الفصل السادس

دفنات القردة

دفنات القردة

عُرف في مصر القديمة أنواعٌ عدةٌ من القردة، كان أهمها papio Hamdyrab وكانت دقةُ ملاحظة المصري القديم من أهم الأسباب التي دعته إلى تقديس القرد؛ إذ عُرف عنه الذكاء ودقةُ التقليد وأدهش المصريين بحركته التي تشبه حركةَ الإنسان، ولاحظ القوم أنه يُهرع إلى الأشجار والأماكن المرتفعة التي تحيط بها ويقف منتظرًا شروق الشمس، فربطه المصري القديم بالشمس وجعله رمزًا لها.١
ولقد عُثر على دفنات للقردة في هيراكونبوليس؛ إذ اكتُشفت بقايا هياكل عظمية لقرد البابون بالجبَّانة الملَكية التي ترجع لنهاية عصرِ ما قبل الأسرات، نقادة III،٢ ففي المقبرة رقم ١٢ عُثر على هياكل لمجموعةٍ من قرود البابون، اختلفت الآراء حول عددها؛ إذ كان Hoffman قد ذكر بشأن هذه المقبرة أنها اشتملت على بقايا ستةٍ من قرود البابون،٣ بينما ذكرت Adams أنَّ المقبرة كانت قد اشتملت على أربعة من هياكل القردة واثنين من جماجمها، وذلك في جزء على الجانب الشرقي من المقبرة رقم ٢.٤ ويذكر كلٌّ من Van Neer وLinseele في أحدثِ نتائج الدراسات التي نُشرت، أنَّ البقايا العظمية التي عُثر عليها للقردة في المقبرة رقم ٢، إنما هي على الأقل لسبعة من القرود.٥
ومن دراسة تلك البقايا العظمية تبيَّن وجودُ كسرٍ في مؤخرة أقدام أربعة على الأقل من القرود السبعة، وكذلك ظهر كسرٌ في الأقدام الأمامية للبعض منها، وتشير طبيعةُ هذه الكسور إلى أنَّ هذه القردة لا بد وأنَّها عاشت على الأقل من أربعة إلى ستة أسابيع في الأسْر، مما أوجد هذه الكسور بأقدامها.٦
وعن أعمار هذه القردة، فمن دراسة أسنانها تبيَّن أنَّ أعمارها كانت تتراوح ما بين ثماني إلى اثني عشر عامًا.٧ الشكل رقم ٧-٥٩ - ٧-٥٨. وقد عُثر حديثًا على دفنةٍ لقرد وذلك في الجبَّانة ٦ بهيراكونبوليس الشكل رقم ٧-٦٠.

تفسير الغرض من تلك الدفنات

يرى كلٌّ من Hoffman, Adams أنَّ تلك القردة التي عُثر على دفناتها بجبَّانة هيراكونبوليس HK 6 إنما هي تعكس ارتباطًا رمزيًّا بشروق الشمس، لا سيما وأنَّ القردة كانت عادةً ما تهلل لمشرق الشمس، فارتبطت بها بعلاقة رمزية.٨ واعتبر المصري القديم هذه القردةَ مرتلةً لنشيدٍ يمجِّد شروق الشمس في الصباح، بل وعند الغروب، مما أكَّد الاعتقادَ بارتباطها بالشمس.٩
بينما يرى Kaplony ارتباطَ القردة بفكرة إعادة الميلاد والبعث والتجديد؛ إذ اشتهر قرد البابون بقدراته الجنسية، وربما تمثِّل دفناته رمزًا لارتباطات جنائزية تتعلَّق بإعادة البعث.١٠
هذا، ولقد كان قرد البابون هو التجسيدَ الأكثر قِدَمًا للرمز المقدس، الذي رمز للمعبود Hd-Wr بمعنى «الأبيض العظيم»، وهو ذلك الإله القرد،١١ الذي عُبِد في هيراكونبوليس وأبيدوس١٢ بدءًا من عصرِ ما قبل وبداية الأسرات.١٣ وعُثر له منذ هذا العصر على العديد من التماثيل التي جاءت بهيئة القرد الجالس.١٤
ولقد اعتُبر القرد في العصور التاريخية رمزًا للمعبود جحوتي، ذلك المعبود الذي اعتُبر في الديانة المصرية القديمة «رب الحكمة»، وذلك لأنَّ قرد البابون، الذي اتخذه جحوتي رمزًا له، كان يتميز بالهدوء والرزانة والذكاء والحكمة.١٥
ولا شكَّ أنَّ المصري القديم كان قد لاحظ ذلك، فجعل له تلك القداسة التي ظهرت إرهاصاتها الأولى بدءًا من عصرِ ما قبل الأسرات، وظلَّت واستمرَّت طوال مراحل العصور التاريخية.١٦
وإذا كانت الدارسة بتلك الآراء تحاول تفسيرَ دفنة القرود السبعة التي عُثر عليها بهيراكونبوليس، إلا أنه لا يزال البحث مستمرًّا، وما زالت أعمال الكشف والتنقيب مستمرةً، وقد تكشف عن الجديد في المستقبل، ولا يمكن أن نقرِّر ونثبِت ما إذا كانت تلك القردة مرتبطةً بعبادةٍ ما في حياتها أدَّت إلى الاهتمام بدفنها بعد موتها في هيراكونبوليس، أم إنَّها كانت بمثابة حيوانات مفضَّلة لأصحابها، فدُفنت معهم بنفس الجبَّانة، أم هي من الحيوانات التي كان قد ضُحي بها، كنوع من الأضحيات الحيوانية الهامة،١٧ وما كلُّ ذلك إلا دليل على اهتمام المصري بالقردة وحبِّه لها وتقديسها منذ أقدم العصور.
وبتلك الدفنات الحيوانية التي عُثر عليها بهيراكونبوليس — سواء دفنات لقردة أم لغيرها من الحيوانات الأخرى — نرى كيف أنَّ جبَّانة العظماء بهيراكونبوليس كانت أشبهَ بحديقة حيوان، أو بمعرض للعديد من الدفنات الحيوانية التي جاءت بقاياها بالجبَّانة، والتي يرى بعض الباحثين أنها كانت لحيواناتٍ أُسِرت قصدًا ليُضحي بها، لتصبح بذلك الجبَّانة HK 6 بهيراكونبوليس، جبَّانة فريدة، أشبه بمعرض للحيوانات الملكية، التي اصطبغت في كثيرٍ من الحالات بدلالة رمزية أو باعث ديني معيَّن.١٨
وأخيرًا … لم يقف حدُّ تقديس القردة في عصرِ ما قبل وبداية الأسرات، على العثور على دفنات هيراكونبوليس، وإنما عُثر على دلائل تقديس القردة في مواقعَ أخرى،١٩ وامتدَّ ذلك التقديس زمنيًّا حتى العصر المتأخر، ووصل حتى النوبة السفلى.٢٠
١  Osborn, D. J., Op. Cit., p. 35; وليم نظير، «الثروة الحيوانية»، ص٩٠-٩١.
٢  Houlihan, P. F., Op. Cit., p. 95 .
٣  Hoffman, M. A., “A preliminary report on the 1982 season at Hierakonpolis, “Newsletter American research center in Egypt, no., 119, p. 95 .
٤  Adams, B., “Elite tombs at Hirakonpolis” in: Spencer, J., p. 6 .
٥  Van Neer, W., and linseele, V., “New analyses of old Bones: the found remains from Hirakonpolis” in: NN, vol. 14, 2002, pp. 7-8 .
٦  Van Neer, W., and Linseele, V., Op. Cit., p. 8 .
٧  Linseele, V., Excavating Hirakonpolis: Weird animals in: A. M, 2003 .
٨  Hoffman, M., The first Egyptians, Carolina, 1998, p. 44 .
٩  Rosalind and Janssen, J., Op. Cit., p. 20 ؛ أدولف إرمان، «الديانة المصرية القديمة»، ص٢٢–٢٣.
«ويتأكد ارتباط القردة بالشمس في التعويذة رقم ١٦ من كتاب الموتى، إذ ذُكر فيه القردة باعتبارها تابعةً لرحلة إله الشمس، بينما التعويذة رقم ١٢٦ تجعل لهم ارتباطًا بالإله رع؛ إذ نقرأ فيها ما نصُّه: «يا أيتها القردة الأربعة الجالسة في مقدِّمة مركب الإله رع»، واللافت للنظر أنه عُثر على إرهاصات ذلك في معبد تل إبراهيم عوض؛ إذ عُثر على نموذج لقارب من الفيانس يعتليه أربعة من القردة، جالسة بداخله، ظهر منها بوضوح ثلاثة قردة، بينما الرابع يتضح إثره فقط، وإن كان قد وضَح بالقارب وجودُ بقايا مقاعد لسبعة من القردة، وليس ثلاثة فقط، وكانت وكأنها تهلِّل وتتقافز. يُؤرَّخ هذا النموذج بالعصر العتيق». انظر: Sherkova, T. A., “Seven baboons in one boat” in: Ancient Egyptian temples at tell Ibrahim Awad, Moscow 2002, p. 116.
١٠  Kaplony, P. , “Pavian” in: LÄ, vol. 4 col. 918 .
١١  Bonnet, H., Op. Cit., p. 7; Kaplony, P., “Hedj wer” in: LÄ, vol. 2, col. 1078; Saied, A. M., Op. Cit., p. 384 .
١٢  ثبتت عبادة «حدج ور» في أبيدوس من خلال اللقى الأثرية التي عُثر عليها هناك، والتي كان أهمها البطاقة العاجية الخاصة بالملك سمر خت. هذا وقد عُرف القرد أيضًا باسم WRW أي «العظيم»، وارتبط بعبادة الأسلاف، ووضح ذلك في عهد الملك زوسر بالأسرة الثالثة، وارتبط القرد باحتفال عيد السد «الحب سد»؛ انظر: Wilkinson, T. A. H., Early dynastic Egypt, London, 1999, p. 285.
١٣  Germond, P., An Egyptian Bestiary, London, 2001, p. 163 .
١٤  Schott, E., “die sockelin shrift des” in: Rde, vol. 21, 1969, pp. 77, ff. Narmer .
١٥  Brunner-traut, E., “Affe” in: LÄ, vol. 1. col. 83 ff .
١٦  Belova, G. A., Op. Cit., p. 160; Drewer, D., “Hunting, animal husbandry and diet in ancient Egypt” in: Collins, B. J., A history of the animal world in the ancient near east, Leiden, 2002, p. 456 .
١٧  Merceron, G., “The diet of captive Baboons: results of dentalmicroware analysis” in: NN, vol. 15, 2003, p. 13 .
١٨  Friedman, R., “Questions and answers” in: NN, vol. 15, 2003, p. 19 .
١٩  عُثر على العديد من دفنات القرود في شمال سقارة، وعُثر على سراديبَ ومقابرَ أسفل سطح الأرض، اشتملت على دفناتٍ لقردة تُؤرَّخ بالعصور التاريخية، وكانت تلك السراديب قد اشتملت على الكثير من مومياوات القردة الكبيرة: Goudsmit, J., Belova, G. A., Op. Cit., p. 162; Jones, D. B.,
٢٠  “Mommies of Olive Baboon and Barbary Macaoues in the Baboon Catacomb of the Sacred Animals Necropolis at North Saqqara” in: JEA, vol. 85, 1999, pp. 45–53; Perizoniu, R., Attia, M., “Monkey Mommies and North Saqqara” in: Egyptian Archaeology, vol. 3, 1993, p. 32 . وللمزيد عن القرد في مصر القديمة دينيًّا وحضاريًّا، انظر: غادة محمد محمد بهنساوي، «القرد المقدَّس في مصر القديمة: دراسة دينية أثرية منذ أقدم العصور حتى نهاية الدولة الحديثة»، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة ٢٠٠٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤