ولا شك أنَّ ارتباطَ الإنسان بالحيوان هو ارتباطٌ قديمٌ قِدَم الزمن؛ فهو ارتباطٌ
سلوكي
من السهل ملاحظته حتى في عصرنا الحالي، ومن ثَم كان اقتراب الإنسان من الحيوان واتصاله
به
أمرًا طبيعيًّا.
٢ إلا أنه رغم هذا الارتباط السلوكي الذي ربط ما بين الإنسان والحيوان كان هناك
اختلافٌ في كيفية تطبيق هذا السلوكِ تبعًا لاختلاف طبيعة الحيوان ومكان تواجده، ومن ثمَّ
فما ينطبق على مصر بحيواناتها قد لا ينطبق تمامًا على كلٍّ من بلاد الشام وبلاد الرافدين؛
فإذا كان اهتمامُ الإنسان الأول بالحيوان مصدره الفكر الديني الإنساني، فإنَّ هذا الفكر
الديني في نشأته الأولى لم يكن مجرَّد عاطفة روحانية اكتسبها الإنسان وتوارثها مع الأجيال،
بل كانت حاجة ماسة، شَعَر الإنسان بضرورة وجودها لحمايته ومعاونته في خط سير حياته، فبينما
كان العامل الاقتصادي هو العاملَ المباشر في تحقيق استقرار الإنسان واستمرار حياته، كان
العامل الديني ملازمًا بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة لذلك الدافع الاقتصادي. وقد لمس الإنسان
في تجاربه الطويلة تلك الحقيقةَ، فقام بتكريس جهوده في سبيل تدعيم ذلك الاعتقاد، وتكييفه
بالشكل المناسب في مجتمعه.
٣
مصر واستئناس الحيوانات
كانت العلاقة ما بين الإنسان والحيوان في مصر القديمة علاقةً أقوى مما هو سائدٌ
بينهما في أيِّ مكانٍ آخر.
٥ ولا شك أنَّ لهذه العلاقة بدايةً تسبق الاستئناس؛ فلقد كانت الحيوانات التي
تحيط بالإنسان بريةً — غير مستأنسة — في البداية، ثم استُؤنست، ومن ثَم نشأت صلةٌ ما
بين الإنسان والحيوان بشكلٍ أو بآخر، قامت على أمورٍ عدة ارتبطت جميعًا بالنواحي الحضارية،
٦ مثل الزراعة والاستقرار وبناء المساكن.
ويرى بعض الباحثين أنَّ الاستئناس كان مرحليًّا؛ بمعنى أنَّ الإنسان بدأ بأنواعٍ
معينة وانتهى بأنواعٍ أخرى حسبما اقتضت الأحوال، فكان الكلب — على سبيل المثال — من أول
نوعيات الحيوانات التي استُؤنست، ثم جاءت بعد ذلك فصائل المَعْز والأغنام فالماشية، ثم
حيوانات النقل كالحمار الذي عُثر على بقاياه في عصر قبيل وبداية الأسرات؛
٧ أي إنَّ المصريين استأنسوا أولًا أقلَّ الحيوانات ضراوةً وأكثرها
نفعًا.
ولقد ظهرت مسألةُ تقديس أو عبادة الحيوان في مصر منذ أقدم العصور، وتصوَّر المصري
القديم فيما يحيط به من حيوانات، قوًى معينةً وصفاتٍ خاصةً دعته إلى تقديسها، وتوثَّقت
تلك الروابط برسوخ حياة الاستقرار ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان.
٨
وكانت للحيوانات في مصر القديمة أهميتُها التي ذهبت بها إلى أبعدَ من تصوُّر الانتفاع
الصِّرْف بها فقط؛ إذ أوجدت الغريزة الفطرية للحياة والرغبة في التكاثر والخصوبة مشاعرَ
واتجاهاتٍ فطرية، دخلت بالإنسان في عالم الأرواح الذي كان للحيوان فيه دورٌ لا بأس به،
فشكَّلت الحيوانات بذلك قوةً لا يُستهان بها، قدَّسها المصري القديم بشكلٍ أو بآخر،
فكانت بمثابةِ حلقة الوصل بين عالَم البشر وعالَم الآلهة.
٩
دفنُ الحيوانات كأحد المظاهر الدينية في مصر، في عصورِ ما قبل
التاريخ والعصر المبكِّر
تبرُز العلاقة الحميمة التي تربط الإنسانَ بالحيوان أكثرَ وأكثر من خلالِ ما عُثر
عليه من دفناتٍ حيوانية متناثرة هنا وهناك وسط المقابر الآدمية في العديد من
جبَّاناتِ ما قبل التاريخ وبداية الأسرات، ولا ينفي ذلك وجودَ بدايات أولى لتلك
العلاقة، جاءت إشاراتها في بعض الجبَّانات المصرية التي تُؤرَّخ بالعصر الحجري
القديم الأعلى مثل جبَّانة جبل الصحابة وتوشكا في جنوب مصر؛ إذ جاءت بها بعض
الإشارات الدالة على وجودِ دفناتٍ حيوانية، مما أوجد علاقةً رمزية تربط الإنسانَ
بالحيوان آنذاك.
١٠
ولقد حاولتُ تفصيلَ كل ذلك في فصول الباب الأول، متتبعةً طبيعةَ تلك الدفنات
الحيوانية، وأنواعها ومدى الاهتمام بها والغرض منها، وذلك من خلال المحافظة على
الإطار الزمني من جهة، وعلى أنواع تلك الدفنات الحيوانية من جهةٍ أخرى. وعن أهم
المواقع الأثرية التي عُثر فيها على دفنات حيوانية (انظر خريطة رقم ١-٣).
العراق واستئناس الحيوان
كان العراق يشكِّل مسرحًا هامًّا لأحداث التاريخ القديم، وذلك منذ عصورِ ما قبل
التاريخ، ولعل من الصعوبة تتبُّع جميع المراحل الزمنية لحضاراتها، نظرًا لتعدُّدها
وتناثرها ما بين الشمال والجنوب،
١١ خريطة ٤-٦.
هذا، ولقد عُرفت دلائل استئناس الحيوانات في بلاد الرافدين منذ أقدم العصور؛ إذ
تبيَّن استئناسُ المَعْز والأغنام هناك منذ الألف العاشر ق.م. تقريبًا، بينما كانت
الماشية قد ثبَت استئناسها في مرحلةٍ زمنية لاحقة على ذلك؛ أي إنَّ استئناس الحيوانات
في بلاد الرافدين كان متفاوتًا في تأريخ ثبوته، وكان مرحليًّا، واحتلَّت المَعْز فيه
أولَ قائمة الحيوانات المستأنَسة.
١٢
وتدُل الشواهد المختلفة على أنَّ أول عملية استئناس للحيوان كانت في منطقة كريم شاهير
شمال العراق ٩٠٠٠ق.م.، ثم توالت الأدلة وتأكَّدت في مواقع القرى الزراعية الحقيقية في
العراق، مثل جرمو شمال العراق في حوالي ٦٧٥٠ق.م. تقريبًا.
١٣
الحيوان ودَوره في العراق
كانت علاقة الإنسان بالحيوان في البداية علاقةً تحكمها عملية الصيد؛ بغرض توفير
الغذاء، ثم تحوَّلت بعد ذلك إلى طور استئناس هذا الحيوان، وذلك بتطوُّر المجتمع، من
مجتمعٍ صغير قائم على الصيد، إلى مجتمعٍ طبقي متمدين له سِماته الحضارية الخاصة.
١٤
ولقد كانت للحيوانات أهميتُها في بلاد الرافدين، لا سيما الرمزية؛ فقد اعتُبرت
رمزًا يجمع في داخلها بين الخير والشر، واعتُبرت أيضًا حلقةَ الوصل التي تربط
الآلهةَ بالأفراد؛ فهي التي تجمع بين صفاتِ البشر والآلهة بروحها الكامنة بداخلها،
ومن ثَم كان تقديمُ الأضاحي الحيوانية والاعتناءُ بها من أهمِّ الأمورِ الدالةِ على
الأهمية الحيوانية العقائدية في حياة أهل بلاد الرافدين، وكانت الدفنات الحيوانية
رغم قلَّتها من الوسائل المعبِّرة عن تلك الأهمية أيضًا.
١٥
بلاد الشام واستئناس الحيوانات
كان الإنسان البدائي صيادًا وجامعًا للطعام، وكان الحيوان في حياته أحدَ أهم مصادر
غذائه؛ إذ اعتمد الإنسان على صيده، فأصبح الحيوان بذلك جزءًا لا يتجزأ من حياته وسلوكه
آنذاك.
١٦
هذا، وتتضح طبيعةُ العلاقة التي ربطت ما بين الإنسان والحيوان في بلاد الشام فيما
بين
الألفين التاسع والسابع ق.م.؛ أي ببداية معرفة الاستئناس؛ إذ توثَّقت العلاقة ما بين
الإنسان والحيوان، وأصبح امتلاك الحيوان هو الثروة والثراء الحقيقي.
١٧
وكانت الكلاب والمَعْز من أول الحيوانات التي استأنسها الإنسان، وتطوَّرت علاقته
بها
شيئًا فشيئًا، واتسعت لتشتمل على العديد من الأنواع الحيوانية الأخرى، لا سيما الماشية
والخنازير، إلا أنه كانت هناك من الحيوانات البرية ما فاق بدوره — لا سيما الاقتصادي
—
دورَ كل تلك الحيوانات، وكان الغزال على رأس تلك الحيوانات؛ إذ كان يعتمد عليه كمصدر
للغذاء.
١٨
ولقد كشفت أعمالُ المسح والتنقيبات الأثرية في مدرَّجات الأنهار والكهوف في شمال
وغرب
سوريا، وفي لبنان وفلسطين والأردن، عن أسرار حضارات العصور الحجرية،
١٩ ⋆
وأثبتت تلك الاكتشافات دون شكٍّ، أنَّ هذه المنطقة شهِدت نشاطًا بشريًّا قديمًا، أقدمَ
مما كان معروفًا في أوساط الباحثين إلى عهدٍ قريب.
٢٠
ولعل من الصعوبة بمكانٍ التحدُّث عن الحياة الروحية والاجتماعية لمجتمعات بلاد الشام،
لا سيما في العصر الحجري القديم الأسفل؛ نظرًا لضآلة التنقيبات الأثرية في مواقع ذلك
العصر، إلا أنَّه من المعروف أنَّ بمجيء العصر الحجري القديم الأوسط وظهور إنسان النياندرتال،
٢١ ⋆
نستطيع أن نتحدَّث عن الحياة الروحية لإنسانِ ما قبل التاريخ، لا سيما من خلال مدافنه؛
لأن إنسان النياندرتال كان أوَّل مَن مارس شعائرَ ومعتقَداتٍ دينية محدَّدة تدل على
رقيٍّ فكريٍّ بدرجةٍ معينة مقارنةً بأسلافه.
٢٢
دَور الحيوان في الحياة الروحية والاجتماعية لمجتمعات بلاد الشام
وضحَت العلاقة الروحية ما بين الإنسان والحيوان في بلاد الشام، من خلالِ ما عُثر
عليه من دفنات حيوانية — من ناحية — ومن خلالِ
ما اتُّبع من طقوسٍ معينة، عمِل الإنسان على مراعاتها، تمثَّلت في الاهتمام بتقديمِ
أنواعٍ من الأضاحي الحيوانية، كوسيلة تعبِّر عن العبادة والتقديس المرتبِطة بهذا
الحيوان أو ذاك من ناحيةٍ أخرى.
٢٣
وبوجهٍ عام، فلقد كانت الدفنات الحيوانية في بلاد الشام أقلَّ تواجدًا عنها بمصر؛
لاختلاف طبيعة الارتباط الحيواني بالإنسان، واختلاف طبيعة العقيدة المرتبطة به،
واختلاف وسائل التعبير عنها، وعن أهم المواقع التي عُثر فيها على دفنات حيوانية
ببلاد الشام (انظر خريطة ٧-٩).