الفضاءُ في الثمانينيات
لم تفقد ناسا قطُّ بعثة مأهولة؛ فخلال خمسة عشر عامًا، في برامج «ميركوري» و«جيميني» و«أبولُّو» و«سكايلاب»، سجَّلَتْ ناسا رقمًا مثاليًّا في إرسال رواد فضاءٍ إلى الفضاء وإعادتهم سالِمِين؛ وهو ما نمَّى لديها شعورًا بالقناعة والرضا، حيث استعدت الوكالة لتكريس مستقبلها لبرنامج المكوك الفضائي. لم يتوقَّع أحدٌ أن يرى مكوكًا فضائيًّا ينفجر في السماء فوق كيب كانافيرال، لم يتوقَّع أحدٌ أن تقع كارثة كهذه بما يقضي على برنامج الفضاء؛ مع ذلك، كان المختبر المداري المأهول قد قدَّمَ تحذيرًا بالفعل خلال فترة الستينيات من القرن العشرين.
نشأ المختبر المداري المأهول كمشروع تابع للقوات الجوية، وكان يتألف من محطة فضائية صغيرة تعلوها مركبة «جيميني» الفضائية. أُعجِبت وكالة الاستخبارات المركزية بإمكانات المختبر في مجال الاستطلاع، وساهَمَتْ في تصميمه ليكون بمنزلة نموذج مماثل لمحطات «ساليوت» العسكرية في موسكو خلال السنوات اللاحقة. وشأن محطات «ساليوت»، كان من المقرَّر أن ينطلق المختبر مزوَّدًا بكاميرا وتليسكوب كبير، «كيه إتش-١٠»، بقطر ست أقدام، حامِلًا روَّاد فضاءٍ على متنه للتعامُل معه واستخدامه.
وافَقَ الرئيس جونسون على المشروع في عام ١٩٦٥، بَيْدَ أن المختبر المداري المأهول واجَهَ بديلًا. انبثق المشروع البديل من بحوث ألبرت ويلون في وكالة الاستخبارات المركزية، الذي كان قد خَلَفَ ريتشارد بِسل في رئاسة برنامج الأقمار الصناعية في الوكالة. برز ويلون في عالَم النابغين؛ حيث كان قد حصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سن الواحدة والعشرين، ثم مضى قُدمًا للعمل مع رامو وولدريدج. وفي وكالة الاستخبارات المركزية، حظي بِسل بدعم قوي من جون ماكون — مدير الوكالة — وأراد أن يبني قمرًا صناعيًّا استطلاعيًّا غير مأهول جديدًا. عُرِفَ مشروعه هذا في الصناعة باسم «هكسجون»، بينما أطلق آخرون عليه اسم «بيج بيرد» (أي الطائر الكبير). بعد عام ١٩٦٥، جرى تمويل المشروع بوصفه مشروعًا بديلًا للمختبر المداري المأهول.
تطلَّبَ كلا البرنامجَين تصميمَ مركبة فضائية بحجم هائل، ١٠ أقدام عرضًا × ٤٠ قدمًا طولًا. كان وزناهما متماثلين أيضًا، حيث بلغ وزن كلٍّ منهما ٣٠ ألف رطل. ونظرًا لأن تلك الأبعاد كانت تفوق قدرات «تايتان ٣» القياسي بكثير، فقد أمرت القوات الجوية بتصميم نموذج مقنَّن بمواصفاتٍ أعلى، مزوَّد بصواريخ تعزيز أكبر تعمل بالوقود الصلب.
بُنِيت كاميرا المختبر المداري المأهول، «كيه إتش-١٠»، لإعطاء دقة وضوح عالية تصل إلى تسع بوصات. لم يكن نظام «هكسجون»، «كيه إتش-٩»، على هذه الدرجة من دقة الوضوح، بَيْدَ أنه كان يتضمن ميزاتٍ خاصة؛ كان يوسِّع عرْضَ المساحة المُصوَّرة إلى ٣٦٠ ميلًا، وهو ما يعادل ضِعف عرض المساحة المُصوَّرة بأقمار «كورونا» الصناعية الاستطلاعية في ستينيات القرن العشرين. كان يضع كاميرات مزدوجة قطرها ستون بوصة، تبلغ دقة وضوحها قدمين، وهو ما يقترب من دقة وضوح «جامبت» البالغة ثماني عشرة بوصة. ونظرًا لأن «هكسجون» كان بمنزلة وحدة تخزين مزوَّدة بأدوات إنزال، كان من المقرَّر أن يحمل أربعَ كبسولاتٍ قابلة للاسترجاع لإعادة الأفلام.
دعمَ البنتاجون مشروع المختبر المداري المأهول بقوة، بَيْدَ أن القوات الجوية لم تكن قد أنجزت تطوير أي مركبة فضائية مأهولة على الإطلاق، ولم تكن تعرف كيف تضبط تكاليفها. بحلول عام ١٩٦٩ ارتفعت التكلفة المتوقعة من ١٫٥ مليار دولار أمريكي مبدئيًّا إلى ٣ مليارات دولار أمريكي، ووجد المختبر المداري المأهول نفسَه واقعًا تحت ضغط ميزانية حرب فيتنام؛ وأُلغِي المشروع في مايو.
كانت وكالة الاستخبارات المركزية والقوات الجوية قد تعاوَنَتَا عن قُرْبٍ في مشروع تطوير المختبر المداري المأهول، إلا أن المشروع قد فشل — تحت ضغوط الميزانية — في الظفر بدعم ريتشارد هلمز رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية في إدارة نيكسون. كشف السبب عن معلومات مهمة؛ فقد كان في إمكان المجتمع الاستخباراتي في البلاد التعامُل ببساطة مع فكرة عدم إتمام مشروع قمر صناعي استطلاعي غير مأهول، لكنْ كان من المقرَّر أن يحمل المختبرُ المداري المأهول أفرادَ طاقمٍ، ورأى هلمز أن هذا سيزيد حجم المخاطر كثيرًا. على حدِّ تعبير المحلِّل جيفري ريشلسون، «خَشِيَ» مستشارو هلمز «من أن تؤدي حادثة يروح ضحيتها ولو رائدَ فضاءٍ واحدًا، إلى إيقافِ البرنامج لفترة زمنية ممتدة وتعرقلِ برنامج الاستطلاع».
لكن بعد ثلاث سنوات، بعدما تمَّتِ الموافقة على برنامج المكوك الفضائي ودخل طور التنفيذ، تلاشت هذه الأفكار تمامًا من عقول كبار المسئولين في ناسا؛ فقد حصل هؤلاء المسئولون التنفيذيون، وهم جيمس فليتشر (المسئول الإداري)، وجورج لُو (نائبه)، وديل مايرز (مدير برنامج المكوك الفضائي)، على الدعم الذي كانوا يحتاجونه، من نيكسون والكونجرس على حدٍّ سواء. كان المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي المطروح من قِبَل شركة «روكيت داين» محطَّ تركيزٍ رئيسي، وقد تولَّى بول كاستنهولتس، الذي كان قد أنقذ «جيه-٢» قبل بضع سنواتٍ، تصميمَه بعناية شديدة.
يتذكَّر سام هوفمان، رئيس شركة «روكيت داين» خلال مشروع «أبولُّو»، ذلك قائلًا: «تبدأ خطة هذا المشروع بإعداد قائمة بالأجزاء والمكونات الرئيسية المطلوبة. يجب أن يتضمن ذلك مجموعة غرف الدفع. وهذا بدوره سيتطلب مجموعةَ مضخاتٍ توربينية، وحاقِنًا، وحَلْقًا وفوهة. إنني أدوِّن هذه الكلمات، وأترك مساحة خالية كبيرة تحت كلٍّ منها، ومن خلال معرفتي بالصواريخ أستطيع إعداد قائمة بمجموعاتٍ فرعية أخرى يتألَّف منها كلُّ مكوِّن رئيسي؛ ثم يمكنني إجراء مزيدٍ من التقسيم، وصولًا إلى مستوى الأجزاء الفردية.
طُرِحَ المقترح الكامل للمحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، الذي ظفر بالعقد، في مجموعة من الوثائق بلغ طولها عدة أقدام. بالإضافة إلى ذلك، كان كاستنهولتس قد استخدم ٣ ملايين دولار أمريكي من أموال الشركة لبناء نموذج تجريبي لغرفة الدفع، يخضع لنظام تبريد استرجاعي ومزوَّد بحاقن يشبه الحاقن الذي سيُستخدَم في عملية الإطلاق في نهاية المطاف. في فبراير ١٩٧١، جرى تشغيل هذا المحرك على منصة اختبار لمدة نصف ثانية، وهو ما كان كافيًا لقياس أدائه، ولكن ليس بالقدر الذي يؤدِّي إلى حدوث ثقبٍ في الجانب بفِعل الاحتراق.
كان من المفترض أن يُصدِر المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي قوةَ دفعٍ مقدارها ٤٧٠ ألف رطل، من خلال حرق الهيدروجين والأكسجين. كان محرك «جيه-٢»، الذي كان يستخدم الوقود نفسه، قد أنتج قوة دفع مقدارها ٢٣٠ ألف رطل. بالإضافة إلى ذلك، كان من المفترض أن يعمل المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي عند ضغط ٣٢٦٠ رطلًا لكل بوصة مربعة، أكثر من مائتَي مرة قدر الضغط الجوي، في مقابل ٧٨٠ رطلًا لسابقه. هذا الضغط الهائل من شأنه أن يعزِّز أداء المحرك، بينما يسمح له بإنتاج قوة الدفع الخاصة به في نطاق عبوة مضغوطة. لكن تشغيله كان في منتهى الصعوبة. وُضِعَ أول محرك كامل على منصة اختبار في مايو ١٩٧٤، حيث جرى تشغيله مجددًا لمدة نصف ثانية، وخلال السنوات الخمس التالية، توالَتْ مشكلاتٌ كبرى على برنامج المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، واحدةً تلو الأخرى.
بدأت المشكلات مع المضخات التوربينية. كانت مضخة الوقود التوربينية متواضِعةَ الحجم؛ حيث كان طولها أربع أقدام وقطرها ثماني عشرة بوصة تقريبًا؛ كانت في حجم محرك خارجي كبير، لكن لكي يُضَخَّ الهيدروجين السائل عند معدل التدفق والضغط اللازمَيْن، كان لا بد من أن توفر قدرة ٧٦ ألف حصان. كانت هذه القدرة تفوق القدرة التي استُخدِمت في قيادة سفن بحرية عملاقة مثل «موريتانيا» في أوائل القرن، في عصرٍ كانت غرف المحركات والغلايات تغطِّي معظم المسافة من مقدمة السفينة إلى مؤخرتها.
كانت الصعوبة الأولى تتمثَّل في أن عمود إدارة التوربين لم يكن مثبَّتًا بإحكام في محامله؛ إذ كان يهتز في حركة دائرية. عند سرعة ٣٧ ألف دورة في الدقيقة، أدَّى الاهتزاز إلى إتلاف المحامل سريعًا. كان الحل هو تقوية المحامل وتعزيزها، بَيْدَ أن الأمر استغرق ثمانية أشهر لمعرفة الطريقة المثلى لإنجاز ذلك.
ثم ظهرت مسألة تبريد هذه المحامل وتشحيمها. لم يكن من الممكن استخدام أي نوع من الزيوت؛ إذ كان من الضروري استخدام الهيدروجين السائل. بما أن ذلك كان يشبه تشحيم محرك نفَّاث بالماء، فقد تطلَّبَ الأمر بعض الجهد. اتضح أن إحدى مجموعات المحامل لم تكن تحصل على كمية كافية من الهيدروجين، فقد تسخن أكثر من اللازم؛ ومن ثَمَّ تتوقَّف عن العمل. اقتضى الحل إعادة تصميم القنوات المسئولة عن إمداد هذه المحامل بالهيدروجين، واستغرق ذلك ستة أشهر أخرى.
ظهرت مشكلة ثالثة، وهي أرياش التوربين. كان أحد أجزاء التوربين يحتوي على ثلاث وستين ريشة، كلٌّ منها في حجم طابع بريد. كان كلٌّ منها يولِّد قدرةً مقدارها ستمائة حصان، وهو ما يماثل قدرة سيارة في سباق إنديانابوليس. كانت الأرياش واقعة تحت إجهاد شديد، وكان من المحتمَل أن تتعرَّض للكسر. كانت المشكلة تعود إلى الاهتزاز، وهو من أكثر المشكلات المعروفة لدى المهندسين، وجرى إصلاحها في نهاية المطاف، واستغرق هذا الأمر ستة أشهر أخرى.
بينما كان العمل يتقدَّم (ببطءٍ) في مضخة الوقود التوربينية، كانت مضخة الأكسجين التوربينية أيضًا قيد التطوير. صادفت المضخة مشكلات كبرى أيضًا، كانت صعوبة إيجاد حلول لها وإصلاحها أصعب. عندما تعرَّضَتْ مضخةٌ توربينية لمشكلةٍ ما، فإنها تعطَّلَتْ وتوقَّفَتْ عن العمل. تسبَّبَ تعطُّلُ مضخةِ الوقود التوربينية ببساطة في فقدان المحرك قدرته. استطاع المهندسون فكَّ المضخة والبحث عن سبب العطل، إلا أن مشكلة مضخة الأكسجين التوربينية تسبَّبَتْ في إلحاق ضررٍ بالِغٍ بالمحرك.
في مشروعات تطوير الصواريخ المبكرة، كانت أعطال مضخة الأكسجين غالبًا ما تتسبَّب في انفجار الموتور. كان المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي أكثر قوةً. لاحتواء ضغطه العالي، بُنِي بسُمْكٍ قوي ممَّا يجعل انفجاره نادرًا، ولكن احتمال اشتعال النيران فيه كان أمرًا واردًا، وقد حدث بالفعل. كان مصنوعًا من النحاس والنيكل والصُّلب؛ المواد التي لا نعتبرها من المواد المُسبِّبة لمخاطر الحريق. لكن، عند درجات الحرارة ومستويات الضغط الخاصة بالمحرك الرئيسي للمكوك الفضائي — في وجود الأكسجين السائل — يمكن لأي شيء أن يحترق فعليًّا. تؤدِّي هذه الحرائق عادةً إلى تدمير جانبٍ كبيرٍ من المحرك، حتى إنه يصعب اكتشاف الجزء الذي تعرَّضَ للتلف على وجه التحديد، أو التسلسل الذي انتشرت به النيران.
كانت مضخة الأكسجين التوربينية تعاني من مشكلتين رئيسيتين؛ استغرقت المشكلة السهلة ستة أشهر لاكتشافها والتوصُّل إلى حلٍّ لها. كانت هذه المشكلة عبارة عن مانع تسرُّب سريع الدوران يؤدي إلى فصل الأكسجين السائل عن الغازات الساخنة في التوربين. كان من المفترض أن يدور مانع التسرب دون احتكاك، لكنه كان يتلامس مع جزء آخَر في المحرك؛ أدَّى هذا التلامُس إلى توليد حرارة بفِعْل الاحتكاك، وهذه الحرارة كانت كافيةً لإشعال المعدن، مثلما يحدث عندما يشرع فريق كشَّافة في إشعال نارٍ عن طريق حكِّ اثنتين من العصي معًا. في النهاية، عالجَتْ «روكيت داين» هذه المشكلة بنجاحٍ عن طريق اختيار نوعٍ مختلفٍ من موانع التسرُّب.
تمثَّلَتِ المشكلة الأصعب في أن محامل مضخة الأكسجين التوربينية كانت تعطل على نحوٍ متكرر وتحترق عن آخِرها. في النهاية، أثمرت مجموعة من الحِيَل المتنوعة في علاج المشكلة. أُعِيد تصميمُ عمود إدارة التوربين لتحقيق مستوًى أفضل من التوازن. مثلما يتلف إطار سيارة غير متوازن سريعًا، تلفَ عمود إدارة التوربين غير المتوازن بالقدر الكافي، الذي يدور بسرعة ٣١ ألف دورة في الدقيقة، على نحوٍ أسرع ممَّا ينبغي، متسبِّبًا في تعطُّل الوحدة وتوقُّفها عن العمل. لم يكتفِ المصمِّمون بإعادة توازُن عمود الإدارة فحسب، بل عملوا على تقوية دعائم المحامل وتعزيزها. أخيرًا، عمدوا إلى تكبير حجم المحامل وحلقاتها الداخلية، أو حواملها، وأعادوا بناءَها بحيث تحمل أحمالًا أثقل. بعد عام ونصف عام، نجحت محامل المضخات التوربينية هذه في اجتياز الاختبارات.
حدث آخِرُ عطل في محامل المضخة في مارس ١٩٧٧، وبحلول ذلك الوقت كان برنامج المكوك الفضائي بأكمله يواجه صعوبات جمَّة. منذ البداية، كان تمويل البرنامج يعتمد على قدر كبير من التفاؤل، حيث كان يفتقر إلى الاحتياطات المالية التي يمكن من خلالها التعامُل مع المشكلات الرئيسية، ولم يتحسَّن الوضع كثيرًا عندما فرض مكتب الإدارة والموازنة استقطاعاتٍ تجاوزَتْ ٣٠٠ مليون دولار أمريكي. وكرَدِّ فعلٍ على ذلك، وضعت ناسا استراتيجيةً عنوانها «الإدارة الموجَّهة نحو النجاح»، كانت توحي في ظاهرها بالأمل لكنها تضمر في باطنها اليأس. على عكس قانون ميرفي القائل بأن أي شيءٍ سيئ تتوافر الإمكانية لحدوثه سوف يحدث، افترض هذا الأسلوبُ أن كل شيء سيسير على ما يرام. على حدِّ تعبير أحد المسئولين، «يعني الأمر أن تصمِّم كلَّ شيء في إطار التكلفة المرصودة له، ثم تدعو أن يتم بنجاح.»
ترجع جذور هذا الأسلوب إلى أسلوب الاختبار الشامل في مشروع «أبولُّو»، الذي استُخدِم في إطلاق الصاروخين «ساتورن آي-بي» الكامل و«ساتورن ٥» المتعددَي المراحل، في محاولات إطلاقهما الأولى. مع ذلك، انبثق أسلوب الاختبار الشامل عن الثقة الناشئة عن الاختبارات التمهيدية الموسَّعة، في إطار برنامج مُموَّل بسخاءٍ استطاع التغلُّبَ على مشكلاته. على النقيض من ذلك، انتهى المطاف بأسلوب الإدارة الموجَّهة نحو النجاح بما يشبه تطوير روسيا لصاروخها القمري «إن-١». بالنسبة إلى المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، كان الأمر يعني اختبار محركاتٍ كاملة قبل ثبوت فعالية مكوناتها الرئيسية، مع تقليل قِطَع الغيار المستخدمة. مثلما أشارت مجلة «ساينس» إلى الأمر، فإن «روكيت داين» «قد أنشأت كل شيء وفق تصميم جديد، وجمعت كل الأجزاء معًا، وأدارت الزر وهي تأمل أن يُكتَب لها النجاح والتوفيق. ومع ذلك، وقعت خمس حرائق كبرى على الأقل».
كانت خطة التطوير الأصلية في عام ١٩٧٢ تقتضي إطلاق المكوك الفضائي في أولى رحلاته المدارية في مارس ١٩٧٨. لكن بحلول ذلك الشهر، كانت المحركات في مرفق اختبار المسيسيبي ولم تكن حالتها تسمح بإجراء أي شيء. ربما كان من الممكن الكشف عن مزيد من العيوب الفردية التي أدت إلى خلل وظيفي في حال إجراء مزيدٍ من الاختبارات، لكن نظرًا لأن المحرك بالكامل كان قيد الاختبار، كانت هذه المحركات الصاروخية الباهظة عرضةً لأن يعطل أحد أجزائها في كل مرة. أدَّى أحد تلك الأعطال إلى إلحاق ضرر بالغ بمنصة الاختبار نفسها، ونظرًا لأنه ما من أحد كان لديه المال اللازم للاستعداد لهذه المشكلة، تأجَّلَ برنامجُ اختبار المحرك بالكامل لأشهرٍ حتى أُعِيدَ بناء المنصة.
حلَّت كارثة أخرى مجددًا بعد أعياد الكريسماس مباشَرةً في عام ١٩٧٨، عندما انفجر أحد المحركات؛ لم يرجع السبب هذه المرة إلى المضخات التوربينية، بل كانت أسباب المشكلة الجديدة تتمثَّل في صمام الأكسجين الرئيسي وأحد المبادلات الحرارية. عُولِجَت مشكلة الصمام بسرعة من خلال إعادة تصميمه. كانت مشكلة المبادل الحراري أقل بساطةً؛ فعلى حدِّ تعبير أحد كبار المديرين: «يظل عطل المبادل الحراري غير مفسَّر؛ ممَّا يُشعِرك بالإحباط والاستياء؛ فهذه الحوادث التي تقع في مرحلة متأخرة من برنامج الاختبار لا تمنحك أيَّ قدرٍ من الثقة.»
حدثت أعطال أخرى خلال الاختبارات التي أُجرِيت في شهرَيْ مايو ويوليو من عام ١٩٧٩. لكن، بحلول ذلك الوقت، كان المحرك قد بدأ يكتسب بعض الموثوقية، وانتقل المهندسون إلى جولة جديدة من الاختبارات. كان من المقرر إطلاق المكوك الفضائي بمجموعةٍ تتألَّف من ثلاثة محركات رئيسية، وحاوَلَ المهندسون تشغيلَ هذه المجموعة من المحركات لمدة ثماني دقائق، وهي المدة الكاملة المستغرَقة في إطلاق مكوك فضائي إلى مدارٍ ما. في نوفمبر، بعد تسع ثوانٍ من الاختبار، كشفت الأجهزة عن وجود مشكلة وبدأت عملية إيقاف التشغيل؛ وهو ما أسفَرَ عن كسر فوهةٍ كانت تحمل هيدروجينًا للتبريد؛ ممَّا أدَّى إلى احتراق الأجزاء الداخلية من المحرك. لم تنجح عملية إطلاق بالمدة الكاملة للمحركات الثلاثة جميعها حتى شهر ديسمبر.
على الرغم من ذلك، لم يكن الأمر كله كئيبًا؛ فقد لاقى البرنامج الآن دعمًا فعَّالًا من جانب الرئيس كارتر، نظرًا لاهتمامه الشديد بالحد من الأسلحة. ترجع الجهود الدبلوماسية في هذا الصدد إلى عام ١٩٦٩، عندما أطلق نيكسون محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (المعروفة باسم معاهدة سولت) مع موسكو. أدَّتْ معاهدةُ سولت الأولى، في عام ١٩٧٢، إلى الحد من جهود القوتين العظميين في بناء نُظُم صواريخ باليستية مضادة. كان كارتر يسعى في تلك الأثناء إلى عقد معاهدة سولت الثانية، التي كانت تهدف إلى وضع قيود فورية على القوى الإجمالية لهاتين الدولتين من الصواريخ والقاذفات. كان من المقرَّر أن هذه الاتفاقية تتطلَّب أقمارَ استطلاع صناعية للتحقُّق، وكان المكوك الفضائي سيتولَّى مهمةَ إطلاقها.
في تاريخ يرجع إلى عام ١٩٧٠، لجأ فليتشر — مدير ناسا — إلى القوات الجوية للحصول على الدعم السياسي الذي سمح له بإطلاق هذا البرنامج. قدَّمَتِ القوات الجوية الدعم الذي عزَّزَ من هذه الاحتمالات في أوقاتها العصيبة. كان الرجل الذي أحدث فرقًا هو هانز مارك، الذي كان يرأس مركز إيمز للأبحاث التابع لناسا، والذي كان ملتزمًا التزامًا قويًّا تجاه برنامج المكوك الفضائي. اختاره كارتر وكيلًا للقوات الجوية. رُشِّحَ مارك أيضًا رئيسًا لمكتب الاستطلاع الوطني، وهو مركز تابع للبنتاجون كان يدير أعمالَ مراقَبةِ الفضاء للمجتمع الاستخباراتي الأمريكي بالكامل. بقبول هذه التوصيات، أصدر كارتر توجيهًا رئاسيًّا، وهو التوجيه رقم «بي دي/إن إس سي-٣٧» لشهر مايو ١٩٧٨، صدَّقَ بشدة على المكوك الفضائي. واصَلَ كارتر متابَعةَ هذا التوجيه بالسعي إلى توفير مزيدٍ من التمويل لناسا في عام ١٩٧٩، مؤكِّدًا على رغبته في تخصيص قدرٍ كافٍ من التمويل للمكوك الفضائي بما يضمن نجاحه.
عندئذٍ فقط، بينما كان تطوير المحرك لا يزال أمامه وقت طويل ليكتمل، واجَهَ البرنامج مشكلةً أيضًا فيما يتعلَّق بالحماية الحرارية. في المركبات الفضائية السابقة، بما فيها «أبولُّو»، استُخدِمت دروعٌ حرارية قابلة للإزالة للوقاية من درجات الحرارة الشديدة عند ولوج الغلاف الجوي، لكنَّ هذه الدروع كانت ثقيلة ولا يُسمَح باستخدامها إلا لمرة واحدة فقط. ونظرًا لأنه كان من المقرَّر أن يكون المكوك الفضائي قابلًا لإعادة الاستخدام، فإنه كان يتطلَّب حمايةً حرارية تستطيع تحمُّل معاوَدةِ الولوج إلى الغلاف الجوي مراتٍ عديدة، وكان لا بد أن يكون وزن هذه الحماية الحرارية خفيفًا. اقتضى الأمر استخدام قرميداتٍ من ألياف السليكا الملبَّدة، مُلصقة أو مُغرَّاة بالسطح الخارجي للمكوك الفضائي؛ تمثَّلَتْ وظيفة هذه الدروع في أن تكون بمنزلة عوازل، تفرِّق الحرارة بعيدًا مع الحيلولة دون نفاذها إلى داخل المركبة. كانت هذه مسألة حيوية؛ إذ كان من الممكن أن تؤدي الحرارة — في حال نفاذها — إلى حرق المركبة عن آخِرها وموت روَّادها حرقًا.
خشي الجميعُ أن يتآكل القرميد مثلما تتآكل ألواح الأسقف، وكان تركيبه يتطلَّب حرصًا بالغًا. تمثَّلَتْ عملية التركيب في وضع قرميدتين، بحجم ست بوصات أو أقل غالبًا في أحد الجوانب، ثم تصميم قرميدة ثالثة لملء الفراغ بينهما. كان العاملون يقيسون الفراغ المتوافر للقرميدة الثالثة بعناية، ثم يرسلون المعلومات إلى الشركة المتعاقدة لتركيب القرميدات، وهي شركة «لوكهيد» بمدينة سانيفال في كاليفورنيا، ثم تُصنَّع القرميدة الثالثة هناك وفق الطلب. كان الأمر يستغرق من الشخص الواحد ثلاثة أسابيع لتركيب أربع قرميدات، وكان الأمر يتطلَّب ٣١ ألف قرميدة لتغطية مكوك فضائي مداري واحد.
انتقل المكوك «كولومبيا»، وهو أول مكوك فضائي يتضمَّن هذه الحماية الحرارية، من مصنع التجميع في كاليفورنيا إلى كيب كانافيرال في مارس ١٩٧٩، وانتقل مع المكوك ألفَا موظفٍ من شركة «روكويل» الدولية المُصنِّعة له؛ كان عليهم تركيب ما يقرب من عشرة آلاف قرميدة لم يكن قد جرى تركيبها بعدُ، كما كان عليهم استبدال ٧٥٠٠ قرميدة أخرى تلفت أثناء النقل. ثم أطَلَّ أسلوب الإدارة المُوجَّهة نحو النجاح برأسه مجددًا، عندما أظهرت اختبارات أنفاق الرياح المتأخرة أن كثيرًا من القرميدات ربما ينفصل أثناء رحلة الطيران. تطلَّبَ هذا الأمر إجراءً استكشافيًّا حيث واصَلَ بعض موظفي «روكويل» تثبيت القرميدات، بينما حاوَلَ آخَرون اقتلاعها باستخدام مضخات تفريغ، وقد تطلَّبَ الأمرُ إزالةَ الكثير من القرميدات و«رفع كثافتها» — أيْ معالجتها بمزيدٍ من السليكا لضمان التئامها بإحكام مع المادة اللاصقة — قبل التصديق على ملاءمتها وصلاحيتها للطيران.
مع تزايد التكاليف وطول فترات التأخير، وجدت ناسا نفسها تهمل جوانب أخرى مهمة في المشروع، لا سيَّما برنامج استكشاف الكواكب. قبل عقدٍ مضى، كانت هذه الوكالة تأمل في إرسال روَّاد فضاء إلى المريخ، وبَنَت المركبة «فايكنج» الفضائية التي أجرت عمليات إنزال آلي؛ لكنْ، لم تكن الميزانية تتضمَّن تمويلًا يكفي لأكثر من مركبتي «فايكنج» اثنتين فقط في عام ١٩٧٦، على الرغم من أن البعثات الإضافية كانت ستصبح ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى العلماء. في مختبر الدفع النفاث، كان ثمة اهتمامٌ بالغ بمركبة «فينوس» المدارية التي كانت ستخترق سُحُبَ الكوكب بالرادار لرسم خرائط لسطحه غير المرئي. لم يَحْظَ هذا المقترح بالدعم، ونظرًا لنقص التمويل، لم ينطلق جهازُ رسمِ الخرائط «فينوس» حتى عام ١٩٨٩. كما أن ناسا لم ترسل مِسبارًا إلى المذنَّب هالي، على الرغم من أن ظهوره في عام ١٩٨٦ كان يمثِّل فرصة لا تتأتَّى إلا مرة واحدة في العمر.
ثم كانت ثمة مركبة «جاليليو»، التي كان من المقرر لها متابَعة «فوياجر» بالدوران حول المشتري بدلًا من التحليق فقط مرورًا بهذا الكوكب. حصل مختبر الدفع النفاث على الموافقة على هذا المشروع في عام ١٩٧٧، وكان من الممكن إطلاق «جاليليو» على متن صاروخ طراز «تايتان ٣»؛ لكن في العام نفسه، قرَّرَتْ ناسا عدم شراء مزيدٍ من هذه الصواريخ. كان هذا جزءًا من سياسة تخصيص كل جهودها ومواردها لبرنامج المكوك الفضائي، بَيْدَ أن الأمر بَدَا في البداية كما لو أن المكوك الفضائي سيصبح جاهزًا خلال فترة طويلة. بعد عامين، أشار جون كاساني، مدير المشروع، آسِفًا إلى هذا الموضوع قائلًا: «كان من المقرَّر في الأساس وفق الجدول الزمني الموضوع، أن ننطلق في محاولة الإطلاق السادسة والعشرين، ثم أجبرتنا التأجيلات المتواصلة في الجدول الزمني على الانطلاق في المحاولة السابعة. كنا نعتقد بالتأكيد أن لدينا متسعًا كافيًا من الوقت.» أثَّرَتْ تأجيلاتُ برنامج المكوك الفضائي على «جاليليو»، التي لم يكن يمكنها الانطلاق دونه، وارتفعت تكلفة «جاليليو» من ٤٥٠ مليون دولار أمريكي إلى ٨٥٠ مليون دولار أمريكي. في عام ١٩٨١ أمر مكتب الإدارة والموازنة بإلغاء البرنامج، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي إلى وقف برنامج استكشاف الكواكب، بحيث لا تتبقى سوى مهمتَين متمثلتين في التقاء «فوياجر ٢» بالكوكبين أوروانس ونبتون. نجح مؤيدو رحلة «جاليليو» في إنقاذها، بَيْدَ أن الرحلة كانت وشيكة.
استمرت الرحلة ليومين وسارت على نحوٍ جيد عمومًا. كانت أبواب غرفة البضائع مفتوحة، ثم لم تُغلَق كما يجب، لكن لم يتسبَّب ذلك في أي مشكلات. انهار المرحاض المعدوم الجاذبية. انفصلت بعض القرميدات خلال عملية معاوَدة الولوج إلى الغلاف الجوي، بَيْدَ أن التصميم سمحَ بحدوث ذلك ولم يؤدِّ انفصالُها إلى إحداثِ ثقبٍ في المركبة الفضائية. إجمالًا، كانت البعثة ناجحةً.
بينما كانت ناسا تتكيَّف مع تقنياتها التكنولوجية الجديدة، كان السوفييت يتتبعون نجمهم الخاص، من خلال رحلات مأهولة طويلة المدى في «ساليوت». مع ذلك، تجاوزت بعثة «ساليوت ٤» التي استغرقت ٦٣ يومًا في عام ١٩٧٥ الحدودَ المعروفة للبقاء في الفضاء، حيث كان على رائديها بيوتر كليموك وفيتالي سيفاستيانوف جلب كلِّ المؤن التي كانا يحتاجانها. للبقاء مدة أطول، كان لا بد أن يتمكَّن طاقم الرحلة من الحصول على كمياتٍ إضافية من الغذاء والماء والأكسجين أثناء وجودهم في المدار.
من ثَمَّ، أدخلت موسكو تعديلاتٍ على «سويوز» و«ساليوت» لإفساح المجال أمام بعثات طويلة المدة للغاية. حوَّلَ المهندسون «سويوز» إلى مركبة فضائية غير مأهولة، باسم «بروجرس»، يمكنها حَمْل المؤن. زُوِّدت المركبة بكاميرتين تليفزيونيتين، بهما عدستان تسمحان للمراقبين الأرضيين بتوجيه الكاميرتين لرصد عملية التحامٍ آلي مع «ساليوت». ونظرًا لأن المركبة «ساليوت» المدارية كان ملتحمًا بها عند أحد أطرافها مركبة «سويوز»، التي وصل على متنها روَّاد «ساليوت»، والتي سيغادرون على متنها أيضًا، كان من الضروري إضافة موضع التحام ثانٍ على الطرف الآخَر. وكان مقررًا عندئذٍ أن تضم «ساليوت» كلًّا من «سويوز» و«بروجرس» في آنٍ واحد، مثل قاطرة تجرُّ عربة قطار عند كل طرف.
كان الهدف المبدئي هو إطلاق رحلة مدتها ثلاثة أشهر، حيث انطلقت «ساليوت ٦» إلى السماء أعلى الصاروخ «بروتون» في سبتمبر ١٩٧٧. انطلق رائدا فضاءٍ لكنهما فشلَا في محاوَلة الالتحام؛ تبعهما رائدان آخَران: يوري رومانينكو قائد المركبة، وجورجي جرتشكو مهندس كان على دراية وثيقة بآلية الالتحام؛ والتحما في الموضع المخصَّص لمركبة «بروجرس». أجرى جرتشكو عمليةَ سيرٍ في الفضاء وتحقَّقَ من أن موضع الالتحام الآخَر على ما يرام، بينما كان رومانينكو يشاهده من فتحة خروج. من الواضح، أن المشكلة كانت تكمن في نموذج «سويوز» الأول الذي فشل في الالتحام، وليس في «ساليوت».
مع وجود الكثير من الأمور التي انشغلا بها، مكثا فترةَ بقائهما الطويلة. استغرقت الفحوص الطبية وقتًا طويلًا، مثلما استغرقت عمليات التنظيم والترتيب. على أي حال، كان من بين أهداف إرسال روَّادٍ إلى الفضاء هو الاعتناء بمعدات دعم الحياة، وللحفاظ على صحتهما ولياقتهما البدنية، تضمَّنَتِ المعدات الموجودة على متن المركبة مشَّاية ودرَّاجة رياضية (إكسرسايكل) ومجموعة من حبال بانجي. لم تَرُقْ لهما تلك الأدوات؛ إذ كانت التمرينات الرياضية تجعلهما يتصبَّبان عرقًا وتفوح منهما الروائح الكريهة، وكانا يتجنَّبانها متى استطاعا. في بعض الأوقات، كانا يشغِّلان المعدات على متن المركبة؛ كانت هذه المعدات تشمل كاميرا متعددة الأطياف للأرصاد الأرضية، وكاميرا لرسم الخرائط، وتليسكوبًا يعمل عند الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء البعيدة.
وصلَ صديقان لهما في زيارة، حيث أرسلا مركبة «سويوز» جديدة، ثم عادا إلى الأرض في المركبة القديمة بعد أن مكثا في الفضاء خمسة أيام. جلبا معهما البريد والصحف، ثم جاءت مركبة المؤن «بروجرس»، مُحمَّلةً بكميات وفيرة من الطعام تضمَّنَتِ الفاكهة الطازجة، ومسجِّل كاسيت يحتوي على أشرطة، وملابس نظيفة وملاءات، فضلًا عن الأدوية والبهارات. وضعَ جرتشكو ورومانينكو نفاياتهما على متن هذه المركبة، ثم أنزلاها من المدار لتحترق في الجو، ومعها النفايات وكل شيء. ثم جاءت زيارة ثانية من «سويوز»، على متنها رجل من تشيكوسلوفاكيا يُدعَى فلاديمير ريمك، وهو أول إنسان في الفضاء لم يكن سوفييتيًّا ولا أمريكيًّا، وهو ما دشَّنَ برنامجًا جديدًا، كان يتضمَّن روَّادَ فضاءٍ من دول أخرى يحلِّقون ضيوفًا ضمن الأطقم السوفييتية.
هبط جرتشكو ورومانينكو في مارس ١٩٧٨، بعد أن سجلا رقمًا قياسيًّا ببقائهما لمدة ٩٦ يومًا في مدار فضائي. تلت ذلك بعثات أطول استمرت لمدة ١٤٠ يومًا، ثم ١٧٥ يومًا، ثم ١٨٥ يومًا، وقُورِن ذلك مع فترة ٨٤ يومًا التي استغرقتها أطول بعثة لمحطة «سكايلاب» ووفرت رؤية مفيدة حول الآثار الطبية لانعدام الوزن. تمثَّلَتْ أكثر الآثار خطورةً في فقدان الكالسيوم من العظام، وهو ما زاد من مخاوف أن تتسبَّب رحلة فضائية في تحويل العمود الفقري لرائد فضاءٍ قوي البنية إلى هُلام. لم تكن لدى الأطباء السوفييت أيُّ وسائل مفيدة لقياس الكمية الفعلية المفقودة من الكالسيوم؛ ومع ذلك، تراجَعَتْ هذه المخاوف بالنظر إلى الصحة الجيدة التي كان عليها رائدا الفضاء عند عودتهما.
كانت «ساليوت ٦» محطة فضائية. بعد النجاح المبدئي للمكوك الفضائي، في أبريل ١٩٨١، كانت ناسا مستعِدَّة للإعلان بوضوح عن رغبتها هي أيضًا في محطة فضائية. على أي حال، كانت المحطة الفضائية تحتلُّ مكانًا بارزًا في أجندة الوكالة لما يزيد عن عقد من الزمن، وقد اشتُرِيت بالفعل المعدات اللازمة ودُفِع ثمنها، فصار هناك مختبر «سكايلاب» ثانٍ جاهزٌ للعمل، فضلًا عن مركبتَيْ إطلاق «ساتورن ٥». لسوء الحظ، كانت «سكايلاب» في متحف الطيران والفضاء الوطني، بينما كانت مركبتا «ساتورن» معروضتين في مركزَيْ ناسا في هيوستن وكيب كانافيرال؛ حيث كانتا عرضةً للرياح والأمطار. ربما كان يمكن للوكالة أن تضعها جميعًا في مخزن آمِن، مثلما فعلت مع «ساتورن ١-بي» ومركبة «أبولُّو» اللذين كانا قد انطلقا للالتحام بالمركبات الروسية في عام ١٩٧٥؛ لكنْ كما بَدَتِ الأمور آنذاك، كان برنامجُ المحطة الفضائية يسعى إلى تحقيق ما كانت ناسا قد امتنعَتْ عن فعله من خلال صواريخ ومختبر مداري جرى بناؤهما وصارَا جاهزين للاستخدام.
في هيوستن، كانت مجموعة صغيرة من المصممين قد أعادت إشعال هذا الحماس باقتراح إنشاء مركز عمليات للفضاء. كان هذا النموذج يستدعي نقل مجموعة من الوحدات في المكوك الفضائي وتجميعها في مدار فضائي، في ظل حيِّز يتسع لعددٍ من الأشخاص يتراوح بين تسعة أشخاص واثني عشر شخصًا. كان من المقرر أن يتولى هؤلاء الأشخاص تجميعَ مركبة فضائية ضخمة مثل الهوائيات، للاستخدام في علم الفلك اللاسلكي والمنصات المدارية لتكون بمنزلة الأقمار الصناعية للاتصالات. كان من المقرَّر أن يوفر مركز عمليات الفضاء أيضًا قاعدةً لإصلاح المركبات الفضائية الموجودة وصيانتها. لنقل الأقمار الصناعية ذهابًا وإيابًا إلى مداراتها المناسبة، كان من المقرَّر أن تكون لمركز عمليات الفضاء مركبتُه الصاروخية الخاصة، التي تُوضَع في حظيرةٍ وتُزوَّد بوقود دفعي مستمد من خَزَّاناتٍ في مركز عمليات الفضاء نفسه.
كان نموذج مركز عمليات الفضاء يتماشى كثيرًا مع خلفية المكوك الفضائي؛ فقد صُمِّم المكوك الفضائي لإطلاق المركبات الفضائية للبلاد، مع الاحتفاظ بقوة رفع تكفي لبناء محطة فضائية في الخطوة التالية. كشف مركز عمليات الفضاء عن الهدف من إنشائه، وهو تجميع الأقمار الصناعية وصيانتها، ومع ذلك، لم يكن الأمر يتطلَّب أن يكون المرء عالِمَ صواريخ حتى يدرك أن مداه الفضائي، الذي كان يبلغ مدارًا جيوتزامنيًّا، يمكن أن يفسح المجال أمام نموذج أكبر يحمل روَّاد الفضاء مجددًا إلى القمر، كبداية لإرسال بعثة إلى المريخ.
تولَّى الرئيس ريجان مهامَّ منصبه في مستهل عام ١٩٨١، ورشَّحَ أشخاصًا جُدد لقيادة ناسا. ترأس الوكالة فيما بعدُ جيمس بيجز، الذي كان قد تولَّى مؤخرًا إدارةَ برنامج الطائرة المقاتلة «إف-١٦» في شركة «جنرال داينمكس». انتدبَ ريجان هانز مارك من القوات الجوية وألحقه بناسا ليكون نائبًا لجيمس بيجز. كان لدى بيجز ومارك اهتمامٌ كبير بإنشاء المحطة الفضائية، بَيْدَ أن مركز عمليات الفضاء لم يكن ليَفِي بالغرض. كان نموذج التصميم الخاص بالمركز محدودًا للغاية، وكان من المتوقَّع أن يلقى انتقاداتٍ كثيرة. تذكَّرَ المديران أن تصميمات المكوك الفضائي المُفصَّلة في عام ١٩٧١ قد أثارت معارَضةً شديدةً من جانب مكتب الإدارة والموازنة، وهو ما اضطر ناسا إلى الحد من خططها وتضييق نطاقها. لتجنُّب هذا المصير هذه المرة، كان عليهما أَلَّا يلفتا الأنظارَ إليهما حتى يحصلا على موافَقة ريجان.
بناءً على ذلك، أنشأ بيجز مجموعة عمل في مايو ١٩٨٢ تكون معنية بمشروع المحطة الفضائية. لم يكن من المقرَّر أن تقدِّم هذه المجموعة نموذجَ تصميمٍ كأمر واقعي، بل أن تُجرِي دراساتٍ وتستطلع آراء المستخدمين المُحتمَلين. استند هذا الأسلوب إلى وجهة النظر التي تفيد بإنشاء المحطة المثلى التي تلبي احتياجات هؤلاء المستخدمين. تجنَّبَ هذا الأسلوبُ أيضًا الالتزامَ المبكر بتصميم ثابت قد يصير محل انتقادٍ من جانب المعارضين. قال روبرت فرايتاج، أحد الأشخاص الرائدين في مجموعة العمل: «نرفضُ نهائيًّا رسْمَ صورة لمحطة فضاء.»
على الرغم من ذلك، كان الأمر يتطلَّب ما هو أكثر من الدراسات الداخلية للحصول على تصديق رئاسي على المشروع. كان من المتوقَّع أن يمثِّل مشروعُ إنشاءِ محطة فضائية خطوةً كبرى، وكان فيه مساسٌ بمخاوف عدد من الإدارات الأخرى: البنتاجون، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة التجارة التي تمتلك أقمارًا صناعية للأرصاد الجوية، ووزارة الخارجية المهتمة بالتعاون الدولي في مجال الفضاء. ربما حاوَلَ بيجز تقديم خطة إنشاء المحطة الفضائية في لقاءٍ شخصي بالرئيس ريجان، بَيْدَ أن ريجان لم يكن ليقتنع بالأمر؛ إذ كان سيصرُّ على ضرورة أن تُمنَح كل تلك الأطراف المعنية فرصةً عادلة للاستماع إلى آرائها. كانت لدى بيجز مشكلة محددة، حيث لم يكن ثمة أي اهتمام حقيقي بالمحطات الفضائية خارج ناسا نفسها. كان «المستخدمون»، الذين كان بيجز مهتمًّا جدًّا بآرائهم، في معظمهم من عملاء ناسا، وكانوا على استعدادٍ للتوصية بما يريد أيًّا كان.
في تلك الأثناء، دخل جلبرت راي — وهو كولونيل شاب ومفعم بالحماس من القوات الجوية — حياة بيجز. كان راي شخصًا نحيفًا وطويل القامة، وكان له شعر أسود كثيف ومجعَّد، وكان من الأشخاص الذين يلائمهم الزي الرسمي للقوات الجوية. عمل راي مع الجنرال ألكسندر هيج في مقر الناتو في أوروبا، وتذكَّره هيج عندما صار وزيرًا للخارجية. كان راي قد قضى أيضًا ثلاث سنوات في البنتاجون، حيث ساهَمَ في إنشاء إدارة الفضاء في القوات الجوية، وقد لعبت تلك الإدارة دورًا رئيسًا في الفضاء على مدى فترة طويلة، وكان هذا الدور يتزايد. في ظل إدارة ريجان، كان من المقرَّر أن تصير برامج الفضاء العسكرية أكبر من برامج ناسا. كان راي يشغل آنذاك منصب مدير برامج الفضاء، وهو منصب عضو عامل في مجلس الأمن القومي. حظي بدعم رئيس مجلس الأمن القومي، ويليام كلارك، الذي كان صديقًا قديمًا لريجان. وكان راي مؤيدًا قويًّا لفكرة إنشاء محطة فضائية.
كان من المقرَّر أن يلقي ريجان خاطبًا مهمًّا حول برنامج الفضاء في يوليو، وأَمَلَ بيجز في تجاوُز عملية المراجعة المشتركة بين الوكالات بإقناع الرئيس بإعطاء تعهُّد مباشِر على غرار جون كينيدي، مُعلِنًا هذا البرنامج الجديد على غرار جون كينيدي عندما استهلَّ مشروعَ «أبولُّو». أثار أتباعه تخرصاتٍ بأن الرئيس سيفعل ذلك، مع ممارسة ضغوط قوية وتنظيم حملة كتابة خطاباتٍ تطالِب بمحطة فضائية. أحصى موظفو البيت الأبيض سبعة عشر مقالًا في الصحف والمجلات، تتوقَّع أن يعلن ريجان موافَقته. التقى بيجز براي، الذي كان يساعد في كتابة خطاب الرئيس، واتفقا معًا على الكلمات التي من شأنها أن تجعل الأمر رسميًّا: «يجب أن نتطلَّع بقوة إلى المستقبل بالبرهنة عمليًّا على إمكانية المكوك الفضائي وترسيخ كيان مأهول دائم في الفضاء.»
كان مقررًا أن يلقي ريجان هذا الخطاب في قاعدة إدواردز الجوية في ٤ يوليو، كجزءٍ من احتفالية صاخبة بالفضاء. كان من المقرَّر أن يهبط المكوك «كولومبيا» هناك بعد الانطلاق في رحلة مدارية أخرى، وكان مقررًا أيضًا أن ينطلق مكوكٌ فضائي مداري آخَر، وهو «تشالنجر»، صوب كيب كانافيرال على متن طائرة «بوينج ٧٤٧»، وكان ريجان مَنْ سيعطي بنفسه أمرَ الانطلاق إلى قائد الطائرة. عندما حان يوم العودة، كانت ثمة فرقة موسيقية تعزف في موقع الهبوط، وكانت الأعلام ترفرف، وبلغَ عدد الحاضرين خمسين ألف شخص. بالإضافة إلى ذلك، كان مراقبو رحلة ناسا قد أجَّلوا على نحوٍ مدروس هبوطَ «كولومبيا» لإجراء دورة إضافية في مدار، حتى يتسنَّى لريجان الحصول على قسط أكبر من النوم.
وقف الرئيس مع الوفد المرافِق له تحت شمس الصحراء الحارة، بينما قدَّمَ إليه بيجز مجموعةً من روَّاد الفضاء في بذلات طيران زرقاء. بعد ذلك، حسبما تذكَّرَ ريجان لاحقًا، «طلبوا منَّا الإسراع إلى المنصة، إذ قالوا لنا إن الوقت قد حان للصعود إلى المنصة، بينما كان المكوك الفضائي في طريقه إلى الهبوط. قالوا إنه يقترب». سأل الرئيس: «أين هو الآن؟» فأجاب أحدهم: «فوق هونولولو تمامًا.» كانت هاواي على مسافة بعيدة مثلها مثل واشنطن، وعلى حدِّ تعبير ريجان: «أدركتُ المعجزة برمَّتها حينئذٍ.»
ثم واصَلَ خطابه قائلًا: «يجب أن نتطلَّع بقوة إلى المستقبل بالبرهنة عمليًّا على إمكانية المكوك الفضائي وترسيخ كيان مأهول دائم في الفضاء.» لم يكن هذا يعني شيئًا على الإطلاق، بل من المحتمل أنه كان يشير إلى مزيدٍ من المركبات الفضائية غير المأهولة. كانت مسوَّدة راي للخطاب قد وُزِّعت في البيت الأبيض، وارتابَ ديفيد ستوكمان — مدير الميزانية — في الأمر. لم يكن ستوكمان يرغب في أي مبادرات مُكلِّفة جديدة في مجال الفضاء، ورتَّبَ لحذف الكلمة المعارضة لرغبته.
كان كيوورث قد اقترح وضْعَ موضوع المحطة الفضائية بين يدَيْ مجموعة عليا مشتركة جديدة تكون معنية بشئون الفضاء، وهي لجنة على مستوًى وزاري يرأسها بنفسه. اعترض جيل راي مسار الخطة قبل وصولها إلى ريجان وتحدَّث إلى رئيسه ويليام كلارك الذي كان يدعم ناسا؛ قال راي لاحقًا: «كنت أريد أن أضمن سيطرتنا على أجندة الفضاء وليس على المستشار العلمي.» قرَّرَ كلارك أن يكون راي رئيسَ اللجنة بدلًا منه، وحرم كيوورث من حق الانضمام إلى اللجنة كأحد الأعضاء الذين لهم حق التصويت. استبعد أيضًا صوت ستوكمان، الذي كان يرأس مكتب الإدارة والموازنة. جاء تشكيل اللجنة العليا المشتركة الناتج موافِقًا لرأي بيجز ولاقى استحسانه.
في تلك الأثناء، كانت مجموعة عمل المحطة الفضائية التابعة لناسا توسِّع من دائرة تبرير البرنامج. ربما كان إصلاح الأقمار الصناعية، وهو هدف مركز عمليات الفضاء، عملًا أحمق؛ حيث كانت الإلكترونيات الحديثة تمنح المركبات الفضائية عمرًا افتراضيًّا أطول. عندما كانت إحداها تعطب، لم يكن يصعب إطلاق بديل لها. إذا كان من المقرَّر أن تكون المحطة مركزَ صيانةٍ، فلا بد أن تبرهن على توفيرها النفقات، وهو ما سيقود الوكالة مرةً أخرى إلى مستنقع تحليل التكلفة والفائدة. لكن، استطاعت ناسا استبدال هذا الغرض بغرض آخَر، وهو إجراء بحوث في حالة انعدام الجاذبية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تطورات ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الطب، وربما الإلكترونيات أيضًا. جديرٌ بالذكر أن شركات صناعية عديدة كانت قد بدأ يكون لها نشاط فعلي في هذا المجال.
كان النمو البلوري محلَّ اهتمام خاص، لا كعلاج عصري بل كتمرين أساسي في علم الأحياء الجزيئي. كان العلماء يعرفون أن الوظيفة في هذا المجال يجب أن تتبع الشكل؛ حيث تحدِّد التفاصيل المحددة لشكل جزيء كيفيةَ عمله داخل إحدى الخلايا. لمعرفة شكل الجزيء، كان الأمر يتطلَّب تشكيل بلَّورة جيدة من المادة قيد الدراسة، ثم فحصها باستخدام شعاع قوي من أشعة إكس؛ وهذا من شأنه توفير بيانات يستطيع الكمبيوتر تحليلها، موضِّحًا الشكل الجزيئي. تضمَّنَتِ الجزيئات محل الاهتمام الأحماضَ النووية والإنزيمات والبروتينات الأخرى، التي لم يكن أيٌّ منها يكوِّن بلورات على الفور. كانت عملية النمو البلوري دقيقة، تختلط نتائجها بسهولة بسبب آثار ناجمة عن الجاذبية، ولم يكن ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن انعدام الجاذبية سيساعد في تفادي هذه الآثار.
كانت أجهزة الكمبيوتر وعمليات الأتمتة قد انتزعت كثيرًا من المهام من نماذج المحطات الفضائية مثل النموذج المنشور في مجلة «كوليرز»، بَيْدَ أن النمو البلوري وفَّرَ عملًا للمحطة الفضائية التي كان من المتوقع أن تقدم أجهزة الكمبيوتر المُثلى أفضلَ ميزة فيها. كان من المقرَّر أن تتولى أجهزة الكمبيوتر المهمة الأكثر إلحاحًا المتمثِّلة في تحديد بنية جزيئية مفصَّلة. استعان عالِم البلورات ماكس بيروتس بأجهزة الكمبيوتر الأولى، لكنه ظلَّ يجاهد من عام ١٩٣٧ إلى عام ١٩٦٧ لحلِّ بنية الهيموجلوبين، محددًا موضعَ كل ذرة من ذراته البالغ عددها عشرة آلاف ذرة. قضى بيروتس خمسة عشر عامًا ليحدِّد فقط كيف يتناول هذه المسألة، وهو اكتشافٌ أدَّى في حد ذاته إلى فوزه بجائزة نوبل؛ حيث قضى بعد ذلك خمسة عشر عامًا أخرى في تنفيذ طريقة الحل. مع ذلك، أظهرت هذه البنية بوضوح — عند تحديدها — كيف يمتص الهيموجلوبين الموجود في كرات الدم الحمراء الأكسجين ويطلقه، وتمكَّنَتْ أجهزة الكمبيوتر الحديثة من حل هذه المشكلات في غضون أسابيع، في حال كانت البلورات جيدة بالقدر الكافي.
بالنسبة إلى ناسا، كان ثمة مشروع آخَر بشَّرَ بميزة تجارية. تضمَّنَ هذا المشروع شراكةً بين شركتَيْ «ماكدونل دوجلاس» و«أورثو فارماسوتيكالز»، يعود تاريخها إلى عام ١٩٨٠، وكان الهدف من هذه الشراكة هو إنتاج بروتين يحمل اسم «إريثروبويتين». يحاكي الإريثروبويتين نمو خلايا الدم الحمراء؛ كان تصنيعه يتم في الكُلى، وكان نقصه يسبِّب الأنيميا. كان أفضل أسلوب إنتاج متوافر بالفعل حسَّاسًا للغاية تجاه الجاذبية، وكان لهذه الشراكة السَّبْق في إثبات أن انعدام الجاذبية يؤدي إلى تحسُّن هائل. أسفَرَ اختبارٌ مبدئي على متن البعثة الرابعة للمكوك الفضائي، الذي استقبله ريجان عند عودته، عن ناتج يزيد بمقدار أربعمائة مرة، ودرجة نقاء تزيد بمقدار خمس مرات. أكَّدت ثلاث رحلاتٍ تالية خلال العام التالي لذلك العام هذه الفوائد، بينما أظهر أفضل اختبار عن زيادةٍ بمقدار ٧٠٠ ضِعْف في الناتِج. حتى ذلك الحين، كانت التجارب الإكلينيكية لا تزال حدثًا مستقبليًّا، كذلك الاحتمال المدهش حقًّا الذي أشار إلى أن الفضاء ربما لا يخدم مجال الأبحاث فحسب، بل قد يخدم أيضًا الإنتاج الروتيني للمنتجات ذات القيمة التجارية.
كانت ثمة شركات أخرى مهتمة أيضًا بهذا الموضوع، كان من بينها شركتان ناشئتان؛ «مايكروجرافيتي ريسرش آسوشيتس» و«مايكروجرافيتي تكنولوجيز»، تعملان في تنفيذ خططِ معالجةِ أشباهِ الموصلات في الفضاء مثل جاليوم آرسنايد، المستخدَم في الإلكترونيات الدقيقة. كانت شركة ثري إم بصدد وضع برنامج مدته عشر سنوات لإعداد البلورات العضوية والأفلام الدقيقة من خلال سلسلة من الرحلات المكوكية. كان ثمة نشاط أيضًا في شركتَيْ «جون دير» و«بيت لحم للصُّلب» المنخفضتَي التقنية؛ حيث كان الباحثون يأملون في دراسة عملية تصلُّب الحديد في حالة انعدام الجاذبية.
رفعَ كريج فولر، وهو أحد معاوني البيت الأبيض، هذه الأمور إلى عناية ريجان خلال عام ١٩٨٣. كان الرئيس لديه آمال كبيرة بشأن ناسا؛ فقد كان ينظر إلى برنامج الفضاء باعتباره تعبيرًا عن نظرته المتفائلة بشأن بزوغ الصباح في أمريكا. تعهَّدَ الرئيس تعهُّدًا قويًّا على الجانب العسكري في شهر مارس آنذاك، بالإعلان عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي كانت تهدف إلى حماية البلاد من الصواريخ السوفييتية. في مستهل شهر أغسطس، رتَّبَ فولر للرئيس استضافةَ اجتماعِ غداءٍ لمجموعةٍ من المسئولين التنفيذيين الذين كان يطمحون إلى تنفيذ أنشطة تجارية في الفضاء. أخبروه أن المحطة الفضائية من شأنها أن تشجِّع على هذه الأنشطة، وعقَّبَ ريجان قائلًا: «أنا أيضًا أريد محطة فضائية. كنت أريد محطة فضائية منذ وقتٍ طويل.» لم يتعهَّد بأي تعهداتٍ، لكنه خرج من الاجتماع منبهرًا ومفتونًا بما جاء على لسان ضيوفه وأخبروه به.
مع ذلك، كانت المحطة تمثِّل مشكلة حقيقية في إطار المجموعة العليا المشتركة المعنية بشئون الفضاء، وهي مجموعة المراجعة المشتركة بين الوكالات؛ فقد بذل جيل راي كل ما في وسعه لترتيب الأمور سرًّا لصالح ناسا، بَيْدَ أن الكيانين العسكري والاستخباراتي كانا مُمثَّلين بكثافة في اللجنة. وكان ويليام كيسي، الذي كان يرأس وكالة الاستخبارات المركزية، معارِضًا للمحطة؛ إذ لم يكن يرى حاجةً إليها. كانت ثمة معارضة أيضًا من هيئة الأركان المشتركة ومن كاسبار واينبرجر، وزير الدفاع، للسبب نفسه. كان هذا الأمر مثار قلق من ناحيتين. كان واينبرجر أكثر أعضاء الحكومة نفوذًا؛ كانت علاقته بريجان تعود إلى الفترة التي ترأَّسَ فيها ريجان ولايةَ كاليفورنيا، وعلى الرغم من أن دعم القوات الجوية قد سمح لناسا بمعاوَدة العمل في برنامج المكوك الفضائي في عام ١٩٧٢، كان على بيجز الآن محاوَلة المُضِيِّ قُدمًا في المحطة في مواجَهة المعارضة الصريحة من جانب البنتاجون.
كان من الواضح أن المجموعة العليا المشتركة المعنية بشئون الفضاء لم تكن لتتوصَّل إلى إجماع يصبُّ في مصلحة المحطة الفضائية. مع ذلك، لم يقف بيجز مكتوف اليدين ولم تُعْيِه الحيلة. قرَّر بيجز أن يروِّج للمحطة كبرنامج مدني صرف، دون أي علاقاتٍ بالجانب العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، شكَّلَتْ لجنة مشتركة أخرى منتدًى للمراجعة وإعادة النظر، وهو المجلس الوزاري للتجارة والتبادل التجاري، وكان رئيسها هو مالكولم بولدريدج، وزير التجارة في ذلك الوقت. كان بولدريدج لا يمانع في دعم خطط ناسا، التي ربما تعزِّز الاستخدامات التجارية للفضاء.
اتُّخِذ قرارٌ في هذا الشأن في مستهل شهر ديسمبر، خلال اجتماعين مع ريجان. قدَّمَ الكولونيل راي خياراتٍ سياسيةً؛ حيث تحدَّثَ قائلًا: «كان من السهل التحدُّث مع ريجان عن شيءٍ هو شخصيًّا متحمس حياله، وهو متحمسٌ حيال الفضاء. طرح أسئلة كثيرة وأراد معرفة المزيد عن المجالات المختلفة.» قدَّمَ بيجز نموذجَ المحطة الفضائية، وصرَّحَ ديفيد سكوتمان أن العجز في الميزانية لن ينخفض أبدًا ما دامت هذه المشروعات مستمرة. ردَّ ويليام فرنش سميث، وهو النائب العام وأحد أصدقاء ريجان المقرَّبين، قائلًا: «أعتقدُ أن المراقب المالي قد روَّجَ للفكرة لدى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا على نفس النحو الذي روَّج به كريستوفر كولومبس لفكرته عندما قَدِمَ إلى البلاط الملكي.»
لم يتخذ ريجان أي قرار في ذلك الوقت، بَيْدَ أنه التقى مجددًا بالمديرين بعدها ببضعة أيام. كانت المسألة تتضمن آنذاك طلبًا محددًا لناسا بتوفير ١٥٠ مليون دولار أمريكي لإطلاق مشروع المحطة الفضائية. أقَرَّ ستوكمان هذه المرة بأن ناسا ربما لا تحصل إلا على زياداتٍ محدودة حقًّا في الميزانية خلال السنوات المقبلة، وقال ريجان: «تم!» ثم أضاف قائلًا: «لا أرغب في تذكيري فقط بالسلفادور.»
ثمة طاقة متجددة وحالة تفاؤل تعمُّ أرجاء البلاد. عادت أمريكا شامخة.
يحفِّز الاقتصاد المزدهر الإبداع ويشجِّع على إطلاق المبادرات، وهذا الأمر ينطبق بدرجة أكبر على حدودنا القادمة، على الفضاء. ليس ثمة مكان آخَر نبرهن فيه على ريادتنا التكنولوجية وقدرتنا على تحسين الحياة على الأرض أكثر من ذلك.
يمكننا بلوغ الرِّفعة والريادة مرةً أخرى، يمكننا أن نتعقب أحلامنا حتى النجوم البعيدة، حيث نعيش ونعمل في الفضاء من أجل إرساء السلام وتحسين الاقتصاد وإعلاء العلم. الليلةَ، أُصدِر توجيهاتي إلى ناسا لإنشاء محطة فضائية مأهولة على نحو دائم، على أن يتم ذلك خلال عشر سنوات.
استطاعت ناسا المشاركة في سطوع هذا الأمل؛ حيث كان المكوك الفضائي على وشك التشغيل وفق جدول زمني، فقد بدأ في تنفيذ بعثاتٍ دلَّلَتْ بوضوح على أهمية المحطة والوعود المعقودة بها. خلال عامَيْ ١٩٨٤ و١٩٨٥، ركَّزَتْ ثلاث بعثاتٍ على إصلاح الأقمار الصناعية المعطوبة واسترجاعها. كان القمر الصناعي الأول، وهو «سولار ماكسيمم»، قد بلغ مدارًا فضائيًّا في عام ١٩٨٠ لدراسة الشمس بينما كانت نَشِطة للغاية، حيث أصدرت كثيرًا من البُقَع والتوهُّجات الشمسية. التحمت المركبة «تشالنجر» بالقمر الصناعي؛ حيث استبدل طاقم المركبة نظامَ التحكم في الاتجاه، وأصلحوا جهازًا معطوبًا عن طريق تركيب معداتٍ إلكترونية جديدة. أعادت هذه الأعمال «سولار ماكس» إلى وضعه التشغيلي الكامل.
تلت ذلك رحلات قادمة تضمنت تمارين مشابهة. في وقتٍ مبكر من عام ١٩٨٤، انطلقت «تشالنجر» حاملةً قمرين صناعيين للاتصالات، وبسبب خلل وظيفي أصاب أحد الصواريخ المرحلية، ظلَّ القمران عالقَين بلا أي فائدة في مدار منخفض. في نوفمبر انطلقت مركبة تابعة للجهة نفسها، «ديسكفري»، واستعادت هاتين المركبتين الفضائيتين القيِّمتين، مسترجِعةً إياهما إلى الأرض لإعادة إطلاقهما في النهاية. حدث الشيء نفسه تقريبًا في العام التالي لذلك؛ حيث أدَّى عطب في الصاروخ إلى أن عَلِقَ قمر صناعي للاتصالات العسكرية على نحو مماثل، ومرةً أخرى انطلقت مركبة «ديسكفري» للنجدة، مُصلِحةً العطب. دار الصاروخ المرحلي لاحقًا على نحو عادي، وساعَدَ القمر الصناعي في بلوغ مدار جيوتزامني.
ساعد هذا البرنامج أيضًا في إدخال أوروبا بقوة في برنامج الفضاء المأهول لناسا، الذي انضم إليه اختصاصي الحمولات الألماني أولف مربولد ليكون ضمن أعضاء الطاقم. انطلقت «سبيسلاب» ثلاث مراتٍ أخرى خلال عام ١٩٨٥. أطلقت شركة «ماكدونل دوجلاس» معداتها الطبية البيولوجية، التي رافقها تشارلز ووكر — أحد علماء الشركة — في ثلاث رحلاتٍ إلى الفضاء خلال عامَيْ ١٩٨٤ و١٩٨٥.
أحرز النمو البلوري أيضًا تقدمًا ملحوظًا. كان كلُّ مَنْ في المجال يدركون أن هذا المجال فنٌّ أكثر منه علمًا، وأن ثمة القليل فقط ممَّنْ يجيدون هذا المجال؛ لذلك أثار الباحثون الألمان كثيرًا من الاهتمام عندما وصفوا الأبحاث التي أجرَوها على البروتينات على متن «سبيسلاب ١». كانت بلوراتهم من البيتا جالاكتوزيداز أكبر من البلورات التي تنمو على الأرض حتى سبع وعشرين مرة، وكانت بلورات اللايسوزيم أكبر حجمًا بمقدار ألف مرة.
في جامعة ألاباما، قرَّر زميل الباحثين تشارلز باج أن يجرِّب حظه من خلال تجربة صغيرة يضعها وراء كابينة القيادة، ويحاول من خلالها بلورة أربع وثلاثين عينة. فُقِدَت جميع العينات فيما عدا خمس عيناتٍ مع اهتزاز مكوك باج، «ديسكفري»، بقوة أثناء دوران محركات المركبة ثم تسارعِها بينما كانت تُجري مناوراتٍ في مدارها الفضائي، وفُقِدَت بقية العينات عند الهبوط، عندما انفجر أحد إطارات هذه المركبة المدارية. مع ذلك، صادَفَ باج مفاجأة سارة؛ فقد عثرَ على بلَّورة عرضها ١٫٦ ملِّيمتر، قال: «لم تصادفني أية حالة بلغت فيها بلَّورة لايسوزيم هذا الحجم الهائل خلال خمسة أيام فقط. يؤكِّد هذا الأمر على أن ما اعتقدنا ممكن.»
بالإضافة إلى ذلك، كانت ناسا تقترب من اليوم الذي كان المكوك الفضائي سيحتكر فيه عمليات الإطلاق الأمريكية. كانت الوكالة بصدد الابتعاد سريعًا عن صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام لمرة واحدة فقط، على الرغم من أن هذه الصواريخ كانت ملائمة لعصرها. زادت القوات الجوية من قدرة صاروخها «تايتان ٣» عن طريق وضع صواريخ وقود صلب أكبر حجمًا على جانبيه. كان الصاروخ «أطلس-سينتاور» قد صار صاروخًا قياسيًّا، حيث حلَّ محلَّ الصاروخ «أطلس-أجينا» الأقل قدرةً، الذي انطلق في مهمته الأخيرة في عام ١٩٧٨. بالإضافة إلى ذلك، كانت شركة «ماكدونل دوجلاس» قد استفادت من برامج عصر «أبولُّو» التي كانت قد زادت قوة دفع محركات «ساتورن ١-بي» إلى ٢٠٦ آلاف رطل. استُخدِمَت محركات مشابهة في دفع الصاروخ «ثور»، الذي انطلق في الأساس بقوة دفع ١٥٠ ألف رطل. زادَ مصمِّموه الطولَ بمقدار خمس عشرة قدمًا بما يسمح لحمل المزيد من الوقود، وأضافوا صواريخ محسنة للمراحل العليا. كانت مركبة الإطلاق التي تمخضت عن ذلك هي النموذج الأحدث المسمَّى «أطلس» ضمن سلسلة لا تزال قيد التطوير من صواريخ التعزيز فئة «ثور»؛ كانت هذه الصواريخ هي صواريخ إطلاق الأقمار الصناعية الأوسع استخدامًا لدى ناسا.
في وقتٍ مبكر يرجع إلى عام ١٩٧٧، قررت ناسا عدم شراء المزيد من صواريخ «تايتان ٣»؛ وبناءً على ذلك، طرحت ناسا صواريخ «أطلس-سينتاور» و«دلتا» جانبًا؛ فأصدر ريجان توجيهًا إلى هذه الوكالة في مايو ١٩٨٣ بنقل الصواريخ إلى شركات تشغيل في القطاع الخاص. بَدَا الأمر في ظاهره كما لو أن ناسا تنقل مركبات الإطلاق الحكومية إلى القطاع الخاص، لكنْ وجَدَ مصمِّمو الصواريخ أنفسهم بين شقَّيِ الرحى مكوكًا فضائيًّا مُدَعَّمًا ومركبة «آريان» الفرنسية المُدَعَّمة، وهما ما كانا يتفوقان عليها في السعر من خلال تكاليف الإطلاق الأقل.
في عام ١٩٧٢، توقعت ناسا أن تبلغ التكلفة لكل رحلة من رحلات المكوك الفضائي ١٠٫٤ ملايين دولار أمريكي، أو ٢٤ مليون دولار أمريكي طبقًا لأسعار الدولار المتضخمة في عام ١٩٨٢. لاسترداد التكلفة الكاملة، كان على الوكالة أن تفرض ١٥٥ مليون دولار أمريكي؛ لأنه كان من المنتظر أن تكون رحلاتها متباعِدةً، ومع ذلك كان عليها أن تغطي تكلفة المنشآت الداعمة الكبيرة. بالنسبة إلى الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات والاستخدامات التجارية الأخرى، كانت التكلفة الحقيقية ٧١ مليون دولار أمريكي لغرفة حمولة كاملة، موزَّعة على أقل من ذلك بكثير عند شَغْل الحمولة لمجرد جزءٍ فقط من الغرفة. كذلك، لم تستطع ناسا زيادة هذه التكلفة، وإلا كانت ستخسر أعمالها لصالح «دلتا» و«أطلس-سينتاور»، فضلًا عن «آريان».
في عام ١٩٨٠ كان مؤيدو هذا الصاروخ الفرنسي قد كوَّنوا شركة تجارية باسم «آريان سبيس» لتسويق خدمات إطلاقه. قدَّمَتِ الشركة عروضًا مُغريةً؛ إذ بينما كان على عملاء ناسا سداد كامل المستحقات قبل ثلاث سنواتٍ من انطلاق رحلة بالمكوك الفضائي، كان عملاء «آريان» في مقدورهم إيداع مبلغ وسداد المبلغ المتبقي خلال بضع سنوات؛ بالإضافة إلى ذلك، كان في مقدور هؤلاء الأوربيين أيضًا خفض الأسعار. قال ويليام ركتور من شركة «جنرال داينمكس»، الذي كان مسئولًا عن «أطلس-سينتاور»: «كانت «آريان سبيس» تمتلك شبكة معلوماتٍ جيدة. كانوا يعرفون العطاء الذي نقدمه، وفجأةً يقدِّمون سعرًا أقل ليتفوقوا علينا في كل مرة!» بينما كان «أطلس» و«دلتا» محصورين على هذا النحو بين ناسا وأوروبا، كان واضحًا أن كليهما سيختفي قريبًا من الخدمة. لم يكن مسئولو ناسا ليتباهوا بالتصرف مثل باروناتٍ فاسدين، بل كانوا يبتسمون ويقولون إن صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة كانت تخسر المنافسة أمام المكوك الفضائي، مثلما توقَّعوا في عام ١٩٧٢.
مع ذلك، كان المكوك الفضائي يثبت أنه من أوهن المشروعات التي تُوضَع فيها كل خيارات البلاد؛ فقد صُمِّمَ على أمل إجراء خمس وخمسين رحلة قبل أن يستدعي الأمر إجراء عملية إحلال وتجديد شاملة. بدلًا من ذلك، استدعى الأمر حلَّها جميعًا كلَّ ثلاث رحلات، لإحلال أرياش التوربين في المضخات التوربينية. كان كلُّ محرك يكلِّف ٣٦ مليون دولار أمريكي، وكان مزيج الميزانيات المحدودة وأسلوب الإدارة المُوجَّهة نحو النجاح يعني عدم توافر كثير من قِطَع الغيار؛ وكنتيجة لذلك، يمكن أن تتسبَّب مشكلاتٌ صغيرة في محركاتٍ بعينها في تعطيل الجدول الزمني للرحلة بأسرها.
في ديسمبر ١٩٨١، أفضت حادثة صغيرة في «روكيت داين» إلى تمزُّق أنبوب قطره ثماني بوصاتٍ ما أدَّى إلى فكِّه من غرفة الاحتراق. ثبَّتَه العاملون في موضعه عن طريق اللحام، واختبروا اللحام لضمان تماسُكه، لكنه لم يتماسك. بعدها بعام، بينما كان هذا المحرك موضوعًا في المركبة «تشالنجر» في كيب كانافيرال، تشقَّقَ اللحام وتسرَّب الهيدروجين خلال عملية تشغيل تجريبية؛ هذا التسرُّب كان من شأنه أن يدمِّر المكوك الفضائي بتفجيره، لكنِ استغرق الأمر أسابيعَ لتحديد موضع التسرُّب لأنه كان في موضع يصعب الوصول إليه. شحنت ناسا محركًا إضافيًّا من منشأة اختبارات المسيسيبي، لكن كان به أيضًا تشقُّق في اللحام، فشحنت ناسا محركًا إضافيًّا ثانيًا، وأفلحَ الأمر؛ ممَّا سمح بإجراء رحلة ناجحة.
على الرغم من ذلك، لم يكن ثمة أي محركاتٍ أخرى في المخزن خلاف هذين المحركين الإضافيين. كان المحرك الإضافي الثاني مخصَّصًا للمركبة كولومبيا، التي أجرت خمس رحلاتٍ باستخدام المحركات الثلاثة نفسها. انطلقت كولومبيا مرةً أخرى، على متن المركبة «سبيسلاب ١» في أواخر عام ١٩٨٣، ولكنها كانت المرة الأخيرة، فلم تنطلق هذه المركبة المدارية مجدَّدًا حتى يناير ١٩٨٦. وعندما احتاجت المركبة «تشالنجر» مرةً أخرى إلى محرك، في فبراير ١٩٨٤، لم يجدوا مفرًّا من الاستيلاء على محرك من المركبة «ديسكفري».
استعادت «ديسكفري» لاحقًا مجموعة كاملة من المحركات، لكن في يونيو أُجهِضَت محاولة إطلاق بسبب عطل في جهاز الكمبيوتر وصمام تالف. لم تفلح الفحوصات المكثفة التي أُجرِيت على مدى ثلاثة أسابيع كاملة في تحديد مشكلة الصمام، وألغى مدير البرنامج الرحلة تمامًا. نُقِلت حمولة الرحلة إلى الرحلة التالية التي أعقبت ذلك في أواخر شهر أغسطس، ونُقِلت حمولة أغسطس الأصلية على متن مركبتين تاليتين خلال الخريف؛ وهكذا سار الأمر.
بالإضافة إلى ذلك، كانت المركبة «تشالنجر» على شفا كارثة في أغسطس ١٩٨٣، نظرًا لوجود مشكلة في أحد صواريخ التعزيز ذي الوقود الصلب الخاصة بها؛ إذ تآكلت بطانة فوهة العادم بشدة خلال فترة تشغيل الصاروخ التي استغرقت دقيقتين، وكان من الممكن أن تحترق البطانة عن آخِرها لو استمر تشغيل الصاروخ لمدة ثماني ثوانٍ أخرى. ولو استمر الأمر لمدة ست ثوانٍ بعدها، كانت ألسنة اللهب الساخنة المنبعثة من صاروخ التعزيز ستخترق الفوهة نفسها، وهو ما كان يُنذِر بوقوع انفجار هائل.
كان البنتاجون يخطِّط لأن يصبح المستخدم الرئيسي للمكوك الفضائي، متوقعًا الاعتماد عليه حصريًّا متى صار جاهزًا للعمل تمامًا؛ لكن في فبراير ١٩٨٤، صَدَّق وزير الدفاع وينبرجر على وثيقة سياسة تنص على أن الاعتماد الكامل على المكوك الفضائي «يمثِّل خطرًا غير مقبول على الأمن القومي». في يونيو، سحبت القوات الجوية الثقة من ناسا على نحوٍ فجٍّ. أعلنت القوات الجوية أنها ستزيل عشر حمولات من المكوك الفضائي بدايةً من عام ١٩٨٨، وأنها ستنقلها على متن صواريخ قابلة للاستخدام لمرة واحدة.
كان جيمس بيجز يدرك تمامًا أن القوات الجوية ربما تفعل الشيء نفسه مع حمولاتٍ أخرى كثيرة خلال السنوات القادمة، وثارت ثائرته لذلك حيث صاح مزمجرًا: «المكوك الفضائي هو أفضل نظام نقل فضائي يمكن التعويل عليه على الإطلاق.» لم توافِقه القواتُ الجوية الرأيَ. كان من المنتظر أن تستخدم المكوك الفضائي من حينٍ إلى آخر، بَيْدَ أن مركبة إطلاقه الرئيسية كانت ستصبح نموذجًا محدَّثًا آخَر من الصاروخ «تايتان ٣» المطوَّر من قِبَل شركة «مارتن ماريتا». أعادت هذه الشركة بناء الصاروخ باستخدام محركات جديدة تعمل بالوقود السائل، زادت من قوة الدفع بنسبة ٣٠ في المائة. أدت المحركات إلى تحسُّن هائل في الأداء، حتى إن هذا الصاروخ الجديد قد سُمِّي «تايتان ٤». تمكَّنَ هذا الصاروخ من رفع ما يصل إلى ٣٩ ألف رطل إلى مدار فضائي، وهو ما أكسبه قوة تنافُسية كبيرة أمام المكوك الفضائي، الذي كان وزنه زائدًا زيادةً مفرطة، وكان لا يتخطى في تعزيزه أكثر من ٤٧ ألف رطل. زادَ الطينَ بلة أنَّ الصاروخ «تايتان ٤» كان يستوعب حمولاتٍ أكبر بكثير من تلك التي كان المكوك الفضائي يستطيع حملها.
جاء تصويتٌ آخَر بسحب الثقة في سبتمبر ١٩٨٥، مع انسحاب «أورثو فارماسوتيكالز» للصناعات الدوائية من شراكتها مع «ماكدونل دوجلاس». ظلت كلتا الشركتين مهتمتين للغاية بإنتاج الإريثروبويتين للحد من الأنيميا، وكانت وحدة المعالجة في انعدام الجاذبية لدى «ماكدونل» تحلِّق بانتظام على متن بعثات المكوك الفضائي. لكن، طوَّرَتْ شركةٌ ناشئة في كاليفورنيا تُسمَّى شركة «آمجين»، آليةً جديدة تعتمد على الهندسة الوراثية؛ من خلال هذه الآلية الجديدة، استطاع علماء الشركة الربْطَ بين جيناتٍ ملائمة في صورة بكتريا سريعة النمو. قال أحد مديري الشركة: «إنَّ الفرق بين ما تفعله «ماكدونل» وما نفعله نحن، يشبه الفرق بين نَسْخِ كتابٍ يدويًّا في العصور الوسطى واستخدام ماكينة نَسْخٍ.» صار بروتين «آمجين»، المسمَّى «إبوجين»، أكثر المنتجات نجاحًا في صناعة التكنولوجيا الحيوية.
تخلَّتْ «أورثو» عن شراكتها مع «ماكدونل» لتشكِّل فريقًا مع «آمجين»، وهو ما كان يوضح بجلاء كيف أن الشركات الناشئة تستطيع انتهاز الفرص. حاولت «ماكدونل» مواصَلة أنشطتها، لكن بمرور الوقت كان عليها أن تقرَّ بتفوُّق آلية «آمجين»، لا سيَّما أنها كانت تعمل على نحو جيد في وجود الجاذبية. كان هذا بمنزلة ضربة مدوية لناسا، التي كانت قد بالغت في شراكة «ماكدونل-أورثو» وجهودهما معًا باعتبارها دليلًا على إمكانية المعالجة في الفضاء. كانت ناسا قد واصلَتْ جهودها بكثافة خلال عامَيْ ١٩٨٤ و١٩٨٥؛ حيث سعت إلى اجتذاب شركاتٍ كعملاء من أجل البحوث التجارية على متن المكوك الفضائي، بل عرضت أيضًا توفير حيز خالٍ على متن الرحلات، لكنْ لم تُسفِر الجهود التي استغرقت عامين عن اجتذاب أي عملاء. في أعقاب ذلك، كانت شركة «ثري إم» هي الشركة الكبرى الوحيدة التي لا تزال تؤدي بعثاتٍ في مداراتٍ فضائية. أضعَفَ هذا التطوُّر بدوره من منطق إنشاء محطة فضائية، وهو المشروع الذي كان مؤيدوه قد روَّجُوا له باعتباره ميزة إضافية للصناعة.
ثم جاء يوم ٢٨ يناير ١٩٨٦، يوم «تشالنجر».
لا تزال الصورة محفورة في ذاكرة البلاد: يرتفع المكوك على عمود العادم المنبعث من صاروخ إطلاقه، ثم تتكوَّن كرة نار برتقالية اللون، ثم ينطلق صاروخا تعزيز يعملان بالوقود الصلب انطلاقًا مدويًا، ويندفع وابلٌ من الشظايا التي خلَّفَتْ دخانًا على صفحة السماء الزرقاء؛ كانت إحدى هذه الشظايا هي القمرة الحاملة طاقم الرحلة، الذين ظلوا فيما يبدو محتفظين بوعيهم في أعقاب الانفجار. استغرق منهم الأمر أكثر من دقيقتين للسقوط في المحيط من ارتفاعهم الأصلي البالغ تسعة أميال. لم تكن ثمة مظلات على متن المركبة، وسرعان ما لقوا حتفهم بمجرد اصطدامهم بالماء.
كان الطاقم يتضمن مُدرِّسة تُدعَى كريستا ماكوليف، التي كانت ناسا قد انتقَتْها من بين ١١٤٠٠ مُتقدِّم؛ كان هذا جزءًا من حملةِ علاقاتٍ عامة لجذب الاهتمام من خلال إثبات أن المكوك الفضائي آمِن بما يكفي لاصطحاب الأشخاص العاديين. كان السيناتور جيك جارن — أحد المؤيدين المتحمسين لناسا — قد انطلق إلى الفضاء على هذا النحو في أبريل ١٩٨٥، وكان عضو الكونجرس بيل نيلسون قد انطلق إلى مدار فضائي على نحو مماثل في وقتٍ سابق في يناير.
كان المكوك الفضائي يقترب حقًّا من طور التشغيل الروتيني، بعد أن كان قد أجرى خمس رحلاتٍ في عام ١٩٨٤ وتسعًا في عام ١٩٨٥. كان العام الأخير قد تميَّزَ بعلامة فارِقة؛ فللمرة الأولى، تُطلِق البلاد المكاكيك الفضائية بأعدادٍ فاقَتْ أعداد الصواريخ القابلة للاستخدام لمرة واحدة. كان ثمة خمس عشرة رحلة مدرجة على الجدول الزمني لعام ١٩٨٦، وكانت ناسا تسعى إلى بلوغ أربع وعشرين رحلة بنهاية العقد.
لكن الطلب على زيادة معدل الرحلات وضَعَ الجميع تحت ضغوطٍ هائلة. كان ثمة رحلتان مهمتان على وشك الانطلاق قريبًا. في ١٥ مايو، كان من المقرر أن تُطلِق المركبة «تشالنجر» المسبار الأوروبي «عوليس»، وهو عبارة عن مركبة سَبْر أوروبية كان مقررًا لها أن تطوف حول المشتري، وتعتمد على جاذبيته للتحليق فوق قطبَي الشمس. بعد ذلك بخمسة أيام، كان من المقرَّر أن تنطلق مركبة «جاليليو» الفضائية صوب المشتري، وكان من المقرَّر أن تُوضَع كلتا المركبتين أعلى صاروخ المرحلة العليا «سينتاور»، الذي كان سيُجري أولى رحلاته داخل المكوك الفضائي. إذا تجاوزت أيٌّ من المركبة «عوليس» أو المركبة «جاليليو» تاريخَيْ إطلاقهما، كان سيتعيَّن عليهما الانتظار ثلاثة عشر شهرًا حتى تصبح الأرض والمشتري في وضع اصطفافٍ ملائِم مرةً أخرى.
كان السبب في الكارثة يرجع إلى صاروخَي التعزيز ذوَي الوقود الصلب الموضوعَين على جانبَيْ خزان الوقود الرئيسي. كان صاروخا التعزيز أكبر من أن يُملآ بالوقود أو يُنقَلا كقطعة واحدة؛ لذا، اضطر مصمِّمهما مورتون ثيوكول إلى تصميمهما في شكل أجزاءٍ يجري تجميعها في كيب. كان بين كل جزأين من هذه الأجزاء فجوة؛ ممَّا كان يقتضي إحكام غلقها للحيلولة دون تسرُّب الغازات الساخنة بفِعْل الضغط المرتفع. كان مانع التسرُّب يحتوي على حلقتين مطاطيتين سميكتين تحوِّطان قطْرَ صاروخ التعزيز البالغ اثنتي عشرة قدمًا. عند إشعال الوقود الصلب لصاروخ التعزيز، أدَّى ارتفاعٌ مفاجئ في الضغط إلى ارتخاء مانع التسرُّب الخارجي للصاروخ؛ ومن ثَمَّ، كانت الحلقات الدائرية في حاجة إلى مرونة كافية للاستجابة عن طريق الارتخاء بالتناغُم مع مانع التسرُّب الخارجي للحفاظ على سلامة الغطاء وتماسُكه. كان لكل صاروخ من صاروخَي التعزيز وصلاتٌ محكمةُ الغلق من هذا النوع.
قبل الكارثة، لم تصمد الحلقات الدائرية في عدة رحلاتٍ سابقة بسبب التآكل الحادث بفِعْل الغازات الساخنة. وقعت حادثة خطيرة خلال إحدى مرات الإطلاق في أبريل ١٩٨٥؛ حيث انطلق عادم الصاروخ في اتجاه الحلقة الدائرية الأولى، وأدى إلى تآكُل ما يصل إلى ٨٠ في المائة من الحلقة الثانية، في مساحة محدودة. صَمَدَ مانع التسرُّب على الرغم من ذلك، وواصَلَ صاروخُ التعزيز عملَه على نحوٍ طبيعي، لكن في «ثيوكول»، أُصِيبَ المهندسون المسئولون عن موانع التسرُّب بقلقٍ شديد.
لم يكن ثمة أي معيار واضح يحدد الوقت الفعلي لتعطُّل الحلقات، بَيْدَ أن التجربة أثبتت أن الحلقات تعمل على أفضل نحوٍ في الطقس الحار، وهو ما يجعل المطاط المصنوعة منه مَرِنًا وطيِّعًا. على النقيض من ذلك، كان الطقس البارد يجعلها قاسيةً، غير قادرة على الانثناء بسرعة، وهو ما كان يحدث عندما تتعرَّض للتآكُل والتفحُّم من جرَّاء ألسنة اللهب المنبعثة من صاروخ التعزيز. مع اقتراب تاريخ انطلاق رحلة «تشالنجر»، كانت تجتاح فلوريدا موجةٌ باردة غير معتادة. في «ثيوكول»، عقَدَ بواجولي وثلاثة عشر مهندسًا آخَرين اجتماعًا وأوصوا بالإجماع بتأجيل الإطلاق.
لم يَرُقْ هذا الرأي كثيرًا لكبار المديرين، الذين كانوا على دراية بمشكلة الحلقات الدائرية، لكن دفعتهم خبرة عشرات الرحلات الناجحة للمكاكيك الفضائية إلى التغاضِي عن المشكلة؛ فقد أبلت موانعُ التسرُّب بلاءً جيدًا من قبلُ، مهما كان وجه القصور الذي تبدَّى أثناء ذلك؛ فلماذا لا تفلح مجددًا؟ كانت ناسا قد دعت مؤخرًا شركاتٍ أخرى لمحاولة الحصول على عقد صاروخ التعزيز ذي الوقود الصلب لشركة ثيوكول، وهو ما كان يضع الشركة تحت ضغوطٍ هائلة للبرهنة على أن لديها القدرةَ المناسبة لخوْضِ المهمة والنجاح فيها. سادَ رأي نائب رئيس الشركة لصواريخ التعزيز الفضائية، جوزيف كيلمنستر، على مجموعة بواجولي وأوصى بإطلاق «تشالنجر»، واصفًا الأدلة المتوافرة بأنها «غير قاطِعة».
كان لورانس مولوي، الذي تولَّى إدارة عقد «ثيوكل» في مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لناسا، يريد أيضًا أن يمضي قُدمًا. سأل مولوي خلال إحدى المناقشات قائلًا: «يا إلهي! ثيوكل، متى تريدونني أن أُجرِي عملية الإطلاق، في أبريل القادم؟» أضافَ جورج هاردي، نائب مدير في مركز مارشال، قائلًا: «أشعرُ بالصدمة حيال توصياتكم.» لم يكن هاردي أو مولوي ليتخذ القرار النهائي، لكنهما أحجما عن مشاركة مخاوِف مهندسي «ثيوكل» مع مسئولي كيب كانافيرال الذين كانوا يملكون سلطةَ تأجيلِ الإطلاق. مع ذلك، على الرغم من معارَضة ناسا ومارشال، تشبَّثَ مختصُّو الإدارة الهندسية في «ثيوكل» بآرائهم. بعد تقديم بيان رسمي بالموافقة على الإطلاق، امتنَعَ ألان ماكدونالد — كبير ممثِّلِي الشركة في كيب — عن التوقيع.
كانت رقاقات ثلجٍ بارتفاع ثلاث أقدام قد بدأت تتكوَّن فوق برج الإطلاق خلال تجهيزات الإطلاق، حيث كانت تتدلَّى إلى أسفل كالخناجر؛ لكنْ في وقتٍ متأخِّر من صباح ذلك اليوم، أشرقت الشمس وأذابت الثلج، فخفَّفَتْ بذلك من مخاوف الدقائق الأخيرة. مع دوران المحركات وشروع المكوك الفضائي في الارتفاع، ظهرت كتلة من الدخان الأسود قُرْبَ الوصلة السفلية في أحد صاروخَي التعزيز ذوَي الوقود الصلب. عجزَ مانع التسرُّب للحظةٍ عن الانثناء، ثم سرعان ما انثنى، ولم يظهر مزيدٌ من الدخان. لكن كان قد سبق السيف العَذَل؛ فقد أصبح مانع التسرُّب مجرد حشية تالفة سرعان ما كانت ستنفجر.
تحلَّلَ مانعُ التسرُّب تمامًا في مساحة صغيرة بعد تسع وخمسين ثانية تقريبًا من زمن الرحلة، حيث ظهر لهب صغير على طول جانب هذا الصاروخ، ثم سرعان ما انتشر اللهب واحترق مثل موقد لحام، عند خزان الوقود وعند إحدى الدعامات التي كانت تؤمِّن صاروخ التعزيز هذا في مكانه. في غضون ثوانٍ، بدأ الهيدروجين السائل في الاشتعال؛ انفجر الخزان؛ ممَّا أدى إلى انفصال صاروخ التعزيز ذي الوقود الصلب عن دعامته والاصطدام بها، فاتحًا إياها مثل بيضة مليئة بالمُتفجِّرات. انفصل الخزان والمكوك الفضائي المداري. كتبَ أحد الصحفيين من صحيفة «تايمز» الصادرة في لوس أنجلوس قائلًا: «لم أَدْرِ كَمْ ثانية مرت حتى وصَلَنا صوتُ الانفجار بأسفل. عندما وصل صوت الانفجار، جاءَ مثل صوت الرَّعْد، مُصدِرًا صوت صلصلة في القوائم المعدنية الهائلة. ثم توقَّفَ الصوت فجأةً، وحلَّ محلَّه سكون غريب ورهيب.»
أدَّى هذا السكون في كانافيرال إلى تعيين لجنة رئاسية بسرعة، كشفت عن أوجهِ قصورٍ ليس في الحلقات الدائرية فقط، بل في ناسا نفسها. كان رئيس اللجنة هو ويليام رودجرز، وزير خارجية أسبق. في إشارة إلى أن «ثيوكل» كانت قد واجهَتِ احتمالَ فقدان عقدها، أخبَرَ رودجرز مولوي أن مسئوليها كانوا «تحت ضغوطٍ كثيرة لتقديم الإجابة التي كنت تريدها. وفسروا ما قلتَ أنتَ والسيد هاردي بأنك كنتَ تريد منهم أن يغيِّروا وجهةَ نظرهم».
بقي ثلاث مركبات مدارية: «ديسكفري»، و«كولومبيا»، و«أطلنطس»، كانت قد انضمَّتْ إلى الأسطول في عام ١٩٨٥. بالإضافة إلى ذلك، كان جيل راي قد رتَّبَ لشركة «روكويل إنترناشونال» بناءَ أجزاء رئيسية في مركبة مدارية. تبلورت المركبة لاحقًا كمركبة مدارية بديلة باسم «إنديفور». لكن من جوانب أخرى، اتخذت ناسا والقوات الجوية العديد من الخطوات الكبيرة بعيدًا عن المكوك الفضائي. كانت ستظل تلعب دورها، بَيْدَ أن الهدف الآن كان أسطولًا مختلطًا؛ حيث كانت مركبات الإطلاق القابلة للاستخدام مرةً واحدة ستتلقَّى فيه الاهتمامَ المُستحَق.
في وقت أزمة ناسا، حوَّلَ ريجان بصره إلى جيمس فليتشر، مُقنِعًا إياه بالعودة إلى هذه الوكالة رئيسًا لها. في يونيو، ألغت ناسا خططًا لاستخدام «سينتاور» كصاروخ مرحلة عليا في المكوك الفضائي، واضِعةً «جاليليو» و«عوليس» في مأزق. عكس هذا القرار قلقًا جديدًا من الخطر. كان «سينتاور» يعمل باستخدام الهيدروجين والأكسجين السائلين، ولم تكن ثمة طريقة لإيقاف رحلة المكوك الفضائي وتصريف الوقود الدفعي لإجراء هبوطٍ آمِن. في أواخر ذلك الصيف، ألغت ناسا أيضًا معظمَ رحلات «سبيسلاب» المُقرَّرة؛ كانت قد أطلقت أربع رحلاتٍ حتى ذلك الحين، لم تكن الرحلة التالية لتنطلق حتى ديسمبر ١٩٩٠.
اتخذت القوات الجوية إجراءاتٍ أكثر، وكان لديها النفوذ الذي يخوِّل لها القيام بذلك. قبل إدارة ريجان، كانت ميزانية الفضاء لدى البنتاجون هي نصف ميزانية ناسا فقط. في عام ١٩٨٦، بينما كانت مبادرة الدفاع الاستراتيجي مثالًا يُحتذَى وسطَ مجموعة من البرامج الجديدة العالية السرِّيَّة، بلغت هذه الميزانية ١٧ مليار دولار أمريكي، وهو ما يفوق ضِعْف ميزانية ناسا.
كانت القوات الجوية قد بَنَتْ مجمعَ إطلاق للمكوك الفضائي في فاندنبِرج بتكلفة ٣ مليارات دولار أمريكي، لكنْ طُرِح المشروع جانبًا. توسَّعَ قائدُ القوات الجوية إدوارد ألدريدج في عملية الشراء السابقة لعشر مركبات إطلاق ثقيلة طراز «تايتان ٤»، طالِبًا شراء ثلاث عشرة مركبة أخرى. كان لديه أيضًا حوالي سبعين صاروخًا باليستيًّا عابرًا للقارات طراز «تايتان ٢»، نُشِرَت معظمها في منصات إطلاقها على نحوٍ يسمح بتشغيلها. ضاعَفَ ألدريدج الجهودَ لتجديد ثلاثة عشر صاروخًا منها، لاستخدامها كمركبات إطلاق. كان يدرك تمامًا أن كِلا النموذجين يمكن إطلاقهما باستخدام سينتاور، بينما لم يكن هذا ممكنًا في حالة المكوك الفضائي.
مع ذلك، كان برنامج الفضاء الوطني يعتمد حتى هذه اللحظة على مخزونه المحدود من صواريخ «تايتان» و«أطلس» و«دلتا» التي تخلَّفت عن عمليات شراءٍ سابقة. كان لدى القوات الجوية سبعة صواريخ طراز «تايتان ٣»، وفي ١٨ أبريل، انطلق أحدها من فاندنبِرج حامِلًا قمرًا صناعيًّا استطلاعيًّا طراز «هكسجون». كانت هذه البعثة على جانبٍ من الأهمية؛ إذ كان صاروخ آخَر طراز «تايتان ٣» قد غاصَ في مياه المحيط الهادئ في أغسطس الماضي. لم يصل الصاروخ الحالي حتى إلى هذا المدى. بعد ثماني ثوانٍ من لحظة الانطلاق، انفجر أحد صاروخَي التعزيز ذي الوقود الصلب على جانبَيْه؛ ممَّا أدى إلى انفجار الصاروخ بأكمله. تسبَّبَ وابل من النيران المُتوهِّجة في إتلاف منصة الإطلاق، واستغرق الأمر سبعة أشهر لإصلاح التلف، بينما خضع «تايتان ٣» لعملية الفحص نفسها التي خضع لها المكوك الفضائي. لم ينطلق الصاروخ مرة أخرى لمدة عام ونصف عام.
في ٣ مايو جاء دور ناسا، التي أطلقت قمرًا صناعيًّا بيئيًّا تشغيليًّا ثابتًا بالنسبة إلى الأرض يختص بالأرصاد الجوية على متن الصاروخ «دلتا». هذا الصاروخ كان معروفًا بكفاءته، حيث كان قد انطلق بنجاح في مرات إطلاقه السابقة التي بلغت ثلاثًا وأربعين مرة، لكن حان دوره هذه المرة ليلقى نفس المصير. توقَّف محركه بعد سبعين ثانية تقريبًا من الرحلة؛ كان الأمرُ خطيرًا، وإنْ كان أقل خطورةً ممَّا في حالة «تشالنجر»؛ حيث كان من المقرَّر أن ينطلق صاروخ «دلتا» عسكريٌّ مرة أخرى، بنجاح، في شهر سبتمبر. لكن، لم يتبقَّ لدى ناسا في مخازنها سوى صاروخين فقط طراز «دلتا».
عندئذٍ فقط، في ربيع عام ١٩٨٦، لم يكن لدى ناسا صواريخ تعزيز مُصدَّق على طيرانها سوى ثلاثة صواريخ طراز «أطلس-سينتاور»، جميعها ملتزمٌ مُقدَّمًا بحمولاتٍ معينة. كان لدى القوات الجوية مخزونها الخاص من صواريخ «أطلس»، بَيْدَ أنها لم تكن تحتوي على صواريخ مرحلة عليا قوية، ولم يكن في مقدورها أن ترفع سوى مركبات فضائية ذات حجم متواضع. خلال عام ١٩٨٦، أجرت ناسا والقوات الجوية معًا أربع عمليات إطلاق ناجحة فقط عن طريق «تايتان» و«أطلس» و«دلتا»، على الرغم من إمكانية إجراء عشرين عملية إطلاق ناجحة إذا كانتا قد استخدمتا المكوك الفضائي. كان هذا هو أقل عدد منذ عام ١٩٥٩، وارتفع هذا العدد إلى سبع عمليات إطلاق في عام ١٩٨٧، ثم انخفض إلى ست عمليات إطلاق في عام ١٩٨٨؛ حيث لم يتعافَ برنامج الفضاء الوطني حتى عام ١٩٨٩. قال ألبرت ويلون، العقل المُدبِّر لبرنامج «هسكجون»، بُعَيْدَ انفجار «تايتان ٣» في أبريل ١٩٨٦: «أصبحنا بصدد كارثة لا سبيلَ إلى تقدير حجمها. لقد خرجنا فعليًّا من قطاع الأعمال.»
تعرَّضَتْ «آريان سبيس»، التي كانت تروِّج لخدماتها بكثافةٍ، لموقفٍ كان يلائِمها تمامًا. لكن في أواخر شهر مايو من العام نفسه، فشلت عملية إطلاق الصاروخ «آريان» من كورو عندما لم يعمل صاروخ المرحلة الثالثة الموجود به. لم يكن هذا أيضًا بالأمر السيئ؛ إذ كانت هذه هي المرة الرابعة التي تفشل فيها عملية إطلاق الصاروخ ضمن ثماني عمليات إطلاق كاملة. بالإضافة إلى ذلك، كانت ثلاث من محاولات الإطلاق الفاشلة الأربع تنطوي على خللٍ في تشغيل صاروخ المرحلة الثالثة. تلقَّى فردريك دي ألست، رئيس مجلس إدارة «آريان سبيس»، تقريرًا من لجنة تحقيق وتوصَّلَ إلى أن هذه المرحلة كانت بها «مشكلة جوهرية وعامة»؛ أدَّى ذلك إلى إيقاف برنامج الإطلاق الخاص بأوروبا أيضًا، حيث لم ينطلق «آريان» مجددًا حتى سبتمبر ١٩٨٧.
في العالَم بأسره، كان البرنامج السوفييتي هو البرنامج الوحيد الذي لا يزال مستمرًّا بكامل طاقته، وكان يتقدم نحوَ مزيدٍ من القوة، على مستوى كلٍّ من الرحلات المأهولة وتطوير مركبات إطلاق جديدة وقوية؛ على وجه التحديد، بينما كان الأمريكيون يتحدثون عن المحطات الفضائية، كان لدى موسكو محطات فضائية بالفعل.
أفسحت «ساليوت ٦» المجالَ أمام «ساليوت ٧» المماثلة، التي انطلقت إلى مدار فضائي في أبريل ١٩٨٢. بين عامَيْ ١٩٧٧ و١٩٨٥، استضافت هاتان المحطتان إجمالي عشر زياراتٍ طويلة المدى، دامت حتى ٢٣٧ يومًا. نظرًا لهذه الزيارات، ظلت المحطتان مأهولتين على مدى نصف السنوات الثماني تلك تقريبًا. قدَّمَتْ هذه الزيارات أساسًا قويًّا لتجربة الرحلات الطويلة؛ حيث صارت الحياة في الفضاء مسألة روتينية، مع إمكانية إعادة تزويد المحطة الفضائية بالمؤن عبر مركبة «بروجرس». برزت عمليات الالتقاء والالتحام الآلي باعتبارها ممارَسةً قياسية، على غرار ما حدث مع عملية إعادة التزوُّد بالوقود في مدار فضائي.
أجرى روَّاد الفضاء الروس بحوثًا أيضًا؛ كانوا مقيَّدين بالقدرة المحدودة لمركبتهم الفضائية، بَيْدَ أن بعثة واحدة كانت تشتمل على تليسكوب لاسلكي كان ينبسط بقطر خمس وثلاثين قدمًا. خلال رحلة مدتها ١٧٥ يومًا، استخدم رائدا الفضاء فلاديمير لياكوف وفالري ريومين التليسكوب في اختبارات تضمَّنَتْ عمليةً منسقةً مع تليسكوب لاسلكي آخَر في القرم، باستخدام أسلوب يسمح لهذين التليسكوبين بتكوين صور واضحة للغاية؛ وعندما علَق هذا الهوائي الشبيه بالطبق ولم يتسنَّ التخلُّص منه، أجرى ريومين عمليةَ سيرٍ في الفضاء وحَرَّره.
انطلقت المحطة الفضائية التالية «مير» في فبراير ١٩٨٦. تعني كلمة «مير» السلام والعالَم معًا، وهو ما كان ملائِمًا. كان من المقرَّر أن تستضيف المحطة زوَّارًا إضافيين من دول أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، وكانت في الوقت نفسه كاملة التجهيزات بما يكفي لكي تعمل كعالَم قائم بذاته. مثَّلَتْ تطويرًا كبيرًا لإمكانيات «ساليوت»، حيث كانت تتضمَّن طاقةً كهربيةً أكثر ونُظُمًا آلية للعناية بدعم الحياة. كذلك، وفَّرَتْ أجهزةُ الكمبيوتر الثمانية على متن المحطة الفضائية قدرةً من نوع مختلف؛ ممَّا أتاح الإمكانية لتشغيل معدات معقدة للغاية. الأفضل من ذلك كله أن «مير» صُمِّمت على نحوٍ يسمح بتوسعتها؛ كانت بها وصلة التحام ذات خمس فتحات، وهو ما كان يسمح بتزويدها بإضافات رئيسية فعليًّا في أي وقت.
حملت المركبة الأولى، «كفانت» (أي الكَمُّ)، مجموعةً كبيرة من الأدوات لاستخدامها في الفيزياء الفلكية. انطلقت في أبريل ١٩٨٧، عندما كان رواد الفضاء على مستوى العالَم مبهورين بنجم مُتفجِّر، وهو أقرب نجوم المُسْتَعِر الأعظم خلال أربعمائة عام. حملت «كفانت» مرصدًا أمكنه دراسة الأشعة السينية المنبعثة من هذا الانفجار النجمي، والتي لم تتمكَّن من اختراق الغلاف الجوي، لكن عند وصول «كفانت»، لم تستطع الالتحام جيدًا. أجرى روَّاد الفضاء الروس على متن «مير» عمليات سير فضائي وعثروا على كيس نفايات يعوق الالتحام، فأزالوه بحيث تستطيع «كفانت» — التي صارت في وضع التحام جيد الآن — الإسهامَ على نحو فريد في الدراسات العالمية لهذا الحدث السماوي النادر.
بلغت محطات بحثية أخرى مدارًا فضائيًّا، والتحمت أيضًا بالمحطة «مير»، وكان من بين هذه المحطات البحثية مركبة «كفانت» ثانية في ديسمبر ١٩٨٩، ثم المركبة «كريستال» في يونيو ١٩٩٠، لإجراء دراسات في انعدام الجاذبية على علم المعادن والنمو البلوري. بينما كانت المركبة «سويوز» ملتحمة بوصلة مهايئ الالتحام، والمركبة «بروجرس» جاهزةً لإجراء زيارة، شكَّلت «مير» مجموعةً من ستة أقسام رئيسية، كان الكثير منها يشتمل على ألواح شمسية يمكن بسطها على مساحاتٍ واسعة. لم يهمل أيضًا رواد الفضاء على متن «مير» سجلات رحلتهم الطويلة. في ديسمبر ١٩٨٨، عاد فلاديمير تيتوف وموسا ماناروف بسلامةٍ بعد قضاء عام كامل في الفضاء، وكانا أول مَنْ يفعل ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، كان فالنتين جلشكو، الذي ظلَّ رائدًا لتصميم محركات الصواريخ في البلاد لفترة طويلة، قد واصَلَ بكامل طاقته اهتمامَه بالوقود الدفعي العالي الطاقة. تفوَّقَتْ وجهةُ نظره على وجهة نظر غريمه فاسيلي ميشن، خليفة كوروليف. مع إلغاء الصاروخ «إن-١» القمري، صمَّمَ جلشكو مركبةً تحمل أوزانًا ثقيلة جمعت الكثير من أفضل ميزات «ساتورن ٥» والمكوك الفضائي. في حقيقة الأمر، استطاعت أن تلعب كلا الدورين.
كانت المركبة تشبه كثيرًا المكوكَ الفضائي في مظهرها العام، لكن كانت بينهما فروقٌ مهمة؛ فالمكوك الفضائي كان يعتمد على صواريخ تعزيز ذات وقود صلب؛ وهو ما أفضى إلى مأساة «تشالنجر»، وبالإضافة إلى ذلك، كان المكوك الفضائي يضع محركاته الرئيسية في مؤخرة المركبة المدارية الشبيهة بالطائرة. لم يستخدم جلشكو أيًّا من صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب، وبدلًا من ذلك، اعتمد على وحداتٍ مزوَّدة بالوقود السائل ذات موثوقية مؤكَّدة. بالإضافة إلى ذلك، وضع محركاته الرئيسية عند قاعدة خزان الوقود، وليس على المركبة المدارية، وهو ما كان يعني أن الصاروخ يمكنه الطيران دون المركبة المدارية، كمركبة إطلاق قائمة بذاتها.
كان هذا هو الصاروخ إنرجيا. انطلق الصاروخ من تيوراتام في مايو ١٩٨٧، بينما كانت ناسا لا تزال في حالة ركود؛ وسجَّلَتْ رقمًا عالميًّا بحمولة ٢٢٠ ألف رطل تقريبًا، بما يعادل مائة طن متري. فاقت هذه الحمولة كل الحمولات التي حملها الصاروخ «ساتورن ٥» على الإطلاق، وكان الهيدروجين السائل هو الوقود الذي جعل الأمر ممكنًا. كانت مركبته الفضائية، المسمَّاة «بوليوس» (أيْ قطب)، عبارة عن نموذج أوَّلي من محطة حربية مدارية مزوَّدة بليزر قوي. لسوء الحظ، لم يتمكَّن نظام التحكم الخاص بالمركبة من بلوغ الاتجاه الصحيح، وأشعلت محركها الصاروخي في الاتجاه الخطأ. لم تتمكَّن «بوليوس» من بلوغ المدار الفضائي، حيث احترقت عن آخِرها في الجو فوق المحيط الهادئ؛ لكنْ كان من المقرَّر أن ينطلق «إنرجيا» مجددًا.
حدث ذلك في نوفمبر ١٩٨٨، عندما حمل «إنرجيا» المركبةَ المدارية السوفييتية الشبيهة بالمكوك الفضائي في رحلة تجريبية غير مأهولة؛ كانت هذه هي المركبة المدارية «بوران» (أيْ عاصفة ثلجية). كانت تشبه كثيرًا نظيرتها الأمريكية، من حيث حجمها وشكل أجنحتها وغرفة بضائعها، على الرغم من عدم احتوائها على محركات رئيسية خاصة بها، وبلغت مدارًا فضائيًّا من خلال محركات «إنرجيا». حلَّقَتْ «بوران» في مدارين فضائيين، ثم نفَّذَتْ عمليةَ هبوطٍ آلي على الرغم من الرياح العاتية، باستخدام كمبيوتر متطوِّر على متن المركبة.
على الرغم من ذلك، على غرار الألوان البرَّاقة لغروب الشمس التي تنبئ بحلول الظلام، اتضح أن هذه الموجة العارمة من الإنجازات السوفييتية ما هي إلا مقدمة لتراجُع كبير في مجال الفضاء. كان من الواضح أن «بوران» مصمَّمة لخدمة أغراض «مير»، وكان نموذج المركبة «كريستال» يتضمَّن فتحةَ التحام مُخصَّصة للاستخدام من قِبَل ذلك المكوك الفضائي؛ لكنَّ «مير» و«كريستال» و«إنرجيا» و«بوران» وكثير غيرها، وجدت نفسها حبيسةَ الكارثة الاقتصادية التي أعقبَتْ سقوطَ الشيوعية في أغسطس ١٩٩١.
يجب عدم القول بأن هذه الثورة الروسية الثانية أحلَّتِ الشيوعية محل الرأسمالية، بل الأنسب هو وصفها بأنها إسقاطٌ لنظام سلطوي حافَظَ على النظام العام، في صالح تنظيم فوضوي لم تكن الممارسات الراسخة لتستطيع الصمود أمامه. أدَّى التضخم المفرِط إلى خفض سعر الروبل إلى واحد على الألف من قيمته السابقة. انتشرت جرائم العنف، في مجتمعٍ كان قد حقَّقَ مستوًى مرتفعًا من الأمن العام. حقَّقَ مسئولو الحزب السابقين ثرواتٍ باستغلال صِلَاتهم، بينما كان العُمَّال يكافحون من أجل الحصول على ما يساوي بضعة دولارات شهريًّا. تراجَعَ الإنتاج الصناعي تراجُعًا هائلًا، على نحوٍ لم يُشهَد إلا نادرًا منذ الكساد العظيم.
استمرَّ برنامج الفضاء لفترةٍ بإيقاعه المعهود، غالبًا من خلال استخدام احتياطي من مركبات الإطلاق والمركبات الفضائية، لكنْ سرعان ما بدأت الاستقطاعات الكبرى في الميزانية؛ ففي عام ١٩٩٢، تلقَّى برنامج الفضاء العسكري نصفَ التمويل الذي تلقَّاه خلال عامَيْ ١٩٩٠ و١٩٩١، بينما بلغت الاستقطاعات في البرنامج المدني ثلثَيْ مستواها السابق. تم تخصيص نموذجين جديدين كمركبتين إضافيتين تُلحَقان بالمركبة «مير»، أَلَا وهما «سبكتر» «وبريرودا» (أيْ «طيف» و«طبيعة»)، اللتان كانتا مُخصَّصتين للاستخدام في دراساتٍ حول سطح الأرض وبيئتها. تأجَّلَ موعدُ إطلاق المركبتين إلى أجلٍ غير معلوم، لم ينطلقا حتى عامَيْ ١٩٩٥ و١٩٩٦.
مع ذلك، احتفظ المسئولون الروس ببعض الأموال لمواصَلة مشروع «بوران». توقَّعَ يوري سيمينوف — رئيس مؤسسة كوروليف — عمليةَ إطلاقٍ جديدة في عام ١٩٩٣، لكن خلال ذلك العام، في ظل استمرار خفض الميزانيات، أُلغِي كلٌّ من «بوران» و«إنرجيا». انتهى المطاف بنموذج «بوران» الكامل، الذي استُخدِم في اختباراتٍ إنشائية وهندسية، في متنزه جوركي للعرض أمام الجمهور، على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عن عجلة ملاهٍ دوَّارة.
في عام ١٩٩٥ انخفض تمويل برنامج الفضاء العسكري إلى ١٠ في المائة من تمويله في عام ١٩٨٩، وانخفضَ البرنامج المدني إلى ٢٠ في المائة؛ أيْ حوالي ٤٠٠ مليون دولار أمريكي بسعر الصرف السائد وقتها. على النقيض من ذلك، تلقَّتْ ناسا حوالي ١٤ مليار دولار أمريكي في عام ١٩٩٥. خلال ذلك العام، أجرت روسيا اثنتين وثلاثين عملية إطلاق فضائي فقط، وهو أقل عدد من عمليات الإطلاق منذ عام ١٩٦٤، وانخفضَ الإجمالي مجددًا في عام ١٩٩٦، إلى ثلاث وعشرين عملية إطلاق فقط، وفي عام ١٩٩٠، بلغَ الإجمالي خمسًا وسبعين. حذَّرَ مديرو البرنامج المدني والبرنامج العسكري في روسيا من أنه في حال عدم زيادة التمويل، ربما ينتهي برنامج الفضاء برمَّته في غضون عامين أو ثلاثة أعوام.
كان التدهور دراميًّا على نحوٍ خاص في تيوراتام ومدينة لنينسك المجاورة؛ حيث وقعت أعمال شغب كبرى في فبراير ١٩٩٢. أُرسِل المُجَنَّدون العسكريون إلى هناك لأداء أعمال الصيانة، لكنهم كانوا يتناولون طعامًا سيئًا للغاية، ومضت أشهر دون أن يستحمُّوا. مثلما أشار أحدهم قائلًا: «جئتُ إلى هنا سليمًا، معافًى، غير مُضَار، وها أنا الآن أعود إلى وطني عليلًا، كسيحًا، بعدما خدمت هنا عامين.»
بدأت أعمال الشغب عندما أُلقِي القبضُ على عامِلٍ عسكري وأُرسِل إلى مكتب القائد؛ حاولت القوات الأخرى إنقاذَه بالاستيلاء على مركبة واقتحام البوابات، وهو ما تبعه إطلاق أحد الحُرَّاس النار، مصيبًا أحد منفِّذي الاقتحام. انضمَّ عدة مئات من الجنود الآخَرين إلى الانقلاب، حيث استولوا على حوالي خمس عشرة مركبة للجيش، وأشعلوا النيران في المباني. احترقت ثلاث ثكنات، وعثرَ رجال الإنقاذ لاحقًا على جثث ثلاثة رجال في الداخل.
أعادت السلطات النظام لا من خلال القبض على القادة فحسب، بل من خلال منح تصاريح إجازات للجنود الذين كانوا يواجهون صعوبات مثل اعتلال الصحة، ومع ذلك كان انتشار التدهور جليًّا؛ أشار أحد الكُتَّاب في عام ١٩٩٢ قائلًا إن «الأساس هو تجديد مجمع الإطلاق، حيث لم تُجرَ عمليات الفحص والصيانة الروتينية اللازمة على مدى عام ونصف عام. زُرتُ منصة إطلاق «إنرجيا»/«بوران» مؤخرًا. كان مشهدًا مُحزِنًا؛ فقد كان بوسع المرء أن يصوِّر هناك أفلامَ خيال علمي عن حضارة فضائية آفلة!»
كانت ثمة حرائق وسط المعدات المتوقِّفة عن الخدمة. في عام ١٩٩٤، كتبَ مراسِل روسي قائلًا: «احترقَ مركز الضباط في الموقع العسكري عن آخِره الشتاءَ الماضي، بَيْدَ أن تعبير «احترق عن آِخره» لا يعكس الصورة الدقيقة تمامًا للمشهد. على وجه الدقة، اشتعلت النيران في مركز الضباط، وتكسَّرت كل النوافذ في نهاية المطاف، «على سبيل المزاح». بعد ذلك، ظلَّ الدخان ينبعث من المركز على مدى ثلاثة أيام، على غرار فوكوشيما في اليابان.» اندلع حريقٌ آخَر في مبنى مجمع «سويوز»، وبعدها بأشهرٍ كان لا يزال في إمكان الزائرين استنشاق رائحة الدخان. بعض منصات الإطلاق لم تَعُدْ صالحةً للاستعمال، وأشار أحد المراسلين إلى أن «الناسَ كانوا يسرقون كلَّ شيء، حتى النحاس أو الألواح المعدنية من أسطح المباني». عندما بلغ صاروخ مؤنٍ إلى «مير»، كان جزء من المكملات الغذائية على متنه مفقودًا؛ حيث كان قد جرى نهبه فيما يبدو على الأرض من قِبَل طاقم الإطلاق.
كان ثمة الكثير من التدهور والخراب البادي للعيان. في بداية التسعينيات من القرن العشرين، لم تكن ثمة مصادر تدفئة أو مياه جارية في منازل العاملين، ولم تكن ثمة خدمات اجتماعية بدءًا من المدارس وحتى الرعاية الطبية، ولم يكن يوجد في المتاجر سوى أردأ الأنواع من الأطعمة. انهار الأمن وتسلَّلَ المغتصبون الذين يستولون على الأراضي والممتلكات بوضع اليد، بينما اندسَّ اللصوص في ضواحي المدينة. تدهورت الصحة العامة سريعًا وانتشرت الأمراض، خاصةً بين الأطفال. هجرَ كثيرٌ من العاملين المدنيين، الذين لم يتقاضوا أجورهم لأشهر، مواقعَهم.
ذكَّرَتْني المباني المهجورة، والسياجات المكسورة، وأكوام النفايات المبعثرة بكثافة في كل مكانٍ بأسوأ أوضاع التدهور الحضري في الولايات المتحدة. كانت الشقق المهجورة، التي كانت تشمل في بعض الأحيان وحداتٍ سكنية بأكملها، تقف بلا نوافذ في مواجَهة الشمس المُترِبة. كان الغبار، المنبعث من مسطحات الملح المُحمَّلة بالمبيدات الحشرية في بحر آرال، يسمِّم تدريجيًّا قاطني المدينة، الأضعفَ أولًا.
كانت الأوضاع مشابهة كثيرًا في ميرني، وهي مدينة عسكرية تخدم مركز الإطلاق الرئيسي في بليستسك. أشارت صحيفة «إزفستيا» أن «طابع الفقر المُدقِع للجنود كان يُرى في كل مكان»؛ كان العاملون يأكلون العصيدة ثلاث مرات يوميًّا. قال أحد الطهاة: «لم أَعُدْ أتذكَّر متى كانت آخِر مرة تناولنا فيها لحمًا طازجًا. لم نَذُق الكرنب الطازج هذا العام.» أضافَ أحد الجنرالات قائلًا إن «إجمالي ٢٥٥ عائلة من عائلات الضباط لم يكن لديهم محل إقامة».
اعتمدَ السوفييت على سفن التتبُّع «كوماروف» و«كوروليف» وسفينة القيادة «جاجارين». تُرِكت سفن التتبُّع هذه في ميناء أوديسا حتى صدأت، وعُرِضت سفينة القيادة للبيع. ظلت «مير» مأهولةً، بَيْدَ أن أوبرج أشار إلى حادثة مثيرة في مركز التحكم في البعثات قائلًا: «عرض روَّاد الفضاء عدة معدات على شبكة النقل التليفزيونية إلى الأرض، ووصفوا المعدات، وسألوا عن وظيفتها والغرض منها. بعد جهدٍ بحثي مُضنٍ، اضطرَّ المراقبون الأرضيون إلى إخبار روَّاد الفضاء أنْ لا أحدَ على الأرض يعرف ماهية المعدات أو الغرض منها. لم تكن ثمة سجلات مكتوبة ولا خبراء على قيد الحياة للاستعانة بهم.»
في الولايات المتحدة استُؤنِف برنامج المكوك الفضائي؛ حيث أجرت «ديسكفري» أولى رحلاتها في سبتمبر ١٩٨٨. كان العام التالي هو أول عام جيد حقًّا منذ عام ١٩٨٥؛ حيث انطلق المكوك الفضائي في خمس بعثاتٍ أخرى. وُضِعت ثلاث عشرة مركبة مكوكية أخرى على متن أسطول من الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة جرى تجديده، فضلًا عن سبع مركباتٍ مكوكية أخرى على متن «آريان». كانت آثار «تشالنجر» لا تزال تُلقِي بظلالها على المشهد، خاصةً في برنامج استكشاف الكواكب.
كان فقدان «سينتاور» بوصفه صاروخ مرحلة عليا على شكل مكوك فضائي قد أجبَرَ بعثة «جاليليو» على الرجوع على متن مركبة ذات إمكانياتٍ أقل تعمل بالوقود الصلب، وقد تكيَّفَ مديروها مع الأمر من خلال الاعتماد مجددًا على حالات الانجذاب بين الكواكب لتوفير مساعدة جاذبية. كانت خطة البعثة تقتضي أن تحلِّق مركبة السَّبْر مرورًا بكوكب الزهرة، وأن تنفِّذ عمليتَيْ طيران منخفض من الأرض للحصول على مزيدٍ من الطاقة، في الاتجاه المعاكس لوجهة «جاليليو»؛ ومن ثَمَّ، كان من المقرر أن تتجه المركبة الفضائية إلى الخارج من خلال التوجُّه إلى الداخل أولًا.
كانت المركبة الفضائية، التي بُنِيت في مختبر الدفع النفاث، قد نُقِلت على متن شاحنة إلى كانافيرال قبل فقدان «تشالنجر». عادت المركبة إلى كاليفورنيا بالطريقة نفسها، ثم أُعِيدت إلى كيب على متن شاحنة أخرى مع اقتراب تاريخ إطلاقها الذي أُعِيدت جدولته. في أثناء هذه الرحلات الطويلة، كان زيت التشحيم يتسبَّب في سَحْج بعض أضلاع الهوائي في المركبة، وبمجرد صعودها إلى الفضاء، كانت الأسطح المعدنية غير المشحَّمة تلتحم بفِعْل البرودة؛ ممَّا يؤدي إلى التصاقها بشدةٍ فيما لا يعدو تلامُسًا في الفراغ. عندما حاوَلَ مراقِبو البعثة بسْطَ الهوائي، وجدوه عالقًا. كان يُفترَض أن يتم الأمر بسهولة مثلما يحدث عند فتح مظلة، وهي ما كان الهوائي يشبهها كثيرًا، لكن بدلًا من ذلك، لم يَبْقَ لمختبر الدفع النفاث سوى ما أطلق كبيرُ العلماء تورنس جونسون عليه «كيسًا منبعجًا معدوم النفع من شبكة معدنية». كان من المقرَّر أن تبث «جاليليو» صورًا بسرعة ١٣٤ ألف بت في الثانية، لكن لم يكن لديها الآن سوى هوائي قليل الكَسْب، كان أبطأ بما يزيد عن ثلاثة آلاف مرة.
لحسن الحظ، كان مختبر الدفع النفاث يتمتَّع بقدر كبير من الخبرة في إصلاح المركبات الفضائية المعطوبة. كان علماء المختبر يستطيعون إعادة برمجة الكمبيوتر على متن المركبة من الأرض، وإصدار الأوامر له لتطبيق أساليب ضغط البيانات، لزيادة المحتوى المعلوماتي بواقع عشر مرات في كل وحدة بت. كان الكمبيوتر يحرِّر البيانات أيضًا، على سبيل المثال، من خلال حذف سلاسل وحدات البت التي كانت تصوِّر سواد الفضاء فحسب؛ بالإضافة إلى ذلك، زاد مختبر الدفع النفاث من حساسية شبكة الفضاء السحيق المستخدَمة في التتبُّع. عزَّزَتْ هذه التغييرات من القدرة الفعلية لوصلة الاتصالات إلى ألف بت في الثانية، وهو ما كان كافيًا لضمان بعثة مثمرة، ومع ذلك، على الرغم من كل هذه الأعمال البطولية، كان كثير من البيانات عرضةً للفقدان.
بالتصديق على «جاليليو» كمشروع في عام ١٩٧٧، وتحديد موعد إطلاقها ليكون في عام ١٩٨٢، ثم في عام ١٩٨٦، ثم إطلاقها أخيرًا في أكتوبر ١٩٨٩، وصلت «جاليليو» أخيرًا إلى المشتري في ديسمبر ١٩٩٥. على الرغم من ذلك، كانت هذه بعثة ذات أولوية مرتفعة نسبيًّا. كان ثمة علماء آخَرون ينتظرون لفتراتٍ مشابهة؛ فعلى الرغم من عودة المكوك الفضائي إلى الخدمة، كان مقرَّرًا أن ينطلق بضع مراتٍ فقط سنويًّا؛ وحتى عندما استُؤنِفت بعثات «سبيسلاب»، في أواخر عام ١٩٩٠، فإنها قلَّمَا كانت تبشِّر باحتمال تحقيق إنجاز كبير، وهو ما كان يُعزَى إلى طبيعة العلم نفسه.
يعتمد علماء العالم على أدواتهم ومعداتهم في كل مجال من مجالات الدراسة، ومن غير المعتاد بدرجة كبيرة إحراز تقدُّم مفاجئ في أي مجال يؤدِّي إلى اكتشافاتٍ جوهرية. يحدث هذا أحيانًا؛ فعندما اكتشف الباحثان جيمس واطسون وفرانسيس كريك بنيةَ الحامض النووي في عام ١٩٥٣، وأعلنَا عن بداية العصر الحديث لعلم الأحياء الجزيئي، اعتمدَا على بضع صور جيدة التُقِطت بأشعة إكس، واعتمدَا كذلك على قدرٍ هائل من نفاذ البصيرة. لكن، في الغالب — حتى مع أفضل العلماء — كانوا يعملون عامًا بعد عام باستخدام أجهزة مختبراتٍ قياسية ويأملون في حل مسائل محددة، ونادرًا ما يطمحون إلى ما هو أكثر من تقدُّمٍ بسيط في مجالهم، حيث إن الصعوبات أضخم بكثيرٍ من أن تدعهم يأملون المزيد.
سارت إنجازات رحلات «سبيسلاب» على هذا المنوال. استقطب النمو البلوري قدرًا جيدًا من الانتباه، وأدت بعض المواد بالفعل إلى إنماء بلوراتٍ جيدة. تضمَّنَتْ رحلة «ديسكفري» في عام ١٩٨٨، على سبيل المثال، إحدى عشرة تجربة، كلٌّ منها كانت تسعى إلى إنماء بلورات بروتين مختلف؛ أنتجت ثلاثٌ منها بلوراتٍ كانت أفضل على نحوٍ لافتٍ للنظر من أفضل البلورات التي جرى إنماؤها على الإطلاق؛ فقد كانت أكبر حجمًا وقدَّمَتْ بياناتٍ أفضل عن البنية الجزيئية. زادت البحوثُ اللاحقة التي أُجرِيت على متن رحلات مكوك الفضاء اللاحقة العددَ إلى خمسة وعشرين بروتينًا، من أصل مائة جرى فحصها، وكانت بلورات البروتين أفضل من أي بلوراتٍ على الأرض. لم تُسفِر الدراسات عن تقديم علاجٍ للأمراض، ومع ذلك قدَّمت الدراسات اتجاهين جديدين لكنهما متواضعان للبحوث المستقبلية.
كان الاتجاه الأول يتضمَّن بحوثًا تجريبية منهجية تسعى إلى معرفة الأساليب والجزيئات التي يمكن أن يوفِّر لها انعدامُ الجاذبية ميزةً فعلية؛ كانت هذه البحوث تسعى إلى تحسين معدل الإنماء إلى أكثر من ٢٥ في المائة، مع العلم أن الرحلة الفضائية لم تأتِ بفائدةٍ تُذكَر بالنسبة إلى البروتينات الخمسة والسبعين الأخرى التي جرت دراستها. على وجه الخصوص، تمكَّنَتْ آثارٌ غير ملحوظة من تعطيل عملية النمو البلوري الدقيقة، حتى في الغياب الكامل للجاذبية.
عكسَ الاتجاه الثاني حقيقةَ أن رحلات المكوك الفضائي نادرة وتواجِه تأجيلاتٍ طويلةً، فضلًا عن ضيق المنشآت وازدحامها ومحدودية الوقت المستغرق في المدار؛ لذا، بدلًا من السعي إلى الحصول على بلوراتٍ كاملة كمسألة روتينية، كان التركيز يقتضي إنماءَها في عددٍ محدود من المواد، ثم استخدام هذه البلورات لوضع معيار. استطاع المتخصصون في مختبراتهم الأرضية، بعد أن صاروا الآن على عِلْم بما هو ممكن، العملَ على تحسين أساليبهم بما يطابِق المعيارَ دون الحاجة إلى السفر إلى الفضاء.
كان من المفترض أن هذه الاستراتيجيات ستعكس العلم كما هو معمول به حقًّا، لكنها كانت تنطوي على خطرٍ بالنسبة إلى مؤيدي المحطات الفضائية، الذين لم يروِّجوا بالتأكيد لمشروعهم من خلال إعلانِ كونه وسيلةً أفضلَ لصنع بلورات البروتين؛ على العكس، كانوا على وشك الجزم بأن البلورات التي جرى إنماؤها في الفضاء، مثل مياه لورد المباركة كثيرًا، ستكتسب قوًى سحريةً تسمح للقعيد أن يسير وللأعمى أن يُبصِر.
تحدث ريجان، على غرار هؤلاء المؤيدين، عن «عقاقير لإنقاذ الحياة لا يمكن صناعتها إلا في الفضاء». قال كرافت إيريك، وهو خبير صواريخ على قدرٍ عالٍ من الكفاءة، كان قد طوَّر «سينتاور» لكنه لم تكن لديه أي خلفية أو معرفة متخصِّصة بالبحوث الطبية: «يمكننا أن نجد علاجًا رائعًا للسرطان في الفضاء.» كانت مجلة «أسترونوتيكس آند آيرونوتيكس» المرموقة قد نشرت مقدمةَ مقالٍ بعنوان «التصنيع في الفضاء»، بخطٍّ كبير: «لا يقتصر الأمر ببساطة على أن في مقدورنا من خلال العمليات الفضائية تخليقَ موادَّ وبنًى جديدة، بل إننا بذلك نستهلُّ عصرًا جديدًا من الحضارة الفنية.» في خضم هذا الترويج، برزت تكلفة المحطة الفضائية بوصفها مسألةً مثيرةً للقلق على نحو بالغ.
في واشنطن، توجد الإجراءات القياسية بغرض تحويل المقترحات غير المؤكَّدة إلى برامج دائمة. يبدأ المرء بوضع تكلفة منخفضة على نحو غير واقعي، ثم إنفاق المال بمعدل محسوب لسنواتٍ عديدة، وهو ما يكوِّن مجموعةً من الأشخاص الذين يعتمدون على البرنامج، والذين هم على استعدادٍ لتكوين مجموعاتِ ضغطٍ تمارس بحماس ضغوطًا ضد الاستقطاعات التي يواجِهها البرنامج. يعمل هذا أيضًا على دعم الرأي القائل بأن أيَّ استقطاعات، فضلًا عن إيقاف البرنامج برمَّته، من شأنها إهدار الأموال التي جرى تخصيصها حتى ذلك الحين. يستطيع المؤيدون عندئذٍ الدفع بأن لا سبيلَ إلى العدول عن هذا الالتزام الوطني في ضوء ما تمَّ قطعه في البرنامج.
سارَ المكوك الفضائي على هذا المنوال. خلال فترة طويلة من سبعينيات القرن العشرين، واصلَتْ ناسا الترويجَ لتكاليفها المنخفضة وفوائدها المرتفعة، باستخدام الإدارة المُوجَّهة نحو النجاح لإحراز تقدُّم على الرغم من ميزانيتها المحدودة؛ ومع تزايُد التكاليف وتوالي التأجيلات، أكَّد حلفاء القوات الجوية بوكالة ناسا أن البلاد ملتزمة تمام الالتزام بما لا يدع مجالًا للرجوع في الأمر. مارست ناسا اللعبة نفسها مع موضوع المحطة الفضائية، وبنتائج مشابهة.
في البداية، حوالي عام ١٩٨٠، كان مؤيدو مركز عمليات الفضاء قد ذكروا تكاليف تطوير بلغت قيمتها ٨ مليارات دولار أمريكي. قبل موافَقة ريجان في عام ١٩٨٤، وبعدها ببعض الوقت، واصَلَتْ ناسا الحديثَ عن ٨ مليارات دولار أمريكي؛ لكن، لم يعكس هذا المبلغ نوعَ التحليل الذي تعتمد عليه شركات مقاولات البناء عند عرض سعرٍ ما لمنزل جديد، وبدلًا من ذلك، عكسَ المبلغ اهتمامًا بالغًا بما يمكن أن تتقبله الأوساط السياسية.
كان هذا الأسلوب يعتمد جزئيًّا على الرأي القائل بإمكانية تصميم محطة تلبِّي هدفَ تكلفة محددة. اعتمد هذا الأسلوب أيضًا على ما أطلق عليه أحد مسئولي ناسا «مستوى الصراخ»: بدأ أشخاصٌ من خارج برنامج الفضاء يطالِبون بمبلغ ٩ مليارات دولار أمريكي تقريبًا، وتعالت صيحاتهم المطالِبة بذلك. يشير المحلل هوارد ماكيردي إلى أن جيمس بيجز «اتخذ قرارًا سياسيًّا بتحديد تكلفة المحطة المأهولة مبدئيًّا ﺑ ٨ مليارات دولار أمريكي. اعتقدَ مؤيدو المبادرة أن أي سعر تقديري يتجاوز نطاق ٨ أو ٩ مليارات دولار أمريكي، سيوفر لمعارضي المشروع «المانع القانوني» الذي يريدونه لوَأْدِ المُقترَح».
كان التصميم الذي انبثق عن ذلك هو «العارضة المزدوجة»، الذي كان يتضمَّن جَمَلونًا كبيرًا مستطيل الشكل تمر عبره ذراع طويلة. كان من المقرر ربط المعدات وأماكن إقامة الطاقم والمختبرات البحثية والألواح الشمسية جميعًا بهذه الهياكل. ثم في يناير ١٩٨٧، اكتشفت الوكالة — وكانت مفاجأةً كبرى — أن الأمر سيتكلف ١٤٫٥ مليار دولار أمريكي، وهو ما استدعى مراجَعةً عاليةَ المستوى شملت المشروع بأسره؛ ممَّا أدَّى إلى تأجيل النفقات الرئيسية إلى حين وصول الرئيس القادم إلى البيت الأبيض. قسَّمت الخطة الجديدة التصميم إلى جزأين؛ كان من المقرَّر تصميم الذراع المستعرضة الطويلة أولًا، بتكلفة ١٢٫٢ مليار دولار أمريكي، ولاحقًا ربما يتم أيضًا تصنيع المستطيل الكبير، مقابل ٣٫٨ مليارات دولار أمريكي أخرى.
أطلق ريجان على النموذج الجديد اسم «فريدوم» (أي الحرية)، لكن مثلما غنَّتْ جانيس جوبلن في عام ١٩٧٠، ما الحرية سوى كلمة أخرى لعدم وجود أي شيءٍ لدى المرء ليفقده. بحلول عام ١٩٩١ ارتفعت التكلفة إلى ٣٨ مليار دولار أمريكي، وكانت المحطة الفضائية تخسر مؤيديها؛ صرَّح أحد كبار المديرين لمجلة «ساينس» قائلًا: «العمل الذي أُنجِزَ حتى الآن لا قيمةَ له، وما أُنجِزَ لا يُعَدُّ حتى عملًا هندسيًّا جيدًا.» كتبَ توماس بين، وهو رئيس سابق لناسا، قائلًا إن العمل «يؤخِّر أهداف الرئيس، ولا يدفعها قدمًا». أشار منتقدون آخرون إلى أن المركبة «فريدوم» ستقترب من حجم ملعب كرة قدم، وستتطلَّب ثمانيًا وعشرين رحلةَ مكوكٍ فضائي على الأقل، وهو ما يضع ضغطًا جديدًا على ناسا لتنفيذ جدول زمني للإطلاق. لم يكن مقررًا أيضًا أن تتطوَّر المركبة عبر مراحل، الأمر الذي كان من شأنه أن يقدِّم فرصًا للتعلُّم أثناء المُضِيِّ قُدمًا؛ إذ كان من المقرر أن تُصمَّم بالحجم الكامل من البداية، دون سبيلٍ لاختبار تجميعها الكامل على الأرض. عبَّرَ قائد أسبق للقوات الجوية عن الأمر بوضوح قائلًا: «ما لا يمكن اختباره، لا يمكن الوثوق به.»
كان الخبراء التكنولوجيون قد رفضوا رفضًا قاطعًا التخلِّي عن أفكار استخدام المكوك الفضائي لأغراض البحوث المُوجَّهة تجاريًّا. تخلَّت شركة «ثري إم» عن هذه المساعي، بينما حذَّرَ مُنسِّق الشركة لبحوث الفضاء إيرل كوك من أن الإمكانات التجارية «قد رُوِّج لها على نحوٍ مبالغ فيه». تدخَّل المجتمع العلمي؛ إذ عقد روبرت بارك، وهو أحد مديري الجمعية الفيزيائية الأمريكية، مؤتمرًا صحفيًّا وأعلن أن المحطة تعدُّ إهدارًا للأموال، ثم كتب مقالَ رأيٍ في صحيفة «واشنطن بوست» سخر فيه من المحطة باعتبارها «برميل خنازير دوَّار». انضمَّ رؤساء أربع عشرة جمعية إليه في بيان مكتوب من جمعية الفيزياء الأمريكية ينتقدون فيه المحطة، فضلًا عن توقيع عشر مؤسسات مماثلة مع بارك خلال الأشهر التالية لذلك؛ كان هذا أمرًا غير مسبوق؛ فقد اعتمَدَ علماء البلاد على مصادر التمويل الفيدرالي في مِنْحهم البحثية، وهو ما كان يعني أنهم كانوا يعضون اليد التي أطعمتهم. وعلى الرغم من كل الحديث حول إنماء بلورات في الفضاء، كان واضحًا دعم إحدى الجماعات لبارك، أَلَا وهي الجمعية الأمريكية لعلم البلورات.
كانت هذه الجمعيات تفتقر إلى النفوذ الذي يتيح لها أن تسود، لكن لم يكن في مقدور أحد أن ينكر أن مبلغ ٣٨ مليار دولار أمريكي كان أكثر ممَّا ينبغي. لم يتحسَّن الوضع أيضًا عندما أشار القائد العام إلى أنه فضلًا عن تكاليف بناء «فريدوم»، كان من المقرَّر أن تتكبَّد نفقات مستمرة باهظة خلال الفترة المقررة لها، وهي ثلاثون عامًا. قال بارك في شهادة أمام الكونجرس: «عند حساب هذه التكاليف مجتمِعةً، فإننا نحصل في حقيقة الأمر على برنامج بتكلفة ١١٨ مليار دولار أمريكي على الأقل.»
كان هذا يعني أن الوقت قد حان لإجراء إعادة تصميم أخرى، بغرض «خفض» تكاليف الإنشاء إلى ٣٠ مليار دولار أمريكي. حازت الخطة الجديدة على موافَقة البيت الأبيض، وكانت لها مميزاتها. تضمَّنَتِ الخطة نماذجَ أصغر أمكنَ تحميل معدات على متنها واختبارها على الأرض؛ وعلى الرغم من ذلك، مع زوال فكرة أن «فريدوم» ليست حرة تدريجيًّا، انتهى المطاف بالخطة الجديدة إلى اعتبارها بديلًا مؤقتًا. في منتصف عام ١٩٩٣، نجا مشروع المحطة الفضائية من محاولة لإلغائه في البيت الأبيض بفارق صوت واحد؛ ٢١٦ صوتًا مقابل ٢١٥ صوتًا. زاد هذا الهامش خلال التصويت التالي، ولكن لم يحدث ذلك إلا لأن الرئيس كلينتون ونائبه جور قد مارَسَا ضغوطًا شديدة لإقناع الخصوم الرئيسيين بالابتعاد.
مع ذلك، تبيَّنَ أن هذا لم يكن سوى الظلام الذي يسبق بزوغ الفجر؛ فقد عاد برنامج الفضاء غير المأهول بقوة، واحتلت صواريخ «دلتا» و«أطلس» و«تايتان» الصدارةَ مرةً أخرى. كانت المحطة الفضائية على وشك أن تعود مرة أخرى، بعد أن حازت غرضًا وقوةً جديدين. كانت برامج الفضاء الكبرى في العالم تدخل مرحلة تجديد، مسجِّلة من جديد ارتفاعًا في منحنى الإنجاز؛ ووسطَ هذا الإنجاز، ساد موضوعان مهمان، أَلَا وهما التعاوُن الدولي والريادة التجارية.