ولقد اكتسبت مدينة أور السومرية شهرةً واسعةً بفضلِ ما اكتُشف في جبَّانتها الملكية
٤٢ ⋆
في العصور التاريخية من قبورٍ أثارت الدهشة، كما أنها تمثِّل أصدقَ تمثيل مظاهرَ
حضارة وادي الرافدين في أوج ازدهارها وعظمتها في حوالي ٢٦٠٠ق.م.،
٤٣ فقد عُثر في مقبرة الملِكة شبعاد على اثنتين من العربات الحربية، كان
يجرُّهما ثيران، وكان كلٌّ من العربتين والثيران قد دُفن في وضع التأهُّب للحركة،
ويعتقد
Woolley أنَّ كلًّا من الأشخاص المدفونين
والحيوانات، كان قد أُنزل إلى حفرة الدفن وهو على قيد الحياة. ولقد عبَّرت تلك
المقبرة عن نوعٍ من الأضحيات الآدمية والحيوانية.
٤٤ بينما يرى
Moortgat أنَّ هذه المقابر
يُفترض أنها تعبِّر عن طقسةِ الخصوبة أو الزواج المقدَّس الذي سيضفي الخصوبة على الأرض.
٤٥ (وهذا أمرٌ في غاية الغرابة ويصعُب قبوله).
وترى الدارسة خروجًا من كل ذلك أنَّ دفنات الثيران التي عُثر عليها والتي كانت
غالبًا ملحقةً بالعربات الحربية ما هي إلا وسيلةُ نقلٍ يستخدمها المتوفَّى في عالمه
الآخر كما كان يستخدمها في الحياة الدنيا.
الغرض من دفنات الثيران
كان الثور يرمز إلى القوة والخصوبة، واعتُبر بمثابة «حيوانٍ سماويٍّ» عُرف
باسم «الثور السماوي» وارتبط بالإلهين مردوخ، وإنكي، وهو الثور الوحشي للأرض والسماء.
٥٠ هذا ما توضحه لنا أسطورة جلجامش.
ويرى
Mallowan عكس ذلك؛ إذ إنَّ الثور اعتُبر
رمزًا للجفاف والقحط، وبالتالي فإنَّ في قتله رمزًا للقضاء على الجفاف وعلى الشر.
٥١ «هذا في حالة العثور عليه كأضحيةٍ حيوانيةٍ في دفنةٍ ما» (وهذا
رأيٌ يصعُب الأخذ به).
أمَّا
Scurlock فيرى أنَّ الثيران كانت أحدَ
رموز القوة المحرِّكة لعربة الآلة، التي لا تتحرك بدونها، فبدون الثور لن يتمكن
الإله من الخروج للاحتفال بأهم أعياده واحتفالاته، ومن ثَم كان يُراعَى دفن
الثيران ملحقةً بالعربات التي ستقوم بجرِّها؛
٥٢ إذ يبدو أنَّ جزءًا من رحلة الأرواح من القبر إلى العالم السفلي،
كان يتم عن طريق البَر، وتُستخدم فيه العربات التي تجرها الحيوانات، وهذا ما
يشير إليه وضعُ العربات مع حيواناتها وسائقيها في القبور الملكية في أور وكيش.
٥٣
وهكذا اختلفت تفسيراتُ وجود مثل تلك الدفنات الحيوانية، تبعًا لاختلاف
تناولها من وجهات النظر المختلفة، والمتعددة، فما بين التفسير الديني والدنيوي
اختلفت الآراء، وتباينت وجهات النظر.
ثالثًا: دفنات الكلاب
يُعتبر الكلب (والماعز كما ذُكر آنفًا) من أول الحيوانات التي ثبَت استئناسها
في بلاد الشرق الأدنى القديم بوجهٍ عامٍّ، وبلاد الرافدين بوجهٍ خاصٍّ.
٨٣ ولقد جاءت أولُ وأقدَمُ أدلةِ استئناسِ الكلاب، في شمال شرق العراق
بكهف بالجاورا الذي يُؤرَّخ بالعصر الحجري القديم؛ إذ به عُثر على بقايا عظميةٍ
لكلابٍ مستأنسةٍ، اشتملت تلك البقايا العظمية على جمجمةٍ واحدةٍ وحوالي سبعة
عشر فكًّا لكلابٍ مستأنسةٍ تبيَّن أنها ترجع لحوالي ١٢٠٠٠،
٨٤ كما عُثر على بقايا عظميةٍ لكلابٍ في العديد من المواقع التي
تُؤرَّخ بالعصر الحجري الوسيط، بل وعُثر على هياكلَ
عظميةٍ للكثير من الكلاب جاءت أحيانًا شبه
كاملةٍ، وأحيانًا أخرى عُثر على أجزاءٍ منها بالعديد من الدفنات الآدمية في
جبَّانة العبيد،
٨٥ الشكل رقم
٧-٧٧.
ففي كلٍّ من المقبرة رقم ١٨٥ و٨٩ و١١٤ بجبَّانة العبيد،
٨٦
⋆ عُثر على دفناتٍ لكلابٍ، كانت قد
دُفنت مع أصاحبها، وكانت قد جاءت راقدةً بشكلٍ متقاطعٍ أعلى الهياكل الآدمية —
مكوِّنًا شكل الصليب — زُوِّدت الدفنات ببعض الأواني الفخارية كنوعٍ من المتاع الجنائزي،
٨٧ الشكل رقم
٧-٨٠ –
٧-٨١.
ولقد عُثر في دفنةٍ أخرى بالجبَّانة على اثنين من الهياكل العظمية لكلابٍ
كانت قد دُفنت مع أصحابها، ولكنها لم تكن بحالةٍ جيدةٍ من الحفظ تسمح بدراستها.
هذا، ولقد عُثر على أجزاءٍ وبقايا عظميةٍ لكلابٍ، ولحيوانات أخرى لم تُحدَّد
أنواعها بعدُ، وذلك في العديد من الدفنات الآدمية.
٨٨
أما في جبَّانة خفاجة
٨٩
⋆ فقد عُثر على عددٍ من دفنات الكلاب
كانت قد جاءت بالعديد من الدفنات الآدمية، وكانت هياكلها العظمية شبهَ كاملةٍ.
٩٠
هذا، وتوضِّح تلك الدفنات مدى العناية والاهتمام اللذين قد حظيَ بهما الكلب،
باعتباره حيوانًا مقربًا، ورفيقًا لصاحبه، ومن ثمَّ عمِل على دفنه معه في
مقبرته آنذاك.
٩١
ولم تكن مكانة وأهمية الكلاب في العصر الحجري النحاسي مكانةً اقتصاديةً، بل
على العكس، لم يكن الكلب عنصرًا من عناصر اقتصاديات الإنسان، ولم يعتمد عليه في
غذائه، إلا أنه كان من أقدمِ الحيوانات التي استأنسها الإنسان، والتي ألِفَت
الإنسانَ بسهولةٍ.
٩٢
ولقد كان للكلاب أهميتها الدينية والطقسية التي وضحت من خلالِ ما عُثر عليه
من أجزاءٍ عظميةٍ لها في المعبد البيضاوي بخفاجة، كان أكثرها لسيقان ومخالب
كلاب صغيرة، ربما قُدِّمت كنوعٍ من الأضاحي الحيوانية.
٩٣
أما في أريدو،
٩٤
⋆ فقد عُثر على دفنةٍ لكلبٍ كان
هيكله العظمي قد جاء كاملًا، وتبيَّن بالدراسة أنه لكلبٍ سلوقيٍّ كان قد دُفن
بمقبرةِ طفلٍ صغيرٍ بالجبَّانة، تُؤرَّخ بالألف الرابع ق.م. والجميل هنا أنه
كان قد عُثر بالقرب من فم الكلب على قطعة صغيرة من اللحم، كأنها قُدِّمت كغذاءٍ
له — كقربان — ينتفع به في العالم الآخر.
٩٥
ولقد عُثر في جبَّانة أريدو أيضًا على العديد من دفنات الكلاب التي كان من
بينها اثنتان من الدفنات بهما هيكلان عظميان لكلبين من الكلاب كانا قد دُفنا مع أصحابهما،
٩٦ هذا بخلاف دفنةٍ أخرى لكلبٍ عُثر عليه مدفونًا مع صاحبه في وضعٍ
متقاطع — يشبه ما جاء في دفنات جبَّانة العبيد مكوِّنًا شكل الصليب — وتُؤرَّخ
الدفنة بالنصف الأول من الألف الرابع ق.م.
٩٧
هذا، ولقد عُثر في الجبَّانة أيضًا على العديد من الهياكل العظمية لكلابٍ،
كانت قد لوِّنت بلون أحمر من حجر الدم — تمامًا كما هو الحال مع جثث الآدميين —
ولربما كان هذا التلوين، تلوينًا طقسيًّا بالمُغْرة الحمراء قُصد منة التعبير
عن الاستمرارية.
٩٨
ولقد كانت عادة نثر بعض الصبغات — لا سيما الأحمر — على الأجسام الآدمية
والحيوانية من العادات المتَّبعة في بلاد الرافدين، مما يرجِّح أنه ربما كان
للون الأحمر في الفكر العراقي القديم بعضُ التأثير على الروح.
٩٩
ومن الجدير بالذكر أنَّ دفنات الكلاب التي عُثر عليها بجبَّانة أريدوا، كان
بعضها قد دُفن منفصلًا عن صاحبه، وبعضها الآخر كان قد دُفن بنفس مقبرة صاحبه.
١٠٠
وفي منطقة تبَّة جاورا
١٠١
⋆ عُثر على جمجمةِ كلبٍ سلوقيٍّ، في
دفنةٍ تُؤرَّخ بحوالي ٤٤٠٠- ٣٨٠٠ق.م.
١٠٢
بينما عُثر في المقبرة رقم ٥٧ بجبَّانة خفاجة على دفنةٍ بسيطةٍ لشخصٍ بالغٍ،
لُفَّ في الحصير، وأمام وجهه عُثر على هيكلٍ عظميٍّ لكلبٍ، زُوِّدت الدفنة ببعض
الأواني الفخارية وتُؤرَّخ الدفنة بعصر بداية الأسرات.
١٠٣
وفي منطقة تل براك،
١٠٤
⋆ عُثر على دفنةٍ لكلبٍ جاء هيكله
العظمي كاملًا، وكان قد عُثر عليه في دفنةٍ مستقلةٍ، تُؤرَّخ بحوالي ٢٥٠٠ق.م.،
١٠٥ وبنفس الموقع عُثر على دفنةٍ حيوانيةٍ مزدوجةٍ لكلبٍ وحمارٍ،
تُؤرَّخ بعصر بداية الأسرات، كان الكلب راقدًا على جانبه الأيسر، أقدامه
ممدَّدة إلى الأمام كأنه في وضعِ الجري،
١٠٦ الشكل رقم
٧-٨١. ومن دراسة الهيكل العظمي للكلب
تبيَّن أنَّه لكلبٍ بالغٍ، ذكرٍ من كلاب الصيد، ولا يُستبعَد أن يكون لتلك
الدفنة أغراضها الطقسية المرتبطة بالصيد، لا سيما وأنَّ الكلب بالفعل كان من
أهم الحيوانات التي ساعدت الإنسان في رحلات صيده، وأنَّ الكلب الذي عُثر عليه
بتلك الدفنة، كان من نوعية كلاب الصيد. هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ
الحمار كان بالفعل من الحيوانات التي لها ارتباطُها الطقسيُّ المتعلقُ بالصيد،
ولا أدلَّ على ذلك مما جاء في تل الديباجية الذي سيرِدُ ذكرُه في دفنات الحمير.
١٠٧ ولقد استمرَّت قدسية الكلب حتى العصرِ البرونزيِّ المبكِّر؛ إذ
عُثر له على دفناتٍ عدةٍ، كان منها ما جاء في الشكل رقم
٧-٨٣-
٧-٨٢.
تفسير الغرض من دفنات الكلاب
يرى البعض ارتباط الكلب في بلاد الرافدين برموزٍ عدةٍ؛ إذ كان يرمز
للشرِّ وللروح الشريرة.
١٠٨ (وترى الدارسة أنَّ هذا رأي يصعُب قبوله؛ لأن الكلب أقربُ
الحيوانات إلى الإنسان، سواء في العراق أو غيره من بلاد الشرق الأدنى، فكيف
يكون ممثلًا للشر؟) وكذلك ارتبط بالشمس، وارتبط بالإلهة الأم.
١٠٩
ولقد كانت الكلاب من بين الحيوانات التي قُدِّمت في معابد عصر بداية
الأسرات، على موائد تقديم القرابين؛ إذ عُثر في معبد عشتار، بماري على
بقايا عظميةٍ لكلابٍ، وذلك على واحدة من موائد تقديم القرابين بفناء
المعبد، ولا شك أنها كانت تُقدَّم لإله المعبد، طلبًا لرضائه.
١١٠
ومن الصعوبة وضعُ تفسيرٍ محددٍ للغرض من دفنات الكلاب التي عُثر عليها
ببلاد الرافدين، وذلك لاختلاف وضع وطبيعة الدفنات ما بين منفصلةٍ ومصاحبةٍ
لدفناتٍ آدميةٍ، ومزدوجةٍ تجمع بين نوعين من الحيوانات — هذا من ناحيةٍ —
ومن ناحيةٍ أخرى فلم تكن دفنات الكلاب ببلاد الرافدين بمثل الكثرة
والتعددية التي كانت عليها بمصر، ومن ثَم فنهاك العديد من الحلقات المفقودة
التي يصعُب تتبُّع مدى أهمية الكلب عقائديًّا ودينيًّا لدى أهل بلاد
الرافدين بدونها.
رابعًا: دفناتُ الحميرِ
كان الحمار من أكثرِ الحيوانات التي استُعملت في أعمال الجر والنقل في بلاد
الرافدين، لا سيما خلال الألف الثالث ق.م.
١١١ ولا ينفي ذلك معرفةَ الحمير قبل هذا الوقت؛ فقد عُثر على بقايا
عظميةٍ لحمير بريةٍ بمنطقة كردستان وبالعديد من المواقع الأخرى، وتبيَّن
بالدراسة أنَّ الحمار كان من أكثرِ الحيوانات التي تم صيدها.
١١٢
ولقد كان موقع أم الدباغية
١١٣
⋆ من أهم مواقع العصر الحجري الحديث
الذي وضحت به أهمية الحمار؛ إذ كان من أكثرِ المواقع التي اعتمدت على صيد
الحمار — لا سيما الحمار الوحشي — حيث بلغت نسبة العثور على بقاياه العظمية
حوالي ٧٠٪ من طبيعة البقايا العظمية الحيوانية التي عُثر عليها بالموقع. ولربما
كان الاهتمام بدفن الحمير في هذا الموقع، مرجِعه إلى أهميتها الاقتصادية لدى
سكان هذا الموقع،
١١٤
⋆ إذ عُثر فيه على دفناتٍ لحميرٍ،
جاءت بقاياها العظمية في أكثرَ من دفنة، وكان من بينها دفنةٌ تُؤرَّخ بالألف
السادس ق.م.، عُثر فيها على هيكلٍ عظميٍّ كاملٍ لحمارٍ بريٍّ.
١١٥
وكان من الدفنات اللافتة للنظر، دفناتُ حمير تل براك، فقد عُثر في القطاع
TC من الموقع، على دفنةٍ تُؤرَّخ بالنصف
الثاني من الألف الثالث ق.م.، اشتملت على سبعٍ من الجثث الآدمية، واثنتين أو
أكثر من الهياكل العظمية لحميرٍ كانت قد رقدت على حصيرٍ مجدولٍ في حفرة
بالمقبرة، زُوِّدت الدفنة بأوانٍ فخاريةٍ غيرِ مكتملةٍ، ويبدو أنَّها كانت قد
وُضِعت عمدًا بهذا الوضع؛ إذ كان مقدارُ ما عُثر عليه من كِسَر فخارية بالدفنة
يدعو للدهشة.
١١٦
ولقد لوحظ عدم وجود بعض الأرجل الخلفية للحمير في هذه الدفنة، وكانت الجماجم
قد فُصلت عن الأجسام عمدًا على ما يبدو، وعُثر على واحدةٍ من هذه الجماجم كانت
قد وُضِعت أسفل العمودِ الفقريِّ لأحد الحمير، بينما عُثر على جمجمةٍ أخرى كانت
قد وجِّهت نحو العمودِ الفقريِّ للحمارِ الآخر.
١١٧
هذا، ولقد عُثر بالقرب من أحدِ الأبنية بالموقع، على هيكلٍ عظميٍّ كاملٍ
لحمارٍ، وُجِد إلى الجنوب من إحدى حجرات هذا البناء في منطقةٍ مفتوحةٍ، ولقد
زُوِّدت الدفنة بالعديد من القدور الفخارية، وكانت في هذه المرة كاملةً أو شبه كاملةٍ.
١١٨
وعُثر أيضًا بتل براك على دفنةٍ حيوانيةٍ أخرى، ولكن الغريب هنا أنها كانت
دفنةً مزدوجةً اشتملت على حمارٍ كان قد دُفن معه كلبٌ، جاء الحمار بكامل هيكله
العظمي الذي يُظهِر مدى ضخامته، وبالقرب منه عُثر على عددٍ صغيرٍ من العظام
الحيوانية لحيواناتٍ أخرى «خنازير، مَعْز مستأنسة، طيور». هذا ولقد تبيَّن
بالدراسة أنَّ هذه الدفنة إنما هي لحمارٍ يصل عمره إلى حوالي عشر سنوات، وأنه
قد تُوفي في عنفوانه، وهو من الحميرِ المستأنسةِ، القويةِ البنيةِ.
١١٩
تُؤرَّخ الدفنة بنهاية الألف الرابع، وبداية الألف الثالث ق.م.، وعن تفسير
الغرض من هذه الدفنة فلا يُستبعد أن يكون لتلك الدفنة أغراضها الطقسية
المرتبِطة بالصيد، لا سيما وأنَّ الحمار كان بالفعل له ارتباطه الطقسيُّ
المتعلقُ بالصيد، ولا أدلَّ على ذلك مما جاء في تل الديباجية.
١٢٠
هذا، ولقد عُثر في نفس الموقع على دفنةٍ أخرى لخمسة من الحمير جاءت هياكلها
العظمية في أوضاعٍ متشابهة، الشكل رقم
٧-٨٤ -
٧-٨٦، وقد دُفنت تلك الحمير الخمسة في دفنةٍ واحدةٍ بالقرب
من معبدٍ
١٢١
⋆ صغيرٍ بالموقع، وكانت جماجم الحمير
محطَّمةً للغاية، كان الحمار الأول راقدًا على جانبه الأيسر، رأسه إلى الجنوب
الشرقي، وبالدراسة تبيَّن أنَّ عمره كان عند موته يبلغ حوالي عشرين عامًا،
وأنَّه كان لأنثى حمارٍ. أمَّا الحمار الثاني فربما كان ابنًا للحمار الأول؛ إذ
كان أصغر حجمًا، وعمره كان يتراوح ما بين ثلاث إلى أربع سنواتٍ، جاء أيضًا
راقدًا على جانبه الأيسر، وأطرافه أسفل الجسم. أما الحمار الثالث فكان عمره
حوالي خمس سنواتٍ، وكان راقدًا أيضًا على جانبه الأيسر في مواجهة الحمار الأول،
رأسه إلى الشمال. هذا، ولقد تداخلت أطراف الحمير الثلاثة واختلطت معًا إلى حدٍّ ما.
١٢٢ أمَّا الحمار الرابع فكان عمره عند موته حوالي عشرين عامًا — مثل
الحمار الأول — ولكنه كان ذكرًا لا أنثى مثلَ الحمار الأول، وكان هذا الحمار
راقدًا في منتصف مدخل الدفنة متجهًا نحو الشمال. أمَّا الحمار الخامس فهو
الوحيد الذي وصلَنا بحالةٍ جيدةٍ من الحفظ، وكان راقدًا على جانبه الأيسر،
أطرافه أسفل جسمه، العنق والرأس مرفوعان لأعلى، ومتجهًا إلى الشرق.
١٢٣ هذا، ولم يُستطَع بعدُ معرفةُ كيفية قتل هذه الحمير، أو أسباب
موتها، إلا أنه من الواضح أنَّ الحمير كانت من حيوانات الأضحية في ذلك الوقت،
وأنه كان يُعتنى بدفنها، ولربما أنَّ تلك الدفنة كانت قد دُفنت فيها الحمير،
وأُعِّدت وقُيِّدت باعتبارها حيوانات الركوب، التي سوف تُستخدم لجرِّ العربات
المزدوجة العجلات التي جاءت منها نماذجُ صغيرة في مستويات هذا الموقع.
١٢٤
ولقد عُثر في جبَّانة تل براك على مقبرة جمعت بين دفنات آدمية لبالغين اختلطت
مع بقايا عظامٍ حيوانيةٍ، الشكل رقم
٧-٨٧.
وأمَّا عن تأريخ الدفنة، فقلد اختلفت الآراء بشأن ذلك؛ فهي تُؤرَّخ إما بنفس
توقيت تأريخ الدفنة السابقة «للحمار والكلب» أو هي تُؤرَّخ بحدود ٢٢٠٠ق.م.، أي
في فترةٍ لاحقةٍ لعصر بداية الأسرات، وإن كان الأرجح تأريخها بعصر بداية الأسرات.
١٢٥
هذا، ولقد عُثر في تل مدهور
١٢٦
⋆ على دفنةٍ اشتملت على حمارين، كانت
الدفنة قد وصلتنا بحالةٍ جيدةٍ من الحفظ، زُوِّدت ببعض الأدوات والحِراب
البرونزية. وتُعَد هذه الدفنة واحدةً من الدفنات الفرعية التي كانت ملحقة
بمبنًى مغلقٍ بيضاويِّ الشكلِ، الذي ربما كانت له وظيفةٌ دينيةٌ.
١٢٧
وفي تبَّة ياريم عُثر على دفنةٍ لحمارٍ، جاء هيكله العظميُّ محترقًا،
وموضوعًا في حفرةٍ من الرماد، وربما كانت تلك الحفرة واحدةً مما عُرف باسم
حُفَر النار
١٢٨
⋆ التي عُثر عليها في العديد من المقابر.
١٢٩ ولقد تبيَّن بالدراسة أنَّ عمر هذا الحمار كان عند موته يبلغ حوالي
٨-١٠ سنوات تقريبًا.
ولقد عُثر في منطقة أبو سلابيخ
١٣٠
⋆ على دفنةٍ لحمارٍ، جاء هيكله
العظمي كاملًا وواضحَ التفاصيل، إلا أنَّ الجمجمة كان قد وضح بها آثار التحطيم،
وبدت إشارات التفحُّم والاحتراق على الهيكل العظمي، ويفترض الباحثون أنَّ هذا
الاحتراق كان نتيجةً لتأثير حرارة الرماد الذي أُلقي على سطح الهيكل العظمي بعد
الدفن، إلا أنَّ تكرار العثور على مثل تلك الدفنة المحترقة، قد يشير إلى طقسةٍ
أو شعيرةٍ معينةٍ تتعلَّق بهذه الظاهرة؛ هذا بخلاف البقايا العظمية الحيوانية
التي عُثر عليها في العديد من الحُفَر التي وُجِدت بالقرب من الكثير من مقابر
ذلك الموقع، لا سيما في المنطقة
E من الموقع،
١٣١ الشكل رقم
٧-٩٠ -
٧-٩١.
وكان من أهم دفنات الحمير بالموقع، ما جاء في المقبرة رقم ١٦٢؛ إذ عُثر فيها
على دفنة لحمارين، جاءت هياكلهما العظمية كاملةً، وكانا راقدَين إلى جوار
بعضهما البعض بطول الجدار الشرقي من حجرة الدفن، وقد اتَّجهت رأساهما إلى
الشمال. هذا، وقد عُثر على هيكلٍ عظميٍّ ثالثٍ لحمارٍ، كان راقدًا بطول الحائط
الجنوبي لحجرة الدفن أيضًا، ولكنه كان على مستوًى أعلى وأكثرَ اقترابًا من
السطح، ومن ثَم كانت حالة هيكله العظمي سيئةً للغاية.
١٣٢
وفي الفناء الداخلي للمقبرة، عُثر على حفرة ضخمة منتظمة الشكل، تقع إلى الشرق
من حجرة الدفن، عُثر فيها على دفنةٍ حيوانيةٍ، اشتملت على خمسة حميرٍ، اثنين
منها كانا إلى الشمال، وآخرين كانا إلى الشرق، بينما عُثر على الخامس إلى
الجنوب. بينما عُثر في منتصف المقبرة على دفنةٍ آدميةٍ زُوِّدت بالعديد من
المتاع الجنائزي.
١٣٣
هذا، وتُؤرَّخ تلك المقبرة ببداية عصر الأسرات، وذلك بناءً على ما جاءت به
الأختام الدائرية التي عُثر عليها بالمقبرة والتي مكَّنتنا من تأريخ تلك
المقبرة بالفترة
EDIII «بداية عصر الأسرات الثالث».
١٣٤
ويعتقد الباحثون أنَّ الدفنة المزدوجة التي عُثر عليها بالمقبرة رقم ١٦٢
والتي اشتملت على حمارين، كانت هي الدفنة الأساسية بالموقع، نظرًا للاعتناء
بأسلوب وطريقة الدفن فيها، وللعثور على بقايا حصيرٍ مجدولٍ يغطي حفرةَ الدفن،
ويغطي هيكلَي الحمارين.
١٣٥
وفي منطقة نيبور عُثر على دفنةٍ لحمار، وذلك بالقطاع
WF، جاء الحمار في وضعٍ يقترب من القرفصاء،
وكان قد دُفن بالقرب من هيكلٍ عظميٍّ لآدميٍّ، ويُعتقد أنَّ تلك الدفنة تُؤرَّخ
بعصر بداية الأسرات، إلا أنَّ هذا التأريخ لا يزال يحوطه بعض الشكِّ، لتعدُّد
مقابر ذلك الموقع واختلاف تأريخها،
١٣٦ فهل هي دفنةٌ لحمارٍ وصاحبه، أم هي دفنةٌ آدميةٌ قُدِّم فيها
الحمار كأضحيةٍ حيوانيةٍ؟ إلا أنَّه أيًّا كان التفسير، فالمهم هنا هو الاهتمام
الذي أُحيط به هذا الحيوان، والذي دعا إلى دفنه كما هو الحال مع
الإنسان.
وفي المقبرة رقم
PG/800 بجبَّانة أور، عُثر
على بقايا عربةٍ كان يجرُّها حماران وُجِدت هياكلهما العظمية في حالةٍ سيئةٍ من
الحفظ، وتبيَّن بدراستها وجودُ انحناءة إلى أعلى جهة اليمين، وأنه قد حدَث فصلٌ
لاثنتين من السيقان، وكَسْر بمنتصف الساقين الأخريين، ولربما حدَث ذلك نتيجةً
لالتواء الأجسام لأعلى وصعوبةِ المحافظة على استقامة السيقان مع هذا الالتواء.
١٣٧
هذا، ولقد عُثر على كومةٍ من الرماد وبقايا الحصير والكِسَر الفخارية وبقايا
عظامٍ حيوانيةٍ على سطح تلك الدفنة، ربما كنوعٍ من المتاع الجنائزي.
١٣٨
وفي المقبرة رقم
PG/1232 من نفس الجبَّانة،
عُثر على اثنين من هياكل الحمير كانا يجرَّان عربةً أيضًا، كما في الشكل رقم
٧-٩٢، إلا أنَّ هياكلهما العظمية جاءت بحالةٍ سيئةٍ من
الحفظ، وكانت إحدى الجماجم ترقد في مواجهة الأخرى بارتفاعٍ يزيد على مترٍ، مما
يشير إلى أنَّ مستويات الدفن كانت مختلفة. ولقد عُثر في الركن الغربي من تلك
الدفنة، على بقايا هياكلَ حيوانيةٍ أخرى متناثرةٍ، لثيرانٍ وماشيةٍ، وعُثر معها
على بقايا حصيرٍ.
١٣٩
وما كانت تلك الأضحيات الحيوانية إلا جزءًا من المتاع الجنائزي الخاص
بالمقبرة الملكية، تمامًا كما كان عليه الحال في مصر في عصر الأسرة الأولى.
١٤٠
تفسير الغرض من دفنات الحمير
لا ينفي استخدام الحمار في الحياة اليومية في بلاد الرافدين، أن يكون له
دوره الطقسي والديني، بل على العكس؛ فالحمار باعتباره واحدًا من الحيوانات
التي كان يُعتمد عليها في حمل الأوزان الثقيلة، والتخفيف على الإنسان في
ذلك، كان له بمرور الوقت مكانته ورمزيته العقائدية لدى أهل بلاد الرافدين،
وثبَت ذلك من خلالِ ما عُثر عليه من دفناتٍ خاصةٍ بالحمير.
١٤١
هذا، ولقد كانت الحمير من حيوانات الأضحية التي كان لها رمزيتها الدينية،
فهي رمزٌ للصلابة والتحمُّل والخصوبة، وهي من حيوانات الجرِّ التي لا بدَّ
وأن تُزوَّد بها الدفنة — لا سيما الملكية — إذ ستقوم بجرِّ العربات الحربية.
١٤٢ ومن ثَم كان الاعتناء بها ودفنها برفقة صاحب المقبرة، كنوعٍ من
المتاع الجنائزي،
١٤٣ كما في الشكل رقم
٧-٨٦.
خامسًا: دفنات لحيوانات أخرى
كان للحيوان — بوجهٍ عامٍّ– دوره العقائدي لدى أهل بلاد الرافدين منذ العصر
الحجري القديم، إذ عُثر من بين ما عُثر عليه بكهف شانيدار، على دفنةٍ آدميةٍ
لرجلٍ أُحيط هيكله العظمي بأكوامٍ حجريةٍ، وبقايا عظامٍ حيوانيةٍ، ربما كقربان،
ولا شكَّ أنَّ هذا نوعٌ من الطقوس الدالة على الشعور الديني لإنسان ذلك العصر.
١٤٤
وفي العصر الحجري الوسيط، تطوَّرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية، برسوخِ
معرفة الزراعة واستؤنس الحيوان، فظهرت العديد من الأفكار والمعتقَدات
المتعلِّقة بالخصب والنَّماء، وتوجَّه الإنسان إلى العناية بالحيوان أكثرَ وأكثر.
١٤٥ ولقد وضح ذلك الاهتمام بالحيوان في موقع كريم شاهير،
١٤٦
⋆ إذ عُثر على الكثير من البقايا
العظمية لحيواناتٍ مختلفة، بخلاف العثور على دفناتٍ مختلطةٍ، اشتملت على جماجمَ
بشريةٍ وعظامٍ حيوانيةٍ لحيواناتٍ ضخمةٍ وقلائدَ حجريةٍ، وذلك في أحد منازل ذلك
العصر بالموقع، مما يشير إلى ارتباط هذا المنزل بوظيفةٍ دينيةٍ، وربما كان سكان
هذا الموقع قد استخدموه لإتمام بعض الطقوس الدينية المرتبطة بعالمِ ما بعد الحياة.
١٤٧
وفي منطقة تل جاورا عُثر على مقبرةٍ آدميةٍ، زُوِّدت بالقدور الفخارية، وعُثر
فيها على الكثير من الأسنان الحيوانية،
١٤٨ ربما كانت رموزًا مقدَّسة.
ولقد عُثر في أساس المعبد الأبيض، على عظام الأطراف الأمامية لفهدٍ واثنين من
الأسود الصغيرة، ولربما كانت تلك البقايا العظمية بمثابة جزءٍ يعبِّر عن كلٍّ؛
أي إنَّ الاكتفاء بتلك الأجزاء الحيوانية، يعبِّر عن الحيوان بالكامل، ولربما
قُدِّمت تلك الأجزاء الحيوانية كقربانٍ للإلهة إنانا التي ارتبطت في طورها
المدمِّر بالحيوانات المفترِسة.
١٤٩
هذا بخلاف ارتباط الحيوانات المفترِسة، ومنها الأسد والفهد، بالإله «شاكان»،
إلهِ العالم الآخر.
١٥٠
وعُثر في تل أبو سلابيخ على الكثير من البقايا العظمية الحيوانية، التي جاءت
في مجموعاتٍ ضخمةٍ، مختلطةً مع الكثير من العظام الآدمية، وتبيَّن بدراسة تلك
البقايا العظمية الحيوانية، أنها كانت لحيواناتٍ عدةٍ، منها الكلب، والحمار،
والخنزير، والغزال، والوعل، والماشية، والأسد، بخلاف بقايا من عظام الأسماك والطيور.
١٥١
واللافت للنظر هنا هو العثور على عظام الخنزير بجميع مستويات هذا التل
الأثري، وتبيَّن بدراستها أنها بقايا عظميةٌ لخنازيرَ قُتلت دون سنِّ الثلاث سنوات.
١٥٢ وربما كانت قد قُتلت لتُقدَّم كأضاحٍ حيوانيةٍ، لا سيما وأنَّ
الخنزير لم يكن محرَّمًا لدى أهل بلاد الرافدين لأسبابٍ دينيةٍ كما هو الآن مثلًا.
١٥٣
الأسماك
عُثر على الكثير من بقايا الأسماك في دفنات منطقة خفاجة، التي ربما أشارت
إلى نوعٍ من القربان الجنائزي.
١٥٤ ولقد كانت تقدمةُ الأسماك معروفةً في بلاد النهرين في الفترات
المبكرة، واستمرَّت في مختلف الفترات، وساعد على كثرة تواجدها هناك نهرا
دجلة والفرات، وأخذت الأسماك دورها، سواء في النواحي الجنائزية كتقدمةٍ، أو
في النواحي الفنية المختلفة.
١٥٥
وعُثر على بقايا عظام الأسماك بكمياتٍ كبيرة في العديد من المعابد
السومرية، وجاءت أحيانًا مختلطةً ببقايا عظميةٍ لحيواناتٍ صغيرةٍ.
١٥٦
ففي أحدِ المعابد التي تُؤرَّخ بفترة العبيد بأريدو، عُثر على حجرةٍ
بالقرب من المدخل، اشتملت على أكوامٍ من عظام الأسماك، وعلى بقايا رمادٍ،
وربما يشير ذلك إلى نوعٍ من تقدمةِ الأسماك المعروفة بالعراق؛ فلقد تكرَّر
العثور على مثل ذلك في أوروك؛ إذ عُثر على كمياتٍ كبيرةٍ من عظام الأسماك،
جاءت مكدَّسةً ومُحاطة بسياجٍ أو سورٍ.
١٥٧
ونظرًا لقرب أريدو وأوروك من أماكن المياه فقد كانت الأسماك تُقدَّم
دائمًا للآلهة كقربانٍ جنائزيٍّ.
١٥٨ وهو تقليدٌ دينيٌّ مبكرٌ عُرف في العديد من معابد تلك الفترة،
١٥٩ واستمرَّ طَوال المراحل التاريخية الأخرى، وارتبط بعبادة
المعبود إنكي، إله الماء العذب، والمعبود الخاص بمدينة أريدو في العصر التاريخي.
١٦٠