الفصل الثالث والعشرون
تمكَّن جرانت من ارتداء حذائه (من خلال تركيز تفكيره في شيءٍ آخر، وهي الطريقة التي تعلَّمها في طفولته لتخطي اللحظات المؤلمة)، ولكن بعد خطوتين أو ثلاث خطوات خلعه مرة أخرى بسرعة، وعاد من حيث جاء وهو يعرج: مرتديًا الجوارب فقط. لم يكن من السهل أن يجد طريق عودته، لكن كانت لديه قدرة ممتازة على تحديد موقعه (يقال في سكوتلاند يارد إنه إذا عصبتَ عينَي جرانت ولففت به حتى يصاب بالدوار، فهو لا يزال يعرف أين يقع اتجاه الشمال) وكان الاتجاه العام واضحًا بما يكفي له. ومن ثم وقف في مدخل على الجانب الآخر من الشارع وانتظر شرطي الدورية حتى يمر، بدلًا من أن يسأله عن الاتجاه ويعرفه بنفسه. إذ لا يوجد فرد في المباحث الجنائية يحب الظهور أمام شرطي ريفي وحذاؤه في يديه.
وعندما عاد في الساعة السادسة كتب رسالة يطلب فيها من ويليامز الاتصال هاتفيًّا بسكوتلاند يارد ويسأل عن أي معلومات قد تكون لديهم حول طائفة أو أخوية أو أيًّا كان، يطلق عليها شجرة لبنان، وأن يوقظه عندما يأتي الجواب. ثم سقط في الفراش، ونام دون أن تراوده أي أحلام، وجوازات السفر تحت وسادته حتى اتصل به ويليامز قبل الساعة العاشرة تمامًا.
فقال جرانت بينما يفتح عينيه: «هل هناك أي أخبار عن تيسدول؟»
لكن لم يكن هناك أخبار.
قالت سكوتلاند يارد إن أخوية شجرة لبنان قد أسَّسها عازب ثري في عام ١٨٦٢، من أجل تعزيز الحياة الرهبانية، بعد أن كان يُعرف آنذاك بأن حبيبته قد هجرته. لقد كان هو نفسه أول رئيس للأخوية، وقد استخدم كل ثروته لتأسيسها. كانت قاعدة الفقر صارمة للغاية، حيث تستخدم الأموال فقط للأعمال الخيرية التي يوافق عليها رئيس الأخوية الحالي، لذلك حتى تلك اللحظة، تتمتع الأخوية بسمعة امتلاك الكثير من الأموال المخبَّأة. ويُرشَّح الرئيس من قِبل سلفه، ولكن يمكن أن يُخلع الرئيس ويحل آخر محله في أي لحظة من خلال التصويت بالإجماع للأخوة.
شرب جرانت القهوة السيئة التي قدَّمها النُّزُل، وتدارس الأمور. وقال: «هذا ما يريده هربرت: أن يصبح رئيس الأخوية. لقد استطاع أن يخدع الرئيس الحالي. من المذهل أن يكون رجل مثل رئيس الأخوية الحالي على هذا القدر من الحماقة. ولكن مهلًا! فكر في الحمقى الذين قد عرفناهم، يا ويليامز.»
قال ويليامز ببلاغة: «أنا أفكر يا سيدي.»
«كل هؤلاء الرجال المخضرمين من أصحاب الشركات الضخمة الذين سقطوا في فخ النصب بسبب بضع كلمات معسولة من رجل نصاب في بهو فندق! وبالطبع فإن موهبة هربرت في الإقناع ليست عادية. ربما استغل كنائسه في أمريكا لجذب انتباه رئيس الأخوية. على أي حال، إنه الفتى المفضَّل لدى الرئيس في الوقت الحالي. مع احتمال استيلائه على ثروة إذا لعب أوراقَه بشكل صحيح خلال الأسابيع القليلة المقبلة. لا عجب أنه كان خائفًا من انكشاف أمره. أراد أن يعرف كم تركت له أخته، دون تهديد مكانته لدى الأخوية. إذا كانت قد تركت له ما يكفي لجعل الأمر يستحق وقته، فسيتخلى عن الحياة الرهبانية. لا يمكنني أن أظن أنها تروقه كثيرًا. حتى مع الزيارات العرضية للفيلا.»
«كم من الوقت تعتقد أنه سيبقى على أي حال، يا سيدي؟»
«حتى ينقل ما يكفي من النقود إلى أعماله الخيرية الخاصة. أوه، حسنًا، هذه»، وأشار إلى جوازات السفر، وتابع: «ستكون كافيةً لإعداد لائحة اتهام صغيرة لطيفة، كي نتمكن من وضعه تحت أيدينا عندما نريده. إن الشيء الذي يحبطني، يا ويليامز، هو أين جريمة القتل وسط كل هذا؟ لا أعني أنه لم يرتكبها. ليس لديَّ شك في أنه كان يقضي إجازته لمدة ٢٤ ساعة في وقت ارتكاب الجريمة. ولكن لماذا ارتكبها؟ لقد جاء إلى إنجلترا عندما سمع أنها قادمة. أعتقد، من خلال الحكم على ملابس امرأته، أنه من المحتمل كان مُفلسًا عند وصوله. ولهذا السبب انضم إلى شجرة لبنان. ولكن لا بدَّ أن احتمالات الاستفادة من أموال الأخوية قد خطرت له بعد فترة وجيزة من انضمامه إليها. فلماذا يقتل أخته؟»
«ذهب لرؤيتها وتعارك معها. إن الساعة الغريبة التي حيرتنا جميعًا ستصبح طبيعية تمامًا بالنسبة إليه. فالساعة السادسة صباحًا ستصبح معتادة بالنسبة إليه كوقت الغداء.»
«أجل، هذا صحيح. سأعرف الآن من الأب القس ما إذا كان الأخ ألويسيوس قد خرج من الدير قبل أسبوعين. لقد كان الأب القس متعاليًا للغاية بالأمس، لكنه سيتحدث عندما يرى صورة الشخص المفضل لديه على جوازات السفر هذه.»
لكن الأب القس لم يكن يستقبل الزوار. حيث أظهرت الفتحة الصغيرة الوجه الفظ للبواب، الذي ألقى رسالته الصارمة ردًّا على جميع أسئلة جرانت، سواء كانت العبارة ذات صلة أم لا. لقد استغل هربرت موهبته في الإقناع. ثم أُغلقت الفتحة، وتُرك جرانت عاجزًا في الممر الصغير. لم يكن هناك حل لدخول المكان إلا بأمر قضائي. فابتعد ببطء، بينما لا تزال قدماه تؤلمانه؛ وقد أعجب بقدرة هربرت على إعاقته وتعطيله عن عمله، وصعِد إلى سيارته. أجل، كان من الأفضل له الحصول على أمر قضائي.
عاد إلى النُّزُل من أجل بيجامته وشفرة الحلاقة وفرشاة أسنانه (لم يكن لديه نية لقضاء ليلة أخرى هناك)، وبينما يترك رسالة إلى ويليامز النائم، استدعي لتلقي مكالمة عبر الهاتف من سكوتلاند يارد.
هل سيذهب إلى دوفر؟ الرجل هناك يريده. يبدو أن شيئًا ما قد ظهر.
فغير الرسالة إلى ويليامز، وألقى بأشيائه في السيارة، ووجد وقتًا للتساؤل عن سبب قيامه بمنح بقشيش سخي للمرأة السليطة القذرة رغم إهمالها، والطعام المثير للاشمئزاز، والطهي السيئ، ثم انطلق إلى دوفر.
لقد حدث شيء. هذا يمكن أن يعنيَ فقط تشينس. شيء خارج عن المألوف. إذا كانوا قد اكتشفوا المكان الذي قضى فيه تشينس الليل فحسب، لأبلغوه عبر الهاتف بالطريقة العادية. ولكن … حدث شيء.
كان ريميل، المحقق المُفوَّض — وهو فتًى لطيف ذو مظهر كئيب، أكثر ما يميزه هو اختلافه عن المفهوم الشائع للمحقق — ينتظر جرانت عند باب قسم الشرطة، فسحبه جرانت إلى السيارة. وقال ريميل إنه، بعد بحث شاق، اكتشف رجلًا عجوزًا يُدعى سيرل، وهو بحَّار متقاعد، كان عائدًا إلى المنزل من حفل خطوبة حفيدته عند نحو الساعة الثانية عشرة والنصف في ليلة الأربعاء — أو على وجه الدقة صباح الخميس. كان بمفرده، لأن قلة قليلة من الناس يعيشون في طريق المرفأ في الوقت الحاضر. كانت لديهم أفكار وعاشوا أعلى التل في فيلات رخيصة ضعيفة الأساس من تلك التي تخشى العطس فيها. وقد توقَّف لمدة دقيقة أو دقيقتين عندما وصل إلى مستوى سطح البحر، لينظر إلى المرفأ. فهو ما زال يشعر بالرضا عند النظر إلى أضواء المراكب في الليل. لقد بدأ الضباب في الانتشار، لكن لا يزال المشهد واضحًا بما يكفي لرؤية الخطوط العريضة لكل شيء. كان يعلم أن يخت بترونيل قادم — حيث رآه من خلال نظارته المُعظِّمة قبل أن يذهب إلى الحفل — ولذا بحث عنه الآن، ورآه راسيًا، ليس عند الرصيف، ولكن في الماء وقد أنزل المرساة. وبينما هو يشاهد، خرج زورق صغير بمحرك من جانب اليخت واتجه نحو الشاطئ، وسار ببطء مصدرًا صوتًا هادئًا كما لو كان حريصًا على عدم لفت الانتباه إليه. وبينما يلامس درجات الرصيف، تحرك رجل خارجًا من الظل على رصيف الميناء. وظهر شخص آخر طويل القامة عرفه سيرل على أنه اللورد إدوارد (إذ كان قد رآه كثيرًا، كما أنه عمِل ذات مرة على متن يخت سابق لأخيه) من الزورق، وقال: «أهذا أنت يا هارمر؟» فقال الرجل الضئيل: «هذا أنا» ثم قال اللورد إدوارد بصوتٍ منخفض: «هل الجمارك على ما يرام؟»، «لا توجد مشكلة على الإطلاق»، ونزلا معًا في الزورق وانطلقا. ونزل الضباب بسرعة بعد ذلك، وأعاق الرؤية في الميناء. وبعد نحو خمس عشرة دقيقة ذهب سيرل في طريقه. ولكن أثناء سيره عبر الشارع، سمع زورقًا بمحرك يغادر بترونيل. لم يكن يعرف ما إذا كان يتجه إلى الشاطئ أو يخرج من الميناء. وهو لم يظن في ذلك الوقت أن هناك أي أهمية لتلك الواقعة.
قال جرانت: «يا إلهي! لا أستطيع أن أصدق ذلك. ليس هناك … ليس هناك أي شيء في كل هذا العالم يجمع ما بين هذين الرجلين.» (أضاف عقله الباطن قبل أن يتمكن من إيقافه: باستثناء امرأة.) «إنهما لا يتلاقيان في أي نقاط مشتركة. ومع ذلك فهما حليفان.» جلس صامتًا قليلًا. ثم قال: «أحسنت، يا ريميل. عمل جيد. سأذهب لتناول الغداء وأفكر في الأمر.»
«حسنًا، يا سيدي. هل لي أن أقدم لك نصيحة ودية، يا سيدي؟»
«إذا كان لا بدَّ من ذلك. إنها عادة سيئة في المرءوسين.»
«لا تتناول قهوة سوداء، يا سيدي. أتوقع أنك قد تناولت أربعة فناجين على الإفطار ولا شيء غيرها.»
ضحك جرانت. وقال، وهو يدير مفتاح السيارة: «ولماذا تقلق أنت؟ كلما زاد الانهيار العصبي، زادت سرعة الحصول على الترقية.»
«أكره أن أنفق المال على أكاليل الزهور، يا سيدي.»
لكن جرانت لم يبتسم بينما يقود سيارته في طريقه لتناول الغداء. إن زوج كريستين كلاي وعشيقها المشهور قد قاما بمهمة مشتركة في منتصف الليل معًا. وكان ذلك غريبًا للغاية. ولكن أن يصبح لإدوارد تشينس، الابن الخامس لدوق بود السابع، والعضو الحسن السمعة رغم أنه غير تقليدي في طبقته، تعاملات سرية مع جيسون هارمر، الذي نشأ في زقاق تين بان، فهذا بالتأكيد أكثر غرابة. ما هو الرابط المشترك؟ ليس القتل. رفض جرانت التفكير في أن يجتمع الاثنان في أي شيء متطرف مثل القتل. ربما أراد أحدهما أو الآخر قتلها، ولكن أن يشتركا معًا في ذلك الأمر فهذا أمر لا يمكن تصوُّره. قال سيرل إن الزورق قد غادر بترونيل مرة أخرى. لنفترض أن واحدًا منهما فقط كان على متنه؟ إن المسافة قصيرة بمحاذاة الساحل شمالًا نحو شاطئ جاب في ويستوفر؛ وقد وصل هارمر إلى كوخ كلاي بعد ساعتين من وفاتها. كان إغراق كلاي من زورق بمحرك هو الطريقة المثالية. جيدة مثل نظريته حول مصدات الأمواج، إذ سيكون الهروب أسرع وأسهل. كلما فكَّر في الزورق ذي المحرك، زاد شغفه بالطريقة التي استخدم بها. لقد فحصوا القوارب الموجودة في المنطقة المجاورة كإجراء روتيني وقت التحقيق الأول؛ لكن الزورق ذا المحرك له نطاق إبحار واسع. لكن … أوه، حسنًا، فقط «لكن»! كانت النظرية رائعة. هل يمكن للمرء أن يتخيل جيسون يقول: «أقرضتني زورقك وسأغرق زوجتك»، أو يقترح تشينس: «سأقرضك الزورق إذا كنت ستؤدي المهمة.» لقد التقى هذان الشخصان لسبب آخر تمامًا. إذا كان القتل قد نتج عن ذلك، إذن فلم يكن مخططًا له، بل حدث بالمصادفة.
إذن ما الذي تقابلا من أجله؟ قال هارمر شيئًا عن الجمارك. كانت أول تحية له. لقد كان قلقًا حيال ذلك. هل كان هارمر مدمن مخدرات؟
هناك شيئان ضد ذلك. لم يَبدُ هارمر كمدمن. ولم يكن تشينس ليقدم هذه الأشياء أبدًا. قد تكون المخاطرة هي نفس الحياة بالنسبة إليه، لكن هذا النوع من المخاطر سيصبح بالتأكيد بعيدًا.
إذن، ما الذي يجب أن يُحفظ بعيدًا عن أعين الجمارك؟ التبغ؟ الجواهر؟ لقد أظهر تشينس لجورج مير، في صباح اليوم التالي، الأحجار الكريمة التي أحضرها لكريستين.
كان هناك شيء واحد ضد كل ذلك. قد ينحدر إدوارد تشينس إلى جريمة التهريب، من أجل المرح، مجرد القليل من الإثارة؛ لكن جرانت لم يستطع تقبُّل فكرة أنه يُهرِّب لصالح جاي هارمر. إنه أمر محير للغاية لا يستطيع التوقف عن التفكير فيه. ما هو الأمر المشترك بين هذين الرجلين؟ بينهما شيءٌ ما. أثبتت مقابلتهما ذلك. ولكن ماذا؟ لقد كانا، على حد علم أي شخص، مجرد معارف. ولا حتى ذلك. يكاد يكون من المؤكد أن تشينس قد غادر إنجلترا قبل وصول هارمر، ولم تكن كريستين تعرف هارمر قبل أن يعملا معًا في هذه الأفلام الإنجليزية.
لم تتدفق أي عصارات هضمية في القناة الهضمية لجرانت أثناء ذلك الغداء؛ كان ذهنه يعمل مثل المحرك. كانت البازلاء الخضراء والطِّحال من السوء بحيث كان من الأفضل إلقاؤهما في سلة مهملات الطباخ. بحلول الوقت الذي وصلت فيه القهوة لم يكن قريبًا من الحل. تمنى لو أنه واحد من هذه المخلوقات الرائعة ذات الحدس الفائق والحكم الصائب الذين يزينون صفحات القصص البوليسية، وليس مجرد مفتش محقق مجتهد حسن نية ذي ذكاء عادي. كان الحل من وجهة نظره هو مقابلة أحد هذين الرجلين. ومن الواضح أن الأفضل له أن يقابل هارمر. لماذا؟ أوه، لأنه سيتحدث بسهولة أكبر. أوه، أجل، حسنًا، ولأن فرصة الوقوع في المشاكل ستكون أقل! ماذا كان معنى وجود شخص بداخلك يفحص دوافعك لكل ما فعلته أو فكرت فيه!
امتنع عن تناول فنجان قهوته الثاني، مبتسمًا لتذكر ريميل الغائب. ولد لطيف. سيصبح محققًا جيدًا في يومٍ ما.
أجرى مكالمة هاتفية إلى ديفونشير هاوس، وسأل عمَّا إذا كان السيد هارمر يمكنه مقابلة ألان جرانت (لا داعي للإعلان عن مهنته) هذا المساء بين موعد الشاي والعشاء.
قيل له إن السيد هارمر ليس في لندن. حيث ذهب لمقابلة ليني بريمهوفر، النجمة الأوروبية، التي تقيم في وايتكليف. فهو يكتب أغنيةً لها. كلا، لم يكن من المتوقع أن يعود في تلك الليلة. إن العنوان هو تول هاتش، وايتكليف، ورقم الهاتف هو ٣٠٢٥ في وايتكليف.
اتصل جرانت برقم ٣٠٢٥ في وايتكليف، وسأل متى يمكن للسيد هارمر مقابلته. كان هارمر في الريف مع الآنسة بريمهوفر ولن يعود قبل العشاء.
إن وايتكليف هي امتداد لويستوفر: مجموعة من الفيلات البلوتوقراطية تقع على الجُرف بعيدًا عن صرخات المتنزهين وصفحات الصحف المتطايرة. كانت لا تزال لدى جرانت غرفة في فندق مارين، وهكذا ذهب إلى ويستوفر، وهناك انضم إليه ويليامز. كل ما يمكنه فعله الآن هو انتظار أمر قضائي من سكوتلاند يارد وزيارة من هارمر.
كان وقت الكوكتيل عندما وصل هارمر.
«هل قررت دعوتي على العشاء، أيها المفتش؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فقل هذا، ودعني أنا أدعوك للعشاء على حسابي، من فضلك؛ إن لدي روح رياضية. ساعة أخرى مع تلك المرأة وسأفقد عقلي. سأتحول إلى مختل. إلى مجنون. لقد عرفت العديد من النجوم طَوال مسيرتي، لكن يا للعجب! إنها أسوأ من عرفت. قد يظن المرء أنها نظرًا للغتها الإنجليزية الركيكة قد تتوقف عن الكلام بين الحين والآخر لتفكر قليلًا. لكن لا! إنها تثرثر بلا توقف، وتستخدم كلمات من الألمانية والفرنسية هنا وهناك كي تجعل كلامها يبدو لطيفًا. أيها النادل! ماذا ستطلب، أيها المفتش؟ ألن تشرب؟ أوه، هيا! كلا؟ هذا سيئ للغاية. مشروب جن مختلط لفرد واحد، أيها النادل. لست بحاجة إلى أن تُقلع عن الشراب بخصر كهذا، أيها المفتش. لا تقل إنك ممنوع من الشرب بسبب إدانة سابقة!»
رفض جرانت المشاركة في تناول المشروبات.
ومن ثم أصبح هارمر جادًّا ونظر بانتباه إلى جرانت، وقال: «حسنًا، ما الأخبار؟ لديك أخبار، أليس كذلك؟ هل ظهر شيء حقيقي؟»
«أردتُ فقط معرفة ما كنت تفعله في دوفر في ليلة الأربعاء تلك؟»
«في دوفر؟»
«ليلة الأربعاء منذ أسبوعين.»
«هل هذه مزحة من شخصٍ ما يحاول تضليلك؟»
«اسمع، يا سيد هارمر، إن افتقارك إلى الصراحة يعقد كلَّ شيء. إنه يمنعنا من القبض على الرجل الذي قتل كريستين كلاي. إن خيوط القضية كلها متشابكة. عليك أن تُفصِح بصراحة عن تحركاتك ليلة الأربعاء تلك، وعندئذٍ يمكن التخلص من نصف الأجزاء والقطع غير ذات الصلة التي تثقل القضية وإلقاؤها بعيدًا. لا يمكننا رؤية الإطار العام في وجود كل تلك الأجزاء التي تغطيه. أنت تريد مساعدتنا في القبض على القاتل، أليس كذلك؟ حسنًا، أثبت ذلك!»
«أنا معجب بك كثيرًا، أيها المفتش. لم أظنَّ أبدًا أنني قد أُعجب برجل شرطة لهذه الدرجة. لكنني أخبرتك بالفعل؛ لقد ضللت طريقي أثناء البحث عن كوخ كريس، ونمت في السيارة.»
«وإذا أحضرت شهودًا لإثبات أنك كنت في دوفر بعد منتصف الليل؟»
«ما زلت مصرًّا على أني قد نمت في السيارة.»
ظلَّ جرانت صامتًا، ومحبطًا. الآن سيُضطر أن يذهب إلى تشينس.
راقبته عينا هارمر البنيتان الضيقتان بشيء من القلق والاهتمام.
«أنت لا تنام بالقدر الكافي هذه الأيام، أيها المفتش. وتتجه نحو الانهيار. غيِّر رأيك وتناول مشروبًا. إنه أمر رائع كيف يضع الشراب الأشياء في نصابها.»
قال جرانت غاضبًا: «إذا لم تصرَّ على أقوالك بأنك قد نمت في السيارة، كانت ستصبح لديَّ فرصة أفضل للنوم في سريري»، وغادر المكان بطريقة أقل كياسةً من المعتاد.
لقد أراد الوصول إلى تشينس قبل أن يتاح لجيسون هارمر الوقت لإخباره أن جرانت كان يُجري تحريات. وأفضل طريقة للقيام بذلك هي الاتصال هاتفيًّا بتشينس ومطالبته بالمجيء إلى ويستوفر. وأن يعرض عليه إرسال سيارة شرطة له في الحال. وإذا لزم الأمر، يستمر في الحديث مع هارمر حتى يغادر تشينس المدينة.
لكن تشينس قد غادر المدينة بالفعل. كان في إدنبرة يُلقي كلمة أمام تجمُّع رفيع حول «مستقبل جاليريا».
هذا حسم الأمر. قبل أن يتمكن أي شخص من الوصول إليه بوقتٍ طويل، كان هارمر سيتواصل معه إمَّا عن طريق البرقية أو الهاتف. فطلب جرانت أن تراقب وسيلتي الاتصال، ثم عاد إلى المطعم ليجد جيسون لا يزال جالسًا يتناول شرابه.
«أعلم أني لا أعجبك، أيها المفتش، ولكن بكل صدق أمام الله، أنا معجب بك، وبكل صدق تلك المرأة مروعة. هل تظن أنه يمكنك بطريقة ما نسيان أنك محقق مشهور وأني مشتبه به حقير، ونأكل معًا في نهاية الأمر؟»
ابتسم جرانت، رغمًا عنه. إذ ليس لديه أي اعتراضات.
ابتسم جيسون أيضًا، بثقة قليلًا وقال: «ولكن إذا كنت تعتقد أنه بحلول نهاية العشاء سأغير أقوالي بأني نمت في تلك السيارة، فلا تخدع نفسك.»
استمتع جرانت بتلك الوجبة، رغمًا عنه. كانت لعبة جيدة؛ محاولة حصار جيسون كي يُدلي بنوعٍ من الاعتراف. وكان الطعام جيدًا. وكان جيسون مسليًا.
جاءت رسالة أخرى عبر الهاتف تقول إن اللورد إدوارد سيعود على متن أول قطار في الصباح، وسيكون في لندن قبل وقت الشاي. ويمكن أن يتوقع جرانت وصول الأمر القضائي الخاص بجوتوبيد في أول رسالة بريدية في الصباح.
لذلك ذهب جرانت للنوم في فندق مارين، متوترًا ولكن ليس إلى حد الانتحار؛ على الأقل أصبح لديه برنامج عمل للغد. نام جيسون أيضًا في فندق مارين، بعد أن أعلن عدم قدرته على مواجهة ليني مرة أخرى في ذلك اليوم.