الفصل التاسع عشر
إن الشخص الذي لم يشعر بالارتياح هو جامي. جامي المرح، الليِّن، العملي، لكن في الوقت نفسه القوي. لقد تناول الطعام في الحانة المفضلة لديه (قد تكون القهوة السوداء مناسبةً لرجال الشرطة والممثلين المتوترين الذين عليهم التفكير في رشاقة أجسادهم، لكن جامي يتعامل فقط مع مصادر توتر الآخرين ويتذكر رشاقة جسده فقط عندما يحصل الخيَّاط على مقاسات جسمه) ولم يجرِ شيء أثناء الغداء على ما يرام. كان اللحم البقري مطهوًّا لدرجة أكبر من المطلوب بعض الشيء، والبيرة دافئة بعض الشيء، والنادل يعاني من الفَواق، والبطاطس مملوءة بالسوائل، ومذاق البودينج مثل صودا الخبز، كما لم يجد لديهم نوع سجائره المعتادة. وهكذا، فإن إحساسه بالإهانة وإساءة فهمه، بدلًا من الاستمتاع بالطعام والشراب، قد تزايد ليصبح سخطًا على العالم بشكل عام. ونظر بحزن من فوق زجاجته إلى زملائه ورفاقه، وهم يضحكون ويتحدثون فوق المفارش البيضاء الرديئة، وقد توقَّفوا مؤقتًا عن دردشتهم، غير معتادين على تقطيب جبينه، كي يستفزوه.
«ما الأمر، يا جامي؟ هل لديك التهاب في اللثة؟»
«كلا. إنه يتدرب على أن يصبح ديكتاتورًا. عليك أن تبدأ بتعبيرات وجهك.»
قال ثالث: «كلا، ليس عليك ذلك. عليك أن تبدأ بالشَّعر.»
«وحركة الذراع. الأذرع مهمة للغاية. انظر إلى نابليون. لم يكن ليصبح أكثر من مجرد عريف إذا لم يفكر في حركة وضع الذراع على الصدر. فكرة خلاقة، كما تعلم.»
«إذا كان جامي سينتهج نهج نابليون، فمن الأفضل ألَّا يفعل ذلك هنا، بل في المكتب. فأنا لا أعتقد أن المشهد سيكون لطيفًا إن فعل ذلك.»
تمنَّى جامي أن يذهبوا جميعًا إلى جهنم، وخرج ليبحث عن بائع تبغ لديه النوع الذي يفضله من السجائر. لماذا أرادت سكوتلاند يارد أن تنظر إلى الأمر على هذا النحو؟ الجميع يعلمون أن ما يكتبه المرء في صحيفة هو مجرد كلام مرسَل لا طائلَ من ورائه. إن لم يكن هراءً. إذا توقفت عن أن تكون دراميًّا بشأن الأشياء الصغيرة التافهة، فقد يبدأ الناس في الشك أنهم تافهون، ومن ثم سيتوقفون عن شراء الصحف. وأين سيصبح أقطاب الصحافة، وجامي، والكثير من المساهمين الأبرياء عندئذٍ؟ عليك أن تقدم المشاعر لكل أولئك الخامدين الذين يسعَون من أجل لقمة العيش والذين هم إمَّا مرهقون جدًّا أو أغبياء جدًّا لدرجة تمنعهم من أن يشعروا بأي شيء بأنفسهم. إذا لم تتمكن من تجميد الدماء في عروقهم، فيمكنك أن تكسِب تعاطفهم. كانت تلك القصة عن أيام كلاي المبكرة في المصنع خبرًا رائعًا؛ حتى لو كانت تلك السيدة ذات وجه الحصان قد خدعته حول معرفتها بكريس، لعنها الله. لكن لا يمكنك دائمًا الارتقاء إلى الإثارة أو التعاطف، وإذا كان هناك شعور واحد يحب الجمهور البريطاني أن ينغمس فيه فهو السخط على نحوٍ محق. لذا فقد قدم لهم هو، جامي، مادة لينغمسوا فيها. إن سكوتلاند يارد تعلم جيدًا أنه غدًا لن يتذكر كل هؤلاء الأشخاص الساخطين شيئًا عن الأمر، إذن فما المشكلة! ما الذي يثير غضبهم؟ إن عبارة «مطاردة الأبرياء حتى الموت» مجرد عبارة. عمليًّا هي صيغة مبتذلة. لا شيء في ذلك يجعل الشخص العاقل حسَّاسًا للغاية. إن إدارة سكوتلاند يارد تشعر برقة في الجلد تجعلها حساسة للغاية، هذا هو السبب. وهم يعلمون جيدًا أن هذا لم يكن ينبغي السماح بحدوثه. وبعيدًا عن أنه كان ينتقد عمل شخص آخر، فهو الآن يدرك تمامًا بعد أن فكر في الموضوع أن بعضًا مما ذكر في تلك المقالة كان صحيحًا من الناحية العملية. ليس «المطاردة حتى الموت» بالطبع. ولكن بعض الأجزاء الأخرى في المقالة. لقد كان ما حدث بالفعل شيئًا يرقى إلى أن يكون وصمة عار — أوه، حسنًا، وصمة عار كلمة قوية بعض الشيء؛ ولكنه أمر مؤسف، على أي حال، أن يحدث مثل هذا الشيء في جهة يعتقد أنها تتميز بالكفاءة. لقد كانوا متفوقين للغاية وبعيدين عن النقد عندما كانت الأوقات جيدة؛ لا يمكنهم توقع التعاطف عندما يرتكبون خطأً شنيعًا. الآن إذا سمحوا للصحافة بحرية الحصول على المعلومات، مثلما يفعلون في أمريكا، فإن أشياء من هذا القبيل ببساطة لن تحدث. قد يكون هو، جامي هوبكينز، مجرد مراسل جرائم، لكنه يعرف الكثير عن الجريمة والكشف عنها مثل أي ضابط شرطة. إذا منحه «رئيس التحرير» الإذن، ومنحته الشرطة حرية الحصول على المعلومات من ملفاتها، لتمكن من القبض على الرجل الذي قتل كلاي ووضعه داخل جدران السجن — ووضع أخباره على الصفحة الأولى، بالطبع — في غضون أسبوع. الخيال، هذا ما تحتاجه سكوتلاند يارد. وهو لديه الكثير منه. كل ما يحتاجه هو فرصة.
اشترى سجائره، وأفرغها وهو متجهم في العلبة الذهبية التي أهداها له زملاؤه في الجريدة المحلية عندما غادر إلى لندن (وجرى التهامس أن هذه الهدية السخية كانت تعبيرًا عن الامتنان لنقله أكثر من أنها كانت تعبيرًا عن الحب له)، وعاد إلى المكتب وهو متجهم أيضًا. في المدخل الأمامي الذي يشبه الكاتدرائية الحديثة لمقر صحيفة «كلاريون»، التقى بالشاب ماسكر، أحد المراسلين المبتدئين، وهو في طريقه للخروج. فأومأ له برأسه، ودون أن يتوقف ألقى إليه بالتحية التقليدية.
«إلى أين أنت ذاهب؟»
قال ماسكر بلا حماس كبير: «محاضرة عن النجوم.»
قال جامي مستنكرًا: «مثير جدًّا، علم الفلك.»
«ليس علم الفلك. علم قراءة الطالع.» كان الفتى يخرج من ظل المدخل إلى الشارع المضاء بنور الشمس. ثم تابع: «امرأة تُدعى بوب أو شيئًا من هذا القبيل.»
وقف جامي مشدوهًا في منتصف الطريق إلى باب المصعد. وقال: «أنت لا تقصد كيتس، أليس كذلك؟»
«هل هي كيتس؟» نظر ماسكر إلى البطاقة مرة أخرى. وتابع: «أجل، إنها كذلك. كنت أعلم أنه اسم أحد الشعراء. مهلًا، ما الأمر؟» حيث أمسكه جامي من ذراعه وسحبه إلى الرَّدهة مرة أخرى.
قال جامي، دافعًا إياه إلى المصعد: «الأمر هو أنك لن تحضر أيَّ محاضرة في علم قراءة الطالع.»
قال ماسكر المذهول: «حسنًا! شكرًا جزيلًا على هذا الإعفاء من المهمة، ولكن لماذا؟ هل لديك مأخذ على علم قراءة الطالع؟»
جره جامي إلى أحد المكاتب، وهاجم بكلامه السريع الرجل الأنيق الهادئ خلف المكتب.
قال الشخص الهادئ عندما تمكَّن من قول كلمة وسط كلمات جامي: «لكن يا جامي، لقد كانت مهمة بليك. كان هو الشخص المناسب لها: ألا يخبر العالم كل أسبوع في الصفحة ٦ بما سيحدث في الأيام السبعة المقبلة؟ إنه موضوعه: علم قراءة الطالع. ما لم يتوقعه هو أن زوجته ستضع طفلًا هذا الأسبوع بدلًا من الأسبوع التالي. لذلك أعفيته وأرسلت ماسكر بدلًا منه.»
قال جامي: «ماسكر! قل لي، ألا تعلم أن هذه هي المرأة التي تنبَّأت بوفاة كلاي؟ المرأة التي تتعامل معها صحيفة «كورير» لقراءة الطالع مقابل شلن في كل مرة؟»
«وماذا في ذلك؟»
«ماذا في ذلك! يا رجل، إنها مادة إخبارية!»
«إنها مادة إخبارية تخصُّ صحيفة «كورير». والأمر منتهٍ في هذا الخصوص. لقد رفضت قصة عنها بالأمس.»
«حسنًا، إذن، إن أمرها منتهٍ. لكن لا بدَّ أن الكثير من الأشخاص «المثيرين للاهتمام» مهتمون بها في هذه اللحظة. والشخص الأكثر اهتمامًا في هذا الجمع هو الرجل الذي جعل نبوءتها تتحقق! وأظن أنها ربما كانت مسئولة عن إعطائه الفكرة؛ هي ونبوءاتها. قد تكون كيتس منتهية، لكن ما يحيط بها ليس كذلك. ليس كذلك على الإطلاق.» ثم انحنى إلى الأمام وأخذ البطاقة التي كان الشاب ماسكر لا يزال ممسكًا بها. وتابع: «اعثر على شيء ليفعله هذا الشاب اللطيف بعد ظهر اليوم. إنه لا يحب قراءة الطالع. أراك لاحقًا.»
«ولكن ماذا عن تلك القصة بحق …»
«حسنًا، ستحصل على قصتك. وربما قصة أخرى في الصفقة!»
عندما أغلق جامي باب المصعد وبدأ يهبط لأسفل، قلب البطاقة في يده بإبهامه. قاعة إلويس هول! ليديا قادمة!
قال لعامل المصعد: «هل تعرف أفضل طريقة للنجاح، يا بيت؟»
قال بيت: «حسنًا، سأعرف منك.»
«اختر نوعًا جيدًا من الهراء.»
ابتسم بيت ابتسامة عريضة وقال: «أنت أدرى!» وتجاوزه جامي وهو يخطو عبر الأبواب. كان بيت يعرفه منذ … حسنًا، إن لم يكن منذ أيام طفولته، فعلى الأقل منذ أيام بدايته في عالم الصحافة.
تقع قاعة إلويس هول في ويجمور ستريت: منطقة جميلة؛ وقد كانت مسئولة إلى حدٍّ كبير عن نجاحها. كانت موسيقى الحجرة أكثر جاذبية عندما يمكن للمرء سماعها بينما يتناول الشاي في النادي الخاص به ويتفحص ذلك الفستان في متجر دبنهام للملابس. ولم تخمن المغنيات الممتلئات اللواتي شعرن بالإطراء عند الصمت الذي ساد أغنيتهم الكلاسيكية أن مستمعيهم يفكرون في معضلة اختيار نوع قماش الفساتين التي يرتدونها. إنه مكان صغير لطيف؛ صغير بما يكفي ليكون حميميًّا، وكبير بما يكفي لعدم الازدحام. وبينما يشق جامي طريقه إلى أحد المقاعد، لاحظ أن المكان مليء بالجمهور الأكثر أناقة الذي شاهده في أي تجمع منذ حفل زفاف بوشير-كرزون. لم يكن المجتمع «الراقي» حاضرًا بأعداد كبيرة فحسب، بل كان هناك أيضًا عناصر مؤثرة من ذوي الدم الأزرق الذين يسميهم جامي عادةً «دوقات أحدث صيحة»: من هؤلاء الأشخاص ذوي الأحذية الأنيقة، والأنوف الرومانية، والأصول العريقة الذين يعيشون على مكانتهم وليس على ذكائهم. وتناثر وسط الجمع، بالطبع، بعض غريبي الأطوار.
لم يأتِ غريبو الأطوار من أجل الإثارة، ولا لأن والدة ليديا هي الابنة الثالثة لماركيز فقد ثروته، ولكن لأن الأسد، والثور، والسرطان؛ هي حيوانات أليفة منزلية لديهم، منازل الأبراج هي موطنهم الروحي. لم يكن ثمة مشكلة في التعرف عليهم؛ فقد استقرت عيونهم الشاحبة على المسافة المتوسطة، وبدت ملابسهم وكأنها قد اشتُريت من متاجر بيع الملابس الرخيصة، وبدا أنهم جميعًا يرتدون نفس عِقد الخرز ذي الستة بنسات حول أعناقهم الرفيعة.
رفض جامي المقعد الذي خصص لمندوب صحيفة «كلاريون»، وأصرَّ على الحصول على مقعدٍ على الجانب الآخر من القاعة أسفل المنصة. وقد رُفض هذا المقعد، بدرجات متفاوتة من السخط، من قِبل كلٍّ من أولئك الذين جاءوا لرؤية ليديا وأولئك الذين جاءوا ليكونوا محط الأنظار. لكن جامي لم يكن ينتمي إلى أيٍّ من الفريقين. ما جاء جامي لرؤيته هو الجمهور. كما أن المقعد الذي توارى أغلبه وسط ديكورات يوفر أفضل رؤية للجمهور بعد الرؤية التي تستطيع المنصة نفسها توفيرها.
جلس بجانبه رجل ضئيل رث الثياب يبلغ نحو الخامسة والثلاثين، وقد نظر إلى جامي وهو يجلس، وبعد برهة مال إلى الأمام حتى أصبح فمه الشبيه بفم الأرنب على بُعد بوصةٍ واحدة من أذن جامي، ثم همس:
«امرأة رائعة!»
أخذ جامي هذه العبارة كإشارة إلى ليديا.
ووافق على ذلك بقوله: «رائعة. هل تعرفها؟»
تردَّد الرجل الرث الثياب (الذي صنفه عقل جامي، على أنه «غريب الأطوار»)، ثم قال: «كلا، لكنني عرفت كريستين كلاي.» وامتنع عن المزيد من الحديث مع وصول ليديا ومدير أعمالها على المنصة.
كانت ليديا في أفضل حالاتها متحدثة رديئة. وصوتها رفيع عالٍ، وعندما تصبح متحمسةً أو منفعلة، يصبح صوتها بشعًا مثل أسطوانة جراموفون قديمة جدًّا يجري تشغيلها على جراموفون رخيص جدًّا. سرعان ما تشتت انتباه جامي. لقد سمع ليديا تتحدث عن موضوعها المفضل كثيرًا. ومن ثم بدأت عيناه تقسم القاعة الصغيرة المزدحمة. لو أنه قد قتل كلاي، ولا يزال، بفضل عدم كفاءة الشرطة، طليقًا وغير مشتبه به، فهل سيأتي أو لا يأتي لرؤية المرأة التي تنبَّأت لكلاي بالنهاية التي جعلها هو حقيقة واقعة؟
قرَّر جامي أنه بشكل عام كان سيأتي. إن قاتل كلاي شخص بارع. هذا أمر معترف به. ولا بدَّ أنه الآن يهنئ نفسه بسبب براعته. وهو يفكر في مدى تفوُّق رجل من نوعيته على القواعد العادية التي تطوق البشر العاديين. فهذا هو الإطار الذهني المشترك بين الأشخاص الذين نفَّذوا جريمة قتل مخطط لها. لقد خططوا لشيءٍ ممنوع، وجعلوه حقيقة واقعة. وقد تسلل إلى رءوسهم مثل النبيذ. ونظروا حولهم بحثًا عن المزيد من «التحديات» لتحقيقه، مثلما يلعب الأطفال «آخر من يعبر الطريق.» وهذا، هذا التجمع التقليدي لأناس تقليديين في واحدة من أكثر المناطق التقليدية في لندن، هو «تحدٍّ» مثالي. في كل عقل داخل تلك القاعة كان التفكير في وفاة كريستين هو الأهم. لم يُذكر من المنصة طبعًا؛ إذ يجب حفظ المقامات. كانت المحاضرة مجرد محاضرة بسيطة في علم قراءة الطالع؛ تاريخه ومعناه. لكن كل هؤلاء الأشخاص — أو جُلهم — حضروا إلى هذا الاجتماع لأنه منذ ما يقرب من عام راودت ليديا تلك الخاطرة المحظوظة حول طريقة موت كريستين كلاي. كانت كريستين شخصية محورية في هذا الاجتماع، مثلها مثل ليديا نفسها؛ إذ كانت القاعة كلها تعجُّ بالتفكير فيها. أجل، سيعطي حضور هذا الاجتماع، للقاتل الافتراضي في عقل جامي، دفعةً كبيرة.
نظر إلى الجمهور الآن، وهو يباهي نفسه بالخيال الذي أوصله إلى حيث هو؛ الخيال الذي لا يمكن أن يطمح إليه جرانت، ذلك الغبي العزيز المسكين. تمنى لو كان قد اصطحب بارثولوميو معه. إذ إن بارت أكثر اطلاعًا منه على اهتمامات صفوة المجتمع. ومهمة بارت أن يصف ما تقع عليه عيناه، وفي أي مكان يحتاج «للوصف» — حفلات الزفاف، وسباق السيارات، وحفلات الإطلاق، أو غير ذلك — تظهر نفس الوجوه من الصفوة. كان من الممكن أن يصبح بارت مفيدًا.
لكن جامي كان يعرف ما يكفي من تلك الوجوه لإبقائه مهتمًّا.
قالت ليديا: «من ناحية أخرى، غالبًا ما يكون مواليد برج الجدي سوداويين، ومفتقدين للثقة في أنفسهم، وسيئي الطباع. وعلى مستوًى أقل، يتسمون بالكآبة والبخل والخداع.» لكن جامي لم يكن يستمع إليها. على أي حال، لم يكن يعرف أيًّا من الأبراج كان له شرف الاتفاق مع يوم ولادته، ولم يهتم. أخبرته ليديا عدة مرات أنه «كان من الناحية الافتراضية، الافتراضية فقط، من مواليد برج الحمل» لكنه لم يتذكر ذلك أبدًا. كل هذا هراء.
ها هي دوقة ترينت تجلس في الصف الثالث. تلك، المسكينة، السخيفة، البائسة، لديها حُجة غياب جيدة. كانت ستقيم مأدُبة غداء لكريستين؛ مأدبة غداء من شأنها أن تجعلها المضيفة الأكثر تعرضًا للحسد في لندن بدلًا من مجرد شخصية مملة غير معروفة؛ ورحلت كريستين وماتت وهي تحت رعايتها.
تجولت عينا جامي وتوقَّفت عند وجه داكن وسيم في الصف الرابع. مألوف جدًّا ذلك الوجه؛ مألوف مثل الصورة على عملة معدنية. لماذا؟ لم يكن يعرف الرجل؛ ويكاد يقسم أنه لم يره شخصيًّا قط.
ثم استطاع تذكره. إنه جين ليجون؛ الممثل الذي اختير ليمثل أمام كلاي في فيلمها الثالث والأخير في إنجلترا؛ ذلك الفيلم الذي لم تصوره قط. وقد ترددت شائعات بأن ليجون كان سعيدًا لأنه لن يُضطر أبدًا إلى تصوير ذلك الفيلم؛ إذ إن تألُّق كلاي عادةً يجعل الممثلين الرجال الذين يمثلون أمامها يبدون مثل شموع زهيدة الثمن؛ لكن هذا ليس سببًا وجيهًا للاستيقاظ عند الفجر وإمساك رأسها تحت الماء إلى أن تموت. لم يكن جامي مهتمًّا على نحوٍ كبير بليجون. بجواره مباشرة كانت تجلس لوحة أناقة باللونين الأبيض والأسود. مارتا هالارد. بالتأكيد. لقد أعطيت مارتا الدور الذي كان من المقرر أن تمثله كلاي. لم تكن مارتا من فئة كلاي، ولكن من المرجَّح أن يكون وقف الإنتاج مكلفًا للغاية، وكانت مارتا تتمتع بالطلة، والثقافة، والقدرة الكافية على التمثيل، والشخصية الكافية، وما أسماه كوين «الرقي.» لقد أصبحت الآن نجمة الفيلم أمام ليجون. أم أنه هو نجم الفيلم؟ سيصبح من الصعب تحديد أيهما هو «الممثل المساعد.» لم يكن أي منهما من نجوم الصف الأول. ونظرًا لكونهما متقاربين في المستوى سيتشاركان البطولة؛ لذا من المرجح أن تصبح شراكة أكثر نجاحًا بكثير مما كانت ستحققه شراكة كلاي وليجون. إنها خطوة للأمام — خطوة كبيرة لمارتا — وفرصة أكبر للتألق بالنسبة إلى ليجون. أجل، إن وفاة كريستين هي بمثابة ضربة حظ لكليهما.
سمع في ذهنه صوت فتاة تقول: «بالطبع، أنت قتلتها، بنفسك.» من قال ذلك؟ أجل، تلك الفتاة جودي التي تمثل دور الشقراء البلهاء. وقد قالت ذلك عن مارتا. في ليلة السبت تلك عندما التقى هو وجرانت عند باب شقة مارتا وحلَّا في ضيافتها. قالت جودي ذلك بنبرة متحدية متجهمة اعتادت على استخدامها في معظم أنشطتها الحياتية التافهة. وقد اعتبروا الأمر مزحة. ضحك شخص آخر ووافق، مقدمًا الدافع: «بالطبع! لقد أردت هذا الدور لنفسك!» وأخذ الحديث يتدفق في سطحية غير منقطعة.
حسنًا، إن الطموح أحد أكثر دوافع القتل شهرةً. لقد جاء، في أعلى القائمة، بالضبط بعد العاطفة والجشع. لكن مارتا هالارد كانت مارتا هالارد. والقتل بعيد كل البعد عن مثل هذه الشخصية المتكلفة الهشة المتصنعة. وتذكر الآن وهو يفكر في الأمر أنها حتى لم تمثل دور القاتلة بشكلٍ جيد على المسرح. كانت دائمًا تبدو وكأنها تقول في داخل عقلها، «مرهِقةٌ للغاية، كل هذه الجدية.» إذا لم تعتقد أن القتل أمر يفتقد إلى روح الدعابة والتسلية، فستعتقده بلا شك من أفعال الرعاع. كلا، يمكنه تخيُّل أن تكون مارتا قتيلة، ولكن ليس قاتلة.
والآن أصبح جامي يدرك أن مارتا لا تولي ليديا أيَّ اهتمام على الإطلاق. إذ إن كل اهتمامها — وهو اهتمام راسخ وصادق — كان منصبًّا على شخص ما يجلس إلى اليمين في الصف الأمامي. تتبعت عينا جامي الخط المنقط التخيلي على امتداد نظرتها لتقع، بدهشة بعض الشيء، على رجل ضئيل غير مميز الشكل. لم يُصدِّق ما رآه، فتتبع الخط المنقط التخيلي مرة أخرى. لكنها كانت حقًّا تركز بصرها على ذلك الرجل الضئيل ذي الوجه المستدير الذي يعلو وجهَه تعبيرُ النعاس. الآن ما الذي يمكن أن يثير اهتمام مارتا هالارد في شخص بهذا الشكل العادي، بعيد كل البعد عن الإثارة …
ثم تذكر جامي من هو ذلك الرجل الضئيل. إنه جيسون هارمر، كاتب الأغاني. أحد أصدقاء كريستين المقربين. «مصدر البهجة» بالنسبة إلى مارتا. وإذا كان حكم المرأة سيُقبل، فهو أي شيء بخلاف أنه غير مثير. في الواقع، هذا هو الرجل الذي كان يشاع أنه عشيق كريستين كلاي. أطلق عقل جامي ما يعادل صافرة طويلة ومنخفضة. حسنًا، حسنًا، إذن هذا هو جاي هارمر. لم يسبق له أن رآه إلا على أغلفة أسطوانات الأغاني حتى الآن. إن لدى النساء ذوقًا غريبًا، بكل تأكيد.
كان هارمر يستمع إلى ليديا باهتمام طفولي وهو منشغل تمامًا بما تقول. تساءل جامي كيف يمكن لأي شخص أن يظل غير مدرك لشعاع الاهتمام المركز الذي توجهه مارتا هالارد إليه. كان يجلس هناك، هادئًا قصير العنق، بينما تحملق عينا مارتا اللامعتان إلى جانب رأسه. الكثير من الهراء يثار حول جَعْلِ الناس يلتفتون بمجرد النظر إليهم. وما هو سبب اهتمام مارتا السري، على أي حال؟ لأنه سري بالفعل. أخفت حافة قبعتها عينيها عن مرافقها، وقد اعتبرت على نحو مُسلَّم به أن عيون الجميع تركز على من تُلقِي المحاضرة. وبينما هي غير مدركة أن هناك من يراقبها، تركت عينيها مركزتين على هارمر. فلماذا؟
هل هو اهتمام نابع من «الحب» … وإذا كان الأمر كذلك، فما مقدار هذا الحب؟ أم أنها، على الرغم من مرافقتها له في تلك الليلة في شقتها، كانت ترى جيسون هارمر قاتلًا محتملًا؟
راقبهما جامي لمدة خمس عشرة دقيقة تقريبًا، بينما امتلأ عقله بالتكهنات. مرارًا وتَكرارًا، كانت عيناه تجوبان القاعة الصغيرة المزدحمة وتعودان إليهما. كان هناك الكثير من الاهتمام في أماكن أخرى، ولكن لم يكن اهتمامًا مثل هذا.
لقد تذكر دحض مارتا الفوري للإيحاء بوجود أكثر من صداقة بين هارمر وكريستين كلاي. ماذا يعني ذلك؟ هل كانت مهتمة به هي نفسها؟ وإلى أي مدى؟ ما مدى اهتمام مارتا هالارد؟ هل هو اهتمام يكفي للتخلص من منافسة؟
وجد نفسه يتساءل عما إذا كانت مارتا سبَّاحة ماهرة، ثم كبح جماح نفسه. قبل خمسة عشر دقيقة كان قد ضحك على فكرة أن تكون مارتا شغوفة بشخص ما لدرجة القتل. الفكرة ذاتها كانت سخيفة.
ولكن كان ذلك قبل أن يلاحظ اهتمامها — اهتمامها الطاغي الغريب — بجيسون. إذا افترضنا — افترضنا فحسب؛ لتمضية الوقت بينما تشق تلك المرأة طريقها الممل عبر الكواكب وتعود مرة أخرى — أن مارتا كانت مغرمة بهذا الرجل هارمر. هذا جعل كريستين منافسة مزدوجة لها، أليس كذلك؟ كانت كريستين في المكانة التي تطمح مارتا، على الرغم من الصورة التي يراها بها الجميع من السطحية واللامبالاة، إلى الوصول إليها؛ أن تعتلي قمة سُلم الشهرة. في كثيرٍ من الأحيان كانت مارتا على مشارف أن تصل إلى تلك القمة، لكن درجة السلم التي تقف عليها كانت تهوي بها إلى القاع مرة أخرى. بالتأكيد، وبدون أدنى شك، أرادت مارتا النجاح المهني. وبالتأكيد، على الرغم من كل كلماتها الرقيقة، كانت تشعر بالضغينة المرة تجاه عاملة المصنع الصغيرة من ميدلاندز، بسبب إنجازها المذهل، الذي يبدو سهلًا للغاية. قبل خمس سنوات، كانت مارتا قريبة جدًّا من المكان الذي تقف فيه الآن؛ كانت مشهورة، وناجحة، ومستقرة ماديًّا، وعلى مشارف الوصول إلى قمة السلم — تلك القمة المراوغة المسببة للدوار — قاب قوسين أو أدنى من تلك القمة. كانت قاب قوسين أو أدنى لمدة خمس سنوات. وفي غضون ذلك، كان ثمة راقصة مغمورة تغني وترقص وتمثل في مسرحية موسيقية في برودواي وتشق طريقها نحو القداسة.
لا عجب إن كانت كلمات مارتا الرقيقة عن كريستين هي مجرد نفاق. وإذا افترضنا أن كريستين لم تحصل فقط على المكانة التي كانت مارتا تتوق إليها، ولكن أيضًا على الرجل الذي ترغب فيه؟ ماذا إذن؟ هل كان ذلك كافيًا لجعل مارتا هالارد تكره لدرجة القتل؟
أين كانت مارتا عندما حدثت جريمة إغراق كريستين؟ في ميدان جروفنر، حسبما يفترض. في نهاية الأمر، كانت تمثل في ذلك العرض في سانت جيمس. كلا، مهلًا! في حفلة ليلة السبت تلك قيل شيء عن سفرها؟ ماذا كان؟ ماذا كان؟ لقد قالت شيئًا عن الممثلات المجتهدات، وقد سخر كليمنت كليمنتس قائلًا: «مجتهدات بالفعل. وقد أخذت لتوك أسبوعًا إجازة لتتجولي في أنحاء أوروبا!» فقالت: «ليس أسبوعًا يا كليمنت! إنها أربعة أيام فقط. من الممكن أن تؤدي الممثلة بعمود فقري مكسور، ولكنها لن تستطيع التمثيل أبدًا وهي مصابة بخراج في اللثة.»
فقال كليمنت إن خراج اللثة لم يمنعها من قضاء وقت رائع في دوفيل. وقالت: «ليس دوفيل. بل لو توكيه.»
لو توكيه. هذا هو المكان حيث كانت. وقد عادت في الوقت المناسب لتلحق بالحفل المبكر يوم السبت. لقد تحدثوا عن الاستقبال الذي حظيت به، وحجم «المنزل»، وغضب بديلتها. لقد عادت بعد أربعة أيام في لو توكيه! كانت في لو توكيه، على الجانب الآخر من القناة، عندما تُوفيت كريستين.
كانت ليديا تقول: «لو أن الآباء يدرسون الأبراج الخاصة بأطفالهم فقط بنفس الاجتهاد الذي يستخدمونه لدراسة وجباتهم الغذائية»، بصوت عالٍ مثل عصفور، ومثير للإعجاب، وتابعت: «سيصبح العالم مكانًا أكثر سعادة.»
ابتهج عقل جامي كما لو كان يقول: «لو توكيه! لو توكيه!» الآن استطاع التوصل إلى خيط ما! لم تكن مارتا هالارد على مقربة فقط من كريستين في ذلك الصباح القاتل، ولكن «كانت لديها الوسائل اللازمة لقطع المسافة بسهولة». لقد فتحت لو توكيه أبواب ذاكرته. كليمنتس ومارتا وجامي في تلك الزاوية البعيدة بجانب خزانة المشروبات، وهي تجيب عن أسئلة كليمنتس التافهة. لقد ذهبت إلى هناك، على ما يبدو، مع شخص في طائرة خاصة، وعادت بالطريقة نفسها. وكانت الطائرة برمائية!
في ذلك الصباح المليء بالضباب، هبطت طائرة إمَّا على المنحدرات أو على البحر، وبقيت قليلًا، ثم طارت مرة أخرى دون أن يلاحظها أحد سوى سباحة وحيدة. كان جامي على يقين من ذلك لدرجة أنه يمكنه رؤية الطائرة تظهر من وسط الضباب مثل طائر عملاق وتهبط على الماء.
من قاد تلك الطائرة؟ ليس هارمر. لم يكن هارمر خارج إنجلترا. وهذا هو سبب اهتمام الشرطة به. كان هارمر في قلب الحدث. كان لديه حُجة غياب من نوع ما، لكن جامي لا يعرف ما إذا كانت جيدة أم لا. فالشرطة متكتمة للغاية. حسنًا، لقد كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى شيء لم تتمكن الشرطة من الوصول إليه، على الرغم من الكفاءة التي يتفاخرون بها. إن مارتا صديقة لجرانت: لذا كان من الطبيعي أن يغضَّ الطرف عنها: فهو لم يرها أبدًا تنظر إلى هارمر، كما يراها جامي الآن؛ ولم يكن يعرف شيئًا عن تلك الطائرة، يمكن لجامي أن يُقسم على ذلك. وقد أحدثت الطائرة كل الفرق.
وإذا كانت قضية طائرة، فإذن هناك اثنان مشاركان في الأمر. والطيار، إن لم يكن شريكًا في الجريمة، فهو بالتأكيد قد ساعد على ارتكابها.
عند هذه النقطة توقَّف عقل جامي عن التخيل لالتقاط الأنفاس. ونظر بدهشة عبر الصفوف الصامتة الأنيقة إلى المرأة الأنيقة ذات الرداء الأسود والأبيض. ما علاقة تلك المرأة اللطيفة الحاضرة هنا بالشخص الذي تخيله عقله؟ هذه هي مارتا هالارد الحقيقية، بذاتها المتأنقة، الكريمة، الهادئة. كيف سمح لعقله أن يجعل منها شيئًا مشوَّهًا ويائسًا لهذه الدرجة؟
لكنها كانت لا تزال تنظر بين الحين والآخر إلى جيسون، وتستقر عيناها عليه لفترة أطول مما تنظر فيها نحو ليديا. وكان هناك شيء ما في ذلك الوجه غير الحذر يربط مارتا الحقيقية بمارتا الغامضة التي ابتكرها خياله. أيًّا كانت حقيقة مارتا، فهي قادرة في نهاية الأمر على امتلاك مشاعر قوية.
تناهى إلى مسامع جامي صوت مثل صوت قطرات المطر قاطعًا حبل أفكاره؛ تصفيقة رقيقة من يديها ذواتي القفازين. يبدو أن ليديا قد وصلت إلى ختام المحاضرة. تنهَّد جامي بسعادة وتناول قبعته. أراد الخروج في الهواء والتفكير في خطوته التالية. لم يشعر بمثل هذا الحماس الشديد منذ أن قدَّم له العجوز ويلينجدون القصة الحصرية لكيفية وسبب ضرب زوجته حتى سال دمها.
ولكن يبدو أنه سيصبح هناك وقت للأسئلة. كانت الآنسة كيتس، وهي ترتشف الماء وتبتسم بلطف بين الرشفات، تنتظر الجمهور كي يستجمع أفكاره. ثم بدأ شخص جريء، وبعد برهة راحت الأسئلة تنهمر عليها. كان البعض مسليًا؛ ومن ثم راح الجمهور، الذي سئم هواء القاعة الدافئ، وصوت ليديا والمحاضرة المملة، يضحك ببساطة في ارتياح. بعد فترة قصيرة، أصبحت الأسئلة أكثر حميمية، ثم فجأة — ومن المحتم أن نصف الجمهور كان يتوقع ذلك — جاء السؤال:
هل صحيح أن الآنسة كيتس قد تنبَّأت بدقة بطريقة موت كريستين كلاي؟
ساد صمت مصدوم ومتلهف. فقالت ليديا، ببساطة وبوقار أكبر مما تمتلكه عادةً، إن هذا صحيح، وإنها غالبًا ما تتنبأ بالمستقبل على نحوٍ صحيح من خلال قراءة الأبراج. وأعطت بعض الأمثلة.
شجعت الحميمية المتزايدة للأجواء، على أن يسألها أحدهم عمَّا إذا كانت قدرتها على استشراف المستقبل قد ساعدتها في قراءة الأبراج. فانتظرت طويلًا قبل أن تجيب حتى حل السكون على الرءوس والأيدي المتحركة؛ وراقبتها عيون الجمهور بترقب.
قالت بعد فترة: «أجل. أجل. إنها ليست مسألة أحب مناقشتها. ولكن هناك أوقات عرفت فيها، بما يتجاوز المنطق، أن شيئًا كهذا سيحدث.» توقفت للحظة، كما لو كانت في شك، ثم خطت ثلاث خطوات للأمام إلى حافة المنصة باندفاع، حتى بدا أنها كانت تنوي السَّير على الهواء. «وهناك شيء واحد عرفته منذ صعودي على هذه المنصة. هذا الشيء هو أن قاتل كريستين كلاي موجود هنا في هذه القاعة.»
يقال إن تسعة وتسعين شخصًا من بين مائة، عندما يتلقَّون برقية تقول: «لقد اكتُشِف كل شيء: اهرب»، سيخطفون فرشاة أسنان ويهرعون للمرأب. كانت كلمات ليديا غير متوقعة تمامًا، ومعناها عندما تُستَوعب مُرعب للغاية، ولذا سادت لحظة من الصمت التام. ثم بدأت حالة من الاضطراب، وكأنها اللحظة الأولى لإعصار عاصف يجتاح النخيل. وفوق الضوضاء المتصاعدة، تعالت أصوات الكراسي وهي تُدفع بعيدًا عن الطريق وكأنها صرخات بشرية مدوية. وكلما دفعت جانبًا، زادت الفوضى وزاد قلق الهاربين كي يصلوا إلى الباب. لم يكن أحد من الحشد يعرف ما الذي يهرب منه. بدأ الأمر مع معظمهم كرغبة في الهروب من وضع متوتر؛ فهم جميعًا ينتمون إلى فئة من الناس تكره «الحرج.» لكن صعوبة الوصول إلى الباب عبر الكراسي المتناثرة والحشد المزدحم زاد من رغبتهم الطبيعية في الهروب، إلى ما يشبه الذعر.
كان مدير أعمالها يقول شيئًا من المفترض أن يصبح مطمئنًّا، للتغلب على الموقف؛ لكنه لم يُسمع على الإطلاق. وذهب شخص ما إلى ليديا، وسمعها جامي تقول:
«ما الذي جعلني أقول ذلك؟ أوه، ما الذي جعلني أقول ذلك؟»
وتقدَّم إلى الأمام ليصعد على المنصة، ووخزته حاسة الصحفي بداخله بحدس وقوع شيء ما. ولكن عندما وضع يده على حافة المنصة ليرتقيها، تعرَّف على مرافق ليديا. إنه ذلك الرجل من صحيفة «كورير». وتذكر أنها عمليًّا ملكية خاصة لصحيفة «كورير». لقد كان احتمال حصوله على حديث معها واحدًا إلى مليون، ووفق هذا الاحتمال، لم يكن الأمر يستحق العناء. كان هناك تصرُّف أفضل، على أية حال. عندما أدلت ليديا بهذا التصريح المذهل، استدار جامي، بعد أن استعاد رباطة جأشه متغلبًا على دهشته، ليرى كيف تلقَّى شخصان محددان تلك الصدمة.
شحب وجه مارتا للغاية، وظهرت على وجهها أمارات الغضب. كانت واحدة من أوائل الذين وقفوا على أقدامهم، وتحركت فجأة لدرجة أن ليجون باغتته المفاجأة واضطُر إلى محاولة التقاط قبعته بصعوبة من تحت كعبيها. واتجهت نحو الباب دون أن تُلقيَ نظرةً ثانية على المنصة أو على ليديا، ولكن بما أنها كانت جالسةً في الصفوف الأمامية فقد أصبحت محتجزة في منتصف الطريق عبر القاعة، حيث أصبح الارتباك أسوأ بسبب شخص يعاني من هستيريا عنيفة.
من ناحية أخرى، لم يتحرك جيسون هارمر قيد أنملة. لقد استمر في النظر إلى ليديا بنفس الاهتمام المبتهج أثناء وبعد إعلانها المذهل مثلما كان ينظر إليها من قبل. لم يقم بأي تحرُّك كي ينهض حتى بدأ الناس يتجاوزونه. ثم قام بهدوء، وساعد امرأة على تسلق كرسي يسد طريقها، وربت على جيبه ليؤكد لنفسه أن شيئًا ما موجود بداخله (قفازاته على الأرجح)، ثم التفت إلى الباب.
استغرق الأمر من جامي عدة دقائق من التزاحم للوصول إلى مارتا، التي حشرت في فجوة بين مِشعاعَين.
قالت بشراسة: «الحمقى السخفاء!»، عندما ذكَّرها جامي بشخصيته. ونظرت، مع افتقارها إلى وقارها المعهود، نحو الحشد.
«سيكون الأمر ألطف لو فصل بينهم مكان الأوركسترا، أليس كذلك؟»
تذكرت مارتا أن هؤلاء هم جمهورها، ورآها تستجمع شتات نفسها على نحوٍ عفوي. لكنها كانت لا تزال «حانقةً» وَفقًا لجامي.
قال ليحثها على الكلام: «أمر مذهل.» ثم فسَّر قوله: «الآنسة كيتس.»
«إنه عرض مثير للاشمئزاز تمامًا!»
قال جامي في حَيرة: «مثير للاشمئزاز؟»
«لماذا لا تمارس الأكروبات في شارع ستراند؟»
«هل تظنين أن هذه مجرد حيلة دعائية؟»
«ماذا تسميها أنت؟ علامة من السماء؟»
«لكنك قلت بنفسك، يا آنسة هالارد، في تلك الليلة التي تلطفت فيها بالحديث معي، إنها ليست دجالة. وإنها حقًّا …»
«بالطبع هي ليست دجالة! لقد جاءت ببعض قراءات الأبراج المذهلة. لكن هذا أمر مختلف تمامًا عن اكتشاف القتلة مقابل بنس واحد في المرة.» ثم قالت بعد وقفة وبنبرة تحمل غلًّا واضحًا: «إن لم تحترس ليديا، فسينتهي بها الأمر مثل إيمي ماكفرسون!»
خطر ببال جامي أن هذا لم يكن التصريح الذي توقع أن تصرِّح به مارتا. لم يكن يعرف ما الذي يتوقعه. لكن بطريقة ما لم يكن هذا. خلال الوقفة التي فرضها شكه، قالت بنبرة حاسمة جديدة:
«هذه ليست على الإطلاق، مقابلة صحفية، أليس كذلك يا سيد هوبكينز؟ لأنها إذا كانت كذلك، فمن فضلك افهم بوضوح أنني لم أقل شيئًا من هذه الأشياء.»
فقال: «حسنًا، يا آنسة هالارد، أنتِ لم تقولي كلمة واحدة.» وأضاف مبتسمًا: «ما لم تسألني الشرطة، بالطبع.»
قالت: «لا أعتقد أن علاقة الشرطة بك ودية. والآن، إذا تلطفت بالتحرك قليلًا إلى يسارك، أعتقد أنه يمكنني تجاوزك إلى تلك المساحة هناك.»
أومأت إليه، وابتسمت قليلًا، ودفعت بشخصها المعطر وتجاوزته إلى موضع أفضل، وابتلعها الحشد.
قال جامي لنفسه: «ليس هناك أي تغيير!» وبدأ في العودة آسفًا إلى حيث رأى جيسون هارمر آخر مرة. سبَّته الأرامل ورمقته الآنسات بنظرات غاضبة، لكن جامي أمضى نصف حياته في اجتياز الحشود. وهو يستطيع القيام بذلك بمنتهى المهارة.
«وما رأيك فيما حدث، يا سيد هارمر؟»
نظر إليه جيسون في صمتٍ مبتهج. ثم قال أخيرًا: «بكم؟»
«بكم ماذا؟»
«بكم ستقيِّم كلماتي الذهبية؟»
«نسخة مجانية من الصحيفة.»
ضحك جيسون، ثم أصبح وجهه رصينًا. وقال: «حسنًا، أعتقد أنني قد استفدت للغاية من هذه المحاضرة. هل تؤمن بعلم النجوم؟»
«لا أستطيع القول إنني أفعل.»
«أما أنا، فلست متأكدًا. هناك الكثير من الأمور التي تحدث في العالم ويفسرها هذا العلم، أيًّا كانت هذه الأمور. لقد رأيت بعض الأشياء العجيبة تحدث في القرية التي وُلدت فيها. أشياء تتعلق بالسحر وما إلى ذلك. ولم يكن لها تفسير بالأسباب الطبيعية. وهذا يجعلك تتساءل.»
«أين كان هذا؟»
جفل جيسون لأول مرة بعد ظهر ذلك اليوم. وقال باقتضاب: «شرق أوروبا.» واستطرد: «إن الآنسة كيتس تلك، مدهشة. لكن ليس من المريح أن تتزوج من امرأة مثلها. كلا، يا سيدي! إن معرفتك بما سيحدث لا بدَّ أن تفسد فرصك في الزواج ولو قليلًا. ألا تقول شيئًا مما كان يحدث. لكل رجل الحق في سرد أعذاره وحجج غيابه.»
تساءل جامي في سخط، عما إذا كان أحد سيتصرف على النحو المتوقع منه في هذا اليوم! ربما إذا شق طريقه نحو ليديا، فستتصرف هي على الأقل وفقًا للنمط الذي حدده لها.
تابع آملًا أن يحصل على إجابة مُرضية: «هل تعتقد أن الآنسة كيتس كانت تشعر على نحوٍ حقيقي بوجود الشر حولها عندما أدلت بهذا التصريح؟»
بدا جيسون متفاجئًا بعض الشيء وقال: «بالتأكيد، بالتأكيد. فأنت لا تجعل من نفسك أضحوكة بهذه الطريقة إلا إذا كنت مستنفرًا للغاية.»
«لقد لاحظت أنك لم تُفاجأ بالتصريح.»
«لقد عشت في الولايات المتحدة لمدة خمسة عشر عامًا. لم يَعُد هناك شيء يفاجئني. هل سبق ورأيت ممارسي الرقص المقدس من البروتستانت؟ هل سبق ورأيت مدينة كوني آيلاند للملاهي؟ هل سبق ورأيت متشردًا يحاول بيع منجم ذهب؟ اذهب إلى الغرب، أيها الشاب، اذهب إلى الغرب!»
قال جامي: «أنا ذاهب إلى المنزل للنوم»، وشق طريقه وسط الحشد.
ولكن عندما وصل إلى المدخل، تمالك نفسه قليلًا. وعدل ياقته وانتظر لرؤية الحشد يتجاوزه. بمجرد خروج الحشد من الباب الداخلي، وتنفس الهواء الآمن لشارع ويجمور، تجاوزوا مشاعر الخوف التي اعترتهم وانفجروا جميعًا في الحديث بانفعال.
لكن جامي لم يستخلص إلا القليل من أحاديثهم المسترسلة.
ثم رأى من بينهم وجهًا جعله يتوقف. وجه وسيم ذو رموش خفيفة ومظهر كلب تيرير لطيف. كان يعرف ذلك الرجل. إن اسمه سانجر. وكانت آخر مرة رآه فيها وهو يجلس على مكتب في سكوتلاند يارد.
إذن يمتلك جرانت القليل من الخيال في نهاية الأمر!
وضع جامي قبعته بمقت وخرج وهو يفكر فيما حدث.