نهار الأربعة وذلك لما يتعقدون به من النحوسات والتنكيس، وترك التسليم إلى الخميس وكان به الخطا والتعكيس، وقد كان رحل أكثر الفرنساوية إلى برِّ الجيزة ولم يبق منهم سوى القليل والساري عسكر وشردمة وجيزة. وفي تلك ليلة الخميس الذي كان بدو التعكيس إذ كانوا عزموا عند الصباح يتسلَّم مصطفى باشا القلعة الكبيرة فحضر كتابة إلى الأمير كليبر من الجنرال سند سميت ساري عسكر الإنكليز وبه يقول: إنه لقد حضرت لي كتابة جديدة من مملكة إنكليترا كرسي الدولة الإنكليزية أنني لا أسمح لكم بالخروج من مملكة مصر إلَّا أسراء بيدنا من بعدما تسلِّمونا جميع أموالكم وكامل سلاحكم، وتسيرون معنا إلى مملكة إنكليترا كرسي دولتنا، وأما عهودكم وشروطكم مع الدولة العثمانية على التسليم والذهاب إلى مملكة باريز كرسي المشيخة الفرنساوية فهي صارت فاسدة وعلى غير قاعدة، وإذ كنَّا نحن الوسيطين بذلك سابقًا وواضعين شهادتنا بها فلزم أننا ننبِّه عليكم الآن بانتقاضها من بروز الأوامر الجديدة، وذلك حكم القوانين الملوكية الدارجة بين الممالك الإفرنجية؛ لكيلا يعود على دولتنا الغدر والخيانة، فاعتمدوا تنبيهنا عليكم قبل تسليم الكنانة. فلما وصل ذلك الكتاب إلى أمير الجيوش الفرنساوية واطلع على تلك الألفاظ المنكية فاتَّقدت به النار وانشبَّ من أنفه الشرار، وأحضر حالًا كامل الجنرالية وباقي رؤساء العساكر وساير الفيسالية وعقد ديوانًا في منزله على شاطئ بركة اليزبكية، وقرأ عليهم كتاب الجنرال سميت سرعسكر الإنكليزية فشملهم حزن عظيم وغمٌّ جسيم، وتحرَّكت الأحقاد في القلوب وكادت أن تذوب منهم الكبود، وعظم عليهم ما في ذلك المكتوب، ونادوا جميعهم بصوت واحد وقلب جامد: الدمار الدمار بهذه الديار ولا الوقوع بهذا الاستئسار، فطفق أمير الجيوش يعجُّ عجيج الدهوش بصوت أفظَّ من صوت الوحوش، ويذكِّرهم أفعالهم وتغيير أحوالهم، وعدم امتثالهم وحنيَّتهم إلى الأوطان وترك الحرب والطعان، وأن لم يقبل إلى هذا الصلح والتسليم إلَّا من بعد أن شاهد قلقهم العظيم ومللهم الجسيم، فأجابوه الجميع إننا لا نخرج إلَّا على موجب الشروط والوثاق المربوط، وبدون ذلك لا تتهيأ لنا المسالك، فنبَّه على وزير الختام أن يرجع إلى أراضي الشام، ويثبت لنا شروط، ويؤيِّد لنا خطوطه بكتابة من دولة الإنكليز، ويمضي عليها ملكهم لا من المقيم على البواغيظ بإذهابنا إلى مملكة باريز بأمن حريز، وإن كان لم يرتجع عن دربه فيلزمنا أن نتصدَّر لحربه، وتكون عهوده معنا غير صادقة، وقصده إخراجنا بالمخاتلة والمنافقة، ليُلقينا في يد أعدائنا ويكونوا الجميع مترابطين على سفك دمانا، فعندما نظر أمير الجيوش تمكُّن قلوبهم فأجابهم إلى مطلوبهم، وأوعدهم بصدِّهم وردِّهم إلى أن يبلغوا مرغوبهم، وانتهى الديوان وانصرف أوليك الأعيان وبدأ أمير الجيوش يفرِّق الأعلام على العساكر ويعرِّفهم بإبطال السفر، وشاع الخبر وانتشر وبدت العساكر ترجع إلى منازلها إذ كان خرج أكثرها إلى برِّ الجيزة ولم يبق منها إلَّا شردمة وجيزة.
وأحضر حالًا مصطفى باشا وأخبره بالكتاب الذي ورد من الجنرال سميت، وأن يخبر الوزير الأعظم أن يرجع بعساكره إلى حدود العريش، ويقيم هناك بينما يخاطب دولة الإنكليز، ويستأذنهم بإخراج الجمهور الفرنساوي من مملكة مصر وإذهابهم إلى بلادهم والأوطان حكم الاتِّفاق المقرر في الشروط على موجب العقد المربوط، فغاص مصطفى باشا في تيار من الأفكار ليس له قرار وقال: لعمري إن هذا الخطب خطير وأمر عسير فلا حول ولا قوة إلَّا بالله العزيز القدير، لأنه كان ذايقًا تلك الروعة وشاربًا كأس اللوعة، فنزل من أمام السرعسكر كليبر وهو في همٍّ وغمٍّ كثير، وصار إلى منزله وأعرض على الوزير ما سمعه من الجنرال كليبر، فاغتاظ الوزير غيظًا عظيمًا وغضب غضبًا جسيمًا، وابتدوا يتداولون كيف أنهم يحتالون على إخراج الفرنساوية من المدينة بطريقة أمينة، وإن لم يرتضوا يخرجوهم بقوَّة متينة، وكتب الوزير إلى السرعسكر كليبر يقول له: إنه لقد بلغنا فحوى الكتاب الذي ورد إليكم من الجنرال سميت ساري عسكر الإنكليز، وأنه قد توعَّد لكم بالاستئسار بعد خروجكم من هذه الديار، فكونوا أمينين مطمئنين ومن هذا القبيل غير خاشين؛ فالساري عسكر المذكور لا يستطيع أن يتعرَّض لكم من بعد إشهار خاطر الدولة العلية عليكم، ونحن إن شاء الله نهيِّئ لكم كلَّ ما يؤَوِّل إلى راحتكم، ولا ندع الإنكليز يعارضكم، وتسيروا في مراكبنا إلى أرضكم ومواطنكم بكلِّ أمان واطمينان بدون ثقلة ولا هوان، وحاشا أن بعد الشفقة تبدأ نحوكم القساوة، فالمراد أن تسلِّموا المدينة واذهبوا إلى بلدة الجيزة، وقيموا هناك بكرامة عزيزة لبينما تتجهز لكم الذخاير والمراكب، وتسيروا على حسب الشروط المقررة والعهود المحرَّرة فقد تمَّ وانتهى ميعاد إقامتكم في مدينة مصر ولم نعد نسمح لكم بالإقامة بها ولا يومًا واحدًا لأننا بالحصر وعساكرنا وافرة وجيوشنا متكاثرة وفرساننا جبابرة، ولم نكن قادرين على حجزهم عن الهجوم على القاهرة ونخشى عليكم من التلاف والعدم وتندمون حيث لا ينفعكم الندم، فقد نبهنا عليكم بالخروج، والسلام. وأرسل ذلك الفرمان ليد مصطفى باشا، وأوصله المذكور إلى أمير الجيوش الأمير كليبر، ولما وصل إليه كتاب الوزير الأعظم غضب وتقمقم، وردَّ جواب إلى الوزير، وهو: إن الشروط التي تعاهدنا عليها قد انتقضت وفسدت؛ لأن ساري عسكر الإنكليز من بعد إقراره بسفرنا إلى مملكة باريز نكث بعهده وخفض بوعده، وقصد لحجزنا وتهيأ لأسرنا امتثالًا لأوامر دولته وتكميل وظيفته، وقد نبَّه علينا بذلك وأعلمنا بساير المسالك وما مهيَّا لنا من المهالك حسب عوايد الممالك؛ فلأجل ذلك من المستحيل أننا نخرج من هذه المملكة على شروط مشرَّكة، أو نسير بطريق غير مسلكة، ونلقي نفوسنا بهذه المهلكة، فينبغي أن ترجعوا بعساكركم أقلَّ ما يكون إلى مدينة بلبيس وتقيموا هناك لحينما تُخرجوا لنا أوامر جديدة من دولة الإنكليز بسفرنا إلى مملكة باريز حكم الشروط والعقد المربوط، وهذا جوابنا، والسلام. ولما وصل ذلك الجواب إلى وزير الختام اعتراه الهمُّ والاغتمام، وأخذه الاضطرام من ذلك الكلام، وتراكمت عليه الأوهام، وصعب عليه القيام بهذا الجيش الملتأم، وقامت ضجَّة عظيمة بذلك العسكر وصاحت الإسلام: الله أكبر، وطلبوا الهجوم على مصر والمضاربة، وكانت أمورهم غير صايبة.
وأما الوزير الأعظم كان من أعقل وزراء الدولة العثمانية مشهورًا بالفطنة الزكية والأخلاق المرضية وهو من الأرهاط المستوية فبقي حايرًا في هذه الأمور الردية وحدوث تلك الحركة القوية، وتاه فكره ما بين أمرين مذهلين ومشكلتين عظيمتين وخطرين جسيمين، وعظم الأمر عليه كيف يرجع إلى الورا بعد أن كان عزم على دخول القاهرة بالمواكب واللواء الفاخرة، وهو الوالي على البلاد وتحت أمره جميع العباد، وجيشه كثير الأعداد وقريب المراد، وممالك مصر بالحقيقة كانوا ينوفوا عن عشر ملايين خليقة، فلم يسعه أن يرجع على هذا المنوال وبقي قلبه خايف من الحرب والقتال خشية من الفشل وخيبة الأمل؛ لما يعلم في الفرنساوية من كامل الفروسية في حربهم الشديد، وما عندهم من المراس وقوَّة الباس، وتملُّكهم للقلع والحصون وانصبابهم على الموت والمنون، ولكن غلبت عليه قوَّة النفس وما أمكنه يجاوب إلا كجواب أمس، وفرَّق الأعلام على القبايل والعشاير، وبدأ يضمُّ لعنده الجيوش والعساكر.
وحينما وصل الجواب الثاني إلى أمير الجيوش الأمير كليبر ووجد النصَّ كالأول وأن الوزير عن أبواب مصر لا يتحوَّل فجاوب هو أيضًا بعدم الذهاب والخروج وبدأ يحصن القلع والبروج، وكتب الى ساير العساكر الفرنساوية التي كانت سايرة إلى رشيد وإسكندرية أن يرجعوا إلى مصر، وبدأ يضعهم خارجًا عند باب النصر، ونصب المضارب والخيام على باب البلد من الجبل الجيوشي إلى البحر، وتكامل عسكره على ثمانية عشر ألفًا مقاتل من كل ليث مجادل وقرم مخاتل، واجتمعت العساكر العثمانية مع الطموش المصرية على نحو ماية وستين ألف، وامتلأت منهم تلك البوادي من كل وادي ونادي، والمخاطبات كالمجاوبات على نصٍّ واحد وزعمٍ جامد وقلبٍ متباعد، وكل منهم بعيد التداني ولا يلين أحدهما إلى الثاني، واستقامت تلك المحاولات والمخاطبات على ذلك المرام سبعة أيام، ثم طلب الوزير الأعظم واحدًا من المتقدِّمين عند الأمير كليبر لأجل المفاوضة بذلك الأمر العسير، فأرسل له الجنرال بوضوط مع ترجمانه الخاصِّ فساروا إلى العسكر العثماني، وعند دخولهم على الوزير تحرَّك بالغضب عليهما، ولعنهما وشتمهما، وأمر بالقبض على الجنرال بوضوط، وطرد الترجمان وقال له: اذهب إلى مولاك الكافر وقل له: إن لم في الغد يسافر وإلا دهمته بهذه العساكر، وأطلقت فيكم النار ولا أعفي على كافر من هؤلاء الكفَّار، ورجع الترجمان وهو مرعوب فزعان ودمعه هتَّان على ما حلَّ بصاحبه من الذلِّ والهوان وأخبر الأمير كليبر بما سمع من الوزير، وكيف أسر الجنرال بوضوط وتركه في القيود مربوط، وما توعَّد به من الدمار والدثار إن لم يخرجوا من تلك الديار.
فلما سمع أمير الجيوش ذلك الخبر طارت من عينيه الشرار وكاد قلبه ينفطر، وقام وقعد وأرغى وأزبد، وفي الحال أمر بخروج المدافع والجبخانة وأحضر مصطفى باشا كوسا الذي كان في مصر مقيم ووضع عليه الترسيم، وأحضر القنصل النمساوي وقبض عليه؛ لأن كان ملكه متَّحد مع الدولة العثمانية، وفي تلك البلاد يحارب الفرنساوية، وسجن الاثنين في منزله الكاين في بركة اليزبكية، وكان ذلك نهار الخميس الواقع في ستَّة وعشرين شوَّال الذي به حال الارتحال وبان تغيير الأحوال، ولاحت علامات الأهوال، وبات الساري عسكر تلك الليلة على نية الحرب والقتال ومصادمة الأبطال، وأرسل الأخبار إلى رؤساء العساكر أن يكونوا على غاية الحذر، وأن المسير قبل طلوع النهار، سبحان الله القهَّار القاهر الجبابرة الكبَّار وهو العزيز الجبَّار ذو الجلالة والاقتدار.
ولما كان نصف ذلك الليل ركب أمير الجيوش بالخيل، وسارت قدَّامه تلك الأبطال والفرسان كأنهم الجانُّ أو عفاريت سيدنا سليمان، لا يهابون الموت ولا يخشون الفوت، فليس لهم عن الحرب عايق، ولا يخشون حلول البوايق، بهمَّة أقوى من الجبال وقلوب قد تعوَّدت على لقاء الأهوال، وكان قد ترك في منزله الجنرال درانطون مع ستِّين نفر صلدات؛ لأجل حفظ المنزل من الآفات، وفي القلاع قليل من الرجال وعندهم المرضى والمشوَّشين من الحروب معطَّلين والكتَّاب والنساء، والذين لا يدخلون الحرب تركهم في الجيزة، وطلب بذلك الجميع الغفير قتال عسكر الوزير، ويكبس على عسكر الإسلام في حندس الظلام والناس نيام ويبلغ منهم المرام، ومن قبل أن يصل إليهم ويهجم عليهم أطلق مدفع التنبيه، ثم أطلق ثانية فانتبهت عساكر الغزِّ المصريين؛ لأنهم من ذلك معوَّدين وذاقوا حرب الفرنساويين، وركب مراد بيك جواده وقد ارتعد فؤاده، وأرسل إلى ناصيف باشا ابن وزير الأعظم يقول له: الفرنسيس اقتربوا إلينا والظاهر أنهم كابسين علينا؛ فانهض بالعساكر ولا تكن غير فاكر، فأجابه ناصيف باشا بقلب فاتر: إن الفرنسيس الكافر لا يستطيع الهجوم على هؤلاء العساكر، وفي تلك الساعة أطلق أمير الجيوش المدفع الثالث الكبير وهو مجدٌّ بالمسير، فتحقَّق ناصيف باشا قدوم الكفَّار وبقي في رعب وافتكار وأيقن بالذلِّ والاحتقار، وكان هو في أوَّل عسكر في الإنكشارية مع الغزِّ المصريَّة، وانتبهت عساكر الاسلام، واستعدُّوا للحرب والصدام ومشوا بضجَّة وهرج طالبين ملاقاة الإفرنج، هذا والفرنساويون قادمون عليهم بقلب غير هايم وضرب البارود الدايم.
ولما تقاربا الفريقان وهجمت الإسلام بضجيج ارتعدت منه الجبال، ولكن بقلوب مرتاعة من لقاء الأهوال، فرجعت إلى خلف الفرنساوية بمخاتلة ومكيدة حتى طمعت بهم تلك الجماهير المتشدِّدة، فانقسمت الفرنساوية قسمين وأطلقوا عليهم مدفعين، ثم أطلقوا عليهم نار البارود، ودهمتهم تلك العساكر والجنود، فيا لها من ساعة يكلُّ عن وصفها اللسان! وترتعد من ذكرها الأبدان! وترتعب من سماعها الإنس والجانُّ! وتصادمت تلك الجيشان العظام تحت غسق الظلام، وماجت جيوش الإسلام، وأكثرهم طلب الهرب والانهزام، وصدمتهم الإفرنج أي الصدام، وأورثتهم مواريث الإعدام، وبدلت فيهم الحُسام تحت ستور الظلام، والتطمت العساكر كالبحور الزواخر، وأرمت الفرنساوية عليهم الكلل والقنابر كالسيل القاطر، وجادوا عليهم بضرب السيوف البواتر، وكثر الصياح وزاد النواح وزهقت الأرواح من ضرب السلاح، وطلبت الإسلام الهرب والرواح في تلك البوادي والبطاح، وصاحوا: الفرار الفرار من وقوع الأقدار، وقد بليوا بالعدم والدمار والذُّل والانكسار، وتشتَّتت تلك الجيوش في البراري والقفار، المحارم في أعناقهم إشارة الذلِّ والهوان، ودخل إلى المدينة وتسلَّم الحصون المتينة، ورجع في الحال إلى مصر بكلِّ عزٍّ ونصر.
وأما ما كان من أمير الجيوش كليبر ذلك البطل الحضير، فإنه حين كسر عسكر الإسلام وفرَّقهم في تلك الروابي والآكام، وهمَّ في مسيره في طلب الوزير إلى أن أشرف على مدينة بلبيس، فبعدما أبعد في تلك الأراضي تجمَّع البعض من عساكر الإسلام عند ضحى النهار؛ فمنهم الغزُّ وناصيف باشا العظيم، والبعض من الإنكشارية، والمصريين الذين في تلك الأراضي خبيرين، وأتوا إلى مصر ودخلوا من باب النصر، وكتب ناصيف باشا إلى الوزير يعرِّفه أنه قد دخل القاهرة بعساكر وافرة، وملكوا الكنانة؛ لأنه لم يكن بها أحد من الفرنساوية، وأرسل الكتاب مع هجَّان ولم يدر ما حلَّ ببقية عسكر الوزير من الذلِّ.
وحين دخل ناصيف باشا والغزُّ إلى مصر استبشرت أهلها بالعزِّ والنصر، وكانوا خافوا من الفرنساوية لترجع إليهم وتبذل سيوفها فيهم، فاستنهضوا مع الغزِّ في الحال وعلَّلوا أرواحهم بالمحال، وهجموا على حارة الإفرنج التجَّار فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال، وسبوا الحريم وقتلوا الأطفال، وبدوا يتعصبون عصبًا ويهجمون على دور النصارى، فينهبون ويسبون ويصنعون القساوة والفساد شي ما له تعداد، وهجموا على حارة الأقباط وقفلوا في وجوههم الأبواب، وكان بها ذلك القبطي الذي كان مع الجنرال ديزه في الصعيد، فردَّهم مع أصحابه في الحرب العنيد والرصاص الشديد، وأتت الغزُّ إلى حارة اليزبكية، وهجموا على بيت الساري عسكر، فضربتهم الصلدات بالرصاص والنار، ومنعوهم عن دخول الدار، وكان لهم يوم يذكر جيلًا بعد جيل؛ لما به من الهول الجزيل والخوف العظيم والهمِّ الجسيم والعذاب الأليم، وقد تيقَّنت النصارى بالهلاك والدمار وهتك الحريم وخراب الديار، وقام عثمان بيك كتخدا الدولة العلية في ذو الفقار ومعه الأمراء المصرية، وأتت إليه المشايخ والعلماء الإسلامية وجميع التجَّار مع التاجر المشهور السيِّد أحمد المحروقي المعلوم عند الوزير بالمعرفة والتدبير، وناصيف باشا نزل عند بركة اليزبكية بالإنكشارية، وأما مراد بيك لم يدخل البلد احتسابًا ممَّا يتجدَّد، وبقي يجول في برِّ الجيزة في شردمة وجيزة بفطنته الحريزة.
وكان عثمان بيك كتخدا الدولة العلية ذو نفس عتيَّة وأخلاق مرضيَّة وفطنة ذكيَّة، فأخذته الشفقة والرحمة على الرعية، وأطلق المناداة برفع الأذاة عن النصارى والرعية، ومنع الإسلام المنع التمام عن النهب والحرام، وقال لهم: لا يجوز في ساير الأديان الأذاة على رعية السلطان، وغضب من ذلك الشان، وأمر أجناده أن تدور بالحارات وكل من بدا منه فساد يقطعوه بالسيوف الحداد. ولم تزل النار تتور والشرُّ يفور والخلايق قايمة والهيجات دايمة على حارات الأقباط وبيت الساري عسكر ذلك النهار بتمامه والليل بظلامه، والخلايق تجتمع والجماهير تندفع، وهم يهيجون هيج الجمال ويهجمون هجم الرجال، ويرجعون خايبين الآمال، وقد اندهشت الأبصار وحارت الأفكار وتاه العقل وطار، وحار القايل ما يقول وخشي الناقل تكذيب المنقول في صلابة أوليك الستِّين صلدات الأبطال وثبات قلوبهم على حمل هذه الأهوال؛ إذ كانت تهجم عليهم الخلايق أفواج كالبحر العجَّاج، وتهجم عليهم الجيوش هجمات الوحوش ألوف ألوف تفوق العدد والصفوف ما لها مدد، وهذا الجنرال الصنديد يتلقَّاهم بعزم شديد، وذلك الثبات بستِّين صلدات، واستمروا على ذلك الشان يومان عظيمان، وهذه العوالم تندفع دفعة بعد دفعة وهي على بيت الساري عسكر مجتمعة وعن حربهم غير مرتجعة، ولا زالوا يهجمون ويرجعون بلا منفعة حتى ولَّى ذلك النهار القهَّار، وكان أوليك الصلدات تتلقَّى تلك الجموعات الهاجمة من كل الجهات، إذ كان كلٌّ منهم يصادم ألوفًا ويرغم أنوفًا ويهزم صفوفًا، فاجتمع رأيهم أن يتركوهم ويذهبوا إلى الجيزة، وما كانوا يعلمون ما تمَّ إلى العساكر الفرنساوية مع العساكر العثمانية في تلك البرية، وحين رأوا أكثر تلك العساكر التي دخلت إلى مصر استبشروا بالعزِّ والنصر.
وبينما هم سايرين إلى الجيزة فالتقاهم رجل راكب من عسكر العثمانية على جواد متين عليه هيئة السفر، فسألوه ما الخبر؟ فأعلمهم أن جيش الوزير انكسر وأمير الجيوش انتصر، فانقطعت ظهورهم وحاروا في أمورهم، وانثنوا على أوليك الصلدات، وزاد الحرب وكثر البلاء والكرب، وأظهر ذلك الجنرال درانطون غرايب الفنون، وكان هذا الجنرل رأسه ممسوح من الشعر لكبر سنِّه فكانت أهل مصر تدعوه الأقرع والليث الأدرع، واشتدَّ الحصار وهاجت أهل المدينة وأظهروا الأحقاد الكمينة، وهجموا على منزل مصطفى أغا وأتوا به إلى قدام ناصيف باشا، وقدَّموا عليه شهودات بأنه كان يؤذي المسلمين ويودُّ الفرنساوية فأمر الباشا بقتله ونهب منزله، وقبض أيضًا على أناس كثيرين من المسلمين الذين كانوا يخدمون الفرنساويين وأذاقوهم الموت المهين وأوردوهم موارد التلاف، وقبضوا على الشيخ خليل البكري نقيب الأشراف، وأتوا به حافيًا عريانًا ذليلًا مهانًا، وقدَّموه إلى عثمان بيك فأمر بإطلاقه بعدما قدَّموا عليه جملة شهادات، وكان في أكثر الأوقات شرب في منزله مع الفرنساوية المنكرات.
هذا وتلك الهجمة متَّصلة على تلك الصلدات من جميع الجهات وعلى حارة الأقباط التي بها يعقوب الصعيدي، وقد كافح هذا الرجل كفاحًا عظيمًا وعارك عراكًا جسيمًا، وفي سادس يوم من تلك الأسباب والأمور الصعاب هجمت الإسلام على حارة الأقباط ونهبوا البيوت وأيقنوا النصارى في الهلاك والارتباط، فهذا ما كان من أحوال مصر وذلك الاتفاق.
وأما ما كان من مدينة بولاق فإنهم حينما بلغهم دخول ناصيف باشا والغزِّ إلى مصر بالعزِّ والنصر فظنُّوا أن عسكر الإسلام انتصر وجيش الفرنساوية انكسر، فقاموا على النصارى الرعية فنهبوا أموالهم وسبوا أعيالهم وعصوا أهل بولاق عصاوة شديدة وبنوا متاريس جديدة، وبعد ثمانية أيَّام وصل أمير الجيوش إلى دار الكنانة، فوجدها من الأخصام ملآنة، وقد أشهروا العداوة وأظهروا العصاوة، وحدَّثهم عقلهم الزميم في الجهل العميم على عدم التسليم، واحتاط أمير الجيوش بعساكره الوافرة حول دايرة القاهرة، وصلبت أعناقهم على المحاصرة ومنع الداخل والخارج، وسدُّوا المسالك والمدارج، ونشب القتال بينهم نهارهم وليلهم، فطلبت خلوَّ المدينة العساكر والحكَّام، فما مكَّنتهم من ذلك الأعوام، وتصدَّدت الأعيان ذوي البيوت وحثَّهم على الإقامة والثبوت، ومنهم ذلك البهموت السيد أحمد المحروقي فهو يتصدَّر للجدال وصرف الأموال، وحرَّض الرجال على الحرب والقتال، ولم يزالوا المصريون مصرِّين على غرورهم المتين في محاربة الفرنساويين.
وكان أمير الجيوش قد تمكَّن بعساكره من القلع والأسوار بالكلل وقوَّة النار، وكتب إلى مدينة الإسكندرية يسترجع الجبخانة والمدافع التي كان أرسلها حين عزم على التسليم، وأرسل إلى الجيزة أحضر مصطفى باشا كوسا وأرسله إلى دمياط، وقد بلغ أمير الجيوش ما أبدوه أهالي بولاق من العصاوة والنفاق، فأرسل إليهم ذلك الأسد الهدَّار والليث المغوار الجنرال بليار وأمره أن يهجم عليهم بالنار ويهدم الحصون ويخرب الديار، فهجم عليهم ذلك البهموت فما قدروا على الثبوت، وتركوا المتاريس والتجوا للبيوت، فهجمت عليهم تلك العساكر بالرصاص المتكاثر والسيوف البواتر، وأحرقوا المنازل واشتدَّت الأهوال، وهربت الرجال وبكت النسوان والأطفال، وصاحت الكبار والصغار: الأمان الأمان يا جنرال بليار، فلما سمع بكاهم حنَّ إلى شكواهم، وأمر الصلدات بحفظ الحياة ومنع الممات، وعفا عن قتل الرجال، وبدوا ينهبون النساء والبنات، ويهتكون الحراير المخدَّرات.
واستمرَّ هذا البلاء العامُّ ثلاثة أيَّام، ففي تلك المدينة هدمت المنازل المتينة واحترقت البضايع الثمينة، وراح على التجَّار من المال والبضايع عدَّة خزاين وافرة؛ إذ كانت بولاق أسكلة القاهرة، فتجتمع بها البضايع والأموال، وهي محلٌّ للاستقبال والارتحال لقربها الى البحر، وكانت خزينة مصر ودثرت هذه المدينة في تلك الفتوح المهول عن سوء تدبير أهلها المخذول، ومن بعد هذا الخطب العظيم والخراب الجسيم أمر أمير الجيوش أن يؤخذ من أهلها أربعة آلاف كيس تمام الإنكيس، وكانت عساكر الفرنساوية مقيمين حول دايرة القاهرة نهارًا وليلًا على المحاصرة والمجادلة والمشاجرة، وعساكر المدينة لم تمتنع من الهجمات وراء المتاريس المتينة في ساير شوارع المدينة في كل الجهات، وقد عزَّ القوت وهدمت البيوت.
وكانت أيَّام شديدة الأهوال غريبة الأحوال تتزعزع من ذكرها الجبال وتشيب من أهوالها الأطفال، وقد شدَّت الفرنساوية الحصار وصارت العساكر تهجم الليل والنهار، وترمي على المدينة النفط والنار والكلل والقنابر الكبار، وبقت أهل البلد بضجيج وعجيج والخلايق في الاضطراب ورجيج، والولولة من النساء والصياح والبكاء والعويل والنواح، وكانت الرجال والنساء والأولاد يختبون تحت العقودات من تساقط الكلل والقنابر من القلعات.
ولم يكن في تلك الأيَّام رقاد ولا مكان مؤتمن، بل حرب مستطيل وكرب دايم جزيل ونوح وعويل، فيا لها من ليلة ما أمرَّها وأشدَّها وأحرَّها! ليلة فتحت بها ميازيب السماء وهطلت وغمَّ وجه الأرض بالمياه، فاستنهزت الفرنساوية الفرصة وهجموا في تلك الحصَّة، وأثاروا حروب عظيمة لم يكن مثلها في الوقايع القديمة، واتَّقدت النيران في أربع جهات القاهرة، واحترقت بيوت كثيرة في تلك الليلة الماطرة مع الحرب المتَّصل والضرب الغير منفصل، وماتت خلايق لا تحصى من الفريقين وزعق عليهم غراب البين، وكانت الكلل تتساقط عليهم من القلع كالبرد على وجه البقاع، وإذ كانت الناس مستترة في البيوت الذين على رصيف الخشب الكاين في اليزبكية، فأوقدت بهم النار الفرنساوية فكانت ساعة لا تعدُّ بالساعات من تلك البلايا النازلات، وهجمت الفرنساوية وطردهم من تلك الحارات، وأحرقوا منازل كثيرة بتلك الجهات، وإذ شاهدت العساكر المحاصرة داخل القاهرة تلك النيران الوافرة وعدم النجاح بهذه المصادرة، فضجُّوا وقالوا: كفانا هذه المخاطرة.
وكانت الفرنساوية قد أحرقوا حارات متَّسعة؛ كحارة الحزوبي العدوي لحدِّ باب الشعرية، ورصيف الخشب وما يليه من المنازل العلية، فاجتمع رأيهم أن يطلبوا الأمان، وعقدوا في بيت ناصيف باشا ديوانًا، وقد اجتمعت السناجق والكشَّاف وعثمان بيك كتخدا الدولة والعلماء والأشراف، وأخذوا يتفاوضون في أمر التسليم والخلاص من هذا البلاء العظيم، وفيما هم في الاجتماع وإذ قد سقطت عليهم بومبة من القنابر ففرق جمعهم وأيقنوا بالموت والنزاع وقالوا هذه هي الأخيرة وقد استخرنا الله وهو نعم الخيرة، فالتسليم أسلم لنا عاقبة من هذه المجادلة والمعاقبة، وانتخبوا اثنين من المشايخ وهم عبد الله الشرقاوي وسليمان الفيومي واثنين من السناجق؛ عثمان بيك البرديسيِّ وعثمان بيك الأشقر، وأخذوا بيراق أبيض معهم إشارة الأمان، وساروا مُشاة إلى البركة اليزبكية.
ولما قربوا من ذلك المكان ونظر إليهم أمير الجيوش من بعيد وعرف الإشارة، فأمر برفع ضرب البارود، وأرسل إليهم وزيره داماس ومعه ترجمانه الخاصُّ، فلما تقابلوا قال لهم الجنرال داماس: ما مرامكم؟ فقالوا له: تسليم المدينة وخروج العساكر بطريقة أمينة، وسفرهم إلى أراضي الشام من القاهرة من دون مشقة ومخاطرة، وفرمان الأمان إلى الرعايا والأعيان، فرجع الجنرال وأخبر أمير الجيوش بذلك فردَّ الجواب: إن الباشا وكتخدا الدولة مع الغزِّ والسناجق، وكامل العسكر لهم الأمان، وأصدر لهم فرمان بل ينقلوا إلى قاطع الخليج ويقوموا هناك ثلاثة أيَّام، بينما يتجهَّز لهم ما يحتاجون من لوازم الطريق لأرض الشام، ويخرجون بساير خيلهم وأثقالهم، وعند السفر يسير معهم الجنرال رانيه بأربعة آلاف صلدات إلى الصالحية؛ لِيَلَّا يصير لهم معارضة في الطريق من أهل البلاد ويكون سبيلًا للفساد، وجميع ما يتركون من المجاريح وذوي الأمراض فيكون لهم الأمان وعدم الاعتراض، ولأجل عدم وقوع الخلل منهم بعد إصدار هذا الأمان لهم يكون عندنا منهم اثنان رهينة لحينما يخرجون من المدينة ويصلون إلى أرض غزَّة، ويرجع الجنرال رانيه إلى مصر بسلام، فنطلق سبيل الرهاين بكل إكرام، وقد أصدرنا لهم هذا الأمر الكافي والأمان الوافي.
وأما أهل المدينة فلا نمنحهم الأمان، وليس لهم أن يسألوا عنهم الآن؛ لأنهم رعاياي وتدبيرهم مختصٌّ بي، فرجعوا السنجقان والشيخان وأعرضوا القول على الغزِّ والباشا وكتخدا الدولة فامتثلوا القول، وعقدوا الرأي على إرسال سنجقين رهينةً وهما عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر، وحضروا لعند أمير الجيوش، ونبهوا حالًا على العساكر بالانتقال إلى الجهة الثانية من الخليج، ودخلت العساكر الفرنساوية وأخذوا الجهة الواحدة من الخليج وتملَّكوا المتاريس، ونصبت الغزُّ والعساكر العثمانية أوطاقها خارجًا عن باب النصر، وشرعوا يتأهبون لأجل السفر من مدينة مصر، ونصب الجنرال رانيه مضاربه أمامهم، وكان حزنًا عظيمًا عند المصريين وسقط عليهم خوف جسيم وبدوا بالنوح والعويل والبكاء والتعداد المستطيل في جميع منازل الإسلام الخاصِّ والعامِّ، وبدوا يسبُّون الغزَّ ويشتمونهم وهم خارجين، ويقولون لهم: قد أحرقتمونا بناركم من بغيكم وضلالكم، وأسأتم إلينا وطرحتم شرَّكم علينا، وقتلتم رجالنا ويَتَّمْتُم أطفالنا، وفي الثلاثة أيَّام خرجت العساكر من مصر بالتمام وخرجت معهم عدَّة من العوالم وساروا قاصدين غزَّة والأراضي الشامية، والجنرال رانيه ساير في أثرهم بمن معه من الفرنساوية إلى أن أوصلهم للصالحية، واستراحوا يومين وأخدوا ما يحتاجون وتوجَّهوا لقطية، وقد ساعدهم الجنرال بما يحتاجون إليه من المأكل ومن الخيل والجمال، وتعجَّبت الإسلام من أمان هؤلاء الأنام وحفظهم للذمام إذ كانوا خاشين من خيانتهم بالطريق وغدرهم في تلك البريَّة، ثم رجع الجنرال عنهم إلى القاهرة بعزَّة وافرة.
وأما أمير الجيوش فإنه بعدما سارت العساكر أمر بأن يعملوا فرحة عظيمة، وحضرت إليه الأعيان والحكَّام والعلماء وأرباب الديوان وأقعد عن يمينه السنجقين بكل إكرام، ورجع الفرنساوية إلى محلَّاتهم في المدينة، وبعد ثلاثة أيَام عمل أمير الجيوش ديوانًا ودعا إليه العلماء والأعيان وقال لهم: إنِي كنت أظنكم أيُّها علماء الديوان أنكم من الناس العقلاء ذوي الأذهان، والآن قد استبان لي أن عقولكم أخفُّ من عقول الصبيان وأجهل من النسوان؛ لأن بعد معرفتكم أني قد قهرت وزير السلطان وشتَّتت جيشه في البراري والوديان، فقبلتم شردمة يسيرة وفرقة حقيرة هاربين من سيفي الباتر وقوَّة بطشي القاهر، وأدخلتموهم القاهرة وأخذتم تحاربوني بعيون فاجرة، مع أنكم تعلمون لا تربحون إلَّا الذلَّ والإهانة وخراب وطنكم الكنانة، وهلاك الرجال وذهاب الأموال، وقد كنتم قادرين على طرد هؤلاء القوم الهاربين وعدم تمكنِّهم الغير الأمين، وإني قد كنت قادرًا بعد حضوري أن أحرق المدينة في الحال، ولكن أخذتني الشفقة على النساء والأطفال الذين لا رضا لهم بهذا الوبال والنكال، والآن قد صفحت عن خطئكم ولكن يلزمكم أن تدفعوا مليونين من الريال، مبلغها ستَّة عشر ألف كيس ثمن دماكم، وعشرين ألف بندقية، وخمسة عشر ألف جوز طبنجات، وعشرة آلاف سيف، وأربعماية بغل، وماية حصان؛ وهذه يكون منها على السيد أحمد المحروقي ماية وخمسين ألف ريال، وعلى شيخ مصطفى الصاوي خمسين ألف ريال، والشيخ العناني ثلاثين ألف ريال، وبقيَّة المال على أهالي البلد جميعها، وأما النصارى فليس لهم أن يساعدوكم بدرهم واحد؛ فكفاهم ما جرى عليهم منكم من الوبال والهتيكة وسلب المال، وما تكبَّدوه من الأضرار وسفك الدماء منكم يا أشرار، مع أننا أفهمناكم أمرار عديدة أننا نحن لسنا من النصارى، بل نودُّ الإسلام ونحترم القرآن بكل احترام وما سمحنا لهم بحمل السلاح إلَّا ليحموا أنفسهم منكم يا قِباح؛ إذ نظرنا هجومكم عليهم. ثم نهض من قدَّامهم وهو مملوء من الغضب ولم يلتفت إليهم ثم استدعى يعقوب القبطي الذي ذكرنا أنهم حاصروه في حارة الأقباط، وأمره أن يستردَّ منهم في الحال ما طلبه من المال، وأرسل قبض على السيد أحمد المحروقي وضبط منزله وأرسله للقلعة، وسجن أيضا امرأته، فكان ذلك أمر عظيم عند المصريين وغم لا يوصف عند المسلمين، وارتجت تلك الديار من سطوة هذا الأسد المغوار، وخافت منه الصغار والكبار، وقطعت الإسلام الآمال من التغيير والابتدال، وخرجوا النساء خروجًا شنيعًا مع الفرنساويين، وبقت مدينة مصر مثل باريز في شرب الخمر والمسكرات، والأشياء التي لا ترضي ربَّ السموات، ورجعت الولاة والحكام لما كانوا عليه أوَّلًا من الأحكام.
وأحضر أمير الجيوش السيد خليل البكري الذي قد كانوا الإسلام نهبوا بيته، وأنعم عليه بما كان راح له وأرجعه إلى الديوان كما كان، وأحضر رجلًا ونصبه عوض مصطفى أغا الذي قتلوه، وأقامه على الإنكشارية، ثم يعقوب القبطي أنعم عليه بالجنرالية ووضع على كتفه شراديب الذهب كعادة هذه المنصبية، وأمر أن يجمع عسكرًا من الأقباط، ودعي من ذلك الحين الجنرال يعقوب، وكان ذلك مكافأة له لما ظهر منه من الشجاعة والفروسية مع الصلدات الفرنساوية، وجمع ثمانماية راجل من الأقباط ولبَّسهم لبس الصلدات، وكانت الفرنساوية تعلِّمهم فنون حرب الإفرنجية في كل يوم بكرة وعشيَّة، ثم أحضر نقولا قبطان الروم وأكرمه غاية الإكرام، وأعطاه الوظيفة الجنرالية ووضع على كتفه الشراديب الذهبية؛ وذلك لما ظهر منه من الشجاعة والرجولية، وأقامه جنرالًا على العسكر الرومية، وألبس عسكره الملابس الإفرنجية، وأحضر أيضًا برتولمي الساقزلي وأنعم عليه الجنرالية، وبلغ عسكر الأروام ثلاثماية صلدات من الشجعان.
ثم إن أمير الجيوش ابتدأ ببناية أبراج جديدة حول مصر خشية من قيام أهاليها وعصاوتها على الفرنساوية إن وردت الأخصام لمحاربتهم من البلاد العثمانية؛ لأنهم كانوا يخشون قيام أهالي المدينة أكثر من القادمين عليهم من البرِّيَّة، وهذه مرَّة ثانية التي قامت بها أهالي مصر على الفرنساوية، وهذه المرَّتين أهلكوا من العسكر الفرنساوية ما ينوف عن الثلاثة آلاف، ما عدا الذين أهلكوهم خفية في المنازل.
فشرعوا أوَّلًا في بناية القلعة التي في كوم الزيت بين القلعة الكبيرة وقلعة كوم الغريب، ثم شرعوا أيضًا في بناية قلعتين فوق الكومين الخارجين من باب النصر، ثم شرعوا أيضًا في بناية القلعة فوق باب النصر، وقلعة ثانية فوق باب الفتوح، وقلعة فوق باب العدوة، وقلعة فوق باب الحديد، وشرعوا أيضًا في بناية قلعة فوق باب الريش الخارج عن المدينة ما بين العدوة والحسنية، وهذا الكوم كانت العساكر العثمانية تحارب عليه الفرنساوية في مدَّة الحصار وأخذته منهم الفرنساوية قوًّة واقتدارًا ليلة تلك الأمطار، ثم شرعوا أيضًا في بناية قلعة فوق كوم الذي بين اليزبكية وبولاق، وفي بناية قلعة في بولاق من جهة البحر فوق كوم السبيتة، ووجدوا سورًا قديمًا كاينًا من باب النصر إلى باب الحديد قد تغطَّى من العمارات على مدى الزمان، فأمر المهندسون بكشفه، وهذه القلعة بنوها مع السور المذكور، ثم شرع أيضًا يعقوب القبطي الجنرال بعمل سور وأبراج حول دور النصارى والأقباط لما قاساه في مدَّة الحصار، الذي قد كان آيلًا لهتك الأستار وفضح الأحرار وقطع العمار والدمار والدثار، فهذا ألزم يعقوب الجنرال لهذه العمار، ولكن لم يكمِّل عماره إلَّا في زمان الأمير منو، كما سيأتي ذكره فيما بعد.
فقد قلنا سابقًا إن مراد بيك لم يرد يدخل القاهرة مع ناصيف باشا وعثمان بيك كتخدا الدولة وباقي الغزِّ المصريين، بل بقي خارجًا عنها جايلًا في برِّ الجيزة مدَّة أربعة وثلاثين يومًا بشردمة وجيزة، وكانت نفسه في مسافة هذه المدَّة المذكورة تتوق إلى الصلح مع الفرنساوية؛ لما شاف من ضعف العساكر العثمانية وقوَّة بطش الفرنساوية، وقد كان أمير الجيوش يودُّ انتظامه ويؤثر التئامه، فوجَّه له برطولمي الساقزلي الجنرال وهذا كان يتكلَّم بأربعة ألسن؛ العربية التركية الرومية والطليانية، وكان متربِّيًا في مدينة مصر وله الدالة في بيوت السناجق والكشاف، فسار هذا لعند مراد بيك وأخبره أن أمير الجيوش يروم اتِّحاده لا إبعاده ويرغب وداده لا جلاده ويرفع أحقاده، ويبطِّل جلاده ويأخذ من الصعيد بلاده ويريح فواده ويكسب نفسه وأجناده.
فلما فهم مراد بيك هذا الخطاب انشرح صدره وأجاب إلى الصلح والاصطلاح وإبطال الحرب والكفاح؛ صيانة للأجساد والأرواح ليلَّا يفتح العزيز الفتَّاح بابًا غير هذا الباب للفرج والنجاح، وقد كان عند مراد بيك رجلًا من خدَّامه قايمًا بتدبير أمر المدافع يُدعى حسين أغا الزانطلي، وهو من مدينة زانطة، وأسلم في مصر مع إخوته الاثنين وكانوا جميعهم في خدمة مراد بيك قايمين، وهذا المذكور أيضًا كان يتكلَّم بأربعة ألسن فأرسله مراد بيك إلى الأمير كليبر لأجل إتمام الصلح بينهما، وبواسطة هذين الشخصين تمَّ الاتِّفاق وارتفع الانشقاق، وانعقدت المشورة على أن مراد بيك يصنع وليمة للأمير كليبر في جزيرة الذهب القريبة من الجيزة ويدعوه إليها وهناك يكون الاتِّفاق، فركب أمير الجيوش إلى الجيزة ومعه عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر، وسار بنفر قليل إلى مقابلة مراد بيك فحين وصل وتقابلا تلاقاه مراد بيك بكل بشاشة، وتصافحا مصافحة الإخوان وجلسا في ذلك الديوان بالسرور والأمان وجلس معهما داماس الوزير ودميانوس الترجمان، ووقفت جميع السناجق والكشَّاف.
ثم بعد المخاطبة والكلام بالترحيب والإكرام أمر مراد بيك إلى الواقفين بالخروج وهناك عاهد الأمير الجيوش إلى مراد بيك العهد التامَّ وأنه يقيم في بلاد الصعيد بعيش رغيد مع ساير من يروم إقامته من الغزِّ والمماليك هناك، وصرَّفه بجميع ما له من الأملاك ويكون حاكمًا على مدينة جرجة ويدفع للمشيخة مال ميريها المترتب عليها وأنه يرسل إلى إبراهيم بيك وبقية الغزِّ أن يكون لهم الأمان، ثم عاهده أيضًا أنه إذا أخلت الفرنساوية الديار المصرية فلا يكون تسليم هذه المملكة إلَّا له دون غيره من الدول، فانشرح مراد بيك بهذا الأمل.
وبعد إتمام الكلام وبلوغ المرام أهدى مراد بيك لأمير الجيوش سيفًا ثمينًا وخنجرًا عظيمًا، وإلى الوزير داماس سيفًا من الهندوان، وإلى الترجمان خاتمًا ثمينًا من ألماس، وبعد ذلك قدَّم له صفرة الطعام وآنية المُدام، كلَّها من المواكيل الفاخرة بالروايح العاطرة، فأكلوا وشربوا ولذُّوا وطربوا، وطالت لهم الأوقات بالحبِّ والمسرَّات، واتَّصل بينهم الوداد وتركوا البغضة والعناد.
ثم إن مراد بيك طلب من أمير الجيوش حضور العساكر الفرنساوية من المشاة والخيال ليلعبوا أمامه ويتفرَّج على ما يعملون في حربهم من الصناعة والفنون، فأمر أمير الجيوش بإحضار خمسماية صلدات من الجيزة فحضروا بمدَّة وجيزة، وطفقوا يلعبون ويظهرون ما عندهم من الحرب والفنون؛ صناعة تأخذ العقول وتدهش العيون، فانشرح مراد بيك من تلك الفرجة وأخذه الفرح والبهجة، ثم ركبت الغزُّ المماليك وبدوا يلعبون على الخيل ملاعيب الحرب القوية، فانشرح أمير الجيوش وشهد لهم في الثبات والفروسية وقال لمراد بيك: إن فوارسكم أصنع في الطعن وأثبت في الحرب على الخيل بالميدان.
وبعد انقضاء النهار نهض أمير الجيوش على أقدامه وقام مراد بيك لقيامه وودَّعوا بعضهم بعضًا بالأنس والسرور والغبطة والحبور، وخرج أمير الجيوش من ذلك المكان وبدا يرمي الذهب الكبير على ساير الأنام ولم يزل على ذلك الشان إلى أن صار خارج الديوان، فقدَّم له مراد بيك جوادًا وإلى وزيره جوادًا من الخيول الجياد بالعُدَد الكاملة، وسار أمير الجيوش إلى الجيزة ومن هناك أرسل إلى مراد بيك فرمان التصريف مع حسين أغا الزانطلي، وأعطى للمذكور وظيفة سنجاقية، وأقام كتخدا مراد بيك، وتوجَّه مراد بيك للصعيد وكان معه عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر وسليمان بيك وأحمد بيك الكورجي وعثمان بيك الطوبجي، وقام في الصعيد بعيش رغيد واجتمع عليه من السناجق والكشاف من تلك الأطراف والأرياف.
وقد تقدم القول إن الوزير الأعظم بعد إمضاء الشروط أرسل صورة الاتفاق إلى الدولة العلية والمملكة العثمانية، وصار فرح عظيم بمدينة القسطنطينية وبساير الأقطار الإسلامية، وأشحنت التجَّار أصناف البضايع في السفن البحرية السايرة إلى الإسكندرية لعلمهم أن الأقطار المصرية تسلَّمتها الدولة العثمانية، وما توفَّق وصولهم إلَّا بعد فساد الصلح والنية، وعندما أقبلوا على الإسكندرية ونظرت إليهم الفرنساوية فرفعوا لهم السناجق العثمانية فدخلت تلك المراكب إلى البواغيظ من غير خوف ولا تحريز، وأرموا المراسي والحبال وهم بإغضاء بال ونزلت رؤساء المراكب إلى البرِّ وهم مؤامنين، فقبضت عليهم الفرنساوية وأرسلوا ضبطوا المراكب بما فيهم، وكانوا نحو ثلاثين مركبًا صغار وكبار وبهم من البضايع ما يحير الأنظار، وأرسلوا أعلموا أمير الجيوش بتلك الأخبار، وذكروا له أن البحرية أكثرهم أروام وما فيهم إلا قليل إسلام، فأمر أمير الجيوش أن تباع البضايع على التجَّار، وأمر إلى نقولا الجنرال أن يتوجَّه للإسكندرية ويعيِّن عنده الأروام النوتية، فسار المذكور كما أمر أمير الجيوش وعيَّن عنده الأروام، وألبسهم لبس الصلدات الفرنساوية.
وأما وزير الختام بعد كسره ورجوعه إلى غزَّة بالذُّل بعد العزَّة وقد تفرَّقت تلك الجيوش والأمم في الصحاري والآكام وخرجت الغزُّ من القاهرة بالقهر والإرغام، وشاعت أخبار هذا الانكسار في ساير النواحي والأقطار لأنه من غرايب الأمور وعجايب ما يحدث في العصور والأزمنة والدهور، أن فئة يسيرة تشتِّت عدَّة ملايين غزيرة وتقوى وتقتدر وتظفر وتعلو وتنتصر، فهذا يحيِّر الأفكار ويدهش الأسماع والأبصار، فالعزَّة لله القويِّ الجبَّار.
وقد ارتجَّت ممالك الإسلام رجَّة قويَّة ووقع عليهم الخبال من تلك الأحوال، وابتدت أصحاب العقول في الافتكار وتدبير ما يزيل عنهم هذا العار ويبدِّد هؤلاء الكفَّار، وقد كان في مدينة القدس المحمية أحد أغاوات الإنكجارية اسمه أحمد أغا من مدينة حلب القوية، فهذا يجول بأفكاره على شخص مغوار، أو مغازي يغار، أو محتال غدَّار، أو خبيث مكَّار يحتال بالفطنة والاختيار على قتل ذلك الرهط الجبَّار والبطل القهَّار سلطان أوليك الكفَّار، ويسقيه كاس الدمار، وقد اجتهد في ذلك التدبير والأمر الصعب العسير الذي لا يقدم عليه إلَّا كل ليث خطير، أو شجاع مغير يطلب المناداة والموت في المغازاة، أو طمعًا في المكاسب وعلوِّ المراتب.
وبينما هو في ذلك الاهتمام لبلوغ المرام، وإذ تقدم عليه شابٌّ قوي الجنان مملوء من الجهل اسمه سليمان، وهو من مدينة حلب الشهبا، قد هزَّه جنون الصباء، وأوعده بقتل ذلك السلطان حبًّا بالدين والإيمان، فأخذ يجسِّره ذلك الأغا المذكور، ويحثُّه على قضاء هذا الأمر المأثور، ويوعده بما يناله من الإنعامات الوفية من الدولة العلية، وما يحصل له من السرور ومن الاسم المشهور مدَّ الأعوام والدهور، وكان ذلك الشابُّ ما بلغ من العمر أكثر من أربعة وعشرين سنة، إلَّا أنه أسد درغام وليث هجَّام، فسار من القدس على هذا المرام ودخل إلى غزَّة بنفس معتزَّة، وهناك اجتمع بأحد من أغاوات الإنكشارية اسمه ياسين أغا من الرجال الحلبية، فحدثه الشَّاب بما في ضميره من النية من قتل السلطان الفرنساوية، فجسَّره ياسين أغا على تلك النية، وأعطاه أربعين غرش أسدية، وسار المذكور إلى مدينة مصر الكنانة وفي قلبه الغدر والخيانة، ودخلها في شهر ذي الحجة، ونفسه غير مرتجَّة، وقطن في جامع الأزهر، وهناك اجتمع بأربعة أنفار من المجاورين وأخبرهم بما في باطنه من الكمين، وطفق يتبع أمير الجيوش من مكان إلى مكان، ويترقَّب له فرصة من الزمان ليبلغ بها المرام، وحين آن الأوان وسمح العزيز الرحمن، ودنت الآجال واتَّسع المجال، ركب أمير الجيوش ذات يوم من الجيزة إلى القاهرة، وكان ذلك نهار الإثنين الواقع في ٢١ محرَّم سنة ١٢١٥ فمن بعد ما لبَّس الشيخ العريش على القضاوية جال ذلك النهار في مصر مع عساكره القوية، ورجع إلى منزله في موكب عظيم ومحفل جسيم، ودارت المناداة في شوارع القاهرة تنادي حسبما رسم السلطان كليبر سلطان مملكة مصر القاهرة وصاحب الجيوش الظافرة، وكان قط لم ينادوا في شوارع مصر جهارًا باسم السلطان إلَّا لذلك البطل القهَّار. ثم بعد رجوعه إلى منزله قصد المسير لعند وزيره داماس إذ كان منفردًا عن الناس، وقد قدَّمنا الإيراد أنه كان يحبُّ الانفراد، وعند آخر النهار خرج مع شيخ المهندسين، وقد أجرته الأقدار إلى شرب كاس البوار، وبينما هو منفرد في الجنينة الكاينة بين منزله وبين منزل وزيره داماس، فدخل عليه ذلك الشَّاب سليمان وكانت عليه ثياب باليات، ومدَّ يده إليه ليستعطي منه صدقة وأعطاه من يده ورقة، فأخذها كليبر من يده، وبينما هو يمعن في قراءتها فانقض عليه ذلك الشاب وضربه بسكِّين كان محتفظًا عليه تحت ثيابه، فجادت الضربة بخاصرته فسقط في الأرض، وصرخ صوتًا عظيمًا، وضربه ثانيًا وثالثًا ورابعًا، وقد سمع صوته كل من كان بالقرب منه، فبادر إليه المهندس وبيده عصاة، فضرب القاتل بها على همامه فجرحه، فهجم سليمان على المهندس وضربه بتلك السكِّين فجرحه جرحًا بليغًا، ووقع على الأرض بين ميتٍ وحيٍّ، وفرَّ القاتل هاربًا.
وعندما سمع داماس الوزير صوت أمير الجيوش بادر مسرعًا، فنظر أمير الجيوش ملقًى على الأرض طريحًا، فحار وصرخ: مَن فعل بك يا مليح هذا القبيح؟ فرفع يده وأومى القاتل الهارب، وحضرت الصلدات، وداروا حول الجنينة وطفقوا يفتِّشون، وأيَّ من وجدوه عليه يقبضون، وإذ بامرأة من شباك دلَّت على القاتل، وكان مختفيًا في بعض الدهاليز، فقبضوا عليه ونظروا إلى ثيابه عليهم آثار الدما والسكِّين معه، وأتوا به فرفعوا جسد أمير الجيوش إلى منزله، واجتمعت الجنرالية والكوميسارية والأوفيسيالية والجرايحية، وبدوا بصبِّ العلاجات، فما مكث غير برهة يسيرة ومات، وصار حزن لا يوصف عند ساير الجيوش الفرنساوية، وبكوا بكاء مرًّا وعضُّوا البنان تحسُّرًا وقهرًا، وأخذوا يقدحون شررًا وينظرون ذكرًا ليخرجوا الأحكام بتدوير الحسام في النصارى والإسلام ويقتلوهم على التمام، ولولا تعطُّف الملك العلَّام وظهور ذلك الغلام ويتَّضع النور من الظلام؛ لَكان حلَّ بأهالي مصر الويل والإهدام في هؤلاء القوم اللئام الذين لا يعرفون الحلال من الحرام ولا يخشون ربَّ الأنام.
وأما أهالي القاهرة فشملهم خوف عظيم من هؤلاء الجبابرة، واختفت الناس في المنازل والبيوت وأخذتهم البهتة والسكوت، وبقي كلٌّ منهم مبهوت في قتل ذلك البهموت، وخافوا أن يكون ذلك الفعل الذميم من سكَّان تلك الأقاليم، وأن هذا القاتل الشنيع يرمي الناس في هذا المهلك الفظيع والخطب المريع.
وأما الفرنساوية حين وقعوا في هذه البلية أحضروا القاتل سليمان وعذَّبوه العذاب الشنيع، فقرَّ واعترف بما صنع وأتلف، ومن هو الذي أرسله لهذا الطرف وكيف مشى وتصرَّف، وقرَّ عن أوليك الأربعة أنفار المجاورين الذين عندهم حقيقة الخبر باليقين، فسارت الصلدات الفرنساوية إليهم بالخفية؛ لِيَلَّا يعلموا ويهربوا فدخلوا الجامع وقبضوا على الثلاثة، وهرب الرابع، وأحضروهم وبدوا يعذبونهم ويقرِّرونهم أن معهم خبر هذا القاتل سليمان، وما هو معوِّل عليه من الحرام، وقد نصحوه فلم يسمع كلام، فحكم عليهم الشرع بالموت بعدم تخبيرهم وتحذيرهم، وبرز من الشريعة الفرنساوية أن سليمان القاتل تُحرق يده أوَّلًا بالنار، ثم يرفعوه على خازوق عالٍ أمام النظار، ثم يقطعوا رأس الثلاثة أنفار ويرفعوهم على مزاريق حول الخازوق.
ثم إن في ثاني الأيام عند الصباح صنعوا الفرنساوية ديوانًا عموميًّا، واختاروا كبير الجنرالية المدعوَّ الجنرال منو، وأقاموه أمير الجيوش عوضًا عن المقتول، وبعد ذلك صنعوا ميتمًا عظيمًا ومحفلًا جسيمًا، وصنعوا له تابوتًا من الرصاص، ووضعوه فيه بعدما جوَّفوا جسده وحنَّطوه، وأخذ داماس الوزير قلب الأمير كليبر ووضعه في زجاجة وسكب عليه أرواحًا لحفظه من البلاء والفساد، وقد حزن هذا الوزير حزنًا مفرطًا مع البكا والتعداد، ثم أمر منو أمير الجيوش بنقل جسد سلفه، وحضرت كافة الجنرالية، وباقي حكَّام الفرنساوية، وجميع العلماء والأعيان، وجمٌّ غفير من كل الملل والأديان، وأحضروا خيل الأمير كليبر ثم ألبسوهم الحلل السواد، ووضعوا التابوت فوق عربانه وغطَّوه بحلَّة سوداء، ومشت جميع العساكر أمام التابوت وهي منكَّسة البندق، وركب أمير الجيوش منو مع سواري العساكر، وسار من بركة اليزبكية إلى قصر المعنية، وجميع العساكر والعلماء والأعيان والحكَّام وأرباب الديوان ماشين قدَّام التابوت، والفرنساويون في بكا شديد بحزن مفرط ما عليه من مزيد، وسحبوا القاتل ورفقاءه حُفاة عُراة مكتوفين قدَّام التابوت.
وحينما وصلوا أمام القصر أصعدوا القاتل ورفقاءه إلى أعلى الكوم، وحذفوا رءوس أوليك الثلاثة أنفار، ووضعوهم على ثلاثة مزاريق، وأحرقوا يد سليمان القاتل وهو بالحياة، ثم رفعوه على خازوق عالٍ، وركزوا الثلاثة مزاريق حوله، ثم أوقدوا نارًا شديدة وأحرقوا بها أجساد أوليك الثلاثة أنفار، ثم أدخلوا التابوت إلى وسط القصر، وعملوا له مِصطَبَة عالية ووضعوه فوقها، وغرسوا حولها أغصانًا خُضْرًا، وصعد أمير الجيوش إلى مكان عالٍ، وأخذ يعظ موعظة عظيمة تجعل القلوب كليمة والدموع سجيمة، تتضمَّن مراثي محزنة والثاهيات الموهنة على مثل هذا البطل الهمَام والأسد الباسل الدرغام، الذي قد نشر الأعلام وقهر الأنام وظفر في عسكر الإسلام، وطرد وزير الختام وبدَّد ذلك الجيش الملتأم، وخلد ذكره مدى الدهور والأيَّام، ومن بعد إتمام تلك المراثي الموجعة والتعديدات المتنوِّعة أطلقوا البندق الكثيرة حول التابوت، وبكوا بكاء مرًّا على هذا البهموت، ثم أقاموا محافظًا ليلًا ونهارًا وفي كل ثلاث ساعات يتغيَّر أحد الصلدات ويأتي غيره إكرامًا له وإجلالًا لقدره. وبعد ذلك رجع أمير الجيوش إلى منزله ببركة اليزبكية، وتفرَّقت لمنازلها عساكر الفرنساوية.
وكلٌّ منهم ملتهب بنيران مهولة بانهدام هذا الركن العظيم ذي الصولة، واستحوذ الحزن والاكتياب على المختصِّين به من الأحزاب، وتفرقت من ذلك الوقت منهم القلوب بإذن عالم الغيوب.
وأما أمير الجيوش منو فهذا كان من المتقدِّمين في بلاط ملك باريز السلطان لويس، وحين قتلته المشيخة تبع هذا رأيهم، وحين حضروا للديار المصرية وحصلوا على ذلك التأييد أقامه بونابارته حاكمًا على رشيد، فمكث هناك مدَّة وتزوَّج بامرأة مسلمة شريفة، وادَّعى بالإسلامية وسمَّى ذاته عبد الله، وكان متقدِّمًا بالعمر ذا احتيال ومكر، ومن بعد تقدُّمه على العساكر الفرنساوية وارتضوه الجميع شرع يغيِّر في الأحكام والوظايف، وضمَّ إليه حزبا من الفرنساوية، وأضعف أحزاب سالفه القوية، واتَّكل على تدبيره وقوَّة بطشه، فتغيَّرت قلوبهم من ذلك الوقت، ووقع الاختلاف بين الفرنساوية.
وابتدا ذلك الأمير في التبديل والتغير، وأمر أولًا في قفل جامع الأزهر وعقد لذلك ديوانًا، وادَّعى أن هذا المكان ليس هو محلًّا للدرس والتعليم للفرائض والسنن، بل هو محلٌّ لعقد المشورة وإيقاظ الفتن، فأمر بطرد المجاورين وقفل أبوابه أجمعين، ثم أمر بتكميل بناء الأبراج التي كان شرع في بنايها سلفه الأمير كليبر، ثم أمر بتوسيع الطرقات التي داخل القاهرة، وهدم عدَّة بيوت وشرع بكشف السور الذي كانوا وجدوه من باب النصر لباب الحديد، وهدموا من أمامه ومن ورايه بيوتًا عديدة، وأكمل بناء هذا السور وجعل من فوقه ثلاثة أبراج، وهدم جامع الحاكم بأمر الله المشهور في مصر القريب من باب النصر وجعله برجًا عظيمًا، ثم حصَّن أوليك البروج والأسوار بالمدافع والقنابر الكبار، وأمر الجنرال يعقوب بتكميل السور الذي كان شرع في بنايه بأيَّام كليبر، وأمر على النصارى الشوام أن يدفعوا ثلاثماية كيس بالتمام، وأحدث على النصارى خراج ثقيلًا لم يمرَّ بالأزمنة خراجًا أثقل منه، وأفرض أيضًا على الإسلام واليهود كذلك، وكان كربًا عظيمًا وظلمًا عميمًا، وذلك على الرعايا من جميع الملل، ولولا الرخاء العظيم لكانت خربت من الظلم تلك الأقاليم.
هذا والفرنساوية لم تكلَّ من تعمير الحصون بمدينة القاهرة وفي الإسكندرية، وأصرفوا على ذلك خزاين عظيمة؛ إذ كانوا ناظرين قلَّة عددهم، وعدم إمدادهم، وكثرة أضدادهم فحصنوا تلك الحصون المنيعة، وأمر أمير الجيوش بإطلاق السيد أحمد المسجون من سلفه الأمير كليبر.
وقد كنَّا ذكرنا أن حين قبض وزير الختام على الجنرال بوضوط قبض أمير الجيوش على مصطفى باشا وأرسله إلى دمياط، وأقام هناك تحت الترسيم يكابد الهمَّ العظيم، فمرض من قهره وتوارى في قبره، وصنعوا له الفرنساوية بدمياط ميتمًا عظيمًا ومحفلًا جسيمًا حسب عادة رؤساء العساكر، فهذا ما كان من الفرنساوية في الديار المصرية.
وأما ما كان من أمير الجيوش بونابارته فإنه جاز البحار وداس الأخطار ووصل بالأمن الحريز إلى مدينة باريز، وصنع أمور غريبة واحتيالات عجيبة، ودخل على رؤساء المشيخة فارتجُّوا لدخوله واهتزُوا لحلوله، وتعجُّبوا غاية العجب من خلاصه من بلاد العرب، ونهضوا بوجهه نهضة الغضب وعزموا على هلاكه والعطب، فنشر لهم أساطير اللوم والعتب، وطفق يبكِّتهم على فعلهم الذميم، وسيرهم الغير مستقيم، وخيانتهم الشنيعة، وتخطِّيهم حقايق الشريعة، وتركهم الخواص رجال المملكة الفرنساوية في ممالك البربرية من دون عون ولا إسعاف، ورميهم في الهلاك والتلاف، فنهض إليه بعض رؤساء المشيخة، فبدأ يبثُّ له العذر فما قبل عذره وجزره، فلما جزره ضربه بالشيش على هامه، فحين حسَّ بونابارته بالألم وثب على ذلك الشيخ وثب الأسد الضيغم، وأطلق في صدره الرصاص، فألقاه قتيل وفي دمِّه جديل، وهجم على بقية أرباب الديوان مع أصحابه بالسيف والنيران، فقتل منهم اثنان وهما اللذان كانا له مبغضين وعلى هلاكه بالديار المصريَّة متَّفقين.
وانتبهت أصحاب بونابارته وطفقوا يصيحون فليعِش رئيس شعبنا الأمير الشهير الليث الخطير بونابارته النحرير، وحنيما سمع شعب مدينة باريز اسم هذا العزيز طفقوا يتهلَّلون وبالنِّدا يعلون: فليعِش بونابارته مخلصنا وعظيم مشيختنا، ثم إن بعد انقضاء الهياج وهدوء ذلك العجاج عقد بونابارته ديوانًا مع عظماء الجمهور وذوي التدبير في الأمور، وأوعظهم أن يختاروا رئيسًا على شعب يكون خبيرًا وبأمور الدهر عليمًا، فأجابوه جميعهم بصوت واحد: لا رئيس لمشيختنا سواك ولا لنا مدبِّر إلا إيَّاك، ودعوه القنصل الأوَّل في الجمهور الفرنساويين، كما كانت هذه العادة عند الرومانيين، وابتدأ من ذلك الوقت والحين بتجهيز العساكر الكثيرة والجيوش الغزيرة، وفتح مدارس التعليم، وأرسل الجيوش إلى ممالك إيطاليا، وأخفض المقامات السامية، ومهد الجبال العلية، وداس تلك الرقاع والبقاع، واسترجع المدن والقلاع، وملك الأقاليم والبلاد، وخضعت له تلك العباد، ورحض عساكر الإنبراطور وأخلى منهم الدور، وانقادت له الملوك، وسألوه الصلح فلم يأبَ بل سلك معهم غاية السلوك، وقرَّرهم على الرضا والاتِّفاق مع العهود الوثاق، ورجع بالجيوش إلى مدينة باريز بنصر عزيز، وارتجَّت جميع الممالك الإفرنجية من سطوته القوية.
ومن بعد هذه الانتصارات الجزيلة التي تمَّت بأيَّام قليلة كتب القنصل الأوَّل بونابارته إلى البابا سلطان رومية كتابًا بالصلح والسلام، ويردُّه لكرسيه بالعزِّ والإكرام وفتح الكنايس جميعها في ساير بلاد فرنسا، وأشهر إيمانه بالمسيح، واعترف جهارًا أمام كل الشعوب بهذا الدين الصحيح، وانتشر ذلك في كامل البلاد الإفرنجية.
وابتدا يجاهد ويفرغ جهده لكي يعين زمرة الفرنساويين الذين بالأقاليم مصر مقيمين، فلم يمكنه عدوُّه الإنكليز من ذلك، وقد سدَّد عليه جميع الطرقات والمسالك، وكان قبض على مقدار سبعة آلاف أسير من المسكوبين في حرب نمسا، وأرسل أعلم بهم دولة الإنكليز، وطلب منهم أن يستفدي بهم ما عنده من أسير الفرنساوية، فأبى الإنكليز من ذلك، وحين تحقَّق بونابارته أنه لا يقبل ذلك الاتِّفاق، فأحضر تلك الأسارى المسكوبين ومنَّ عليهم بالإطلاق أجمعين، وكساهم كسوة جديدة، وصنع لهم وليمة عظيمة، وحبًّا بهم أمر في زينة جسيمة، وأرسلهم إلى كرسي دولتهم مع أحد الجنرالية من قبله، وحرَّر إلى سلطان باولو أنه قد كتبت إلى سلطان الإنكليز صديقكم أن يستفدي بالأسارى المسكوبين بما عنده من أسراء الفرنساويين فأبى من ذلك ولم يرض، وحين وصلت الأسارى أعلموا السلطان باولو بما فعل بونابرته من الإكرام بعد الأسر والإعدام، ففرح فرحًا شديدًا ما عليه مزيد، وأمر بزينة حبًّا بالمشيخة الفرنساوية، وأجرى الصلح بينه وبين القنصل الأوَّل بونابارته على حرب الإنكليز والدولة العثمانية بواسطة اقتدارهما وانتشار قوَّتهما، واستعدَّ الملك باولو المشار إليه على مضادَّة الإنكليز والعثماني، وكتب السلطان باولو للسلطان سليم أن يمنع الحرب عن الفرنساوية المتملكين الديار المصرية، لَبينما يدبِّر أمرًا إلى الصلح، وإن لم يمتنع عن حرب الفرنساويين بينما أجرى صلحهم مع الإنكليز؛ وإلَّا يقتضي الأمر أن ينادي في الحرب، فحين وقف على هذا السلطان سليم فخرَّج حالًا الأمر من الدولة العثمانية برفع الحرب عن الفرنساوية الذين هم بالديار المصرية. فهذا ما كان من القنصل الأوَل بونابارته.
وأما ما كان من الإنكليز؛ فإنهم لم يرتضوا بأن يمتنعوا عن محاربة الفرنساويين، فأخذوا يدبَّرون مكايد لهلاك السلطان باولو سلطان المسكوبيين، وبدوا يجمعون العساكر ليسيِّروهم إلى مصر، فبلغ بونابارته ذلك ففي الحال أرسل مركبًا صغيرًا إلى مدينة الإسكندرية، وأخبر أمير الجيوش أن حاضرة لمحاربتهم عساكر الإنكليزية بعشرين ألف مقاتل، وأخبره بموت الجنرال ديزه في حرب النمسا فكان حزن عظيم عند الفرنساوية، وأخبرهم أن يصنعوا ميتمًا كعادة على رؤساء العساكر، وأن يتشدُّوا للحرب والجلاد، وأوعدهم بالإسعاف والإمداد، وأوصاهم بحفظ البلاد بقوة الحرب والجهاد، وحين دخل ذلك المركب للإسكندرية وأوصل الكتابات إلى عبد الله منو من بونابارته القنصل الأوَّل، فعقد ديوانًا في مصر وحضرت رؤساء العساكر والأوفيسيالية وفرحوا فرحًا عظيمًا لانتصاره والصلح مع الملوك وهدوء المملكة وسكون حركاتها، وتأمَّلوا بالإمداد، وانسرُّوا بصلح البابا وركون البلاد، وحزنوا لفقد الجنرال ديزه وصنعوا له ميتمًا، واجتمعت الفرنساوية إلى بركة اليزبكية مع العلماء والحكَّام وأرباب الديوان، وصنعوا له تابوت وخرجوا به من باب النصر وهم منكسين البندق، وساروا إلى أرض القبَّة، وهناك عملوا المراثي والمناحة وأوردوا شجاعته وفروسيته والانتصارات التي صارت عن يده، ثم أطلقوا البندق حول التابوت وبكوا على فقد ذلك البهموت، ورجعوا إلى القاهرة بحسرة وافرة.
ثم نرجع لما كنَّا في إرادة من الوزير الأعظم، فإنه بعد رجوعه إلى أرض فلسطين بعد تلاشي عسكره ذلك المتين ابتدأ يفرِّق الفرمانات على ساير الأقاليم والبلاد بطلب العساكر للجهاد، وابتدت تتوارد عليه العساكر من ساير الأماكن فجدَّد عسكرًا عظيمًا، وقد حدث بفلسطين وتلك الأقطار غلاء جسيم، ومات من القحط أكثر أهل الديار من كثرة تلك العساكر المتبادرة والجيوش المتقاطرة، وتضايقت تلك العساكر من عدم المآكل وماتت البهايم والدوابُّ، ثم أعقب الغلا الطاعون المريع والموت الفجيع، فمات منه الشريف والوضيع، وحاق التلاف بكل الأطراف بلا شكٍّ ولا خلاف، وحلَّ بهم الوبال والنكال، وماتت منهم خواصُّ الرجال، ولم يبق من تلك العساكر إلا الوجيز، ومات كل رهط وعزيز، وقد مات من السناجق أحسنهم وأفرسهم وأجملهم، وعدَّة وافرة من الممالك الجبارة؛ وهم مصطفى بيك الكبير، وأيوب بيك الكبير، وعثمان بيك الشرقاوي، وعثمان بيك الطاويل، وحسن بيك الجرداوي، وقاسم بيك أبو سيف، وقاسم بيك أمين البحر، والأمير شروان، وذلك من غير الكشاف والسناجق الصغار.
وتقمقمت عساكر الإسلام على ربِّ الأنام؛ إذ كانوا يقولون: ما يحلُّ من الله العليِّ العلَّام أن الكفَّار يتنعموا في خيرات مملكة الإسلام بتلك الديار ونحن نهلك بالبراري والقفار، ونلتقي الجوع وبرد الليل وحرَّ النهار، وقد كان بلغ الوزير الأعظم الاتفاق الذي وقع بين مراد بيك والأمير كليبر، وأنه وعده إذا رحلت الفرنساوية يسلمه الديار المصرية، ثم بلغه ما حلَّ بالأمير كليبر من المنية ففرح فرحًا شديد ما عليه من مزيد، وتأمل بتملُّك تلك الأقطار بعد زوال ذلك الأسد المغوار، فدعا إبراهيم بيك وأمره يكتب إلى مراد بيك أن يطالب عبد الله منو أمير الجيوش بوعد سلفه كليبر، وأن لا بدَّ لهم من الخروج عن هذه المملكة لكون لا قدرة لهم على الثبات حيث لا إسعاف لهم ولا إمداد، وقد بقوا قليلين العدد وكثيرين الأضداد، وأخصامهم في ساير البلاد، ومن المستحيل أن يقتدروا على هذا الجلاد ومحاربة جميع العباد والعساكر العثمانية، والمراكب الإنكليزية قايمة عليهم من كل الجهات، فخروجهم الآن بالصلح والسلام أوفق لهم من خروجهم بالقهر والإرغام، وأوعد الوزير لإبراهيم بيك أن متى عوَّلوا على الامتثال وخرجوا على هذا المنوال يسلِّم المملكة إلى الغزِّ المصريين كما وعدهم كليبر ويرتحل هو للقسطنطينية بالعساكر الهمايونية، ويرسل وزيرًا يكون بالقلعة السلطانية، وذلك حكم الأيَّام السالفة بدون مناقضة ولا مخالفة، فكتب إبراهيم بيك ما أمره الوزير، وكتب أيضًا الوزير فرمان إلى مراد بيك بهذا الشان.
ولما وصلت إلى مراد بيك هذه الكتابات رأيها صواب، وفي الحال كتب إلى أمير الجيوش يعرِّفه بتلك الأسباب، وأرسل بها عثمان بيك البرديسي وأمره أن يشرح إلى أمير الجيوش عبد الله منو ما ذكره الوزير الأعظم ويعرض عليه ذلك الفرمان الذي أتاه، فتوجَّه عثمان بيك إلى مصر وأخبر أمير الجيوش في تلك الكتابات وأعرض عليه الفرمان، فتغيَّرت منه الأحوال وأجابه: إننا نحن لسنا عازمين الآن على الخروج من هذه المملكة، فمتى عزمنا وأردنا أن نتركها نبقى في ذلك الوقت نقيم بوعدنا مع مراد بيك، ومع ذلك مراد بيك قاطن بمملكة مصر براحة كلِّية، وقد صار عضوًا من أعضاء المشيخة الفرنساوية، ولا يكن مهتمًّا إلَّا بذاته، فأجابه عثمان بيك البرديسي أن مولاي مراد بيك أرسلني للتخبير لك بالصورة الواقعة والمكاتبة، لا على صورة السؤال والمطالبة، ولا بدَّ عن رفع الريب والشكوك عنه؛ لأن لا بدَّ كان يبلغ حضرتك رسالة الوزير الأعظم لمولاي فيحصل الشكوك والريب.
وقام وأرسل الجنرال المذكور، وأخبر أمير الجيوش بتحصين الإنكليز في أبو قير وقدوم عمارة العثمانية، فارتجَّت الفرنساوية رجَّة قوية، وجهَّز أمير الجيوش العساكر وأرسلهم على طريق رشيد، وقد خافت باقي الفرنساوية الذين بقوا بمصر، وبان عليهم إشارات الغلبة وبدوا، يخلون المنازل القاطنين بها ويتحصَّنون في القلعة الكبيرة وفي الجيزة، وسقطت عليهم الأوهام وتنكَّست منهم الأعلام، وتيقَّنوا بالزوال وعدم الدوام من كثرة الأخصام، ومبادرة الأعادي من كل فجٍّ ووادي، وكانت العساكر الإنكليزية والعثمانية ينوفون عن الخمسة وثلاثون ألفًا جنكية، وذلك ما عدا عساكر الوزير الأعظم الوارد من الشام، وعسكر وارد من أرض الهند الشرقي على طريق القُصَير، خلا عن سكَّان الأقاليم المصرية القايمة على قدم وساق مع العساكر القادمين بالاتِّفاق، ومن هذا القبيل قد ارتجَّت قلوب الفرنساوية، وكانت قلوبهم منقسمة وغير محتزمة؛ كرهًا منهم في أمير الجيوش؛ لأنه فرق قلوبهم لأن في جلوسه على تخت القاهرة كره رجال سلفه كليبر.
وبالاختصار نقول إن الأمير عبد الله منو من بعد ثلاثة أيَّام سار بباقي العساكر على طريق رشيد، وولَّى مكانه الجنرال بليار قيمقام، وهذا الجنرال من رجال الجنرال ديزه حاكم الصعيد سابقًا، وكان رئيسًا في الأحكام شديد البأس في الحرب والصدام، وكانت الفرنساوية بدت تخلي الأقاليم والبلاد، ويتجمعون في مدينة مصر، ثم قد أخلوا قطية وبلبيس والصالحية وجميع الوجه الشرقي وأرض الصعيد ودمياط والمنصورة، وقد انحصروا في القاهرة والرحمانية وفي رشيد أمام العساكر العثمانية والإنكليزية، وكانت عدَّة المحاربين من الفرنساوية ثلاثة عشر ألف مقاتل فقط، ما عدا أرباب الصنايع والنساء والأولاد فكانوا مقدار سبعة آلاف، والبقية ماتوا بالحروب والجلاد، والبعض توجَّهوا للبلاد، فهؤلاء جميعهم انحصروا في القاهرة والرحمانية ورشيد والإسكندرية، وبقي في بوغاظ دمياط المعروفة بالعزبة مايتان صلدات، ومن بعد حضور حسين قبطان باشا ساري عسكر العمارة العثمانية مع عمارة الإنكليزية وطلوعهم لأبو قير هجموا على رشيد، وإذ لم يستطع الجنرال حاكم رشيد والعساكر الفرنساوية لمصادمة هؤلاء الجيوش فسلَّم المدينة وخرج، وبنت العساكر الفرنساوية متاريسها في الرحمانية، وانتشب الحرب بين العسكرين، وكان ذلك في ابتدا شهر ذي القعدة إلى ثمانية ذي الحجَّة ختام سنة ١٢١٥. وكان في تلك الأيَّام حدث طاعون عظيم في مدينة مصر وأقطارها، ومات في الصعيد الأمير الشهير صاحب الكوكب المنير الأمير مراد بيك، وكان حزنًا عظيمًا عند الغزِّ المصريين؛ لأنه طفى سراج زمرة المماليك الشجعين، ومات سليمان بيك وعدَّة من الكشَّاف والمماليك، وعند موت مراد بيك جمع مماليكه وأقام عليهم العساكر الجنرال رانيه والجنرال داماس وهم المكروهين منه أن يتقدَّما لمساعدة لانوس، فتخلَّفا وأبيا عن التقدُّم، وقرعت طبول الكسرة والرجوع إلى ورا؛ نكايةً في أمير الجيوش، وارتدَّت العساكر الفرنساوية، وتظاهرت عليهم العساكر الإنكليزية لما علموا من الانفساخ الذي ظهر فيما بينهم، فانتصروا عليهم نصرة عظيمة من بعد ما كانوا أيسوا من السلامة والغنيمة، وارتدَّت الفرنساوية إلى متاريسها.
وظهر في هذه المعركة الجنرال نقولا الروم وعارك عراكًا شديدًا، فعندما نظر أمير الجيوش انقسام قلوب العساكر أجمع رأيه أن يترك جانبًا بالمتاريس بأرض الرحمانية نحو ثلاثة آلاف، وسار بباقي العسكر إلى الإسكندرية، وبدأ يبني المتاريس في خارج المدينة، وقفل أبواب البلد، فجاءت الإنكليزية وقطعت السري الذي بين بحر المالح وبين خليج النيل المؤدِّي إلى الإسكندرية، وكان قصد الإنكليز قطع الطريق ما بين إسكندرية والقاهرة؛ لأجل شدَّة المحاصرة، وكان إبراهيم باشا قد أحرق قطية وتسلَّم مدينة دمياط، وأما العساكر التي كان أبقاها أمير الجيوش في المتاريس بالرحمانية؛ فإنهم عملوا حربًا عظيمًا وتركوا المتاريس ليلًا وتوجَّهوا إلى مصر، وصارت العساكر الفرنساوية قسمان قسم بالإسكندرية مع أمير الجيوش وقسم في القاهرة مع الجنرال بليار أعظم الجبابرة.
وتقدَّمت عساكر الوزير للحصار من كل فجٍّ وديار، وداروا حول مصر شرقًا وغربًا وبرًّا وبحرًا، ونهضت الغزُّ المصريون عزوة مراد بيك من أراضي الصعيد، وأتوا إلى مدينة رشيد، وقابلوا حسين باشا قبوطان، واختلطت العساكر العثمانية مع المصرية والإنكليزية حول مصر الغربية، وقدم الوزير الأعظم بعساكره من الجهة الشرقية، وأبطا إيابه إبطاءً زايدًا وكان السبب أنه حضر له أوامر من الباب العالي وإلى حسين باشا قبوطان أن يتوقفا في الحرب عن الفرنساوية المقيمين في مصر، وكذلك كنا ذكرنا سببه سابقًا وأن المكاتب التي أرسلها السلطان باولو ملك روسيا، وفي غضون ذلك جدَّت الأعلام من الباب العالي بوفاة المشار إليه السلطان باولو الذي كان مع الفرنساوية ضدَّ الإنكليزية، فعند حقيقة تلك الأخبار رجعوا لما كانوا عليه من الحصار وإخراج الفرنساوية من الديار المصرية، وكان ذلك في شهر محرَّم سنة ١٢١٦.
هذا والجنرل بليار لم يكن عنده افتتاح أخبار؛ وكل ذلك من انقطاع الطرق والمسالك، فأرسل ماية هجَّانًا على طريق البرِّيَّة إلى مدينة الإسكندرية؛ لينظر الأخبار من تلك الديار وما جدَّ من الأمور من طرف الجمهور، وسارت الماية هجَّان وغابوا مدَّة طويلة نحو أربعين يومًا وما خبر منهم بان، وكان الجنرال بليار في اضطراب عظيم ووسوس جسيم من عدم إيابهم وطول غيابهم، وبعد المدة المذكورة حضروا الهجانة عن طريق الجبل وجازوا ليلًا على معسكر الإنكليز المقيم أمام الجيزة غربي الكنانة ولم حسُّوا بهم حين مرُّوا عليهم، ودخلوا الجيزة وحضروا لدى الجنرال بليار، وأطلعوه على صحَّة الأخبار، وأتى له جواب من أمير الجيوش يعلمه أنه حضر مركب صغير من مدينة باريز، وصحبته كتابات من القنصل الكبير يعلم بها أن السلطان باولو سلطان المسكوبيَّة اتَّحد معه على حرب الإنكليز وأرسل إلى الدولة العثمانية برفع الحرب عن الفرنساوية الذين بالديار المصرية، ولم يكن داريًا بوفاة السلطان باولو الذي كان قد أوقف الحرب، وحضر كتاب إلى الجنرال يعقوب القبطي يمدحه على شجاعته وفروسيته ويوعده بسمو مرتبته ويشدِّده على الحرب والجلاد ومصادمة الأضداد، وأن لا بدَّ له من الإسعاف من المشيخة والإمداد.
وعندما تحقَّق الجنرال بليار تلك الأخبار أخذ ألفين مقاتل وسار بهم ليلًا إلى معسكر الوزير، وكانت قد وصلت طلايع الوزير الأعظم إلى بلبيس مسافة يوم عن القاهرة، وهناك تلاطمت العساكر العثمانية مع عساكر الفرنساوية، ومات عدَّة من الأرناوط ومن الغزِّ، وحين نظر الجنرال بليار أن جيوش الترك كثيرة وهم قاصدون الجلاد والغزو والجهاد، وليس الأمر كما زعم أمير الجيوش بأن الحرب متوقِّف، فرجع إلى مصر في حمية وتمكَّن داخل الحصارات القوية، وابتدت العساكر تتوارد إلى شهر صفر سنة ١٢١٦ إلى أن بلغوا لقرب القاهرة، وكان الوزير الأعظم قادمًا من الشرق، وحسين باشا من الغرب مع عسكر الإنكليز، وضرب الوزير الرستاق في أرض شيرة والمكاس في القرب من الكنانة، وحسين باشا ضرب الرستاق مع عسكر الإنكليزية أمام مدينة الجيزة غربي مصر، وتكاثرت جيوشهم واجتمع عليهم طموش غفيرة وعربان كثيرة، هذا وذلك الجبَّار والأسد المغوار الجنرال بليار قايمًا في الكنانة أمام ذلك الجمِّ، وقلبه أشدُّ من الصخر الأصم، ووقعت هيبة عند ذلك الجمع الملتئم؛ لأن قد شاع ذكر هؤلاء الشجعان في ساير البلدان، واشتهرت سطوتهم وانتشرت صولتهم، وقد كانوا هؤلاء العتاة لا يعرفون الموت من الحياة؛ فلذلك اجتهدت الدولة العثمانية بإخراجهم من مملكة مصر بالسلامة والاطمأنية، وقد خافوا أيضًا لِيَلَّا يخرجونهم بالسلامة والسكون في البلد ويحرقوها، وكانوا قادرين على ذلك لما عندهم من الاستعداد وقوَّة الجلد والجهاد؛ فلذلك استقامت تلك العساكر والممالك يتداولون في أن كيف يحتالون؟ وكيف يخرجونهم بالسلامة والسكون.
وفي نصف صفر أرسل السرعسكر الإنكليز رسولًا يطلب من الجنرال بليار أن يرسل أحدًا من طرفه لأجل المفاوضة بأمر الصلح، فأرسل له أحد الكوميسارية، ولما وصل إلى مقابلته أخبره أولًا بموت السلطان باولو، وكان قصده بهذا الخبر لأجل قطع آمالهم من إعانة المسكوب وانقطاع رجاهم، ثم بدأ يتفاوض معه بأمر الصلح وتسليم المملكة إلى أصحابها وإذهابهم إلى أوطانهم بالأمان، ويُريه انقطاعهم في هذه البلاد وعدم إسعافهم والإمداد، وأن الخروج لا بدَّ منه وكلُّ محصور مأخوذ، وبعد ذلك سيَّره أن يردَّ عليه الجواب فرجع الكوميسار إلى عند بليار وأعلمه بهذه الأخبار وعن وفاة السلطان باولو وكلام سرعسكر الإنكليز.
فلما سمع الجنرال بليار هذه الأخبار صنع ديوانًا وجمع ساير الجنرالية ورؤساء العساكر الفرنساوية، وأخبرهم بمخاطبة سرعسكر الإنكليز وطلبه الصلح والتسليم، ثم استشارهم كيف يكون الجواب؟ وما يقتضي رأيهم من الصواب؟ فمكثوا برهة يتداولون ويتشاورون، ثم إنه اجتمع رأيهم أن التسليم أوفق وعدم الحرب أرفق؛ بحيث إن الخروج يكون سليم العاقبة على شروط مناسبة، وعلى ذلك عقدوا الرأي وبدوا يسطرون شروطًا وعهود لتسليم مملكة مصر، ومن بعد أن حرَّروا الشروط قدَّموها إلى الجنرال بليار، وأرسلها إلى سر عسكر الإنكليز مع الكوميسار، ثم نصبوا خيمة في برِّ الجيزة بين العسكرين، وهناك تصير المفاوضة بين الفريقين، فالذين انقاموا وكلاء لأمر الصلح من طرف الفرنساوية الكوميسار ويوسف الترزي الأرمني، ومن طرف الإنكليز الجنرال سميت ساري عسكر وأحد الكوميسارية، ومن طرف الوزير الأعظم عثمان بيك، ومن طرف حسين باشا قبطان إسحق بيك.
واستمرَّت المداولات بأمر الصلح أربعة أيَّام، فحينما تمَّت تسجَّلت المواثيق والعهود وانعقد الرأي على تسليم مصر وإعطاها إلى الدولة العثمانية وخروج العساكر وجميع الفرنساوية منها على موجب الشروط الآتي ذكرها عن سيدنه سميت سرعسكر الدولة الإنكليزية، ثم حتمت الفرنساوية بأن يكون التسليم عن يد حسين باشا قبطان بوسطة الإنكليز؛ وسببه كان هذا المشار إليه يميل لطرف الفرنساوية ميلًا عظيمًا، وذلك قبل دخولهم وأخذهم الأقطار المصرية، وقد تهمه الوزير الأعظم أن دخولهم كان باطلاعه، وتقمقمت الفرنساوية على الوزير لدخوله في الجمعية، وقالوا نحن لا نعقد معه شروطًا ولا نقبل منه خطوطًا؛ لأنه قد كان خان عهوده مع أمير جيوشنا الأمير كليبر، وإذ لم يقدر على التغلُّب عليه أرسل قتله خفيةً، ثم ثبت التسليم عن يد حسين باشا وسرعسكر الإنكليز، وتسطرت أسطر الشروط وانختمت من الثلاث دول.
- الشرط الأوَّل: أن بلوكات العساكر الفرنساوية برِّية وبحرية وبلوكات العساكر المساعدة المتَّحدة معهم الذي أمرهم الجنرال بليار يسلموا مدينة مصر، والقلعة الكبيرة، وكامل القلع الصغار ببولاق والجيزة، وكامل أطراف مصر الموجودة بها الفرنساوية.
- الشرط الثاني: كامل البلوكات العساكر الفرنساوية والعساكر المتَّحدة معهم يتوجَّهوا برًّا إلى بندر رشيد من طرف شمالي النيل بسلاحهم وعزالهم ومدافع البرِّ وصناديق الجبخانة؛ لأجل يوسقوهم من رشيد ويتوجَّهوا إلى أساكل بلاد فرنسا الموجودة في بحر الأبيض، وكامل مصاريف ما ذكر تقوم بها الدولة العلية المصالحة، وسفر العساكر المذكورين والمتَّحدين معهم ونزولهم في المراكب يكون بأسرع وقت، وغاية ما يكون من العاقة خمسين يومًا، أوَّلها من تاريخ هذه الشروط المحرَّرة، ومن غير شكٍّ أن عساكر المذكورين يؤخذوا بالمراكب إلى أي أسكلة كانت إلى الطريق الأعدل والأقرب للفرنسا.
- الشرط الثالث: من ابتدا هذه الشروط تكون العداوة مرفوعة من الطرفين بالكلية، ويتسلَّم إلى الدولتين المتَّحدين قلعة الظاهر، وباب مدينة الجيزة المسمَّى الباب الهرامات، وعلى الوكلاء المشار إليهم أن يضبطوا الحدود، وعدم التخطِّي والاحتراز من وقوع الخلل.
- الشرط الرابع: بعد اثنا عشر يومًا من هذا التاريخ مدينة مصر وقلاعها والقلعة الكبيرة والباقية ومدينة بولاق يخلون من العساكر الفرنساوية ومن المتَّحدين معهم، ويتوجَّهون إلى قصر العيني والروضة وأتباعها والجيزة وأطرافها، ومن هناك يسافرون في غاية جهدهم لمسافة خمسة أيَّام؛ لكي يتوجَّهوا إلى محلِّ المراكب التي يسافرون بها، وكامل حكَّام الإنكليزية والعثمانية يلتزمون يقدِّمون مراكب، ويقيمون بمصارفهم ولزومهم في بحر النيل؛ لأجل وسق عزالهم ومونتهم لحدِّ البحر المالح، وجميع هذه المراكب تكون محضرة بغاية السرعة والاهتمام وتتسلَّم عساكر الفرنساوية بالجيزة.
- الشرط الخامس: مشي العساكر ومحطاتها يكون معيَّن لها جنرالية وأهل مراتب من الطرفين، وكذا الأيام المعيَّنة للمشي من الواجب يكون المدبِّر فيها الجنرالية الإنكليزية والعثمانية، وكذلك العساكر الفرنساوية المذكورون والذين متَّحدون معهم يكونوا مصطحبين بطريقهم من كوميسارية الإنكليز والعثمانية، فهم الذين يقومون بالمعاش الضروري في مسافة الطريق ومحطاتهم.
- الشرط السادس: كامل العزال والجبخانات الذين يوسقونهم في مراكب بحر النيل يكونوا مغفرين مع بعض عساكر فرنساوية ومراكب حربية من طرف الدولتين المتَّحدتين.
- الشرط السابع: فيكون محضرًا إلى العساكر الفرنساوية والمتَّحدين معهم وأتباعهم والذين صحبتهم المونة المرتَّبة حسب قانونهم من يوم سفرهم من الجيزة إلى يوم نزولهم في المراكب، ومن ذلك اليوم تكون المونة مرتَّبة حسب قانون الإنكليز إلى يوم طلوعهم للبلاد فرنسا.
- الشرط الثامن: يحضر من طرف حكام الإنكليزية وحكام العثمانية في برٍّ وبحرٍ المراكب الضرورية الطيبة لأجل سفر العساكر الفرنساوية، وكامل ما يلوذ بهم لأجل وصولهم إلى أي أسكلة كانت من بلاد فرنسا الموجودة في بحر الأبيض، ولأجل إتمام ذلك يجب أن يحضروا كوميسارية من قبل حضرة الجنرال بليار، ومن قبل رؤساء عساكر الدولتين المتَّحدتين برًّا أم بحرًا، ومن بعد تاريخه يجب أن الكوميسارية المتعينين من الطرفين يتوجهون إلى رشيد وأبو قير لأجل تحضير المراكب وكامل المطلوبات للسفر.
- الشرط التاسع: أن الدولتين المتَّحدين يجب يحضرون أربع مراكب أم أكثر إن أمكن لأجل نقل الخيول واللوازم لهم لحين نزولهم.
- الشرط العاشر: يجب أن يتقدم إلى العساكر الفرنساوية وكل المتحدين معهم من الدولتين المتحدتين مراكب حربية كفاية لأجل تغفيرهم ووصولهم سالمين إلى فرنسا، والدولتين المتحدتين يضمنوا عدم وقوع الخلل والعداوة من طرف عساكرهم إلى حين وصول عساكر الفرنساوية والذين معهم إلى فرنسا سالمين، وكذلك الجنرال بليار يوعد ويتعاهد مع جميع العساكر التي تحت أمره أن لا يحصل منهم أدنى خلل للعمارة ولا لبلاد حضرة الدولة الإنكليزية في هذه المسافة، وكذا لا يحصل أدنى تعرض وخلل ببلاد الباب العالي، ولا ببلاد الدول المتحدة معهما، فما لهم أن يتوقفوا في أسكلة من الأساكل في مسيرهم، بل إنهم يقصدون بلاد فرنسا ما عدا الأمر الضروري، ثم رؤساء عساكر فرنسا والإنكليز والعثماني يكون معهودًا عندهم جميع ما ذكر أعلاه ومحفوظًا طالما عساكر الفرنساوية موجودة بمصر، ومن هذا التأريخ إلى دخولهم للمراكب، وإن حضرة الجنرال بليار حاكم العساكر الفرنساوية والمتحدين معهم يتعاهد عن حكام دولة فرنسا أن جميع المراكب المغفرة والمراكب الموسوقة التي مسافرون بها فبعد وصولهم يخرِّجونهم جميعًا وترجع جميعًا، ولا ينعاق منها ولا مركب، وأن القباطين بالمراكب المذكورة يشترون بمالهم مونتهم الضرورية إلى رجعتهم، والجنرال بليار يتضمن رجوع هذه المراكب إلى مواضعها بحيث إنها لم تتداخلوا بأمور حرب بالكلية.
- الشرط الحادي عشر: جميع حكام السياسة وأرباب الحرف والصنايع وجميع الأشخاص المتعلقة بالفرنساوية يحصل لهم سويةً ما يحصل للعساكر الحربية، وإن حكام السياسة وأرباب العلوم والصنايع يصحبون ويأخذون معهم جميع الأوراق والكتب ليس التي تخصهم فقط بل كل ما يروه نافعًا لهم.
- الشرط الثاني عشر: جميع سكان مصر من أي طايفة كانت من أراد منهم يتبع العساكر الفرنساوية مسموح لهم ذلك ومن بعد سفرهم لا يحصل لأعيالهم ولأموالهم أذية.
- الشرط الثالث عشر: جميع سكان مصر من أي مذهب كانوا لا يحصل لأحد منهم أذية لا في مالهم ولا في أعيالهم ولا في أنفسهم بسبب رفقهم للفرنساوية.
- الشرط الرابع عشر: جميع المشوَّشين الذين ليس لهم طاقة على السفر يستقيمون في مصر في بيمارستان، ويبقى عندهم حكماء وخدَّام يدارونهم لحين شفائهم، ثم يُرسَلوا لفرنسا بالحفظ والصون، وأن حكام الدولتين يتعهَّدوا تحضير أمر هؤلاء المشوشين من كامل النظام.
- الشرط الخامس عشر: في وقت فروغ مدة تسليم المدن والقلع كما ذكر قبله فيحضروا الكوميسارية يتسلموا المدافع والجبخانات والحواصل وقوايم وأوراق ومحلات وجناين وغير أشياء عمومية التي للفرنساوية إلى الدولتين المتحدتين.
- الشرط السادس عشر: حاكم البحر لازم يحضر قبل بساعة مركب يسافر إلى فرنسا ويأخذ واحد فسيال وكوميسار إلى طولون ويأخذ لهم صورة هذه الشروط إلى المشيخة الفرنساوية.
- الشرط السابع عشر: الذين يخالفون هذه الشروطات يحصل قصاصهم عن يد الكوميسارية، وكذلك إذا وقع اختلاف في الأمور يكون نظامه وإصلاحه بيد الكوميسارية.
- الشرط الثامن عشر: بحال إتمام هذه الشروط جميع أسراء الحرب من الإنكليز والعثماني الموجودين عند الفرنساوية يحصل لهم الإطلاق والحريَّة وكذلك حكَّام عساكر الدولتين المتَّحدتين يُعتِقون كامل أسراء الفرنساوية الموجودين في عرضيهم.
- الشرط التاسع عشر: واحد من أكابر عسكر الإنكليز وواحد من أكابر عسكر الوزير الأعظم وواحد من قبطان باشا يكونوا موجودين عند الفرنساوية رهينة، ويعطى بدلهم ثلاثة من مقامهم من الفرنساوية، ولما ينتهي وصول الفرنساوية إلى بلادهم يرجعون الرهاين المذكورين ويروحون الذين كانوا بدلهم وكل منهم إلى محله.
- الشرط العشرون: هذه الشروط ترسل مع واحد فسيال إلى الجنرال منو للإسكندرية، وله مهلة عشرة أيام من بعد وصولها ليده، إن كان يرضى على هذا الاتفاق بذاته وعساكر الفرنساوية، ويحرر قبوله ورضاه بخط يده إلى سرعسكر الإنكليز الذي مقيم قدام الإسكندرية لغاية عشرة أيام بعد تاريخ وصول هذه الشروط ليده.
- الشرط الحادي والعشرون: صورة هذه الشروط يعلم عليها سواري عسكر العام من طرف الثلاثة دول،
ويرجع بعد أربعة وعشرين ساعة، وينتهي كل ذلك.
وقد تحرر أربعة نسخ مختومة في محل المسافة ما بين العرضين في تاريخ مسِّيدور سنة التاسعة للمشيخة في نصف النهار الواقع في ٢٧ حزيران سنة ١٨٠١ مسيحية الموافق ١٦ صفر سنة ١٢١٦.
وهذه هي الإمضاوات:
قد أثبت ذلك هلى هو تجنسون ساري عسكر عام.
قد أثبت ذلك للورد كايط جام أستونسون قبطان مركب إنكليز.
نحن قد أثبتنا جميع الشروط الواقعة في هذا الاتفاق لأجل حلو مصر وتسليمها للباب العالي المشيَّد يوسف باشا وزير الختام.
ونحن قد شهدنا وأثبتنا جميع هذا الاتِّفاق الواقع في هذه الشروط لأجل حلو مصر حسين قبطان باشا.
لقد ثبَّت وتحقَّق هذه الشروط في مسيدور سنة ٩ للمشيخة الجنرال فاريون بليار.
قد طبعت في مطبعة الفرنساوية بمصر.
ومن بعد تمام تلك الشروط شرع الجنرال بليار بتخلية مدينة مصر، وخروج العساكر منها إلى قصر العيني وإلى الجيزة، وتهيأ للخروج معه الجنرال يعقوب وأتباعه، والجنرال برتولمي كومندان بني الروم مع عساكر الأروام، والكومندان يوسف الحموي وأتباعه المعينون من شفا عمر وأرض عكا، وعبد العالي أغة الإنكشارية، وجميعهم خشون الإقامة في الديار المصرية بعد خروج الفرنساوية، وتهيأ معهم عدة أنفار من عام الناس، ونساء كثيرات من الإسلام كُنَّ متزوجات للفرنساوية، واستعدوا للسفر معهم.
وقبل خروجهم الجنرال بليار أقام جسد كليبر من المحل الموضوع به بتابوت رصاص، فأمر بنقل التابوت للجيزة باحتفال عظيم ومحفل جسيم، وضربوا مدافع كثيرة، وأمر بتنزيل جثة سليمان القاتل مع الثلاثة رءوس أرفاقه لأنهم كانوا محنطين ومصبَّرين، فأنزلوهم بحقارة للجيزة لأخذهم لفرنسا، ثم إن بعد الاثني عشر يومًا المعينة لخروجهم من مصر إلى الجيزة بعد تجهيز كامل ما يلزم للجمهور الفرنساوي نهض بليار في العساكر الفرنساوية من القاهرة إلى الجيزة في ٢٨ صفر سنة ١٢١٦، وخليت مصر من الفرنساوية، ودخلت عساكر الوزير للمدينة، وكان فرح لا يوصف عند الإسلام، وغمٌّ عظيم عند من كان من طرف الفرنساوية خاصٍّ وعامٍّ، وتخبَّت النصارى واليهود في منازلهم، وكانت العساكر الإسلامية أي من وجدوه يعيروه بعدما يهينوه، وعندما بلغ الصدر الأعظم أحوال العساكر، أرسل أغة الإنكشارية أطلق التنبيه بالمدينة على الأمان وعدم معارضة الرعية، ورفع الظلم والعدوان، وفرَّق الظابتان على جميع الحارات وفي الشوارع والمحلات.
هذا والعسكر الفرنساوي لم يزل مقيم في برِّ الجيزة لحينما تتجهز لهم المراكب لحمل أثقالهم لأبو قير، ومن بعد أربعة أيام من دخولهم إلى الجيزة تحضرت لهم المراكب، فأشحنوا بها من الأثقال والأمتعة والنساء والأولاد وجميع الذين لا يقدرون على المسير في البر، وساروا برًّا وبحرًا، وسارت أمامهم عساكر الإنكليز، ومن وراهم حسين باشا بعساكره وهم في وسط الفريقين، وساروا أربعة عشر يومًا من الجيزة إلى قرب رشيد، ومكثوا هناك بينما تتجهز لهم الذخاير والمراكب فتجهَّزت، وسافروا من أبو قير في غاية ربيع الأوَّل سنة ١٢١٦ طالبين فرنسا، وكانت الإنكليز حينما خرجت الفرنساوية من مدينة الجيزة تسلموها وجعلوها محلًّا لعساكرهم، ومن بعد سفر الفرنساوية بثمانية أيام مرض الجنرال يعقوب القبطي ومات. فهذا ما كان من بليار.
وأما أمير الجيوش منو والفرنساوية الذين بمدينة الإسكندرية؛ فأبوا الصلح والتسليم وأنهم لا يخرجون منها إلا بعد حرب عظيم، وكان بعد خروج الفرنساوية من مصر ودخول عساكر الإسلام دخل وزير الختام وحسين باشا قبطان بمحافل عظيمة، ودخل صحبتهم إبراهيم باشا المحصل والي حلب، وإبراهيم باشا والي ديار بكر، ومحمد باشا أبو مرق، وطاهر باشا أرناوط، وأغاوات الإنكشارية، ورجال من الدولة العلية، ومن أمراء مصر إبراهيم بيك الكبير، وولده مرزوق بيك، وعثمان بيك الطنبورجي، وعثمان بيك البرديسي، والألفي، ومحمد بيك المنفوخ، ومراد بيك الصغير، وعثمان بيك الأشقار، وسليم بيك أبو دياب، وعلي بيك، وأيوب بيك، وعدة كشاف.
وكان يومًا عظيمًا، وخرجت لمقابلتهم علماء مصر وأعيانها وكافة أعوامها وسكانها، وانتشرت الأعلام وانسرَّت الأنام، وفرحت الإسلام بخروج الإفرنج الليام، وصاحت المسلمون: ما هذا إلا نصرًا من الله وفتحًا، وهاجوا هياجًا عظيمًا على النصارى، وقدموا عروضات إلى الوزير في قتلهم ونهبهم وسلبهم، فلم يصغ ذلك العادل لبغيهم ووشيهم، ولم يلتفت لفسادهم ومكرهم، وأصدر فرمان خطابًا لساير الحكام والقضاة بأن لا يقبلوا دواعي التي حدثت بأيام الفرنساوية في الإيالة المصرية جزئية كانت أم كلية، ولم يرتض هذا الصدر النبيل أن يلتفت إلى هذا القال والقيل، بل سلك مع الرعايا سلوك الملوك العادلين والسلاطين الأقدمين، وترك الانتقام لله الملك العلام، وكان يساقًا ثانيًا بالأمانة إلى مصر الكنانة، وابتهجت مصر بزمانه من شيمه وعزيز أمانه، وكثر البيع والشرا وعمرت المدن والقرى، وربحت التجار وتوادرت من ساير الأقطار، وفرحت الخلق طُرًّا ونارت به مصر، وأنشدت بذلك شعرًا وهو هذا:
وأما حسين باشا قبطان بعدما بات ليلة في مصر خرج إلى الجيزة وسار مع الفرنساوية كما ذكرنا، وبعدما مهد الوزير مصر أعطى ولايتها إلى محمد باشا أبو مرق الذي كان عنده وكيل خرج، وهذا كان أصله من مدينة غزة من عامة الناس، فأسعدته الأقدار بإذن الواحد القهار حتى ارتقى إلى هذه المنازل العالية عند الصدر الأعظم بالتفاته إليه، وألقى نظره عليه، فتقمقمت الوزراء الباقون؛ كونه ابن عرب قدمه على الآخرين، ومن المعلوم ابن العرب عند ابن الترك مقاماتهم مخفوضة وراياتهم منقوضة، وقد كان الوزير الأعظم قبل تملك القاهرة أوعد لطاهر باشا الأرناوط بولاية مصر إن فتحوها بالسيف، فحيث التفت الأمور وخرج بالصلح الجمهور، فبطَّل الوعد لطاهر باشا، وكذلك لإرضاء رجال الدولة به؛ فلأجل ذلك عدل عن تولي طاهر باشا وولَّى محمد باشا أبو مرق، وأرسل لدمياط أحمد باشا ميرمران، وأمره بإخراج الفرنساوية من العزبة بأمان فأرسل أحمد باشا طمن الفرنساوية فلم يأمنوا، بل تركوا القلعة وساروا لرشيد ليلًا وسلموا أنفسهم للإنكليز. فهذا ما كان من الوزير وما دبر بالديار المصرية.
وأما ما كان من الإسكندرية فإن أمير الجيوش عبد الله منو حين حصلت له تلك الشروط فاعتمد على المحاربة، وبدأ في بناء الحصون والمتاريس خارج البلاد وكان منتظر الإمداد من بونابارته بما سبق من الأوعاد، وبعد سفر بليار ومن معه من العساكر سارت العساكر الإنكليزية والعثمانية إلى الإسكندرية، ودارت بها برًّا وبحرًا وانتشب بينهم الحرب والقتال بالمدافع والقنابر الثقال، ولم تزل القنابر والمدافع تتساقط وتزداد وهم صابرون من تلك الحرب والجلاد، إلى أن قل ما عندهم من الزاد، وصار قحط مريع وجوع فظيع، ومات كثير منهم من الجوع وبليوا بالويل والفجوع، وكانوا يطحنون الرز ويأكلونه فيكون به أداء دون الغداء، وانقهر أمير الجيوش من مخامرة الجنرالين رانيه وداماس، فعقد ديوانًا وشرع يبرهن خيانة الجنرالين المذكورين والضرر الذي حدث منهما ضد العسكر، فأثبتت الشريعة عليهما الحقوق وأمر أمير الجيوش بالترسيم عليهما في منازلهما، وخلع الجنرالية عنهما، وضبط أموالهما وتعلقاتهما، هذا والحروب قايمة والنيران دايمة والهجمات على متاريس الفرنساوية متصلة وملاحمة غير منفصلة.
وفي تلك الأيام حضر من بلاد الفرنساوية ستة آلاف صلدات في المراكب وقصدوا أسكلة درنة، وهذه بلد على شط البحر المالح في بر الإسكندرية، فبلغوا الإنكليز قدومهم فساروا إليهم مجدِّين، وحين شعروا بهم ولوا منهزمين.
وحضروا أيضًا مراكب إنكليز إلى قُصير وبهم عساكر من بلاد الهند ورؤساؤهم إنكليز ورجال الهند بلون السودان، وهم مختلفون الأديان؛ فمنهم يعبدون النيران، ومنهم يعبدون الأوثان، ولهم مذاهب متفرقة، ولغات متنوعة، ولا يلبسون سوى القمصان فقط، فهؤلاء القوم قد خرجوا من مراكبهم إلى القصير، وأتوا إلى مدينة الجيزة حيث كان المعسكر هناك ونصبوا المضارب والخيام، واستقروا بها أيام وقيل: إنه جاز في ذات يوم أحد العساكر المصريين في وطاق هؤلاء الهنديين وأخذ نارًا، فوثبوا عليه وكادوا يقتلونه وقدموه إلى ساري عسكرهم ليقضي عليه بالموت، وادعوا أنه لمس إلاههم فخاف الرجل خوفًا عظيمًا، وقال: إني لست أعلم ما ذنبي، فرحمه السرعسكر إذ هو من الإنكليز وأمر لذلك المصري أن يدفع لهم ثمن الطعام الذي نجسه لما لمس النار.
وبعدما استقروا أيامًا وجيزة في مدينة الجيزة ساروا إلى مدينة الإسكندرية؛ لأجل محاربة الفرنساوية، وكان في ذلك الوقت مشتد القتال والجدال، وازداد الحصار في البراري والبحار، وزادت النار وقصرت الأعمار، وكَلَّ من الحرب كل قوم جبار، وبعد مضايقة كلية ومحاصرة قوية ملت العساكر الفرنساوية، وعزمت على التسليم الإسكندرية، ومسيرهم في الأمان إلى منازلهم والأوطان، فارتضت معهم الإسلام بأن يخرجوا بالسلام ويتركوا جبخاناتهم وأسبابهم، ويمضوا بسلاحهم وذهابهم فقط، وخرجوا من الإسكندرية على هذا النمط، وبعد وقوع الصلح والاتفاق، صنع أمير الجيوش عبد الله منو وليمة عظيمة للسرعسكر الإنكليز وإلى رجال الدولة العثمانية، وقدم لهم الطعام وهو من لحوم الخيل والفار والقطاط والكلاب الوخام، وإذ تفرَّسوا بها سألوه عن تلك اللحوم، ولم ينكر عنهم وأجابهم: أنه ليس يوجد عندي غير ذلك، ولم يوجد عند الفرنساوية ما يسدُّوا به رمق الفؤاد؛ لما سلموكم البلاد، فرفعوا أياديهم عن الطعام وهم متعجِّبون من تلك الكلام.
وخرجوا الفرنساوية من الإسكندرية، وتقاسما الدولتان الإنكليزية والعثمانية جميع ما تركوه الفرنساوية؛ لأنهم خرجوا بسلاحهم فقط، وساروا في مراكب الإنكليز إلى بلاد باريز، وخلَّوا مدافع وجبخانات، وأمتعة وذخاير وخيرات، وكان تسليم الجنرال بليار وخروجه أصلح شان من تسليم منو في الذل والهوان، ولكن قد افتخر الجنرال منو على بليار أنه ما وقع التسليم إلا بعد الحرب العظيم والجوع الجسيم، فهذا على مقتضى شرايع مشيختهم وأحكام دولتهم، وكانت مدة حصار الإسكندرية ستين يومًا، وكان خروجهم في أواخر ربيع الثاني سنة ١٢١٦.
وحضرت البشاير للصدر الأعظم، فأمر بشنلك عظيم وفرح فرحًا جسيم، وضربت مدافع كثيرة وحراقات غزيرة، وابتهجت الإسلام ورفعت الأعلام، وحمدوا رب الأنام، وقالوا: الحمد لله على تأييد الدين، وهذا نصر من الله وفتح مبين. آمين.
وقد تمت أخبار الفرنساوية وما حدث من الوقايع في الديار المصرية، وكانت إقامتهم بتسعة وثلاثين شهرًا وكانوا من دخولهم إلى خروجهم ما استكنوا من الحرب والقتال والمنازعة والجدال، وقد مات منهم خلق كثير، وأهلكوا من الإسلام عالم لا يرام. والحمد لله على الدوام. آمين.