الفصل الرابع
ولكن أجري التحقيق أولًا. وخلاله، بدأ يظهر أول تحريك خافت لإثارة أكبر بكثير. كان جامي هوبكينز هو من لاحظ الرجفة التي اعترت السطح الساكن. لقد حصَل على لقبه «جامي» بسبب صياحه وهو سعيد «جام! جام!» وتعني بالعربية «مربى» عند ظهور قصة جيدة أمامه، وتأمله الفلسفي في أوقات الركود هو «تستطيع أن تصنع خبرًا جيدًا من أي شيء.» وكان لدى هوبكينز حاسة ممتازة تجاه الأخبار الجيدة؛ ولذا توقَّف فجأة وسط تحليل الباحثين عن الإثارة الذين تزدحم بهم قاعة قرية كنت الصغيرة لصالح بارثولوميو. وتوقَّف جامدًا ومحدقًا. لأنه، بين القبعات الطويلة لاثنين من صحفيي الإثارة اللامعين، استطاع رؤية وجه رجل هادئ كان أكثر إثارة من أي شيء في ذلك المبنى.
سأل بارت: «هل رأيت شيئًا؟»
«أتسألني هل رأيت شيئًا؟!» انسل هوبكينز من بين الحشد، بمجرد أن جلس المحقق وطلَب من الحضور الصمت. فهمس: «حافظ على مكاني»، واختفى خارج المبنى. ثم دخله مرة أخرى من الباب الخلفي، وشق طريقه بخبرة إلى المكان الذي يريده، وجلس. فأدار الرجل رأسه لرؤية هذا المتطفل.
فقال هوبكينز: «صباح الخير، أيها المفتش.»
بدا على المفتش الاشمئزاز.
قال هوبكينز، بصوت عميق: «لم أكن لأفعل ذلك إذا لم أكن بحاجة إلى المال.»
نقر المحقق مرة أخرى طلبًا للصمت، لكن وجه المفتش استرخى.
وبعد بُرهة، وتحت غطاء صخب وصول بوتيكاري للإدلاء بشهادته، قال هوبكينز: «ماذا تفعل سكوتلاند يارد هنا، أيها المفتش؟»
«تراقب.»
«فهمت. مجرد دراسة التحقيقات كمؤسسة. هل هناك ركود في الجرائم هذه الأيام؟» ونظرًا لأن المفتش لم يُظهر أي علامة على الرغبة في الاسترسال، قال هوبكينز: «أوه، كن رقيق القلب، أيها المفتش. ما الذي تحمله خبايا هذه القضية؟ هل هناك شيء مريب في موتها؟ شكوك، أليس كذلك؟ إذا كنت لا تريد التحدث للنشر فسأضع ما ستقوله في بئر بلا قرار.»
«أنت حقًّا كالقرادة.»
«أوه، حسنًا، انظر إلى الجلود التي يجب أن أخترقها!» لم يُسفر هذا إلا عن ابتسامة ولا شيء غير ذلك. فقال هوبكينز: «اسمعني أيها المحقق. فقط قل لي شيئًا واحدًا. هل سيؤجل هذا التحقيق؟»
«لن أتفاجأ إن حدث هذا.»
قال هوبكينز، نصف ساخر ونصف جاد، وهو يشقُّ طريقه مرة أخرى: «شكرًا لك. هذا يخبرني بكل شيء.» ثم أشار إلى ألبرت ابن السيدة بيتس عبر الحائط حيث يتعلق بالنافذة مثل الحلزون، وأقنعه بأن الحصول على شلنين أفضل من المنظر الجزئي للإجراءات المملة، وأرسله إلى ليدلستون ببرقية جعلت مقر صحيفة «كلاريون» يضج بالحركة. ثم عاد إلى بارت.
وقال من زاوية فمه كإجابة على إيماءة من حاجب بارت: «هناك خطبٌ ما.» وتابع: «إن شرطة سكوتلاند يارد هنا. ذلك هو جرانت خلف القبعة القرمزية. والتحقيق سوف يؤجل. هل خمنت القاتل؟»
قال بارت، وقد تفحَّص الجمع: «ليس هنا.»
قال جامي موافقًا: «بالفعل.» وأضاف: «من هو الرجل الذي يرتدي ملابس خفيفة؟»
«إنه عشيقها.»
«لقد ظننت أن عشيقها هو جاي هارمر.»
«إنه القديم. وهذا هو الجديد.»
«هل هي جريمة قتل بسبب الحب؟»
«أراهن على ذلك.»
«من المفترض أنها باردة المشاعر، أليس كذلك؟»
«أجل، هكذا يقولون. لقد خدعتهم، على ما يبدو. وهو سبب جيد بما يكفي لارتكاب جريمة، حسبما أظن.»
كانت الأدلة من النوع المنهجي — العثور على الجثة وتحديد هويتها — وبمجرد فحصها من قِبل الطبيب الشرعي انتهت الإجراءات، ولم يحدد موعد لاستكمالها.
وقد قرَّر هوبكينز، نظرًا لأن موت كلاي لم يكن نتيجةَ حادث، كما يبدو، ولأن سكوتلاند يارد لم تُلقِ القبضَ على أحدٍ حتى الآن، أن الشخص الذي يجب التحدث معه هو بلا شك ذلك الرجل الذي يرتدي ملابس خفيفة. إنه تيسدول، هذا هو اسمه. قال بارت إن كل صحفي في إنجلترا قد حاول إجراء مقابلة معه في الأيام السابقة (وكان هوبكينز عندئذٍ يتابع قضية القتل التي استخدم فيها قضيب إذكاء النار) لكنه كان فظًّا معهم للغاية. حيث نعتهم بألفاظ مثل غيلان، ومتوحشين، وفئران وصفات أخرى ليس من المستحب ذكرها، ويبدو أنه ليس لديه وعي بمكانة الصحافة. إذ لم يَعُد أحد يعامل الصحافة بهذه الوقاحة — على الأقل دون أن يمر الأمر دون عقاب.
لكن هوبكينز لديه إيمان قوي بقدرته على اجتذاب العقل البشري.
ومن ثم سأل بلا مبالاة: «هل أنت السيد تيسدول؟» بعد أن «وجد» نفسه يسير بجانب الشاب في طريق خروجهما نحو باب القاعة وسط الحشد المزدحم.
تجهَّم وجهُ الرجل وبدَت عليه العدائية على الفور.
وقال بعدوانية: «أجل، إنه أنا.»
«هل أنت ابن أخي العجوز توم تيسدول؟»
فصفا وجهه بسرعة.
«أجل، هل تعرف العم توم؟»
قال هوبكينز: «بعض الشيء»، ولم يرتبك للحظةٍ بعد اكتشاف أن هناك بالفعل شخصًا يُدعى توم تيسدول.
«يبدو أنك تعلم أني قد تخليت عن ستاناواي؟»
قال هوبكينز: «أجل، لقد أخبرني أحدهم»، بينما يتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان ستاناواي هو منزل، أم ماذا؟ ثم أضاف: «ماذا ستفعل الآن؟»
وبوصولهم عند باب القاعة، كان هوبكينز قد وطَّد بالفعل علاقته بالشاب. «هل يمكنني توصيلك بالسيارة إلى أي مكان؟ لمَ لا تأتي لتناول الغداء معي؟»
وبمنتهى السهولة! خلال نصف ساعة سيحصل على سبق صحفي للنشر على الصفحة الأولى. وهذا هو الطفل الذي قالوا إن التعامل معه صعب للغاية! لا، ليس هناك أيُّ شك في الأمر: جيمس بروك هوبكينز، هو أفضل صحفي في مجاله.
وجاءه صوت جرانت المبهج من فوق كتفه وهو يقول: «أنا آسف، يا سيد هوبكينز.» وتابع: «لا أودُّ أن أُفسد حفلتك، لكن السيد تيسدول لديه موعد معي.» ونظرًا لأن تيسدول كشف عن دهشته وهوبكينز سارع بالتخمين، فقد أضاف جرانت: «نحن نأمُل أن يستطيع مساعدتنا.»
شرَع تيسدول يقول: «أنا لا أفهم.» فسارع هوبكينز بخبث مبتهج، بعد أن أدرك أن تيسدول لا يعرف هُويَّة السيد جرانت.
وقال: «هذا هو المفتش جرانت. إنه من سكوتلاند يارد.» وتابع: «وهو الرجل الذي استطاع أن يكشف غموض جميع الجرائم التي تولَّى التحقيق فيها.»
قال جرانت: «أتمنى أن تتولى أنت كتابة النعي الخاص بي.»
قال الصحفي بحماس: «أتمنى ذلك!»
وبعد ذلك انتبها إلى تيسدول. كان وجهه شاحبًا، وجافًّا كما لو أنه قد أصبح عجوزًا وخاليًا من أي تعبير. ولم يدلَّ على أنه ما زال على قيد الحياة سوى نبضه الذي يدقُّ بقوة على صُدغه. فوقف الصحفي والمفتش وهما ينظران بدهشة على رد الفعل غير المتوقع لما قاله هوبكينز. وسارع جرانت بمساندة ذراعه، حينما لاحظ أن ركبتَي الرجل بدأتا في الارتخاء.
«تفضل! تعالَ واجلس. إن سيارتي على مقربة من هنا.»
ومن ثم دفع تيسدول برفق وبدا كما لو أن العمى قد أصابه، وسارا وسط الجماهير البطيئة المثرثرة، حتى وصلا إلى سيارة مفتوحة سوداء اللون فأجلسه في المقعد الخلفي.
وقال للسائق: «ويستوفر»، ثم جلس بجانب تيسدول.
وبينما يتحركون ببطء باتجاه الطريق الرئيسي، رأى جرانت هوبكينز وهو لا يزال واقفًا حيث تركاه. إن وقوف جامي هوبكينز دون أن يحرك ساكنًا لمدة تزيد على ثلاث دقائق متصلة يدل على أنه مستغرق في التفكير العميق. فمن الآن فصاعدًا — تنهَّد المفتش — سيتحول صحفي الإثارة إلي محقق في الجرائم.
وقد أصبح لدى المفتش، أيضًا، ما يشغل تفكيره. فقد استدعي في الليلة الماضية من قبل شرطة المقاطعة التي لا ترغب في الظهور بمظهرٍ سخيف نتيجة تضخيم الأمور، لكنها وجدت نفسها غير قادرة على التفسير بشكل مُرضٍ لعقبة صغيرة ومحيرة للغاية تعترض مسار القضية. لقد رأوا جميعًا تلك العقبة، من مدير الأمن وحتى السيرجنت الذي تولَّى المسئولية عند الشاطئ، ولم يقتنع كلٌّ منهم بنظريات الآخرين، ثم اتفقوا جميعًا في النهاية على أمرٍ واحد فقط؛ أنهم يريدون إلقاء المسئولية على كاهل شخص آخر. يصبح من الجيد التمسُّك بالقضية، والتفاخر بحلها، حينما تكون بسيطة ويمكن حلها بسهولة. ولكن أن يقرروا بدمٍ بارد الإعلان عن وجود جريمة، بناءً على أدلة مشكوك فيها كتلك المطروحة أمامهم على الطاولة، وأن يخاطروا، ليس فقط بخزي الفشل، ولكن الأسوأ بوخزات السخرية، هو أمر لا يملكون الشجاعة لفعله. ومن ثَم ألغى جرانت حجزه لتلك الليلة في مسرح كرايتيريون وسافر إلى ويستوفر. وقد فحص هذه العقبة، واستمع بصبر إلى نظريات رجال الشرطة هناك، وباحترام إلى أقوال الطبيب الشرعي، ثم ذهب لينام خلال بعض الساعات المتبقية من الليلة بعد أن قرَّر أنه من الضروري استجواب روبرت تيسدول. والآن ها هو تيسدول، يجلس بجانبه، وما زال غير قادر على التحدث وهو يعاني من شبه إغماءة بسبب مواجهته دون سابق إنذار من قبل مفتش في سكوتلاند يارد. بالتأكيد هناك قضية، ليس هناك شك في ذلك. حسنًا، ليس من الممكن إجراء استجواب في وجود كورك الذي يقود السيارة؛ لذا يمكن ترك تيسدول حتى يتمالك نفسه إلى أن يعودوا إلى ويستوفر. فأخذ جرانت زجاجة مشروب صغيرة من جيب مقعد السيارة وقدَّمها له. أخذها تيسدول وهو يرتجف لكنه شربها عن آخرها. وبعد فترة اعتذر على هذا الوهن الذي اعتراه.
«أنا لا أعرف ما الذي اعتراني. لقد تسببَت هذه القضية في صدمة قوية لي. لم أكن أنام. وظلِلت أشغل ذهني بالتفكير في الأمور على نحوٍ متواصل. أو على وجه الدقة، ظل ذهني يفعل ذلك؛ لا أستطيع إيقافه. وبعد ذلك، بدا خلال التحقيق … إن جاز لي التعبير، هل هناك خطبٌ ما؟ أعني، ألم يكن الحادث عبارة عن حادث غرق بسيط؟ لماذا أجَّلوا إنهاء التحقيق؟»
«هناك أمرٌ أو أمران وجدتهما الشرطة محيرَين.»
«مثل ماذا، على سبيل المثال؟»
«أعتقد أننا لن نناقشهما إلى أن نصل إلى ويستوفر.»
«هل أي شيء سأقوله قد يُتخذ دليلًا ضدي؟» كانت الابتسامة ساخرة لكن النية طيبة.
قال المفتش على نحوٍ لطيف: «لقد أخذت الكلمات من على لساني»، ثم ساد الصمت بينهما.
وبعد وصولهما إلى مكتب مدير الأمن في مقر شرطة المقاطعة، بدا تيسدول طبيعيًّا وإن كان قلقًا بعض الشيء. وفي الواقع، لقد بدا طبيعيًّا للغاية لدرجة أنه حينما قال جرانت: «هذا هو السيد تيسدول»، كاد مدير الأمن، وهو رجل ودود ما لم يستفزه أحد، أن يصافحه، لكنه تراجعَ عن ذلك، قبل أن يرتكب أي خطأ.
وقال وهو يتنحنح ليمنح نفسه الوقت الكافي: «تشرفنا. إحم إحم!» إنه لا يستطيع فعل ذلك، بالطبع. يا إلهي، كلا. هذا الرجل مشتبه به في ارتكاب جريمة قتل. لا يبدو عليه ذلك، كلا، يكاد يجزم بأنه لم يفعل. لكن لا يمكن الجزم بشيء في هذه الأيام. إن أكثر الناس جاذبية هم … حسنًا، إنها أمور لم يكن يعرف أنها موجودة إلَّا من وقت قريب. أمر مؤسف للغاية. لكن لا يمكنه مصافحته، بالطبع. كلا، بالقطع كلا. «إحم إحم! صباح لطيف! لكنه لا يصلح للتسابق، بالطبع. يسير بصعوبة. لكنه جيد لمحبي الإجازات. لا يجب أن نُصبح أنانيين بخصوص ما يبهجنا. هل أنت من محبي التسابق؟ هل تذهب إلى جودوود؟ أوه، حسنًا، ربما … كلا. حسنًا، أظن أنك و… وصديقنا هنا …» بطريقة ما لا يرغب المرء في أن يقلل من حقيقة تميز جرانت كمفتش. رجل ذو مظهرٍ حسن. حسن التربية، وكل ذلك — ثم أضاف من أجل مصلحة جرانت، في حالة ما إذا أراده المفتش: «هل تود التحدث في هدوء. أنا ذاهب لتناول الغداء. في مطعم شيب.» وتابع: «ليس لأن الطعام جيد للغاية هناك، لكن لأنه مطعم محترم. ليس مثل تلك المطاعم في الميناء. أود الحصول على قطعة من اللحم مع البطاطس من دون الذَّهاب إلى المطاعم المشمسة.» وبعد ذلك خرج مدير الأمن من الغرفة.
قال تيسدول: «إنه مثل الممثل فريدي لويد.»
نظر جرانت نحوه بتقدير بينما يسحب كرسيًّا للأمام.
«أنت من محبي المسرح.»
«لقد كنتُ من محبي أغلب الأشياء.»
ركز ذهن جرانت على غرابة العبارة. وسأل: «لماذا «كنت»؟»
«لأني مفلس. والمرء يلزمه المال حتى يتمكن من مشاهدة ما يحب.»
«أنت لن تنسى عبارة «كل ما ستقوله سيُتخذ دليلًا ضدك»، أليس كذلك؟»
«أجل، شكرًا، لكن هذا لا يصنع أيَّ فارق. يمكنني فقط أن أخبرك بالحقيقة. إذا أخذت أي استنتاجات خاطئة منها فهي غلطتك أنت، وليست غلطتي.»
«إذن أنا من يُجري استجوابه. نقطة لطيفة. أنا أقدرها. حسنًا، جربني. أريد أن أعرف كيف كنت تعيش في نفس المنزل مع امرأة لا تعرف اسمها؟ أنت قلت هذا لشرطة المقاطعة، أليس كذلك؟»
«بلى. أظن أن الأمر يبدو غير معقول. وسخيفًا، أيضًا. لكنه بسيط للغاية. اسمع، لقد كنت أقف على الرصيف المقابل لملهى جايتي في إحدى الليالي، في وقت متأخر للغاية، وأنا أتساءل ماذا عساني أن أفعل. لم يكن معي في جيبي سوى خمسة بنسات، وهو ما يعتبر مبلغًا زائدًا بمقدار خمسة بنسات عما أريد، لأني كنت أهدف إلى إنفاق كل ما معي. وتساءلت ما إذا كان عليَّ أن أقوم بجولة أخيرة وأنفق الخمسة بنسات (ليس هناك الكثير ليفعله المرء بخمسة بنسات) أم أتغاضى عن ذلك، وأنسى أمر البنسات القليلة. ومن ثم …»
«لحظة واحدة. هل يمكنك التوضيح لشخص غبي ما هي أهمية تلك البنسات الخمسة؟»
«لقد كانت آخر ما تبقى لي من ثروة، كما ترى. ثلاثون ألفًا. ورثتها عن خالي. أخو أمي. إن اسم عائلتي الحقيقي هو ستاناواي، لكن خالي توم طلب مني أن أحصل على اسم عائلته مع المال. فلم أرَ مانعًا. فعائلة تيسدول أفضل بكثير من عائلة ستاناواي، على أي حال. من حيث القوة والثقل وكل ذلك. إذا كنت أحمل اسم عائلة تيسدول فلم أكن لأصبح مفلسًا الآن، لكنني أحمل اسم عائلة ستاناواي؛ ولذا أنا مفلس تقريبًا. لقد كنت أحمق للغاية، وشخصًا مزعجًا تمامًا. كنت أعمل في مكتب مهندس معماري عندما ورثت المال، وأسكن في شقة صغيرة تفي بالغرض؛ وطرأ على ذهني أنني سأحصل على ما بدا أنه أكثر مما يمكن أن أنفقه طَوال حياتي. فتركت وظيفتي وسافرت لزيارة كل الأماكن التي طالما رغبت في زيارتها، ولم يكن لديَّ أمل في تحقيق ذلك. نيويورك وهوليوود وبودابست وروما وكابري والكثير من الأماكن الأخرى. وعدت إلى لندن ومعي نحو ألفين من الجنيهات، وأنا أنوي أن أدخرها في البنك وأحصل على وظيفة. كان من السهل فِعلُ ذلك قبل عامين — أقصد ادخار المال. إذ لم يكن لديَّ حينها أصدقاء يستحثونني كي أُنفقها عليهم. لكن خلال هذين العامين كنت قد تعرفت على الكثير من الأصدقاء حول العالم، ودائمًا ما كان يوجد الكثير منهم في لندن في الوقت نفسه. وهكذا استيقظت ذات صباح لأجد معي آخر مائة جنيه. وقد سبَّب لي ذلك صدمةً إلى حدٍّ ما. كما لو أن أحدًا قد صبَّ عليَّ ماءً باردًا. فجلست أفكر لأول مرة منذ سنتين. فوجدت أن لديَّ الاختيار بين أحد أمرين: الحياة على نفقة الآخرين — يمكنك الحياة برفاهية في أي من عواصم العالم لمدة ستة أشهر إن كنت تجيد التطفل على الآخرين: أنا واثق من ذلك؛ لقد استضفت العديد من الأشخاص من هذه النوعية … والأمر الثاني هو الاختفاء. وقد بدا أن الاختفاء أسهل. يمكنني الابتعاد بسهولة. كل ما سيقوله الناس: «أين بوبي تيسدول هذه الأيام؟» وسيظنون أنني قد سافرت إلى أحد أرجاء العالم التي يسافرون هم إليها، وأنهم قد يقابلونني في أحد تلك الأيام. لقد كانوا يظنون أني غني للغاية؛ لذا فمن الأسهل أن أختفيَ وأتركهم يظنون ذلك بدلًا من أن أبقى ليسخروا مني عندما تتضح لهم الحقيقة. ومن ثم سددت جميع فواتيري، فتبقَّى معي سبعة وخمسون جنيهًا. وظننت أنه ربما عليَّ أن أحظى بفرصة أخيرة للمقامرة آنذاك، وأرى إن كان بإمكاني الفوز بما يكفي لأن أبدأ به الحياة في المستوى الجديد. ومن ثم راهنت بثلاثين جنيهًا … خمسة عشر في كل مرة؛ وهذا ما تبقَّى من صفات تيسدول بداخلي — على المقامر ريد روان في كازينو إيكليبس للقِمار. وقد أحرز روان المركز الخامس. ولا تكفي العشرون جنيهًا وبضعة جنيهات لبَدء أي شيء سوى شراء عربة يد. لم يكن هناك ما يمكن فعله سوى التشرد وطلب المعونة. لم يكن لديَّ مانع من التشرد وطلب المعونة — حيث سيصبح تغييرًا — لكن لا يمكنك طلب المعونة ومعك سبعة وعشرون جنيهًا في البنك؛ لذا قررت التخلص منها كلها دفعة واحدة في الليلة الماضية. وأخذت عهدًا على نفسي أن ينتهيَ بي الأمر بدون بنس واحد في جيبي. ثم سأرهن ملابس السهرة الخاصة بي مقابل ملابس مناسبة وأنطلق على الطريق. لكن ما لم أضعه في الحسبان هو أنه لا يمكن رهن الأشياء في وست إند في منتصف ليلة السبت. ولا يمكنك الانطلاق على الطريق في ملابس السهرة من دون لفت الانتباه. ومن ثم وقفت هناك، مثلما قلت، وأنا أشعر بالسخط تجاه تلك البنسات الخمسة وأتساءل ماذا سأفعل بخصوص ملابسي وبخصوص المكان الذي سأنام فيه. وقفت بجوار إشارة المرور في ألدويتش، بالضبط قبل الانعطاف إلى لانكستر بليس، عندما توقَّفت سيارة بسبب ضوء الإشارة الأحمر. وكانت كريس في هذه السيارة بمفردها …»
«كريس؟»
«لم أكن أعرف اسمها آنذاك. نظرت نحوي قليلًا. وكان الشارع هادئًا للغاية. ليس فيه سوانا. وكنا على مقربة لذا بدا الأمر طبيعيًّا عندما ابتسمت وقالت: «هل تود أن أقلَّك إلى أي مكان، أيها السيد؟» فقلت: «أجل. لاندس إند». فقالت: «بعيد قليلًا عن مساري. هل أوصلك إلى تشاتام، أو فافرشام، أو كانتربيري، أو أي منطقة أخرى في الغرب؟» حسنًا، لم يكن هناك سوى حل واحد. إذ ليس بإمكاني الاستمرار في الوقوف هناك، وليس بإمكاني التفكير في قصة مُحكَمة يمكنني بها أن أحصل على سرير في منزل صديق. إلى جانب أني شعرت بالبعد عن كل من يعرفونني بالفعل. لذا ركبت دون التفكير في الأمر كثيرًا. كانت جذَّابة للغاية بالنسبة إليَّ. لم أخبرها بكل ما أخبرك به الآن، لكنها سرعان ما اكتشفت أني مفلس تمامًا. بدأت أوضح لها الأمر، لكنها قالت: «حسنًا، أنا لا أريد أن أعرف. ليتقبل أحدنا الآخر كما هو دون الخوض في تفاصيل. أنت روبين وأنا كريس.» لقد أخبرتها أن اسمي هو روبرت ستاناواي، ودون أن تدري أطلقت هي عليَّ الاسم الذي كانت تدللني به عائلتي. أمَّا أصدقائي فكانوا يطلقون عليَّ اسم بوبي. لكن من المريح نوعًا ما أن أسمع أحدًا يناديني باسم روبين مرة أخرى.»
«لماذا قلت إن اسمك هو ستاناواي؟»
«لا أعرف. ربما نوع من الرغبة في الابتعاد عن الجانب الثري مني. لم أكن معجبًا للغاية بالاسم، على أي حال. وفي ذهني كنت دائمًا أعتبر هُويَّتي هي اسم عائلة ستاناواي.»
«حسنًا، أكمل.»
«ليس هناك المزيد كي أحكيه. لقد عرضت عليَّ أن تستضيفني. وأخبرتني أنها تعيش بمفردها، لكنني … حسنًا، لكنني سأصبح مجرد ضيف. فقلت إنها تعرض نفسها لمخاطرة بذلك. فقالت: «أجل، لقد عرَّضت نفسي لمخاطر كثيرة طَوال حياتي لكنها انتهت على خير، حتى الآن.» لقد بدا تصرفًا محرجًا بالنسبة إليَّ، لكن تبيَّن العكس فيما بعد. لقد كانت مُحقَّة حول الأمر. إن تقبُّل كلٍّ منا للآخر كما هو دون الخوض في تفاصيل، جعل الأمور تسير بسهولة شديدة. وعلى نحوٍ ما (كان الأمر غريبًا، لكن هذا ما حدث) بدا كما لو كان أحدنا يعرف الآخر منذ سنين. لو كنا قد بدأنا التعارف بطريقة تقليدية وتدريجية، لأخذ الأمر منا أسابيع حتى نصل إلى نفس المرحلة. لقد أعجبتني وأعجبتها كثيرًا. لا أقصد من الناحية العاطفية، على الرغم من جاذبيتها الشديدة؛ لكنني أقصد من حيث نبلها. لم يكن لديَّ ملابس لأرتديها في الصباح التالي، لكنني قضيت اليوم مرتديًا ثوب استحمام وأحد الأرواب الذي تركه شخص ما. وفي يوم الإثنين جاءت السيدة بيتس إلى غرفتي وقالت: «حقيبة ملابسك، يا سيدي»، وتركت حقيبة لم أرَها قبل ذلك في منتصف الأرضية. كانت الحقيبة تحتوي على بدلة جديدة، وجاكت من صوف التويد، وفانلات، وجوارب، وقمصان، وكل شيء. من متجرٍ ما في كانتربيري. كانت الحقيبة قديمة، وعليها ملصق كتب عليه اسمي. لقد كانت حتى تتذكر اسمي. حسنًا، لا أستطيع أن أصف لك ما شعرت به بخصوص تلك الأشياء. أتعلم، لقد كانت المرة الأولى منذ سنين التي يهديني فيها شخص أيَّ شيء. مع من يعرفونني، كان الأمر أنهم يأخذون مني فقط، طَوال الوقت. «بوبي سوف يدفع.» «بوبي سيعيرني سيارته.» لم يفكروا بي أبدًا. ولا أظن أنهم توقَّفوا أبدًا كي ينظروا إلي. على أي حال، لقد أسرتني بتلك الملابس. وجعلتني أرغب في أن أفتديها بحياتي. لقد ضحكت عندما رأتني أرتديها — كانت جاهزة، بالطبع، لكن مقاسها مناسب — وقالت: «ليست مثل ملابس محلات برتون ستريت، لكنها ستفي بالغرض. لا تقل إني لا أستطيع تحديد مقاس رجل.» ومن ثم اتفقنا على تمضية وقت لطيف معًا، نتجول في خمول، ونقرأ، ونتسامر، ونسبح، ونطهو الطعام عندما لا تكون السيدة بيتس موجودة. ونفضت عن ذهني التفكير فيما قد يحدث بعد ذلك. وأخبرتني أن عليها مغادرة المنزل بعد نحو عشرة أيام. وقد حاولتُ المغادرة بعد اليوم الأول، من قبيل التهذيب، لكنها لم توافق. وبعد ذلك لم أحاول. هذه هي الطريقة التي من خلالها أتيح لي البقاء هناك، وهذا هو سبب أني لم أكن أعرف اسمها.» ومن ثم تنهد تنهيدة حارة وهو يعتدل في جلسته ويسند ظهره إلى الخلف. وأضاف: «أصبحت الآن أعرف كيف يكسب هؤلاء المحللون النفسيون المال. لقد مرَّ وقت طويل منذ أن استمتعت بأي شيء مثل إخبارك بكل شيء عن نفسي.»
ابتسم جرانت دون رغبة منه. حيث بدا أسلوب الفتي طفوليًّا على نحوٍ ما.
ثم نفض ذلك عن عقله، مثل كلب يخرج من الماء.
إنه جذاب ساحر. والجاذبية هي أكثر الأسلحة غَوايةً في كل الترسانة البشرية. وها هو، يجري استغلاله دون أن يشعر. فقرر ألا يتعاطف مع الوجه الطيب اللطيف. لقد مرَّ عليه خلال مهنته بعض القتلة الذين يتمتعون بهذا النوع من حُسن المظهر؛ عيون زرقاء، وملامح ودودة، طيبة؛ ومنهم من دفن خطيبته بعد تقطيع جثتها في حفرة رماد. كانت عيون تيسدول من ذلك النوع ذي اللون الأزرق الداكن الدافئ الذي لاحظه جرانت كثيرًا في رجال يمثل لهم مجتمع النساء ضرورة للوجود. إن الأطفال الأعزاء لدى الأم يمتلكون مثل تلك العيون؛ وكذلك، في بعض الأحيان، يمتلكها الرجل زير النساء.
حسنًا، بعد فترة قصيرة سيتقصى عن تيسدول. أمَّا الآن …
سأل، وهو يترقب الوقت الذي سيتمكن فيه من استدراج تيسدول دون إثارة شكوكه إلى المسألة الحاسمة: «هل تطلب مني تصديق أنه خلال الأيام الأربعة التي قضيتماها معًا لم يكن لديك أيُّ شك على الإطلاق في هوية الآنسة كلاي؟»
«لقد شككت في أنها ممثلة. كان ذلك جزئيًّا بسبب أشياء قالتها، ولكن في الأساس بسبب وجود الكثير من مجلات المسرح والأفلام في المنزل. فسألتها عن ذلك ذات مرة، لكنها قالت: «لقد اتفقنا على ألَّا نخوض في التفاصيل التي لا جدوى منها. وهذا اتفاق مريح يا روبين. فلا تنسَ ذلك.»»
«حسنًا. هل تضمنت الملابس التي اشترتها لك الآنسة كلاي معطفًا؟»
«لا. معطف مطر خفيف. كان لدي معطف ثقيل.»
«هل كنت ترتدي معطفًا فوق بدلة السهرة؟»
«أجل. كان الجو ممطرًا عندما خرجنا لتناول العشاء — أعني أنا وأصحابي.»
«وهل لديك هذا المعطف حتى الآن؟»
«كلا. لقد سُرق من السيارة ذات يوم عندما كنا في ديمتشيرش.» ثم نظر إليه بقلق فجأة. ثم سأل: «لماذا؟ ما علاقة المعطف بالأمر؟»
«هل كان لونه داكنًا أم فاتحًا؟»
«داكن بالطبع. رمادي مائل للأسود نوعًا ما. لماذا؟»
«هل أبلغت عن فقده؟»
«كلا، لم يرغب أي منا في جذب الانتباه إلينا. ما الذي …»
«هل يمكن أن تخبرني فقط عما حدث صباح الخميس؟» أخذ الوجه المقابل له يفقد تلقائيته ويصبح حذرًا وعدوانيًّا مرة أخرى. فواصل استجوابه قائلًا: «لقد فهمت أنك لم تذهب مع الآنسة كلاي للسباحة. هل هذا صحيح؟»
«أجل. لكنني استيقظت بمجرد رحيلها تقريبًا …»
«كيف تعرف متى رحلت إذا كنت نائمًا؟»
«لأن الساعة كانت لا تزال السادسة فقط. لا يمكن أن تكون قد ذهبت منذ وقت طويل. وقالت السيدة بيتس بعد ذلك إنني تتبَّعتها في الطريق بعد أن غادرت بقليل.»
«فهمت. وفي غضون ساعة ونصف — تقريبًا — بين نهوضك والعثور على جثة الآنسة كلاي مشيت إلى شاطئ جاب، وسرقت السيارة، وقدتها في اتجاه كانتربري، وندمت على ما فعلته، وعدت، فوجدت أن الآنسة كلاي قد غرقت. هل هذا تقرير كامل لأفعالك؟»
«أجل، أعتقد ذلك.»
«إذا كنت قد شعرت بالامتنان الشديد للآنسة كلاي، فمن المؤكد أن ما فعلته كان شيئًا استثنائيًّا.»
«إن كلمة استثنائي ليست هي الكلمة المناسبة على الإطلاق. حتى الآن لا أصدق أنني فعلت ذلك.»
«هل أنت متأكد تمامًا من أنك لم تنزل إلى الماء في ذلك الصباح؟»
«بالطبع أنا متأكد. لماذا؟»
«متى كانت آخر مرة سبحت فيها؟ قبل صباح الخميس، أعني؟»
«ظهر يوم الأربعاء.»
«ومع ذلك، كان ثوب السباحة الخاص بك مبللًا في صباح الخميس.»
«كيف عرفت ذلك؟ أجل، لقد كان. ولكن ليس بالمياه المالحة. لقد نُشر حتى يجف على الجملون أسفل نافذتي، وعندما كنت أرتدي ملابسي صباح الخميس، لاحظت أن فضلات الطيور على الشجرة — حيث تتدلى شجرة تفاح فوق هذا الجملون — وقعت عليه. لذلك غسلته في الماء الذي كنت أستحم به.»
«أنت لم تضعه ليجف مرة أخرى، رغم هذا، أليس كذلك؟»
«بعد ما حدث في المرة الأخيرة؟ كلا! وضعته على حامل المناشف. أرجوك، أيها المفتش، أخبرني ما علاقة كل هذا بوفاة كريس؟ ألا يمكنك إدراك أن الأسئلة التي لا يمكنك معرفة سببها هي نوع من التعذيب؟ لقد واجهت كل ما يمكنني تحمُّله تقريبًا. إن التحقيق هذا الصباح هو القشة التي قصمت ظهر البعير. فالجميع كانوا يصفون كيف وجدوها. يتحدثون عن «الجثة»، في حين أنهم كانوا طَوال الوقت يتحدثون عن كريس. كريس! والآن كل هذا الغموض والشك. إذا كان هناك أي شيء غير واضح بشأن غرقها، فما علاقة معطفي به، على أي حال؟»
«لأن هذا وجد مشبوكًا في شعرها.»
فتح جرانت صندوقًا من الكرتون على الطاولة وأخرج منه زرًّا أسود من النوع المستخدم في معاطف الرجال. تمزق من مكانه الصحيح، ولا تزال الخيوط البالية من ربطه تشكل «رقبة» ممزقة. وحول الرقبة، بالقرب من الزر، التفَّت خصلة رفيعة من الشعر الفاتح.
انتفض تيسدول واقفًا على قدميه، وكلتا يديه على حافة الطاولة، محدقًا لأسفل في الزر.
«هل تعتقد أن شخصًا ما قد أغرقها؟ أعني … هكذا! لكن هذا ليس لي. هناك آلاف الأزرار مثله. ما الذي يجعلك تظن أنه ملكي؟»
«أنا لا أظن أي شيء، يا سيد تيسدول. أنا فقط أستبعد بعض الاحتمالات. كل ما أردتك أن تفعله هو تحديد أي ملابس تملكها وهي تحتوي على أزرار مثل هذا. أنت تقول إن لديك واحدًا ولكنه سُرق.»
حدَّق تيسدول في المفتش، وهو لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة.
ثم فتح الباب، بعد طَرقات رقيقة، وفي منتصف الأرضية وقفت طفلة صغيرة نحيفة تبلغ من العمر ستة عشر عامًا ترتدي ملابس رثة من صوف التويد، ورأسها الداكن بلا قبَّعة وغير مهندم بالمرة.
وقالت: «أوه، آسفة.» وتابعت: «ظننت أن والدي هنا. آسفة.»
فانهار تيسدول مرتطمًا بالأرض.
وتحرك جرانت، الذي كان جالسًا على الجانب الآخر من الطاولة الكبيرة، كي يساعده، لكن الطفلة النحيفة، بدون تسرُّع أو فزع، وصلت إليه أولًا.
وقالت: «يا إلهي!» بينما تمسك الجسد المنهار من تحت الكتفين من الخلف وتقلبه.
أخذ جرانت وسادة من على كرسي.
فقالت: «لا ينبغي فِعلُ ذلك.» وتابعت: «اترك الرأس متراجعًا للخلف ما لم تكن هناك سكتة دماغية. وهو صغير قليلًا على حدوث هذا، أليس كذلك؟»
كانت تقوم بفك الياقة وربطة العنق والقميص بخبرة وكأنها طاهي معجنات يشذب حواف فطيرة. لاحظ جرانت أن ساعديها اللذين لوَّحتهما الشمس مغطيان بندبات وخدوش صغيرة متفاوتة العمر، وأنهما كانا أطول بكثير من الأكمام التي صغرت عليها.
«سوف تجد البراندي في الخزانة، على ما أعتقد. غير مسموح لأبي بتناوله، لكن ليس لديه قدرة على ضبط النفس.»
عثر جرانت على البراندي وعاد ليجدها تصفع وجه تيسدول اللاواعي بضربات خفيفة ثابتة.
قال جرانت: «يبدو أنك بارعة في هذا النوع من الأشياء.»
«أوه، أنا أدير فريق الجوالة في المدرسة.» كان لديها صوت حاد وودود في آن واحد. وتابعت: «مؤسسة سخيفة للغاية. لكنها تُغيِّر الروتين. هذا هو الشيء الرئيسي، تغيير الروتين.»
سألها، وهو يومئ برأسه نحو ما تفعله: «هل تعلمت هذا من الجوالة؟»
«أوه، كلا. إنهم يحرقون الورق ويشمون الأملاح وأشياء من هذا القبيل. لقد تعلمت هذا في غرفة ملابس برادفورد بيت.»
«أين؟»
«ألا تعرفه؟ ملاكم الوزن خفيف الوسط. كنت أعلق على بيت آمالًا كبيرة، لكنني أعتقد أنه فقد سرعته مؤخرًا. ألا تظن ذلك؟ على الأقل، آمُل أن تكون سرعته. إنه يُفيق بشكل جيد.» كانت تقصد تيسدول بعبارتها الأخيرة. وتابعت: «أعتقد أنه سيحتسي البراندي الآن.»
وبينما يسقيه جرانت البراندي، قالت: «هل كنت تحقق معه بقسوة، أو شيء من هذا القبيل؟ أنت شرطي، أليس كذلك؟»
«يا آنستي الصغيرة … أنا لا أعرف اسمك، فما هو؟»
«إريكا. أنا إريكا بيرجوين.»
«عزيزتي الآنسة بيرجوين، بصفتك ابنة مدير الأمن، يجب أن تدركي أن الأشخاص الوحيدين في بريطانيا الذين يخضعون للتحقيقات القاسية هم أفراد الشرطة.»
«حسنًا، لماذا فقد وعيه؟ أهو مذنب؟»
قال جرانت، قبل أن يفكر: «لا أعرف.»
قالت: «لا أظن أنه مذنب.» وكانت تنظر نحو تيسدول وهو يفيق. ثم تابعت: «إنه لا يبدو قادرًا على فعل الكثير.» قالت هذا بنفس الاتزان الذي فعلت به كل ما قامت به.
«لا تدعي المظهر يؤثر على حكمك، يا آنسة بيرجوين.»
«أنا لا أفعل. ليس بالطريقة التي تقصدها. على أي حال، هو ليس من نوعي المفضل على الإطلاق. لكن من الصواب تمامًا الحكم على المظهر إذا كنت تعرف ما يكفي. فأنت لن تشتريَ الكَستناء إذا كانت ثمرته صغيرة ولونه باهتًا، أليس كذلك؟»
هذه، حسب اعتقاد جرانت، هي أكثر محادثة مدهشة.
كانت واقفة الآن، وقد دفعت يديها في جيبَي سترتها الرثة حتى أضحت مشدودةً عند نقطتين منتفختين. وكان صوف التويد متآكلًا عند الأساور ومُغطًّى بالكامل بالخيوط المُنتَّشة بسبب الأشواك. وكانت تنورتها قصيرة للغاية، وكان أحد جوربيها ملتويًا بعنف على ساقها الشديدة النحول التي تشبه العصا. وكان حذاؤها — المخدوش مثل يديها، ولكنه سميك وحسن الشكل وغالي الثمن — هو الشيء الوحيد الذي نمَّ عن حقيقة أنها لم تكن طفلة تتلقى المعونة والإحسان.
ثم عادت عينا جرانت إلى وجهها. ناهيك عن وجهها. إن الثقة الهادئة التي تنبعث من هذا الوجه المثلث الصغير الشاحب لم تكن لتُرى في فتاة نشأت في مدرسة خيرية.
قالت مشجعة، بينما يساعد جرانت تيسدول ليقف على قدميه ثم يُجلسه على كرسي: «ها هو ذا!» وتابعت: «ستصبح بخير. تناول القليل من براندي والدي. إن شربك له أفضل بكثير من أن يسريَ في شرايين والدي. سأنصرف الآن. أين أبي، هل تعلم؟» كان هذا السؤال موجهًا لجرانت.
«لقد ذهب لتناول الغداء في مطعم شيب.»
«شكرًا لك.» ثم التفتت إلى تيسدول الذي ما زال في حالة دوار، وقالت: «إن ياقة قميصك ضيقة للغاية.» وعندما تحرك جرانت لفتح الباب لها، قالت: «أنت لم تخبرني باسمك.»
رد قائلًا: «جرانت. أنا في خدمتك.» وانحنى لها انحناءة بسيطة.
فقالت: «لست بحاجة إلى أي شيء الآن، ولكن ربما في يوم من الأيام.» ثم نظرت إليه بتمعُّن. فوجد جرانت نفسه يأمُل بحماسة فاجأته ألا يوضع في نفس فئة «ثمار الكَستناء الباهتة اللون.» وتابعت: «أنت من النوع الذي أفضله للغاية. فأنا أحب الناس ذوي عظام الوجنتين العريضة. إلى اللقاء، يا سيد جرانت.»
سأل تيسدول، بنبرة لامبالية بعد استعادة الوعي: «من هذه؟»
«ابنة الكولونيل بيرجوين.»
«كانت محقة بشأن قميصي.»
«أهو من تلك الثياب الجاهزة؟»
«أجل. هل أنا معتقل؟»
«أوه، كلا. لا شيء من هذا القبيل.»
«قد لا تكون فكرة سيئة.»
«ماذا؟ لمَ تقول هذا؟»
«على الأقل سأعرف مصيري في المستقبل القريب. لقد غادرت منزل الآنسة كلاي هذا الصباح وأنا الآن بلا مأوى.»
«أنت تقصد أنك جاد بشأن التنقل مثل المشردين.»
«بمجرد أن أحصل على الملابس المناسبة.»
«أفضل أن تبقى حيث يمكنني الحصول على معلومات منك إذا أردت.»
«أنا أتفهَّم وجهة نظرك. ولكن كيف؟»
«ماذا عن مكتب ذلك المهندس المعماري؟ لماذا لا تحاول الحصول على وظيفة؟»
«لن أعود إلى العمل في مكتب أبدًا. ليس مهندسًا معماريًّا على أي حال. لقد أُجبرت على العمل هناك فقط لأنني أستطيع الرسم.»
«هل أفهم أنك تعتبر نفسك عاجزًا بشكل دائم عن كسب رزقك؟»
«عجبًا! هذا قاسٍ. كلا، بالطبع لا. سأُضطر إلى العمل. ولكن ما نوع الوظيفة التي أنا مناسب لها؟»
«لا بدَّ أن عامين من الاختلاط بالطبقة الراقية قد علمتك شيئًا ما. حتى لو قيادة السيارات فقط.»
جاءهم صوت طرقات مترددة على الباب، ودخل السيرجنت.
«أنا آسف بالفعل لإزعاجك، أيها المفتش، لكني أرغب في الحصول على شيء من ملفات المدير. إنه أمر عاجل إلى حد ما.»
ومن ثم دخل بعد أن أُذِن له.
وقال، بينما يتفقد الملفات: «إن هذا الساحل يعجُّ بالأحداث في الموسم، يا سيدي.» وتابع: «بالتأكيد بسبب القادمين من أوروبا. ها هو الطاهي في مطعم مارين — إنه مطعم خارج المدينة مباشرةً؛ لذا فالقضية تخصنا — لقد طعن الطاهي هناك نادلًا لأنه كان يعاني من قشرة الرأس، على ما يبدو. أقصد النادل، يا سيدي. إن رئيس الطهاة في الطريق إلى السجن والنادل في طريقه إلى المستشفى. يعتقدون أن الطعنة قد مسَّت رئته. حسنًا، شكرًا لك، يا سيدي. آسف على إزعاجك.»
نظر جرانت إلى تيسدول، الذي يعدل من وضع عقدة ربطة عنقه في انهماك حزين. فلمح تيسدول النظرة، وبدا مرتبكًا منها، ثم لمعت في عقله فكرة، فسارع بتنفيذها.
«كنت أتساءل أيها السيرجنت، هل لديهم أحد ليحل محل النادل، ألديك معلومة عن الأمر؟»
«ليس لديهم أحد. ولذا فإن السيد توسيلي — وهو المدير — يكاد يمزق شعره من فرط الحنق.»
ومن ثم سأل جرانت: «هل انتهيت من التحقيق معي؟»
قال جرانت: «انتهيت بالنسبة إلى هذا اليوم.» وأضاف: «حظًّا طيبًا.»