«الروس يُحْرِزون السَّبْق!»
كان فيرنر فون براون يجيد فن إقناع الآخرين بما يريد، ويتحدث بول كاستنهولتس عن هذا قائلًا: «كان يبدو دائمًا أكبر سنًّا مما هو عليه، وكان يُنظر إليه باعتباره صاحب خبرة طويلة، ورؤية ثاقبة، وكانت تحيط به هالة تضفي عليه طابعًا من المصداقية. وكان كثير المطالعة ولديه اهتمامٌ بالكثير من المجالات، ويحب الغوص والطيران. كان رجلًا محبًّا للانطلاق رافضًا للقيود.» ويصفه سام هوفمان بأنه «شخص أنيق وجذَّاب، وصاحب كاريزما عالية، وشخصية قيادية. وكان وسيمًا، وذكيًّا، وينتمي إلى الصفوة.»
مع ذلك، لم تشفع له أيٌّ من هذه الخِصال في أواخر نوفمبر ١٩٥٦، عندما أصدر وزير الدفاع ويلسون قرارًا بشأن الأدوار والمهمات الخاصة بأسلحة القوات المسلحة الثلاثة، فيما يخص مجال الصواريخ البعيدة المدى. وبموجب هذا القرار، صار مسموحًا للجيش بنشر صواريخ يصل مداها إلى مائتَيْ ميل، وهو نفس مدى الصاروخ «ردستون»، لكن أي صواريخ أخرى تتخطى هذه الآماد أصبحت تقع ضمن نطاق مسئولية القوات الجوية. وأشار الجنرال مداريس إلى القرار باعتباره «نصرًا مؤزرًا» لسلاح القوات الجوية المنافس. وكان مدى الصاروخ «جوبيتر» ١٥٠٠ ميل، ومن ثَمَّ فإنه كان يتجاوز كثيرًا الحدودَ المسموح بها داخل الجيش.
وبحدوث هذا التطور في الأحداث، يكون فون براون قد تلقَّى أربع ضرباتٍ في أقل من عامين؛ فقد روَّج الصاروخ «جوبيتر» للقوات الجوية في أوائل عام ١٩٥٥، لكنه تلقَّى رفضًا فظًّا ومباشِرًا؛ وخسِرَ عرض قمر «آي جي واي» الصناعي، مشروع المركبة المدارية، المنافسة أمام عرض الصاروخ «فانجارد» المقدَّم إلى البحرية؛ وعرقلت البحرية أيضًا خطةً لإطلاق الصاروخ «جوبيتر» من غواصات بحرية؛ وها هو وزير الدفاع ويلسون يُصدِر قرارًا لا يحقُّ بموجبه استخدام صاروخه من قِبَل الجيش.
لم يلْغِ ويلسون برنامجَ الصاروخ «جوبيتر» بل تركه معلَّقًا؛ فقد كان لدى فون براون، على أية حال، سجلُّ إنجازاتٍ مؤكَّد تَضَمَّن عمليةَ الإطلاق الناجحة للصاروخ «ردستون»، في حين لم تنجح الشركات المتعاقدة على الصاروخ «ثور» (وهي: «دوجلاس إيركرافت»، و«روكيت داين»، و«بيل لابس» المسئولة عن تصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي والإشارات اللاسلكية، وشركة «إيه سي سبارك بلاج» المسئولة عن تصميم نموذج فعلي لنظام التوجيه بالقصور الذاتي، وشركة «جنرال إلكتريك» المسئولة عن تصميم مقدمات الصواريخ المخروطية) إلا في بناء صواريخ «نايكي» المضادة للطائرات؛ ومن ثَمَّ، تقرَّر استمرار العمل في الصاروخ «جوبيتر»؛ فربما يُعرقل الصاروخ «ثور» في أي وقت. لكن في حال نجاح مشروع الصاروخ «جوبيتر»، كان من المقرَّر ألا يتولَّى بناءه ونشره سوى القوات الجوية. وأعرَبَ الجنرال شريفر بوضوح عن عدم تحمُّسه للفكرة.
لم يمانع آخَرون في الإصرار على الفكرة، وكان فون براون يُجرِي اختبارات على مكونات «جوبيتر» عن طريق وضعها على متن صواريخ «ردستون»، وخلال إحدى عمليات الإطلاق هذه، مالَ الصاروخ وبدأ في الهبوط إلى مركز كيب كانافيرال في اتجاه منطقة إطلاق الصاروخ «ثور». وما كان من ضابط سلامة ميدان الإطلاق إلا أن فجَّرَه، وتحطَّمَ الصاروخ في منطقة خالية دون أن يتسبَّب في وقوع أي أضرار. وعلى الرغم من ذلك، حسبما جاء على لسان مداريس، «اتُّهِمنا بتصميم صاروخ غير دقيق على الإطلاق؛ حيث وجدنا أنه من المستحيل، حتى في ذلك المدى القصير، أن يصيب منصةَ إطلاق الصاروخ ثور».
مع ذلك، حلَّقَ الصاروخ «ثور» أولًا. وعند نصبه في وضع الاستعداد، في أواخر يناير ١٩٥٧، كان «ثور» يمثِّل نقطة فارقة حقيقية؛ حيث كان أول صواريخ جيله. ولم تكن جميع الصواريخ التي جرى بناؤها وإطلاقها حتى ذلك الحين، في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفييتي، أكثر من مجرد صواريخ معدَّلة على غرار الصاروخ «في-٢»، وهو ما كان ينطبق أيضًا على أكثر الصواريخ تطورًا، وهو صاروخ كوروليف «آر-٥». كان «ثور» يمثِّل بوابة العبور إلى المستقبل، مُعلِنًا ليس فقط عن عصر الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى والبعيدة المدى، بل أيضًا عن عصر التحليق في الفضاء.
بحلول هذا الوقت، كانت مظاهر المدنيَّة قد بدأت في الظهور في كيب كانافيرال، لكنها كانت تتبدَّى ببطء. ويتذكر بوب جونسون، أحد كبار المهندسين في شركة «دوجلاس»، أن الطرق رُصِفت، لكنها كانت «محاطة بالمستنقعات والأحراش البرية». ويتذكر جيم دورنباكر، من شركة «دوجلاس» أيضًا، العثور على موقع يصلح لإقامة منصة إطلاق جديدة وسط مساحات هائلة من البلاميط والمستنقعات: «استقلَلْنا أحدَ البلدوزرات، وقادنا رجل عجوز من فلوريدا إلى هناك، بينما كانت الثعابين المائية تتساقط من سير البلدوزر؛ وقال: «هنا ستُقام المنصة».»
في تلك الأثناء، شُيِّدت بعض الأنزال القليلة في المنطقة، وربما كان «سي ميسيل» أول الأنزال اللائقة. وكان الاسم مناسبًا؛ لأن كثيرًا من الصواريخ ينتهي بها المطاف في البحر. ومع ذلك، ظلَّ طاقم شركة «دوجلاس»، الذي سيطلق فيما بعدُ الصاروخ «ثور»، في كوكا بيتش في كلايتون هاوس، وهي أرض مُستأجرة. ويشير دورنباكر إلى هذه التجربة قائلًا: «لم يكن المرء يستطيع العثور على غرفة بمفرده؛ لذا كان يجب العثور على شخصٍ لا يُصدِر شخيرًا أثناء النوم.» ويضيف جونسون أن طواقم الإطلاق كانت تشرب مياه معبَّأة؛ نظرًا لأن المياه المتوافرة محليًّا كانت تحتوي على مواد كيميائية مُذابة تتسرب إليها من مخزون المياه الجوفية، حيث: «كانت رائحة الماء كريهة وذات طعم فظيع.»
كان الإعداد لعملية الإطلاق، مثلما يتذكر دورنباكر، «يتضمن كثيرًا من السيناريوهات الاحتمالية؛ على سبيل المثال: كان على المرء إذا واجهَتْه مشكلةٌ أن يتأكَّد ممَّا إذا كانت هذه المشكلة في المركبة أم في معدات الاختبار. وكان المرء يتساءل دومًا إن كان ما يفعله صوابًا، ولم يكن يوجد الكثير من الأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة والخبرة اللازمتين». ويضيف دورنباكر قائلًا: «كان المرء في وضعٍ يضطر فيه إلى القيام بشيء لم يقم به من قبلُ، ولم يكن لديه الوقت الكافي، وفي بعض الأحيان الموارد الكافية، التي تمكِّنه من ذلك. ولكن، كانت لديه قناعة قوية وإيمان راسخ بأنه يستطيع تخطِّي أيِّ صعاب.»
كانت أشد هذه الصعاب على وشك الظهور في ٢٥ يناير، عند اقتراب العد التنازلي لموعد الإطلاق من الصفر؛ يقول دورنباكر: «كان المرء يرقب عدَّادات الضغط، ومصادر الطاقة، والعدادات الإلكترونية. كانت لحظات مليئة بالتوتر، الجميع يكتم أنفاسه ويأمل ألَّا يحدث شيء يعرقل الأمور.» وكان يقف في مواجهة المسئول عن عملية الإطلاق النهائية، الذي كان سيدفع زرَّ إطلاق الصاروخ، صفٌّ من المراقبين، كلٌّ منهم معه لوحة تحكم. وفي اللحظة المناسبة، بينما لا يزالون يرقبون العدَّادات، أعطى كلٌّ منهم إشارةَ «إطلاق» من خلال الإشارة بأصبع الإبهام، واحدًا تلو الآخَر. وضغط المسئول عن عملية الإطلاق التجريبية، الذي قيل إنه صاحب «أصبع الإبهام الذهبية»، بحسمٍ على زر الإطلاق.
دار المحرك، وارتفع الصاروخ ١٠١ مسافةَ تِسْع بوصات عن منصة الإطلاق، ثم فقد قوة الدفع ليستقرَّ مرةً أخرى على المنصة، ويسقط عبر حلقة دعم، ويتحطَّم إلى قطعتين عند انفجاره. سمع الناس في تيتوسفيل دويَّ الانفجار، على مسافة ثلاثين ميلًا. وكان برج المراقبة ذا حوائط خرسانية من الصلب المقوَّى بسُمْك قدمين، ويوجد على الجانب المواجه للانفجار عشرون قدمًا من الرمال؛ ومع ذلك، حسبما قال دورنباكر: «انبطحنا جميعًا أسفلَ المائدة؛ لأننا لم نكن واثقين من مدى قوة برج المراقبة.» وكان دولف ثيل موجودًا أيضًا، وقال عن هذه الحادثة: «رأينا بريقًا هائلًا يُومض فجأةً، وما أذكره بعد ذلك أنني انبطحتُ أنا وجاك برومبرج أسفلَ المائدة. ونظر أحدنا إلى الآخَر وقال: «ماذا حدث؟» وشعرت بحزن بالغ.»
يضيف بيل إزل من شركة «روكيت داين» قائلًا: «بعد خمود النيران، خرجنا نبحث في حفرة اللَّهب عن أجزاء الصاروخ. وجدت الأنبوب الذي كان يربط مولِّد الغاز بمضخة تصريف، وكان الأنبوب يحتوي على صمام لا رجعي، كان يجب أن ينغلق عند دوران المحرك، لكنه انفجر منفصلًا.» صفَّ العاملون في مركز الإطلاق جميعَ القِطَع التي عثروا عليها في حظيرة طائراتٍ ثم بدءوا في فحصها. وعند فحص الأفلام، رأى أحدهم رجلًا من شركة «دوجلاس» يسحب خرطوم أكسجين سائل عبر الرمال، وهو سائل حسَّاس، وهكذا تسبَّبَتْ حفنة من الرمال في وقوع الانفجار. وكان انفجارًا طفيفًا، لكنه أدَّى إلى فتح الصمام اللارجعي وتسبَّبَ في فشل عملية الإطلاق. أجرى إزل وزملاؤه محاكاةً لهذا الخلل في اختبارٍ في موقع سانتا سوزانا، وتطابَقَتْ نتيجةُ الاختبار مع حادث الانفجار تمامًا؛ وفقدوا بذلك الصاروخ «ثور»، لكنهم تعلموا أن يحتاطوا ويُولُوا إجراءاتِ ما قبل الإطلاق قدرًا أكبر من العناية والحذر.
مرت ثلاثة أشهر، وبحلول شهر أبريل كان الوقت قد حان لاختبار الصاروخ ١٠٢، الذي انطلق من المنصة بنجاح، وحلَّقَ دون مشكلات لمدة نصف دقيقة ثم انفجر. وكان السبب هذه المرة يقع في صميم عمل الضابط المسئول عن سلامة ميدان الإطلاق، الذي كان يعتقد أن الصاروخ متَّجِه إلى أورلاندو، في حين كان الصاروخ يتجه صوب البحر، حسبما كان مفترضًا. وكانت المشكلة تعود إلى تقاطُع الأسلاك وتداخُلها في لوحة التحكم. يقول ثيل: «ضممتُ قبضتي بشدة وكنتُ على وشك تسديد لكمة إليه.» ويضيف شريفر أن هذا الضابط: «نُقِل إلى محطة جديدة في أقصى المحيط الأطلنطي بعد حوالي أسبوع.»
مرَّتْ أسابيع الإعداد وبدأ العد التنازلي الذي كان يسبق عملية الإطلاق الاستاتيكية من المنصة، وبعدها ببضعة أيام أُجريت عملية الإطلاق الفعلية. استغرقت عملية العد أربعمائة دقيقة، وتخلَّلَتْها أحداث كثيرة، منها عمليات فحص المعدات على الأرض وعلى متن الصاروخ «ثور». وكانت عملية العد تتوقَّف في حال ظهور مشكلة حتى ينتهوا من إصلاحها، وهو ما كان يستغرق بعض الوقت.
كانوا يوصلون الصاروخ بمصدر طاقة ثم يُجرون عمليات الفحص، وكان نظام التوجيه يتسبَّب في الكثير من التأخيرات. وخلال إحدى فترات إيقاف العَد الطويلة، لحل مشكلةٍ لم تكن تقع في مجال تخصُّصه، خرج بيل إزل ليلعب تسع جولات جولف، وعندما عاد لم يجد شيئًا قد تغيَّرَ. واستغل بعض العاملين فترات التأخير الطويلة كفرص للإغفاء، كانوا يُغفون في سيارةٍ أو يرقدون فوق لوحة رسم في غرفةٍ كانت ملاصِقةً لمركز الإطلاق. لكن، في حال كانت المشكلة خطيرة فعلًا، كان المسئول عن عملية الاختبار يلغي عملية الإطلاق. ويتذكر إزل قائلًا: «كانت بعض عمليات العد تستغرق ثلاثين ساعة قبل أن نلغيها.» وبإصلاح الخطأ في نهاية الأمر، كان العدُّ يُستأنف مجددًا من البداية، عند الثانية ٤٠٠ من وقت الإطلاق، مع إمكانية وقوع الكثير من الأخطاء.
كان الصاروخ ١٠٣ جاهزًا للإطلاق في منتصف مايو عام ١٩٥٧، وكان الجنرال شريفر حاضرًا، ومعه روب متلر من شركة «رامو وولدريدج»، والكولونيل إد هول مدير المشروع. وفي برج المراقبة، ارتدى بعض الأفراد جوارب وقمصانًا حمراء لجلب الحظ، وهو تقليد يرجع إلى أيام مركز وايت ساندز، وقبل خمس دقائق من عملية الإطلاق، انفجر الصاروخ بينما كان لا يزال منصوبًا على منصة الإطلاق. وطفرت الدموع من أعين الحاضرين في برج المراقبة، وفيهم هول ومتلر. كان على وشك الانطلاق تمامًا، ثم حدث ما حدث.
كان الخطأ هذه المرة يرجع إلى صمام الوقود الرئيسي؛ فبعدَ فترة قصيرة من تكييف الضغط في خزان الوقود، الذي سيغذي المضخات التوربينية بوقود الكيروسين، أدَّى خلل في صمام الوقود الرئيسي إلى تزايد الضغط داخل الخزان، ومن ثَمَّ إلى انفجاره. ومثلما حدث في انفجار الصاروخ ١٠١ في يناير، لم يكن من الصعب إصلاح المشكلة الأساسية؛ لكن الضرر الذي لحق بمنصة الإطلاق جعل الأمر مختلفًا هذه المرة، ولم يصبح الصاروخ جاهزًا لإجراء عملية إطلاق أخرى إلا في شهر أغسطس. وبينما كان الصاروخ «ثور» يمر بهذه السلسلة من الإخفاقات المتكررة، كان فريق فون براون القائم على تطوير الصاروخ «جوبيتر» يعتمد على خبرته التي لا تُضاهى ويحقق نجاحًا.
نجح الفريق في إطلاق صاروخ «جوبيتر» للمرة الأولى في الأول من مارس. انطلق الصاروخ نحو السماء في فترة ما بعد الظهيرة، وارتفع محلِّقًا لمدة أربع وسبعين ثانية دون وقوع أي أخطاء، ثم تحطَّم فجأةً في انفجار هائل؛ فمع صعوده إلى طبقة الجو العليا، كان عادم الصاروخ قد تمدَّدَ حتى وصل إلى قاعدة الصاروخ، وأدَّتْ درجات الحرارة المرتفعة في الذيل إلى وقوع الانفجار. واستدعت هذه المشكلة وضع دِرْع واقٍ من اللهب مصنوع من الألياف الزجاجية مع عزل عدد من الوصلات والأسلاك الكهربية أو تغيير موضعها. ولكن، كان من الواضح بالفعل أن تصميم الصاروخ الأساسي سليمٌ.
أُجرِيت محاولة أخرى في أواخر شهر أبريل، وحلَّقَ الصاروخ «جوبيتر» هذه المرة لأكثر من تسعين ثانية، لكنه خرج عن السيطرة وانفجر مجددًا. وكان تخضخُض الوقود الدفعي في الخزانات الكبيرة قد تسبَّبَ في فشل عملية الإطلاق هذه المرة؛ ممَّا أدَّى إلى توليد قوى دفع هائلة لم يستطع نظامُ التوجيه التحكُّمَ فيها. وعلى حد تعبير الجنرال مداريس: «صنعنا حزمة كاملة من شبكة أسلاك غليظة على شكل عبوات أسطوانية كبيرة تشبه «عبوات الجعة»، ثم وضعنا عوامات داخلها بحيث تبقى العبوات طافيةً على السطح، وملأنا السطح العلوي لكل خزان بها.» ممَّا أدى إلى وقف التخضخض وأعطى نتائج سريعة.
في آخِر يوم في شهر مايو، بلغ ارتفاع الصاروخ التالي ١٤٨٩ ميلًا، وكان من الممكن أن يبلغ الصاروخ ارتفاعًا أكبر من ذلك، بَيْدَ أن مصمميه كانوا قد زوَّدوه بمعدات اختبار إضافية؛ ممَّا جعله ثقيلًا. ومع ذلك، في أعقاب فشل محاولات فون براون الأخيرة، كان هذا إنجازًا حقيقيًّا؛ فهذه هي المحاولة الناجحة الأولى لإطلاق أول صاروخ باليستي متوسط المدى. ولإثبات أن هذه المحاولة لم تكن محض مصادفة، أجرى طاقم الإطلاق محاولة إطلاق رابعة بعد محاولة الإطلاق الأولى بثلاثة أشهر، وحققت نجاحًا مماثلًا.
تكشَّفَتِ الحِكمة وراء بناء الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى؛ لأن الصاروخ «أطلس» كان يواجه مشكلات؛ فقد حلَّقَ الصاروخ «أطلس» للمرة الأولى في ١١ يونيو، لكن لم يستمر ذلك أكثر من اثنتين وعشرين ثانية، قبل أن يفقد محركه قوةَ الدفع وينحرف عن مساره خارجًا عن نطاق السيطرة. ووقع نفس السيناريو في محاولة فاشلة ثانية في أواخر شهر سبتمبر، ولكن الصاروخ «ثور» كان قد حقَّق آنذاك نجاحًا في عملية إطلاقه، وهو ما حدث في ٢٠ سبتمبر، عند محاولة الإطلاق الرابعة، التي بلغ الصاروخ فيها مدًى تجاوَزَ ١٢٥٠ ميلًا. وكان الصاروخ محمَّلًا بمعدات كثيرة للغاية، وهو ما حدَّ من مداه، لكن عملية الإطلاق كانت مُرضِيةً على أية حال؛ وبذلك أصبح في البلاد آنذاك صاروخان باليستيان متوسطا المدى ينطلقان كما ينبغي.
لكن، كان موقع كيب كانافيرال مثل حوض الأسماك؛ فالجميع في إمكانهم حضور عمليات الإطلاق. وكان ثمة نادٍ محلي للسيدات اسمه «ميسيل مسيز»؛ حيث كانت عضواته يرقبْنَ عمليات الإطلاق من الشاطئ، وهو ما عنى أن نجاح عمليات إطلاق الصواريخ أو فشلها كان مرئيًّا للجميع؛ ومن ثَمَّ، كان من الصعب على أعضاء الكونجرس والصحافة تصديق النجاح الوشيك لهذه البرامج، في الوقت الذي كانت ثمانية صواريخ من إجمالي أحد عشر صاروخًا قد انفجرت في المنصة أو سقطت من السماء محطَّمةً إلى أجزاء متطايرة ملتهبة. وتعارضت هذه الكوارث الهائلة بحدَّة مع الإنجازات التي كان سيرجي كوروليف على وشك تحقيقها، بعد إخفاق صاروخه القوي طراز «آر-٧» في الانطلاق عندما كان يجري اختباره في سرِّيَّة تامة.
كان الصاروخ «آر-٧» أكبر حجمًا وأكثر قوةً بكثير من الصاروخين «أطلس» و«ثور»، وكانت قاعدة إطلاقه أكثر تعقيدًا من قاعدة إطلاقهما؛ فقد نُقِلت مكونات الصاروخ — الصاروخ الأساسي والصواريخ المعزِّزة الأربعة الموثَقة به — إلى تيوراتام بالقطار، ليجري تجميعها في حظيرة طائرات أكبر حجمًا. ثم نُقِل الصاروخ بعد تجميعه بالكامل، وهو منبطح في وضع أفقي، إلى منصة الإطلاق عن طريق القطار أيضًا. وكتب المحلِّل نيكولاس جونسون متحدثًا عن هذه المنصة، أنها كانت «تشبه إلى حد كبير شَرَك حيوان ضخم، على أهبة الاستعداد للقفز والإيقاع بكل ما كان يقع في قبضته داخل الشَّرَك». وكانت هذه المنصة هي منصة «تيولبان» (أيْ زهرة التُّوليب)، التي تتميز بهياكل كبيرة على شكل زهرة التُّوليب مكوَّنة من عوارض من الصُّلب تحافظ على بقاء الصاروخ في موضعه، علاوةً على توفر منصات عمل لإجراء عمليات الفحص. وخلال عمليات الإطلاق، كانت حواف المنصة تنغلق إلى الداخل كزهرة التُّوليب، وكان عادم الصاروخ، الذي تبلغ قوة دفعه ٨٨٠ ألف رطل، يصطدم بعاكس لهب هائل مُطلِقًا موجةً هائلةً من اللهب تُفرغ وتُصبُّ في «الاستاد»، وهو حفرة عميقة هائلة بجوار منصة الإطلاق.
شرع كوروليف في عمليات الإعداد لمحاولة الإطلاق الأولى في فبراير ١٩٥٧، آملًا في إتمام عملية الإطلاق النهائية في الشهر التالي. واصطدم كوروليف بعقبتين أفضتا إلى تأخير عملية الإطلاق، وتبددت فرص إطلاق الصاروخ في مارس، مثلما تبددت المواعيد المقرَّرة في أبريل. وأخيرًا، في ١٥ مايو، انطلق أول صاروخ «آر-٧». حدث تسرُّب في أحد أنابيب الوقود؛ ممَّا أدَّى إلى إطلاق لهب أفضى بدوره إلى وقوع انفجار تفكَّكَتْ على أثره أجزاء الصاروخ بعد مرور مائة ثانية فقط على عملية الإطلاق، وتبيَّنَ أن ذلك كان بسبب عملية تجميع غير متقنة في مصنع الإنتاج التابع لكوروليف نفسه.
في ٩ يونيو، قبل يومين من إجراء المحاولة الأولى لإطلاق الصاروخ «أطلس»، حاوَلَ كوروليف مجددًا؛ وفي هذه المرة، لم يتمكَّن الصاروخ من الانطلاق. وكان السبب مجددًا يرجع إلى كوروليف؛ حيث كان أحد الفنيين في المصنع قد ركَّبَ صمامَ الوقود في وضع معكوس. وكانتا هاتان حالتَيْ فشلٍ متواليتين؛ ممَّا يعني أن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من مجرد مصادفة؛ إذ مثلما أشار كاتب سيرته، ياروسلاف جولوفانوف، قائلًا: «لم يكن كوروليف يبدأ أبدًا عملية استقصاء مصادر الفشل باستقصاء أخطائه المحتملة أولًا.» وكان يفضِّل دومًا التصرف كما لو كان تصميم الصاروخ خاليًا تمامًا من الأخطاء، وكان يحاول إلقاء اللوم على جلشكو متى استطاع ذلك، آملًا في أن تكون المشكلة بسبب أحد المحركات. لكنَّ جلشكو كان يردُّ عليه اتهامَه قائلًا: «ماذا عنك وعن صاروخك؟ أتُراكَ قديسًا؟» وفي ظل هذه المشاحنات، كانت المشكلات تستمر في بعض الأحيان دون حل.
كان كوروليف مصدر المشكلات هذه المرة، لكنه كان لا يزال يحاول التنصُّل منها؛ فقد كتب تقريرًا، أعدَّ فيه افتراءً متقنًا، يسرد فيه جاهدًا الأسباب المحتمَلة للعقبات التي وقعت في عمليات الانطلاق، بينما لم يُشِرْ إلى «أكثر الأسباب رجحانًا» إلا قُرْبَ نهاية التقرير. ولم يفلح الأمر؛ فرؤساء كوروليف كانوا يتمتعون بخبرات واسعة، حتى إن كوروليف فشل في خداعهم. قال أحدهم: «يا لك من رجل ماكر! تُكثر من الذم في المشكلات التي ربما تسبَّبَ فيها الآخَرون، وتُكثر من الإشادة بالإنجازات التي قمتَ بها!»
في ١١ يوليو ارتفع الصاروخ «آر-٧» الثاني صوب السماء، ومع ارتفاعه وبداية ميله، صنعت مجموعة محركاته المتصالبة شكلَ صليبٍ مشتعل في السماء. ويُذكَر أن الإمبراطور الروماني قسطنطين، في أوائل القرن الرابع، قد رأى رؤيا كهذه، مصحوبةً بعبارة «ستنتصر باسمِ هذه العلامة». بَيْدَ أن كوروليف لم ينتصر باسمِ هذه العلامة؛ حيث خرج الصاروخ عن نطاق السيطرة وتحطَّمَ، وكانت المشكلة ترجع هذه المرة إلى نظام التوجيه، وكان كوروليف سعيدًا وهو يقول لزملائه: «اذهبوا إلى نيكولاي بيليوجن (المسئول الرئيسي عن نظام التوجيه)، واجلسوا هناك حتى تجدوا الإجابة.»
مع ذلك، حقَّقَتِ المحاولة الثالثة نجاحًا خارقًا؛ ففي ٢١ أغسطس، نجح صاروخ «آر-٧» آخَرُ في الانطلاق إلى مدى ٤٠٠٠ ميل، ليكون بذلك أول صاروخ في العالَم يحلِّق على مسافة تتعدَّى القارات. وتحطَّمَت الرأس الحربية، التي كانت نموذجًا محاكيًا وغير حقيقية، فوق كامشتكا، لكن لم يكن الأمر مهمًّا. وفي غمرة تأثُّره البالغ بهذا الإنجاز، ظلَّ كوروليف مستيقظًا حتى الساعة الثالثة صباحًا، يتحدَّث بحماسٍ إلى أعضاء فريق الإطلاق عن احتمالات القيام برحلاتٍ فضائية.
بعد فترة غير طويلة من وفاة ستالين، حضر كوروليف أحدَ اجتماعات المكتب السياسي لعرض ما توصَّلَ إليه. لا أريد أن أبالغ، لكنني أقول إننا حدَّقْنا فيما عرض علينا كما لو كنَّا مجموعةً من الأغنام ترى بوابةً جديدة للمرة الأولى. عندما عرض علينا أحدَ نماذج الصواريخ التي صمَّمَها، اعتقدنا أنه لم يكن سوى أنبوب ضخم يشبه السيجار، ولم نكن نظن أنه سيطير. اصطحَبَنا كوروليف في جولةٍ لمشاهدة إحدى منصات إطلاق الصواريخ، وحاوَلَ أن يشرح لنا كيف يعمل الصاروخ، لكننا كنا كالفلاحين في السوق؛ درنا حول الصاروخ مرةً بعد مرة، لامسين إيَّاه، وداقِّين عليه لنرى إذا ما كان قويًّا بما يكفي. فعلنا كل شيء ما عدا لَعْقَ الصاروخ لنرى كيف كان طعمه.
نجحت أيضًا عمليةُ الإطلاق التي أُجرِيت في شهر سبتمبر وبلغت مداها الكامل، ومنحَتْ لجنةٌ حكومية كوروليف تصريحًا لإطلاق قمره الأول «بي إس» على متن صاروخ «آر-٧». وتطلَّبَ الصاروخ نفسه إدخالَ تعديلات عليه ليصل إلى مداره؛ حيث كان على الطاقم الأرضي تقليص وزنه عن طريق إزالة جزء من نظام التوجيه فضلًا عن الأجهزة الأخرى، وإعادة برمجة المحركات لزيادة سرعتها، وتركيب مقدمة مخروطية جديدة. وكانت هذه المقدمة المخروطية تحتوي على صاروخ «سبوتنيك» خفيف الوزن، لا يزيد وزنه عن أربعة وثمانين كيلوجرامًا.
كان كوروليف قد وصل مبكرًا، وترك سيارته على الرصيف الخرساني. وكانت الرياح باردة وشديدة. رفع ياقةَ معطفه القديم الثقيل، وجاء من خلفه الصوت الاصطناعي الصادر عن نظام الإعلانات العامة:
«انتباه! سيبدأ حسابُ الوقت في غضون دقيقة. استعِدَّ للتزوُّد بالوقود.»
كان ينبعث عن احتراق الأكسجين السائل دخانٌ مثل البخار الأبيض للقاطرة، فيغطِّي الصاروخ. وكان الصقيع يزحف من أسفل خزان الأكسجين، وسرعان ما كان يتحوَّل لونُ الصاروخ بالكامل إلى اللون الأبيض. منظرٌ جميل!
لاحقًا، قبل الإطلاق مباشَرةً، جلس كوروليف منحني الكتفين في مقعده المعتاد عند منظاره «الشخصي» في الغرفة المحصَّنة تحت الأرض، وكان يرتعد قليلًا.
«دقيقة واحدة على لحظة الإطلاق! أكرِّر: دقيقة واحدة على لحظة الإطلاق!»
«اضغط للبدء.»
قرَّبَ كوروليف وجهَه من المنظار وأحسَّ بشعور غير سار بمرور العرق البارد من وجهه على الواقي المطاطي الأسود لعدستَي المنظار. اختفت سحابة الأكسجين البيضاء؛ حيث كانت صمامات التهوية قد أُغلِقت.
«جرى تكييف ضغط المحركات المساعِدة.»
«جرى تكييف ضغط المحركات الرئيسية.»
«بدأت عملية الإطلاق.»
«انفصل الصاروخ عن المنصة الأرضية.»
تعلَّقَ كوروليف بالمنظار. كان الصاروخ أمامه مباشَرةً، ورأى كيف اهتزَّ برج الاتصال بعد إصدار أمر الإطلاق. لم يَعُدْ ثمة شيءٌ يصل الصاروخ بالمنصة.
«إشعال.»
«التعزيز الأوَّلي.»
رأى وميضًا لحظيًّا، ارتجافة قصيرة، قبل أن تلف سحابة الغبار البنية والدخان الثائر في دوامة المحركات كلَّ شيءٍ حولها بسرعة. وأضاءت كرة من النور تغشي الأبصار تحت السحابة.
«التعزيز الرئيسي.»
ظلَّ الصاروخ معلَّقًا لا يتحرك، ولم يكن يتبقَّى على ارتفاعه سوى لحظاتٍ قليلة. بَدَا الأمر كما لو كان الصاروخ يفكِّر لِلَحظةٍ ليقرِّر إذا كان سينطلق أم لا. كَمْ هي مملة وطويلة لحظات السكون هذه!
«إطلاق.»
«ها هو ينطلق، ها هو ينطلق!» الخنجر الأبيض العملاق ينطلق بسرعة إلى أعلى، يبدو جسمه شفافًا وخياليًّا وسطَ سحابة الدخان. تشبثَتْ أصابع كوروليف حول المقبضين الأسودين للمنظار، بينما كان جسده القصير الممتلئ، ذو الوزن الثقيل، يزداد تيبُّسًا. وفي هذه اللحظة فقط، عَلَا صوتٌ مبتهج مخترقًا وعيه، مردِّدًا مرةً بعد أخرى بحماس: «جميع النظم مستقرة! الرحلة تمضي بسلام! الضغط في غرف الاحتراق طبيعي! جميع النُّظُم مستقرة!» وأخيرًا: «اكتمل الانفصال!»
في هانتسفيل، بعدها بساعاتٍ قليلة، تلقَّى فون براون والجنرال مداريس زيارةً من وزير الدفاع القادم نيل ماكلروي، الذي كان يحلُّ محلَّ تشارلز ويلسون. وكانوا في حفل كوكتيل عندما دخل مسئول العلاقات العامة لدى مداريس وقاطَعَ الحديث قائلًا: «أيُّها الجنرال، جرى الإعلان توًّا عبر الراديو عن أن الروس نجحوا في إطلاق قمر صناعي!»
تفجَّرَتْ فجأةً مشاعرُ فون براون المكبوتة: «كنَّا نعلم أنهم سيفعلونها! لن يفلح «فانجارد» في الأمر. لدينا المعدات على الرَّف بلا استخدام. بالله عليكم، أطلقوا أيدينا واجعلونا نفعل شيئًا. نستطيع أن نطلق قمرًا صناعيًّا خلال ستين يومًا، سيدي ماكلروي! فقط امنحونا الضوء الأخضر وستين يومًا!» قاطَعَه مداريس الحَذِر قائلًا: «لا، يا فيرنر، بل تسعين يومًا.» وقدَّموا إلى ماكلروي بيانًا قصيرًا في الصباح التالي، ومثلما قال مداريس: «كنَّا نشعر جميعًا وكأننا لاعبو كرة قدم نتوسَّل حتى يُسمَح لنا بالقيام عن دكة الاحتياطي.» لم يتعهَّد وزير الدفاع الجديد بأي التزاماتٍ، بَيْدَ أن مداريس أخبر فون براون أن يبدأ الاستعدادات كما لو كان يملك توجيهًا رسميًّا بالمُضِيِّ قُدمًا.
في هذه الأمسية نفسها عشية الرابع من أكتوبر، كان زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ليندون جونسون يرأس اجتماعًا في مزرعته إل بي جي في تكساس، وسمع ضيوفه الأخبار في الراديو، وبعد العشاء خرجوا في جولة ليلية سيرًا على الأقدام إلى نهر بدرناليس القريب. وكتب جونسون قائلًا: «الآن، على نحوٍ ما، بطريقةٍ ما جديدة، بَدَتِ السماء غريبةً على ما أعتقد. وإنني لَأذكر أيضًا الصدمة العميقة في إدراك أن أمةً أخرى ربما تتمكَّن من تحقيق تفوُّق تكنولوجي على دولتنا العظيمة هذه.»
سرعان ما اتخذ الديمقراطيون نفسَ اللهجة الحادة في النقاش؛ فقد نالهم ما نالهم خلال الحرب الكورية، عندما قاد ترومان البلاد في صراع لم يكن يستطيع الانتصار فيه أو إنهاءه. وتبدَّلَتِ المواضع الآن؛ حيث قرَّرَ ليندون جونسون أن آيك لم يكن ينفق ما يكفي على مسألة الدفاع القومي، وأن سعيه إلى تحقيق موازنات متوازنة قد عرَّضَ أمن البلاد للخطر. وتلقى جونسون تأييدًا قويًّا من عضو مجلس الشيوخ ستيوارت سيمنجتون، الذي كان قائد القوات الجوية في إدارة ترومان. طالب سيمنجتون بعقد جلسة خاصة للكونجرس، وحذَّرَ قائلًا: «إذا لم تتغيَّر سياساتنا الدفاعية فورًا، فسينتقل السوفييت من حالة التفوق إلى السيادة.» وطالَبَ عضو ديمقراطي آخَر ذو تأثير، وهو السيناتور هنري جاكسون، بتخصيص «أسبوع لتسليط الضوء على أوجه القصور الفادحة ومصادر الخطر المحدق».
حاوَلَ آيزنهاور، الذي كان يمتلك خبرةً عسكرية لا تُضاهَى فضلًا عن صورٍ للقمر «يو-٢»، طمأنةَ الأمة. عقد آيزنهاور مؤتمرًا صحفيًّا بعد أيام قليلة من انطلاق «سبوتنيك»، وقال إن إنجاز الاتحاد السوفييتي «لا يثير مخاوفي، ولا حتى مثقال ذرة»؛ لقد «أطلقوا مجرد كرة صغيرة في الهواء». وقريبًا سيحرز السوفييت ما هو أكثر من ذلك، لكن في تلك الأثناء على الأقل، ظلَّ الشعور نفسه يراود الأمريكيين. وفي بوسطن، رصدت «نيوزويك» «حالةً هائلة من عدم الاكتراث». أشار دنفر إلى أن ثمة «شعورًا غامضًا بأننا انتقلنا إلى حقبة جديدة، لكنَّ الناس لا تناقش الأمر على النحو الذي يناقشون به كرة القدم والأنفلونزا الآسيوية». وفي ٥ أكتوبر، ١٩٥٧، كان العنوان الرئيسي في صحيفة ملواكي «سنتنِل»: «إننا اليوم نصنع تاريخًا.» وكان العنوان يشير إلى بطولة وورلد سيريز.
مع ذلك، كانت ثمة أسباب وجيهة لأخذ القمر الصناعي السوفييتي على محمل الجدِّ، وهي أسبابٌ تتجاوز التهديدات العسكرية الضمنية؛ فقد كانت ثمة حقيقة بسيطة، وهي أن موسكو نجحت في تحقيق هذا الإنجاز المدهش، في حين أنها كانت قبل سنوات قليلة فقط تتخلَّف كثيرًا عن اللحاق بالرَّكْب في مجالَي القاذفات والأسلحة النووية. وكان من السهل أن يتسلَّل خوف من أن يعكس هذا الإنجاز ميزةً حقيقية في النظام الشيوعي، ولعب البيان الصحفي الذي صدر عن موسكو معلِنًا إطلاقَ القمر «سبوتنيك» على هذه الزاوية قائلًا: «ستمهِّد الأقمار الأرضية الصناعية الطريقَ أمام الرحلات الفضائية، وسيشهد الجيل الحالي كيف سيحوِّل العملُ الحر والواعي للمجتمع الاشتراكي الجديد أكثرَ أحلام الإنسانية جرأةً وطموحًا إلى حقيقةٍ.»
كانت هذه المخاوف تقترن بمشاعر أخرى مماثلة، أَلَا وهي أن حرية أمريكا وديمقراطيتها ربما تصلحان في أوقات السِّلْم العام، لكنهما تخسران أمام النظام الديكتاتوري في أوقات الأزمة. ولم تكن هذه المخاوف جديدةً؛ فقد كانت حاضرة في أذهان الناس في خضم الصراع النازي، وها هي تبرز مرةً أخرى، متَّخِذةً صورةً فريدة تنظر إلى النزعة الاستهلاكية في البلاد باعتبارها علامة ضعف.
بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة ما يدعو إلى الخشية من أن يصبح إدراك مَواطِن الضعف الأمريكية حقيقةً في العالَم الثالث؛ فقد كانت دول العالم الثالث، المستقلة حديثًا أو التي كانت ستستقل قريبًا، مصدرَ قوةٍ للإمبراطورية البريطانية. ولكن، لم يكن قادةُ دول العالم الثالث يُعجَبون كثيرًا بالنظام الديمقراطي الغربي؛ إذ كانوا كثيرًا ما يفضِّلون أنظمةَ الحزب الواحد التي تشبه نظام خروتشوف. ولم يكونوا أيضًا يفضِّلون الرأسمالية، التي كانوا يربطون بينها وبين الاستغلال؛ حيث كانوا يعتقدون أن المستقبل سيصبح في صالح الاشتراكية. ولم يكن هؤلاء القادة يحذَرون الولايات المتحدة إلا لأنهم كانوا يعتقدون أنها ستنتصر في الصراع؛ لكن لو أنهم صاروا مقتنعين (وهو ما لم يكن أمرًا صعبًا) أن موسكو من الممكن أن تنتصر …
لم يتوقَّع خروتشوف، من جانبه، هذه الاستجابة القوية، وسرعان ما أدرك أنه لمس عصبًا حساسًا؛ وقرَّرَ أنه من هذا اليوم فصاعدًا، سيتم إطلاق شيءٍ سوفييتي في مدارٍ يوميًّا، لمواصلة إبهار العالم بقوة الشيوعية. وعرض خروتشوف شخصيًّا هذه الرؤية على كوروليف، الذي كان يعمل وسط حرارة تيوراتام وقحطها منذ وقتٍ مبكر في الربيع، ولكنه عاد إلى موسكو في أعقاب نجاح إطلاق «سبوتنيك». بالإضافة إلى ذلك، ذهب العديد من أبرز مساعدي كوروليف إلى البحر الأسود لقضاء إجازة وأقاموا في ضَيعة نيكولاي بولجانين الريفية؛ أحد أبرز أعضاء الحكومة الذي كان يتقاسم السلطة مع خروتشوف نفسه.
لم تمضِ الإجازة على ما يرام؛ إذ عاد أحدهم مصابًا بالبرد، وهاتف آخَر، لم يستطع تحمُّلَ حالة الخمول التي عليها الأوضاع، كوروليف في موسكو وتلقَّى أمرًا: «عُدْ في الحال. تلقَّيْنا أمرًا بتنفيذ مهمة إنتاج قمر صناعي جديد.» التقى كوروليف بأعضاء فريقه، وأخبرهم بتعليماته على نحوٍ أكثر تفصيلًا قائلًا: «ضعوا كلبًا على متن القمر بحلول موسم الإجازات.» وتقرَّرَ وضع هذا المسافر الفضائي في مدار في أوائل نوفمبر ١٩٥٧، في الذكرى الأربعين للثورة الروسية. وكان الموعد النهائي للبعثة بعد أسابيع قليلة فقط.
لحُسْن الحظ، كان كلُّ ما يريدونه في متناول أيديهم. ومرةً أخرى، استخدموا صاروخ «آر-٧». وكانت الكلبة «لايكا» جاهزة أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، مثلما يتذكر نائب كوروليف: «في وقت سابق يعود إلى عام ١٩٥١، كنَّا قد أرسلنا كلابًا على متن صواريخ بلغت ارتفاعات هائلة، واستخدمنا الكبسولة التي كانت تُستخدَم في تلك الأغراض، ووضعنا «لايكا» فيها ثم وضعنا الكبسولة في مركبة تحمل قمرًا صناعيًّا. ونجحنا في أن ننتهي من ذلك بحلول موسم الإجازات تمامًا.»
كانت هذه المركبة، وهي «سبوتنيك ٢»، تزن ١١٢٠ رطلًا؛ لذا لم يكن إطلاق قمر صناعي بهذا الحجم سيثير دهشة العاملين في شركة «لوكهيد» على مشروع قمر الاستطلاع «دبليو إس-١١٧إل». وعلى عكس الوضع المعتاد الذي اتسم بالانفتاح الأمريكي في مقابل السرِّيَّة الروسية، كان القمر «دبليو إس-١١٧إل» سرِّيًّا بينما كان «سبوتنيك ٢» علنيًّا. وكان القمر المعروف هو القمر «فانجارد»، الذي لم يكن يزن أكثر من ٢١٫٥ رطلًا، وكان لا يزال غير جاهز للإطلاق. ولسوء الحظ، لم ينفصل القمر «سبوتنيك ٢» عن الصاروخ المعزِّز؛ حيث حدث عطلٌ في نظام التحكم الحراري به؛ ممَّا أدَّى إلى زيادة سخونة المركبة. وبعد ما لا يزيد عن يومٍ واحد أو نحو ذلك، ماتَتْ «لايكا» من أجل بلادها، ولكنْ لم يكن أحدٌ لينساها؛ فقد أطلق أحد المنتجين الروس اسمها على نوع من السجائر تخليدًا لذكراها. ولكن، في أمريكا أوصلت هذه المركبة الفضائية الجديدة، التي كانت أثقل ست مرات من سابقتها، رسالةً مفادها أن موسكو تمتلك صواريخ كبيرة، وأنها ستظل محتفظةً بمكانتها في عالم الفضاء. بالإضافة إلى ذلك، أشارت عملية إرسال كلب في مدار فضائي بوضوح إلى نية إرسال إنسان إلى الفضاء.
هل كان آيك يفعل أقل من المطلوب حقًّا؟ في حقيقة الأمر، كان المجال مفتوحًا تمامًا للدفع بأن الولايات المتحدة إنما تحاول فعل أكثر مما ينبغي؛ إذ مثلما أشار تريفور جاردنر: «نمتلك حاليًّا تسعة برامج على الأقل للصواريخ الباليستية، تتنافس جميعًا على استخدام نفس المنشآت، والاستعانة بنفس العقول، ونفس المحركات، والاستحواذ على نفس القدر من الاهتمام العام.» لكن، كان في جُعْبة آيك المزيد من الإجراءات التي سرعان ما سيتخذها.
كان الجيش، بعد أيام قليلة من إطلاق القمر «سبوتنيك» الأول، قد حصل على توجيه يلغي التوجيه الصادر في وقتٍ سابق عن وزير الدفاع ويلسون، الذي وُضِع بموجبه مشروع الصاروخ «جوبيتر» في المرتبة الثانية. أما الآن، أصبح من المقرر أن يمضي العمل في مشروع الصاروخ «جوبيتر»، مثل مشروع الصاروخ «ثور»، بكامل طاقته. وبالمثل، دعم القمر «سبوتنيك ٢» موقف آيك وأدَّى إلى التخلي السريع عن اعتماده على «فانجارد» باعتباره القمر الصناعي السري الوحيد في البلاد. ولم يكد يمضي على حادثة «سبوتنيك ٢» وموت الكلبة «لايكا» إلا وقت قصير، حتى أصدَرَ وزير الدفاع ماكلروي توجيهًا إلى الجيش «للمُضِيِّ قُدمًا في مشروع إطلاق قمر أرضي باستخدام نموذج معدَّل من الصاروخ جوبيتر-سي».
صار فون براون جاهزًا في أوائل عام ١٩٥٨، مثلما وعَدَ، لكنَّ المشاركين في مشروع الصاروخ «فانجارد» نجحوا في الوصول إلى منصة الإطلاق أولًا، من خلال صاروخٍ أجروا محاولةَ إطلاقه التجريبية في ٦ ديسمبر. ويصعُب على المرء بالتأكيد أن يتحدَّث عن هذا الصاروخ بالحماس نفسه الذي كان يتحدث به عن صاروخ كوروليف «آر-٧»؛ حيث كانت قوة دفع مرحلته الأولى، التي تزن ٢٧ ألف رطل، لا تزيد عن ثلاثة في المائة من قوة دفع الصاروخ الروسي. وكان محرك المرحلة الأولى في «فانجارد» قد أجرى رحلة واحدة فقط، قبل أسابيع قليلة. ولم يحلِّق صاروخ المرحلة الثانية على الإطلاق؛ إذ كان مصمِّموه قد توقَّفوا عن اختباره خشيةَ ألَّا يصمد محركه طويلًا عند تشغيله. ولم يكن القمر حتى هذا الجسم الكروي الذي يزن ٢١٫٥ رطلًا مثلما أُعلِنَ؛ بل كان لا يزيد عن ثلاثة أرطال، وكان عرضه لا يزيد عن ست بوصات، وهو ما يزيد قليلًا عن حجم ثمرة جريب فروت. ومع ذلك، كانت أهمية الصاروخ بالغةً؛ حيث كان يحمل آمال البلاد. وكان ذلك الصاروخ هو كل ما تملكه البلاد آنذاك.
- لندن ديلي هيرالد: آه، يا له من فلوبنيك!
- لندن ديلي إكسبريس: الولايات المتحدة تطلق عليه «كابوتنيك».
- لويزفيل كوريير-جورنال: «ربما يُسمَع صوتُ طلقة مدوية حول العالم، لكن ثمة أوقات يكون صوتُ الفشل أعلى.»
- أوتاوا جورنال: «يقول الخبراء إن الصاروخ لم ينطلق عن الأرض نظرًا «لفقدان قوة الدفع»، وهي عبارة لافتة للنظر. فقدان قوة الدفع هو ما تعاني منه الديمقراطيات الغربية.»
- نيويورك هيرالد تريبيون: «لا بد أن يلزم المسئولون في واشنطن الصمتَ حتى يمتلكوا ثمرة جريب فروت، أو على الأقل أي شيء يدور في الفضاء.»
- باريس-جورنال: «يبدو أن ثمة دودة في ثمرة الجريب فروت!»
- شيكاجو أمريكان: «اضطررنا إلى تجرُّع الكثير من خيبات الأمل في الشهرين الأخيرين. حسنًا، لنتقبَّلِ الأمرَ ونغتنم أيَّ فوائد يمكن أن يتمخض عنها ذلك، لكن دعونا لا نعتاد تجرُّع الصدمات.»
- دنفر بوست: «تنتاب المواطنين الأمريكيين حالةٌ من القلق، والشك، والانزعاج حيال أدائنا في مجال التطوير والبحث العلمي. لا يشعر الناسُ بالخوف لكنهم صاروا في قمة الغضب والضيق.»
ما الذي أدَّى تحديدًا إلى وقوع هذا الفشل الذريع؟ لم يكن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من عدم وجود ضغط كافٍ في الخزان؛ وهو ما أدَّى إلى انخفاض الضغط في حاقن محرك الصاروخ؛ ممَّا أفضى بدوره إلى انبعاث غاز ساخن من غرفة الدفع إلى أعلى نظام الوقود، مُسفِرًا عن حرق الحاقن وتوقُّف قوة الدفع. ولم تكن هذه مشكلة كبرى، وكان من السهل إصلاحها؛ لكنْ، لم يكن العامة في تلك الأثناء في الحالة المزاجية التي تسمح لهم بإدراك أيِّ شيءٍ من هذا. في شركة «مارتن»، أدرك مدير مشروع «فانجارد» هذا الموقف بصفة شخصية عندما حاوَلَ العثور على شخصٍ لطلاء منزله ولم يجد إلا رفضًا متكررًا. وأخيرًا، قرَّرَ أحد العاملين في طلاء المنازل أن يصارِحه قائلًا: «حتى أكون صريحًا معك، لا أرغب حقيقةً في القيام بأي عمل لأي شخصٍ له علاقة بمشروع فانجارد.»
وسط تزايُد المخاوف العامة، لم يكن كثيرون لديهم القدرة على التنبُّؤ بالمستقبل بوضوح؛ ففي ظل صواريخ موسكو التي كانت تلوح في الأفق على نحوٍ يُنْذِر بالسوء، ربما كانت الروائية آين راند — التي نُشِرت روايتها التي كانت تحمل العنوان الساخر «أطلس يستريح» في العام نفسه — هي الشخص الوحيد الذي رأى أن النظام الشيوعي سيكون مآله إلى الانهيار الاقتصادي. ولم يكن معلومًا للكثيرين أن خروتشوف كان يمارس لعبةَ خداعٍ، بتوفير مصادر تمويل غير متكافئة مع حجم برنامج الفضاء الذي كان يستخدمه كوسيلةِ دعايةٍ، لإعطاء الانطباع بمقدرة الاتحاد السوفييتي الهائلة في النواحي الفنية ككلٍّ. وأدلى رئيس شركة «جنرال داينمكس» بحديث إلى مجلة «فورتشن» قائلًا: «لا يمكن التغاضي عن كفاءة روسيا في التركيز في بعض المجالات. وإذا كان ثمة مجالٌ على جانب كبير من الأهمية الحقيقية — سواءٌ أكانت العسكرية أم النفسية — بالنسبة إليهم، فسيركِّزون عليه تركيزًا هائلًا، ويحقِّقون نتائجَ لا تتناسب على الإطلاق مع المستوى العام لمقدرتهم الفنية.»
في عام ١٩٥٦، تخرَّج في الاتحاد السوفييتي ما يقرب من سبعين ألف مهندس جديد، مقابل ثلاثين ألف مهندس في الولايات المتحدة.
كان الديمقراطيون قد سعَوا طويلًا لتفعيل برنامج مساعدة فيدرالية في مجال التعليم، وقد فتح قمرَا «سبوتنيك» المجالَ أمامهم. قدَّم مشروع القانون الأول — قانون تعليم الدفاع الوطني لسنة ١٩٥٨ — مصادرَ تمويل في مجال تدريس العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية. وبناءً عليه، حقَّق التحدي السوفييتي ما هو أكثر من مجرد رد فعل عسكري؛ إذ أثار ما صار بمنزلة المِعْوَل الأول في أجندةٍ شاملةٍ على نحوٍ متزايد للإصلاح الاجتماعي. بَيْدَ أنه في ذلك الوقت، كان الموضوع الرئيسي الأهم هو نصب مركبة على منصة إطلاق، وإطلاق شيءٍ ما في مدار فضائي.
فعلها فون براون في نهاية شهر يناير من عام ١٩٥٨، عندما نجح من المحاولة الأولى في إطلاق القمر «إكسبلورار ١»، أول قمر صناعي تطلقه البلاد، يزن أحد عشر رطلًا. ووضعت مجلة «تايم» صورة فون براون على غلافها؛ وهو ما جعل البلاد تمر بلحظة ابتهاج وغبطة، وتلتها لحظة أخرى في منتصف شهر مارس عندما حمل الصاروخ «فانجارد» جهازَ الإشارة الخاص به زنة ثلاثة أرطال. وكان جيمس فان آلان قد صمَّمَ معدات القمر «إكسبلورار ١» فضلًا عن معدات قمر فون براون الثاني «إكسبلورار ٣» الذي أُطلِق في أواخر شهر مارس. ومن خلال هذه المعدات، توصَّلَ فان آلان إلى اكتشاف كبير، أَلَا وهو حزام من الإشعاع المكثَّف حول الأرض، محتَجز بفعل المجال المغناطيسي للأرض، وهو الاكتشاف الأهم والأكثر أثرًا لأن السوفييت لم يتمكَّنوا من رصده.
كان لدى السوفييت اختصاصيٌّ من الدرجة الأولى في مجال الأشعة الكونية، وهو عالِم الفيزياء سيرجي فرنوف، الذي كان قد ابتكَرَ معدات مماثلة جرى وضعها على متن «سبوتنيك ٢». ومع ذلك، لم تكن لدى الاتحاد السوفييتي شبكةُ تتبُّع عالمية، ولم يكن يمتلك إلا محطات أرضية فقط في الأراضي السوفييتية فقط. وعندما صار القمر «سبوتنيك ٢» في نطاق المحطات، كان على ارتفاعٍ منخفض، أسفل منطقة الإشعاع، وعندما بلغ «سبوتنيك ٢» ارتفاعًا كبيرًا، استطاعت أجهزة فرنوف تحديدَ الإشعاع المحتجَز، بَيْدَ أن «سبوتنيك» كان قد بلغ الطرف الآخر من الكرة الأرضية آنذاك. وعلى الرغم من ذلك، استطاع فَنِّيُّو محطاتِ الاتصال اللاسلكي التقاطَ إشارات المنطقة الإشعاعية في أستراليا وأمريكا الجنوبية، وأشارت البيانات التي جرى جمعها إلى وجود حزام إشعاعي. لكنْ لأسبابٍ تتعلَّق بالسرِّيَّة، لم تُجْرِ موسكو أيَّ ترتيبات مع أيِّ دولٍ أخرى لتفسير الإشارات، ولم تشارك البيانات التي حصلَتْ عليها مع أي دولة أخرى. وصارت المنطقة الإشعاعية معروفةً باسم حزام فان آلان، في حين كان يمكن أن يُطلَق عليه حزام فرنوف لولا ستار السرِّيَّة.
لم يكن خروتشوف ليدع أحدًا ينسى مَنْ هو سيد الفضاء حقًّا؛ ففي تلك الأثناء، كانت المركبة «دي»، تلك المركبة الفضائية الثقيلة المكتظة بالمعدات، جاهزةً للانطلاق. حاوَلَ كوروليف إجراءَ عملية إطلاق في أواخر شهر أبريل، لكنَّ الصاروخ تحطَّمَ بعد دقيقة ونصف من ارتفاعه عن منصة الإطلاق. وبينما كان يتخذ الاستعدادات لإجراء عملية إطلاق أخرى، عَلِم بوجود عطل في جهاز تسجيلٍ على متن الصاروخ. كان هذا التسجيل مهمًّا؛ إذ كان يحتاج إليه علماء فريق كلديش لجمع البيانات عندما تغادر المركبة نطاقَ محطة أرضية.
كان من الطبيعي أن يتوقَّع كوروليف أن تتأخَّر عمليةُ الإطلاق إلى حين إصلاح العطل؛ ولكنْ، وفقًا لما أورده روالد سجدييف، وهو عالِم فضاء بارز، تلقَّى كوروليف مكالمة هاتفية من خروتشوف نفسه. كانت إيطاليا وقتَها على وشك أن تعقد الانتخابات العامة، وكان الحزب الشيوعي قويًّا فيها، وكان خروتشوف يعتقد أن إجراء عملية إطلاق ناجحة لقمر «سبوتنيك» جديد سيؤدي إلى تصويت الملايين لصالح الحزب الشيوعي هناك. أمر خروتشوف كوروليف أن يُجرِي عمليةَ إطلاق جديدة في الحال؛ فحلَّقَ القمر «سبوتنيك ٣» في مدارٍ حول الأرض، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يكن له تأثير كبير على الانتخابات في إيطاليا، فإنه جذَبَ الأنظار بلا شك وكان موضعَ تقديرِ الجميع. كان وزن القمر ٢٩٢٥ رطلًا، وهو ما كان يساوي تقريبًا ثلاث مرات وزن القمر «سبوتنيك ٢» الضخم.
في أحد لقاءات الصداقة السوفييتية-العربية في الكرملين، أخبر خروتشوف ضيوفه أن أمريكا ستحتاج إلى «عدد هائل من الأقمار الصناعية في حجم البرتقال حتى تتمكَّن من اللحاق بالاتحاد السوفييتي». ولكن، استطاعت الولايات المتحدة أيضًا أن تمارس لعبة النَّفَس الطويل؛ حيث كان الصاروخ «أطلس» في مراحل التطوير الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح آيك يمتلك مقعدًا في البنتاجون، وهو وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، الذي سيبدأ لاحقًا سلسلةَ جهودٍ عسكرية جديدة في مجال الفضاء.
كان الصاروخ «أطلس» يحمل محركَين صاروخيَّين من إنتاج شركة «روكت داين»، قوةُ دفْعِ كلٍّ منهما ١٥٠ ألف رطل كمحركَيْ تعزيز، فضلًا عن محرك مركزي قوة دفعه ٦٠ ألف رطل كمحرك أساسي. اعتمدت عمليات الإطلاق التجريبية الأولى على محركات التعزيز فقط، وكانت تتزوَّد بحمولة مخفَّضة من الوقود، وهو ما كان يعني أنه حتى عند نجاح عملية الإطلاق — وهو أمرٌ لم يكن يحدث كثيرًا — كانت تطير مسافة ٦٠٠ ميل تقريبًا، وهو ما كان يمثِّل عُشْرَ المدى الكامل للصواريخ العابرة للقارات. ومع ذلك، أسفرت هذه التوليفة من المحركات والصواريخ عن عملية إطلاق جيدة في ديسمبر ١٩٥٧. وتلت ذلك عمليات إطلاق ناجحة أخرى، وبحلول الربيع التالي كانت كفاءة الصاروخ وموثوقيته للإطلاق قد بدأتا تتأكَّدان.
كان رئيس وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، روي جونسون، يشغل منصب نائب رئيس شركة «جنرال إلكتريك». وفي يونيو ١٩٥٨، في أعقاب إطلاق القمر «سبوتنيك ٣»، ذهب جونسون إلى شركة «كونفير» في سان دييجو والتقى زملاءه التنفيذيين هناك، وقال: «يجب أن نطلق قمرًا كبيرًا.» فأجابه أحد كبار المديرين قائلًا: «حسنًا، يمكننا أن نطلق الصاروخ أطلس بالكامل في مدار فضائي.» وافَقَ جونسون على دعم هذا المشروع والتشديد على تنفيذه في واشنطن، بينما اتفق الآخرون على أن يظل المشروع سرِّيًّا. وخلال الأشهر التي أعقبت ذلك، لم يكن ثمة أكثر من ثمانية وثمانين شخصًا يعرفون ما سيجري إطلاقه.
بالطبع، قبل أن يمكنهم الاحتفال بالنتائج، كان عليهم أن يحقِّقوها أولًا، من خلال إطلاق «أطلس» للتحليق بكامل مداه. وانطلق أول نموذج مكتمل، متضمنًا المحركات الثلاثة معًا بقوةِ دَفْع ٣٦٠ ألف رطل، في منتصف يوليو، ثم سرعان ما خرج عن السيطرة. ونجحت عملية إطلاق بعدها بأسبوعين في تحقيق المدى الكامل المخطَّط له، وهو ٢٧٠٠ ميل، ولكنْ حدَّتْ حمولة المعدات الثقيلة مرةً أخرى من زيادته. وتلا ذلك عملية إطلاق قطعت مسافة ٣٠٠٠ ميل في نهاية شهر أغسطس، فضلًا عن عملية إطلاق ناجحة مماثلة في منتصف سبتمبر.
جاءت محاولة الإطلاق الأولى بكامل المدى في ١٨ سبتمبر، وانتهت بانفجار الصاروخ بعد ثمانين ثانية من إطلاقه، وهو ما كان يعني أن الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا لإزالة المعدات من الصاروخ. على أي حال، استطاعوا الإفصاح عن مكمن المشكلات. وأعادت عمليةُ إطلاقٍ ناجحة أخرى الثقةَ إلى الجميع، وفي أواخر شهر نوفمبر كان الجميع مستعِدًّا للمحاولة مرةً أخرى لقطع الطريق حتى منتهاه.
كان الرجل المسئول عن عملية الاختبار، الرجل صاحب إصبع الإبهام الذهبي، يحمل اسم بوب شوتويل المفعم بالأمل؛ ضغَطَ زرَّ الإطلاق، فانطلق «أطلس» في سماء الليل، محلِّقًا في مسار قوسيٍّ فوق القمر أثناء تحليقه عبر السماء المرصَّعة بالنجوم. وانفصَلَ الصاروخ عن الصواريخ المعزِّزة له، ثم واصَلَ تسارُعَ حركته حتى خفَتَ ضوءه البرَّاق وبَدَا كما لو كان معلَّقًا في الظلام مثل نجم جديد، أسفل مجموعة نجوم أوريون. كتم شوتويل وطاقمه أنفاسهم وإحساسهم بالإثارة مدة سبع دقائق كاملة، ثم انطلقت صرخاتهم. لقد فعلوها! كان الصاروخ يرتفع في السماء بسرعة ١٦ ألف ميل في الساعة، متجهًا إلى بقعة جنوب المحيط الأطلنطي قُرْبَ جزيرة سانت هيلينا، قاطعًا مسافة ٦٣٠٠ ميل كاملة من نقطة انطلاقه في موقع كيب كانافيرال. وعلى حد تعبير شوتويل: «عرفنا أننا نجحنا. وكان الصاروخ ينطلق كالرصاصة، ولم يكن ثمة شيء يوقفه.» وفي وقتٍ لاحق ذلك المساءَ تدفَّقَتِ الشمبانيا بغزارة في نُزُل ستارلايت، بينما حمل بعض الحاضرين مسئولَ عملية الاختبار فوق أكتافهم وطافوا به أرجاء القاعة.
بعد ثلاثة أسابيع بلغ الصاروخ مدارًا فضائيًّا، وأُطلِق عليه اسم «سكور» (أيْ إحراز الهدف)، وكان اسمًا يليق بالإنجاز الذي حقَّقَه هذا الصاروخ. حمل «أطلس» هذا شريط تسجيله الخاص، وعليه رسالة من آيزنهاور، فضلًا عن جهاز راديو يسمح بتلقِّي وإرسال الرسائل الإضافية. واستمرت حالةُ السرِّيَّة المحيطة بالمشروع حتى لحظة الإطلاق، حتى إن طاقم الإطلاق في برج المراقبة لم يكن يعرف المهمةَ الموكلة إليه. وعندما رأى بعض أفراد الطاقم أن الصاروخ ينحرف عن مساره الطبيعي، صرخوا في وجه الضابط المسئول عن سلامة ميدان الإطلاق حتى يفجِّره، لكنه رفض؛ فقد كان من بين هذه القلة الصغيرة التي قوامها ثمانية وثمانون شخصًا، التي كانت على عِلْمٍ بتفاصيل العملية بأسرها.
جاء دور الأمريكيين لينالوا حظهم من التفاخُر والتباهي؛ حيث أعلن المسئولون عن نجاحهم في إطلاق قمر صناعي زنة ٨٦٠٠ رطل إلى مدار فضائي. وفي حقيقة الأمر، فإنهم لم يفعلوا ذلك. فقد كان الوزن المحسوب هو وزن معدات الاتصال المحمولة على متن القمر الصناعي والذي يبلغ حوالي ٢٠٠ رطل، بينما كان الوزن المتبقي هو وزن الصاروخ الحامِل للقمر الصناعي، الذي لم يكن سوى هيكل معدني خالٍ كبير. وإذا كان السوفييت يريدون أن يمارسوا اللعبة على هذا النحو، فكان في مقدورهم أن يصرِّحوا علنًا منذ إطلاق القمر «سبوتنيك ١» أن صاروخهم الحامِل للقمر، الذي نجح أيضًا في بلوغ مدار فضائي، رجَّحَ كفتهم بمقدار ما يقرب من ١٨ ألف رطل. على الرغم من ذلك، كان الصاروخ «سكور» حقيقيًّا، وكان يشير إلى نهاية عصر أوَّلي شمل ضمن ما شمل الصاروخ «جوبيتر-سي» البديل، والصاروخ «فانجارد» الذي لم يكن يتمتع بكفاءةٍ عالية؛ إذ كان الصاروخ يحمل رسالة تتجاوز رسالة آيك، وهي أن أمريكا تنفذ برنامج فضاءٍ جاد، يتضمن تصميم مجموعة من صواريخ التعزيز القوية.
في تلك الأثناء، خلال أعياد الكريسماس في عام ١٩٥٨، وصلت صواريخ «ثور» الأولى إلى إنجلترا، وسرعان ما صارت جاهزة. وُضِع الصاروخ «تايتان» الباليستي الأول العابر للقارات، الذي كان مكملًا للصاروخ «أطلس»، على منصة إطلاقه في وضْعِ استعدادٍ لإجراء أول عملية إطلاق في أوائل العام الجديد، وهو الصاروخ الذي نجح بعد ذلك في الانطلاق. ولكن، بينما كانت مشروعات صواريخ الوقود السائل الكبرى تسير جميعًا بسرعة هائلة، كان البنتاجون يضع خططًا لتجاوز هذه الصواريخ. كان من المفترض أن هذه الصواريخ ستقدِّم خدمات جليلة في البعثات الفضائية القادمة، لكنْ سيثبت أنها ليست أكثر من أسلحة مؤقتة في ضوء نطاق الاستخدام العسكري المحدَّد لها. وكانت كل الصواريخ التي ستحلُّ محلَّ الصاروخ «أطلس» — وهي الصواريخ «تايتان» و«ثور» و«جوبيتر» — قيدَ التطوير بالفعل، وكانت تتضمَّن صاروخين يعملان بالوقود الصلب، وهما الصاروخ «بولاريس» لسلاح البحرية والصاروخ «مينتمان» للقوات الجوية.
انبثقت فكرة الصاروخ «بولاريس» من الغواصة النووية، إحدى ثمار عمل العقيد هايمان ريك أوفر. في البداية، في عام ١٩٤٦، أراد رؤساء ريك أوفر أن يعرفوا المزيد عن الطاقة الذَّرِّيَّة، ولم تكن زيادةُ السرعة القصوى — وهو ما أفضى إلى استخدام الطاقة الذَّرِّيَّة في السفن المقاتلة الحقيقية — مطروحةً على جدول الأعمال، لكنْ سرعان ما صار ذلك هو جدول أعمال ريك أوفر الشخصي. بدأ ذلك العام بمهمة في مختبر «أوك ريدج» النووي؛ حيث بدأ يتعلَّم هنا التكنولوجيا المعقَّدة للهندسة النووية.
كان ريك أوفر خريج الأكاديمية البحرية في أنابوليس، لكنه لم يكن بالتأكيد من أنماط الرجال الذين يمارسون الألعاب الاجتماعية التي كان يمارسها نادي الضباط. وكان معروفًا بصراحته، وكان يضع معايير التميُّز الخاصة به ويصرُّ على أن يلتزم بها الآخرون. وكان التميُّز، في حقيقة الأمر، شغفًا له. شغل أثناء الحرب منصبَ رئيس قسم الكهرباء في مكتب السفن، وهو منصب ربما لم يكن يتضمن إلا إدارة العقود والالتزام بالجداول الزمنية؛ ولكنْ، لم يكن هذا هو ما يستهوي ريك أوفر.
كوَّن ريك أوفر فريقًا من أفضل المهندسين الذين استطاع العثور عليهم، سواءٌ أكانوا مهندسين من سلاح البحرية أم مهندسين مدنيين. وكان يقرأ التقارير الحربية بصفة شخصية، ويفحص كل سفينة أُصِيبت أثناء المعارك متى كان يستطيع معاينتها، ليقيِّم بنفسه أداء المعدات الكهربائية في المعارك. وبهذه الطريقة، استطاع الكشف عن العديد من أوجه القصور، مثل القواطع الكهربائية التي كانت تنفتح عند إطلاق المدافع على متن السفن الحربية، والكابلات التي كان يحدث بها تسرُّب وتنتقل المياه منها إلى لوحات التحكم، وصناديق الوصلات الكهربية التي كانت تنبعث منها غازات سامة داخل الغواصات عند حدوث حريقٍ بفِعْل ماس كهربائي.
حدَّدَ ريك أوفر بمعاونة فريقه التغييرات التي كان يجب إجراؤها. ولم يكتفِ أعضاء الفريق بتصميم أنواع جديدة من المعدات، بل أجروا أبحاثًا أيضًا، مقدِّمين بياناتٍ أساسية حول موضوعات مثل مقاومة الصدمات. واختار ريك أوفر الشركات المتعاقدة التي ستبني المعدات الجديدة، والتي ستعمل بالتنسيق الحثيث مع فريق عمله، وتأكَّدَ من أن منتجاتهم ستصبح جاهزة في الوقت المحدد وستلتزم بالمواصفات الصعبة التي وضعها. اتبع ريك أوفر الأسلوب نفسه عندما عُيِّنَ رئيسًا لبرنامج البحرية النووي.
في عام ١٩٤٦، لم يكن ثمة برنامج كهذا بالطبع، ولم تكن توجد أية هيئة داخل البحرية على استعدادٍ لتطوير المفاعلات النووية المطلوبة، ولم يكن أحدٌ في أي مكان قد بنى بعدُ محطةَ طاقة نووية. وكان مشروع مانهاتن في وقت الحرب قد بنى منشآتٍ نووية، بَيْدَ أن هذه المفاعلات كانت نُظُمًا ضخمة، منخفضة الحرارة، تُستخدَم في إنتاج البلوتونيوم. وبالطبع، فإن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة إلى مفاعلٍ ذري ذي قدرة مرتفعة، قادرٍ على تزويد سفينة بالوقود وقيادتها، ولم تكن المعرفة الهندسية اللازمة متوافرة بعدُ؛ ومن ثَمَّ، كان ريك أوفر آنذاك بصدد مهمة ثلاثية الأجزاء، وهي تأسيس مكتب يتمتَّع بالصلاحيات اللازمة، وتحصيل المعرفة الفنية اللازمة التي تتيح الإمكانية لبناء المفاعلات، وتسريع وتيرة العمل أكثر ممَّا كان يظن رؤساؤه أنه ممكن. وكان عليه أن يقوم بهذا بينما لم تكن رتبته تزيد على رتبة عقيد.
ساعَدَه في تحقيق هذه الأهداف الدعمُ القوي الذي كان يتلقَّاه ريك أوفر من رئيس مكتب السفن؛ الأميرال إيرل ميلز. وفي أغسطس ١٩٤٨ أسس ميلز فرعًا جديدًا للطاقة النووية في مكتب السفن، الذي صار الكيان الرئيسي في مؤسسة ريك أوفر. ولكنْ، لم يكن هذا المكتب التابع للبحرية يستطيع تنفيذَ الكثير وحده؛ إذ كان قانون الطاقة الذَّرِّيَّة قد أسند المسئولية الأساسية عن جميع أشكال التكنولوجيا النووية إلى وكالة مدنية، وهي هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة؛ ومن ثَمَّ، كان على هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة تأسيس مكتب موازٍ لتولي أمور الدفع في الغواصات. وفي أوائل عام ١٩٤٩، بدأ فرع المفاعلات النووية نشاطه أيضًا، وكان ريك أوفر يديره أيضًا؛ وبذلك كان ريك أوفر يقوم بدورَيْن، أحدهما بحري والآخَر مدني.
ربما أفضَتْ هذه الترتيبات إلى تقليص صلاحيات ريك أوفر، لكنه حوَّلَها إلى مصدر قوة. وإذا صادَفَ عقبةً في البحرية، كان يضع قبعة هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة ويحاول مجددًا من خلال عمله في إطار الهيئة. وسرعان ما اكتشف ريك أوفر أن هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة تمنحه حرية كبيرة عندما كان يعمل معها بصفته منتسبًا إلى سلاح البحرية، بينما كانت البحرية تمنحه حريةً مماثلةً عندما كان يمثِّل هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة. بل كان يكتب خطابات طالبًا مساعدات من البحرية يوقِّع عليها رئيسه في هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة، ثم يكتب خطابات بالموافقة يوقِّع عليها ميلز.
حاوَلَ ريك أوفر أيضًا — من خلال منصبه المزدوج هذا — إضعافَ الفروق القائمة على الرتبة أو الحالة المدنية، وكان يعلم كيف كان أيُّ ضابط بحري يستطيع تحقيقَ ما يريد من خلال الاعتماد على رتبته، وكان يريد أن تعتمد جميع القرارات على الكفاءة الفنية. ومن هذا المنطلق، رعى ريك أوفر برنامجًا فعَّالًا بالتنسيق مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتعليم فريقه من خلال تقديم دوراتٍ حول التكنولوجيا النووية، مع تقديم دوراتٍ مماثلة في أوك ريدج. كما شجَّعَ أعضاءَ فريقه على مناقشة المسائل الفنية بحسمٍ وقوةٍ أثناء اللقاءات، وعلى ألَّا يشعر أيٌّ منهم بالحرج لتوجيه أي شكلٍ من أشكال النقد. وفي الحقيقة، لم تكن مسائل الرتبة والمستوى الوظيفي بالأمور التي يُتَّهَم بها العاملون في فريق ريك أوفر؛ فقد كانت معرفة المرء واضطلاعه بمسئوليته على أكمل وجه هي الأهم.
من البداية، كان على ريك أوفر تحقيق توازنٍ بين جماعتين، وكان يعرف الجماعة الأولى منذ أيام الحرب، ومن ثَمَّ كان مهمًّا عدم التسليم بأن الشركات الصناعية المتعاقدة تمتلك القدرة الفنية الكاملة. أما الخطر الثاني، فإنه كان يتعلَّق بالرابطة النووية التي كانت تعجُّ بفيزيائيين باحثين من العيار الثقيل، بَيْدَ أن بحوثهم لم تكن تتعامل مع التطورات الهندسية اللازمة لبناء مفاعل بحري؛ لذا، بينما كانت العقود الكبرى تُرسَى على الشركات الكبيرة من أمثال «جنرال إلكتريك» و«وستينجهاوس»، حرص ريك أوفر على بذل جهد كثير في جمع بيانات تُوضَع في كتيباتٍ هندسية، وهو ما سيشكِّل أساسًا لتكنولوجيا المفاعلات. وعلى وجه التحديد، كانت محطات القوى التي بناها تعتمد على مواد نادرة مثل الزركونيوم والهفنيوم والصوديوم السائل والبريليوم. وكان يحرص على توافُر المعرفة الفنية اللازمة، فضلًا عن منشآت الإنتاج.
في ظل الإجراءات المعتادة، كان يمكن أن يجعل ريك أوفر هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة تبني سلسلةً من المفاعلات التجريبية، وهو ما كان سيؤدِّي إلى استخدامها في سفن تجريبية. وربما كانت البحرية ستحاول بعد ذلك بوقتٍ كافٍ تدوينَ مجموعةٍ من المواصفات لبناء سفن حربية مقاتلة تعمل بالطاقة النووية، لكن ريك أوفر أصرَّ — بدلًا من ذلك — على بناء مفاعل تجريبي واحد، وهو «مارك ١»؛ لذا كان من المنتظر أن يكون المفاعل مشابهًا قدر الإمكان للمفاعل «مارك ٢»، الموضوع على سطح السفينة. وعلى حدِّ تعبيره: «مارك ١ يساوي مارك ٢». وكان هذا المفاعل سيختصر سنواتٍ من زمن البرنامج، ومن خلال بناء هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة «مارك ٢»، سيصبح موقف البحرية مُحرِجًا للغاية إذا قدمت نموذجَ مفاعلها في موقع بناء المفاعلات ولم تجد أيَّ سفينة تستقبل نموذجها. واستطاع ريك أوفر من خلال دوره المزدوج إرغامَ البحرية على تنفيذ ما يريد؛ إذ كان يتعيَّن بناء هذه السفينة وتمويلها تحت مظلة برنامج بناء السفن الرسمي.
كان من المتوقَّع أن تحمل السفينة اسم «نوتلس» التابعة للبحرية الأمريكية، وأصرَّ ريك أوفر على أن تكون غواصةً مقاتِلة حقيقية، بكامل عدَّتها من الطوربيدات. بالإضافة إلى ذلك، كان ريك أوفر في حاجةٍ إلى الحصول على موافَقة من جهات عليا لتنفيذ جدوله الزمني خلال ربيع ١٩٥٠، وساهمت الأحداث في دفع مشروع الغواصة؛ إذ فجَّرَ السوفييت قنبلتهم الذرِّيَّة الأولى في أغسطس ١٩٤٩. واستجاب ترومان إلى ذلك من خلال طرح مبادراتٍ جديدة في مجال الأسلحة النووية، بما في ذلك تعهُّدٌ ببناء قنبلة هيدروجينية. ومع ذلك، كانت هذه الجهود تصبُّ في صالح القوات الجوية، التي كانت تمتلك القوةَ الضاربة للبلاد. وفَّرَتْ غواصة ريك أوفر فرصةً للبحرية لاستخدام سفن تعمل بالطاقة النووية. وفي أبريل ١٩٥٠، قرَّرَ مجلس البحرية العام، الذي كان مسئولًا عن خطط بناء السفن، أن يمضي العمل في «نوتلس» مثلما كان يرغب ريك أوفر.
في يونيو ١٩٥٢، ذهب ترومان في زيارة إلى حوض بناء السفن في شركة «إلكتريك بوت» في جروتون، كونيكتيكت؛ وكان يرقد إلى جانبه لوحٌ فولاذي ضخم، ذو لون أصفر فاقع، صار جزءًا من عارضة الغواصة السفلية. ألقى ترومان خطابًا، ثم حملتْ رافعةٌ اللوحَ ووضعته أمامه. تقدَّمَ ترومان إلى الأمام وكتب الأحرف الأولى لاسمه بالطباشير على اللوح، ثم جاء لحَّام لاحقًا وحفر الأحرف الأولى على معدن اللوح، وبعدها بعامين ونصف، كانت الغواصة جاهزة لإجراء أولى تجاربها البحرية. وفي ١٧ يناير ١٩٥٥، قاد رُبَّانها، يوجين ولكنسن — وهو مهندس متخصص كان يفضِّل الخدمة في البحر — الغواصةَ من نهر التايمز إلى لونج آيلاند ساوند، وأرسَلَ مسئولُ إشارةٍ رسالةً إلى السفينة المصاحبة للغواصة نصُّها: «آتون باستخدام الوقود النووي.»
في تاريخ الحروب البحرية، كانت تلك الحادثة تحاكي في أهميتها أهميةَ الانتقال من الشراع إلى البخار؛ فقد لعبت الغواصات دورًا حيويًّا خلال الحربين العالميتين؛ حيث كانت الغواصات العسكرية الألمانية تهدِّد بقَصْم ظهر التجارة البريطانية، بينما كانت نظيراتها الأمريكية تضيِّق الخناق على تجارة اليابان البحرية خلال حرب المحيط الهادئ. ولكن، لم تكن الغواصات ترقى أن تكون أكثر من مجرد مركباتٍ بحرية مساعدة، تعمل معظمَ الوقت على السطح وتعتمد على القدرة المحدودة للبطاريات الكهربائية عندما تغوص إلى الأعماق، ومن ثَمَّ لم تكن تقضي وقتًا طويلًا في الأعماق. وتخلَّصَتِ الطاقة النووية من هذه القيود، وهو ما سمح للغواصات بالإبحار في أعماق المحيط لمدة أسابيع متعاقبة. ونظرًا لأن الغواصة لم تكن مرئيةً ولم يكن ثمة سبيلٌ إلى رصدها، صارت الغواصة النووية تُمثِّل تحديًا لحاملة الطائرات بوصفها سفينةً كبرى، قادرةً على تسيُّد البحار.
كانت «نوتلس» تمثِّل طريقًا واحدًا نحو عصر جديد من الأسلحة، وكان ثمة طريق آخَر تمثَّلَ في ابتكار أنواعٍ جديدة من الوقود الدفعي الصلب، وهي الأنواع التي أنتجتها شركةٌ تصارِعُ من أجل البقاء تُسمَّى شركة «ثيوكول كيمكل كوربوريشن»؛ وكان مُنتَج الشركة الرئيسي أحد بوليمرات متعدد الكبريت السائلة، اتخذ اسمه من «صمغ الكبريت» في اللغة اليونانية، ويمكن معالجته ليصير مادةً مطاطية مركَّبة غير قابلة للذوبان. وخلال الحرب، استُخدِم هذا المنتج على نطاق محدود في إحكامِ لصْقِ أجزاء خزانات الوقود في الطائرات، لكن بعد عام ١٩٤٥ تلاشَتْ سوقه. وفي حقيقة الأمر، كان معدل سير العمل بطيئًا لدرجة أنه حتى الطلبات الصغيرة كانت تجذب انتباه جوزيف كروزبي؛ رئيس «ثيوكول».
لذا، عندما علم كروزبي بأن معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كان يشتري عبوات تحوي ما بين خمسة وعشرة جالونات من الوقود، ذهب إليهم ليعرف السبب، واكتشف أن باحثي الصواريخ في مختبر الدفع النفاث كانوا يستخدمون هذا الوقود كبديلٍ يتجاوز الوقود الصلب الذي يعتمد على الأسفلت في تكوينه الذي تنتجه شركة «جون بارسنز». وكانوا يمزجون وقود كروزبي مع مادة مؤكسدة ويضيفون مسحوقَ الألومنيوم لتوفير مزيدٍ من الطاقة. وزاد على ذلك أنهم كانوا يستخدمون هذا الوقود الجديد بطرق تجعل من الممكن بناء صواريخ وقود صلب كبيرة للغاية.
سرعان ما أدرَكَ كروزبي أن شركته يمكن أن تدخل أيضًا مجال الصواريخ، بمساعدةٍ من الجيش، واستطاع المسئولون في الجيش توفير دعم مالي مقداره ٢٥٠ ألف دولار أمريكي في البداية لمساعدته على بدء العمل في مجال إنتاج الصواريخ، لكن هذا المبلغ كان كبيرًا للغاية بالنسبة إلى كروزبي. وفي عام ١٩٥٠، منحت إدارة التسليح في الجيش عقدًا لبناء صاروخ يعمل باستخدام ٥٠٠٠ رطل من الوقود، وأُطلِق الصاروخ بنجاحٍ في العام التالي في موقع اختبار، ومن خلال هذه التجربة، وجد مصمِّمو الصواريخ شيئًا جديدًا.
ظهر الوقود الذي كانت تنتجه شركة «ثيوكول» باعتباره أول وقود ينتمي إلى نوع جديد من أنواع الوقود الدفعي الصلب، وهو ما كان يعتمد على كيمياء البلمرات لتكوين خلائط كثيفة القوام تشبه صلصة الطماطم. وكانوا يعالجون هذا الوقود أو يقومون ببلمرته في صورة وقود صلب طيِّع بحيث لا يتشقَّق أو يُحدِث فجوات في جدار الصاروخ الداخلي؛ وهو ما يضمن السيطرة جيدًا على عملية الاحتراق. وكانت البحرية مهتمة أيضًا بأنواع الوقود الدفعي هذه لاستخدامها في الصواريخ المضادة للطائرات، وفي عام ١٩٥٤ شرعت إحدى الشركات المتعاقدة في ضواحي فرجينيا، وهي شركة «أتلانتك ريسرش»، في إدخال المزيد من التحسينات على الأداء.
ركَّزَ اثنان من علماء الشركة، وهما كيث رامبل وتشارلز هندرسن، انتباههما على مسحوق الألومنيوم؛ وكان باحثون آخَرون قد أثبتوا أن الوقود يحقِّق أفضلَ أداءٍ عند استخدام مزيج يتضمن خمسة في المائة فقط من مسحوق الألومنيوم، بينما كانت النِّسَب الأعلى تتسبَّب في انخفاض أداء الوقود. وفي همةٍ لم تَفْتُر، قَرَّر رامبل وهندرسن محاولةَ خلطِ كمياتٍ كبيرة جدًّا من مسحوق الألومنيوم؛ فارتفعت عندئذٍ سرعةُ العادم، التي كانت تحدِّد الأداء، ارتفاعًا حادًّا. وفي أوائل عام ١٩٥٦، تأكدت هذه النتائج من خلال عمليات إطلاقٍ تجريبية. وقُورِنت سرعاتُ العادم في الوقود الذي أنتجاه، التي كانت تبلغ ٧٤٠٠ قدم لكل ثانية وأكثر، مع سرعات العادم في أنواع الوقود السائل مثل الكيروسين والأكسجين.
كان مكتب الملاحة الجوية التابع للبحرية يطوِّر الصاروخ «رجلاس» من طراز «كروز» للانطلاق من غواصة. وفي عام ١٩٥٤، بينما كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات تحتل الصدارة، قرَّرَ عالِمان في مكتب الملاحة الجوية، روبرت فرايتاج وأبراهام هايت، محاولة تصميم صاروخ باليستي لصالح برنامج الصواريخ الباليستية في البحرية أيضًا، وحصل العالِمان على دعم كبير من قائد مكتب الملاحة الجوية؛ الأميرال جيمس راسل. وجذبت أفكارهما أيضًا انتباهَ لجنة كيليان، التي أوصى تقريرُها الصادر في فبراير ١٩٥٥ بتصميم صواريخ باليستية متوسطة المدى ذات قواعد بحرية.
نال أسلوبُ إطلاقِ صواريخ من قواعد بحرية دعْمَ أكثر الأشخاص تأثيرًا في البحرية، الأدميرال أرليه بيرك؛ فقد تقلَّدَ منصب قائد العمليات البحرية في أغسطس ١٩٥٥، وفي غضون أسبوع صدَّقَ على المقترح. أدرك بيرك بوضوح أن دمج الصواريخ الباليستية مع الغواصة النووية في العمليات سيمنح سلاحَ البحرية دورًا جديدًا تمامًا ومهمًّا، أَلَا وهو القدرة على توجيه ضربات استراتيجية.
كانت القوات الجوية تمتلك تلك القدرة بفضل قاذفاتها، ولم يكن سلاحُ البحرية يمتلك أيَّ سلاح يقترب — ولو قليلًا — من هذه القدرة. وكانت البحرية تبني حاملات الطائرات، لكنها كانت ضخمة وكانت معرَّضة لهجوم نووي؛ ومن ثَمَّ، كان برنامج بناء السفن يشبه وضع جهودٍ أكثر ممَّا ينبغي في مشروعاتٍ قليلة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت حاملات الطائرات مُكلِّفة، ليس في حدِّ ذاتها فقط، ولكن لأنها أيضًا كانت تتطلَّب أساطيل شاملة من السفن المصاحبة لها إذا كانت ستبحر في مجالٍ مُعَادٍ. وفي حين كانت الأسطح المنبسطة الكبيرة تسمح باستضافة طائرات مزوَّدة بقدرات نووية، كانت هذه الطائرات محدودةً في حجمها، ومن ثَمَّ في مداها. ولم يكن من الممكن أن تنافس هذه السفنُ القوةَ الضاربة للبلاد المتوافرة في القيادة الجوية الاستراتيجية.
أشار رابورن لاحقًا قائلًا: «كنا نعتمد على فلسفة الاتصال الدائم، لم نكن نخفي أيَّ أمر عن أي شخصٍ يريد معرفته، ولم يكن ثمة ما يجعل أيَّ شخصٍ يقع في المتاعب أكثر من تأخير الإعلان عن مشكلةٍ محتمَلة. والأسوأ من ذلك، أنه إذا انتظَرَ الشخص حتى تقع المشكلة، فسيصبح إذن في وضع حرج حقًّا.» ويضيف زميله النقيب لفرينج سميث، وهو اختصاصيُّ دفْعٍ، قائلًا: «كان كثيرٌ ممَّا جرى يخالف الإجراءات واللوائح التنظيمية الحكومية الراهنة. ومن ثمَّ، كان يُنحى جانبًا.» وهو ما كان يعني أن رابورن كان في استطاعته أن يتوقَّع طوالَ الوقت الحصولَ على المعلومات التي يحتاجها لاتخاذ قرارٍ ما، واستطاع أن يفعل ذلك، بدلًا من طلب إجراء المزيد من الدراسات.
منح رابورن الصاروخ «جوبيتر» الذي ينطلق بحرًا فرصةً طيبة لاختباره، لكنه كان يعي جيدًا أن وقوده السائل كان ينذر بخطر نشوب أسوأ حادث حريق منذ أيام السفن الشراعية الخشبية، عندما كان البحارة يَطهون فوق مواقد مكشوفة. وعندما أمر بإجراء دراسة مبدئية على استخدام وقود صلب بديل، لم يجد أيَّ تحسُّن في أداء الوقود. وكان الصاروخ البديل يستخدم الوقود الصلب التقليدي، وليس النوع الجديد الذي أنتجته شركة «أتلانتك ريسرش»، الذي كان تصميمه بالغ الضخامة بطول ٤١ قدمًا ووزن ١٦٢ ألف رطل. وكان مقدار إزاحة المياه في الغواصة التي تحمله يبلغ ٨٥٠٠ طن، مقابل ٣٣٠٠ طن في غواصة «نوتلس»، لكنها لم تكن تحمل أكثر من أربعة صواريخ. وربما كانت توفر عاملَ الأمان والسلامة، بَيْدَ أن المكونات إجمالًا لم تكن تبشِّر بتحقيق ميزة من الناحية العملية.
توقَّعَ رابورن أن صاروخ الوقود الصلب الهائل هذا سيحمل المقدمة المخروطية للصاروخ «جوبيتر»، التي كانت تزن ٣٠٠٠ رطل بما في ذلك الرأس الحربية التي يحملها. وكان التصميم المتوقَّع سيحقق استفادةً كاملة من عمليات تقليص الوزن في الأسلحة النووية التي أُشِيرَ إليها في تقرير لجنة «تي بوت» وفي دراساتٍ لاحقة. وعلى الرغم من ذلك، وجد رابورن نفسه في الوضع الذي كان فيه شارلي بوسار من شركة «كونفير» عام ١٩٥١، عندما صمَّمَ الصاروخ «أطلس» في وقتٍ سابق على هذا الإنجاز النووي الحراري، وأنذر الصاروخ بسبب ضخامته المفرطة بعدم جدواه عسكريًّا. ولكن، كان ثمة إنجازٌ ثانٍ مشابِه وَشِيكُ الحدوث، وهو الإنجاز الذي حقَّقه إدوارد تيلر بعد ذلك.
خلال صيف عام ١٩٥٦، قدَّمَ تيلر مقترحه. وكانت القنابل الهيدروجينية تستخدم طبقة ثقيلة من اليورانيوم غير المخصَّب التي كانت تتلقَّى دفقةً قوية من النيوترونات من خلال عملية تفاعُل نووي حراري، وتُطلِق طاقةً إضافية من خلال عملية الانشطار. وأكَّد تيلر في مقترحه على إمكانية تقليص وزن الرأس الحربية مجددًا من خلال استخدام يورانيوم مخصَّب بدلًا من اليورانيوم غير المخصَّب. وكان مقترح تيلر واضحًا، على الأقل في نطاق جماعة تيلر المتخصِّصة في المجال، لكنه كان يتعارض بشدة مع أسلوب لوس ألاموس. وبالنسبة إلى هارولد أجنيو، فقد أشار قائلًا: «لم يكن المقترح متماشيًا مع ثقافتنا؛ فقد نشأنا في ثقافة ندرة استخدام المواد النووية. وكانت فكرة إدوارد مثل فكرة وضع الزبد على جانبَي الخبز. ولم يجد أمامه إلا أن يرضخ رضوخًا كاملًا.»
كانت ثمار الجهود المبذولة مقدمة مخروطية وزنها ٨٥٠ رطلًا فقط، بينما كان وزن الرأس الحربية لا يتجاوز ٦٠٠ رطل. امتزجت هذه الجهود مع جهود شركة «أتلانتك ريسرش» — فضلًا عن الجهود التي بُذِلت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا التي كانت تبشِّر بنظام توجيه خفيف الوزن مماثِل — لتغيِّر من طبيعة صاروخ الوقود الصلب لرابورن جذريًّا، ووصل وزن الصاروخ إلى ٢٨٨٠٠ رطل، وهو ما يقترب من وزن الصاروخ «في-٢» عند إطلاقه، وكان ارتفاعه الذي يقل عن ثلاثين قدمًا لا يكاد يبلغ ثلاثة أخماس ارتفاع الصاروخ «في-٢». ومع ذلك، كان الصاروخ الجديد يستطيع حمْلَ رأس حربية زنة ٦٠٠ كيلوطن، ويقذفها إلى مدًى يصل ١٢٠٠ ميل بحري. والأفضل من ذلك أن حجمه المضغوط كان يسمح له بحمل ستة عشر صاروخًا منه في غواصة نووية ذات قاعدة طويلة طراز «سكيب جاك». وكانت هذه الغواصات، ذات القواعد القياسية، جزءًا من برنامج ريك أوفر لبناء الصواريخ.
أطلق رابورن على الصاروخ اسم «بولاريس»، في إشارةٍ إلى اسم النجم الثابت الذي كان البحَّارة يسترشدون به. وقبل أن يتمكَّن من إرساء عقدٍ على إحدى الشركات والتحرُّر نهائيًّا من الجيش، أراد أولًا الحصول على إذنٍ من وزير الدفاع ويلسون. وفي خريف ذلك العام، قدَّمَ عرضًا موجزًا أشار فيه إلى أن برنامجه سيوفر ٥٠٠ مليون دولار أمريكي مقارَنةً بالصاروخ «جوبيتر» الذي كان مخططًا له أن ينطلق بحرًا. وبَدَا ويلسون مهتمًّا بالأمر؛ حيث أمال رأسه إلى الأمام قائلًا: «لقد عرضتَ عليَّ الكثيرَ من شرائح العرض المشوقة أيُّها الشاب، لكن هذه الشريحة هي الأكثر تشويقًا، شريحة توفير نصف مليار دولار أمريكي.» وفي ديسمبر، بعد أسبوعين من إصدار القرار الذي أنكر حقَّ الجيش في نشر الصاروخ «جوبيتر»، أصدَرَ رابورن توجيهًا إلى رابورن بألَّا يمضي في تنفيذ مشروع الصاروخ «جوبيتر»، وأن يمضي في العمل في الصاروخ «بولاريس». وكان مكتب رابورن آنذاك بمنزلة سلاح بحرية داخل البحرية، وتمكَّنَ من خلال صلاحياته الواسعة أن يحصل على أقصى ما يمكن من ريك أوفر نفسه. واحتاج إلى خمس غواصات طراز «سكيب جاك» في البداية، وبدأ بغواصةٍ كانت قيد الإنشاء، وتولَّى هو مسئوليتها؛ حيث قطعها نصفين ووضع لوحًا بطول ١٣٠ قدمًا في قطاعها الأوسط لحمل الصواريخ، وأطلق عليها اسم «جورج واشنطن» التابعة للبحرية الأمريكية.
في يوليو ١٩٥٧، بينما كانت برامج الصواريخ تمضي قُدمًا، توقَّفت جهود تطوير برنامج الصاروخ «نافاهو» القديم عندما ألغت القوات الجوية العمل فيه؛ ومع ذلك، أسهم هذا المشروع — الذي كانت تديره شركة «نورث أمريكان»، وكان له دور عظيم في مجال صواريخ الوقود السائل — إسهامًا أخيرًا من خلال تقديم نظام توجيه استُخدِم في غواصة «جورج واشنطن» والغواصات المشابهة لها؛ فقد كان من الضروري أن تعرف الغواصات وجهتها أثناء إبحارها تحت البحر، وكان نظامُ توجيه «نافاهو» يوفر هذه المعلومات على نحو فعَّال. واتضحت مميزات النظام بعد عام؛ إذ استُخدِم في توجيه غواصة «نوتلس» تحت ثلوج المحيط القطبي في رحلة بحرية بدأت من ميناء بيرل هاربور إلى إنجلترا، تحت القطب الشمالي مباشَرةً.
جذبت «بولاريس» أيضًا انتباهَ الكولونيل إد هول. كان هول يدير برنامج صاروخ «ثور» تحت إشراف الجنرال شريفر، لكنه صار مقتنعًا بأن صاروخًا مماثلًا في القوات الجوية للصاروخ البحري سيوفر ميزةً هائلة. في البداية، عالَجَ مشكلةَ صبِّ كميات كبيرة للغاية من الوقود الصلب، فيما يُعرَف بالحبيبات. وكان تطوير الرأس الحربية الجديدة لتيلر يعني أن صاروخ هول سيكون أصغر كثيرًا من صواريخ الوقود السائل الكبيرة لشريفر، بَيْدَ أن هول كان يعرف أنه سيحتاج إلى حبيباتٍ أكبر كثيرًا ممَّا جرى تصنيعه سابقًا. ولم يكن يستطيع أيضًا الاعتماد على حبيبات الصاروخ «بولاريس»؛ إذ كان الصاروخ «بولاريس» صاروخًا من مرحلتين، ذا حبيبات محدودة الحجم، وكان هول يريد أن يحصل على حبيباتٍ أكبر.
أرسى هول عقودًا على عدة شركاتٍ تعمل في مجال صناعة الوقود الصلب، بما في ذلك شركتا «إيروجت» و«ثيوكول»؛ ووقَّعَ كروزبي من شركة «ثيوكول» العقدَ في سرور، حيث كان قد خسر عقد «بولاريس» أمام شركة «إيروجت» ورأى في ذلك فرصةً للرد. اشترى قطعةَ أرضٍ كبيرة قُرْبَ مدينة بريجام في ولاية يوتا، وهي منطقة بعيدة تتوافر فيها مساحات واسعة تسمح بتلاشي هدير الصواريخ كثيرًا. وفي نوفمبر ١٩٥٧، قدَّمَ الباحثون في شركته وحدةَ وقودٍ صلب توفِّر قوةَ دفعٍ مقدارها ٢٥ ألف رطل، وهي أكبر قوة دفع من نوعها حتى ذلك الوقت.
لكن الأمر كان يتطلَّب ما هو أكثر من حبيباتٍ كبيرة لصنع صاروخ هول. أراد هول أن يطلق الصاروخ في لحظة إعطاء إشارة الإطلاق، وهو ما كان يعني إدخال تغييرات جذرية في نظام التوجيه. كانت النظم التقليدية، التي كانت تستخدم البوصلات الجيروسكوبية العائمة التي ابتكرها ستارك دريبر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد إدارة زرِّ التشغيل؛ إذ كان يتعيَّن تدفئة نُظُم التوجيه، حتى تصبح العبوات العائمة في مستوى طفْوٍ دقيق. ثم نصب العبوات بالتوازي مع المحور الرأسي و«محاذاتها» على نحوٍ صحيح في المستوى الأفقي، وهو ما كان يستغرق وقتًا يقرب من ساعة أو يزيد. ولم تكن ثمة مشكلة في ذلك بالنسبة إلى الصاروخين «أطلس» و«تايتان»، اللذين كانا يحتاجان إلى وقت أكثر لتزويدهما بالوقود ولإعدادهما للإطلاق، وينطبق الشيء نفسه أيضًا على الصاروخ «بولاريس»، الذي كان يستطيع الاختفاء تحت سطح البحر حتى يستعِدَّ قائده. لكنَّ هول كان يحتاج إلى نظام توجيه يعمل على نحوٍ مستمرٍّ.
جاء الحل من خلال قسم الأوتونتكس (أو أنظمة الإلكترونيات) في شركة «نورث أمريكان»، وهو الحل الذي كان يمثِّل ثمرةَ جهود العمل على نظام التوجيه في الصاروخ «نافاهو». وبالمثل، طوَّرَتْ شركة «روكيت داين» تصميماتها من خلال الأنشطة البحثية التي كانت تجريها على محرك الصاروخ «نافاهو». كان أوتونتكس قد بنى النظام الذي كان سيوجِّه غواصة «جورج واشنطن»، وكان أحد الاختصاصيين الأساسيين، وهو جون سليتر، قد صمَّم بوصلات جيروسكوبية جديدة مختلفة تمامًا عن نماذج بوصلات دريبر العائمة. كانت بوصلات سليتر تحتوي على كرة دوَّارة، في حجم كرة زجاجية كبيرة، كانت تدور في مبيت كروي وكانت تستخدم غشاءً رقيقًا من الغاز للحيلولة دون التلامس. وكانت هذه البوصلة الغازية، التي يرجع تاريخ تطويرها إلى عام ١٩٥٢، لا تزال مستخدَمة بعد مرور خمس سنوات.
في أغسطس ١٩٥٧، تولَّى هول مسئوليةَ فريقِ عملٍ شرَع في تحديدِ ما أُطلق عليه نظام سلاح كيو؛ وبعدها بأسبوعين وضع تصميمًا كان يتضمن فيما يبدو كل المواصفات المطلوبة. وكان هول حريصًا على ألَّا يكون هذا النموذج مكلِّفًا. أشار المؤرِّخ جورج ريد إلى الصاروخ باعتباره «أول سلاح استراتيجي يمكن إنتاجه على نطاقٍ واسع». وكان الصاروخ قويًّا، ليس ضعيفًا مثل صواريخ الوقود السائل، وكان يمكن إخفاؤه تحت الأرض في أسطوانة مبطَّنة بالخراسانة، وهو ما أشارت إليه مجلة «تايم» لاحقًا بأنه «صومعة مقلوبة». ونظرًا لقوته، كان يمكن إطلاقه من الصومعة التي تحيط به، وتحمُّل الضغط والاهتزاز الشديدين المتولِّدين عن الإطلاق من حفرة الإطلاق الأرضية مباشَرةً. ولم يكن في مقدور أي صاروخ وقود سائل أن يفعل ذلك، وكانت الصومعة تمثِّل بدورها عامِلَ حمايةٍ للصاروخ من أي شيءٍ فيما خلا ضربة نووية مباشِرة.
عقب إطلاق «سبوتنيك»، ذهب هول وشريفر إلى البنتاجون للحصول على المزيد من الدعم من أجل هذا النموذج الأحدث للصاروخ الباليستي العابر للقارات. وفي فبراير ١٩٥٨، قدَّمَا تصميمَ الصاروخ إلى وزير الدفاع ماكلروي وإلى قائد القوات الجوية، وعلى حد تعبير شريفر: «حصلنا على موافقة خلال ثمانٍ وأربعين ساعة.» وبنهاية الشهر أُطلِق على المشروع اسمٌ جديد، وهو «مينتمان».
لكن، كانت الأمة في حاجةٍ إلى ما هو أكثر من صواريخ جديدة؛ كانت تحتاج أيضًا إلى أقمار استطلاع، ومنذ البداية تقريبًا لم تقل إنجازات القمر «يو-٢» كثيرًا عمَّا بشَّرَ به؛ وما لبث أن دخل الخدمة حتى استطاعت أنظمة الرادار السوفييتية تحديد موضعه. وفي أعقاب عملية التحليق الثانية فوق الأراضي السوفييتية، أعلنت وزارة الخارجية عن احتجاجها، وتصاعدت الاحتجاجات، وبعد تنفيذ ستِّ مهام من هذا النوع، جميعها خلال شهر يوليو ١٩٥٦، أمَرَ آيك بإيقاف البعثات الاستطلاعية. ولم تُجْرَ أي محاولاتٍ بعد ذلك إلا بعد الحصول على موافقته الشخصية، ولم يتجاوز عدد البعثات الاستطلاعية التي انطلقت خلال السنوات الأربع ثماني عشرة بعثة. نَقَل ريتشارد بِسل، سائرًا على نهج كرتس لوماي، خمسةَ أقمار طراز «يو-٢» إلى القوات الجوية الملكية، ورتَّبَ عمليةَ الحصول على استخباراتها. ولكنْ، لم يكن هذا إلا إجراءً مؤقتًا.
كانت صور أقمار «يو-٢» لا تُضاهَى؛ أظهرت إحدى الصور، التي التُقِطت من ارتفاع ٥٥ ألف قدم، كراتِ الجولف في ملعب الجولف المفضَّل لدى آيك. وعادت بعثة استطلاع أخرى في عام ١٩٥٦ بصورٍ غاية في الأهمية، كانت تُظهِر عددًا أقل جدًّا ممَّا كان متوقَّعًا للقاذفات الثقيلة في القواعد السوفييتية؛ وهو ما أفضى إلى البدء في عملية مراجعة شاملة لقوة موسكو الجوية المقدَّرة، وأعلن أحد مساعدي آيك العسكريين أنهم سرعان ما وجدوا أن إنتاج القاذفة «جاب» كان يتراجع، وهو أمر كانوا يتوقَّعون حدوثه كلَّ عام. لكنه لم يحدث حقيقةً. ولكن، أكَّدَتِ القيودُ المفروضة على القمر «يو-٢» على أهمية المُضِيِّ قُدمًا في تطوير القمر «دبليو إس-١١٧إل».
لكن، على الرغم من تولِّي شريفر مسئوليةَ برنامج الأقمار الصناعية هذا في فبراير ١٩٥٦، لم يَلْقَ البرنامجُ نفسَ الأولوية المرتفعة الممنوحة إلى الصاروخ «أطلس» والصواريخ الأخرى. وعندما انطلق القمر «سبوتنيك ١»، كان القمر «دبليو إس-١١٧إل» يتطوَّر ببطءٍ، وكان في حاجةٍ إلى صاروخ تعزيز. وكانت القوات الجوية قد تخلَّتْ عن أسلوب «آر سي إيه» في الاستطلاع، وهو الأسلوب الذي كان يعتمد على كاميرا تليفزيونية؛ نظرًا لأن جودة الصور الناتجة كانت منخفضة. وكان شريفر لا يزال يتبع الأسلوب الثاني في إرسال قمر صناعي لا يعود إلى الأرض، ولكنه يسجِّل الصور في شكل نيجاتيف ثم يُجري لها مسحًا ضوئيًّا ويرسلها إلى القاعدة الأرضية. ولكن، كانت المركبة الفضائية المصاحبة لقمرٍ من هذا النوع في حاجةٍ إلى صاروخٍ من طراز «أطلس» لبلوغ مدار فضائي، وهو ما لم يصبح جاهزًا إلا بعد فترة. (أُطلِق على القمر اسم «ساموس»، ولم ينطلق في بعثة فضائية إلا في عام ١٩٦١.)
بعد ثلاثة أسابيع من إطلاق «سبوتنيك»، تلقَّى آيك تقريرًا يطالب بإطلاق قمر استطلاع مؤقت يجري تجهيزه بسرعة، وطلب آيك من مدير وكالة الاستخبارات المركزية آلان دلاس ووزير الدفاع ماكلروي أن يخبراه بالمزيد؛ وبالفعل، تحقَّق المزيد في شهر نوفمبر على أيدي اثنين من محلِّلي مؤسسة راند، هما مرتون دافيز وأمروم كاتز؛ حيث أجريَا دراسةً بعنوان «جيل من الأقمار الصناعية القابلة للاسترجاع». وخلُصت دراستهما إلى إمكانية استخدام الصاروخ «ثور» كصاروخ تعزيز لهذه المركبة الفضائية، وكان «ثور» قد نجح بالفعل في التحليق كصاروخ.
في يناير ١٩٥٨، فتح مجلس الأمن القومي المجال لاتخاذ إجراءاتٍ عملية من خلال منح الأولوية القصوى لتطوير نظام فاعل؛ وبعدها بأسبوعين اتخذ آيك قرارين؛ أنشأ وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، وطلب من وكالة الاستخبارات المركزية بناء قمر صناعي قابل للاسترجاع، تاركًا جهود تطوير قمر صناعي غير قابل للاسترجاع إلى القوات الجوية. وطوَّرَ أحد المسئولين في وكالة الاستخبارات المركزية قمرًا سمَّاه «كورونا»، على غرار اسم الآلة الكاتبة طراز «سميث-كورونا» الموجودة على مكتبه، وأُطلِق على المركبة الفضائية التي كانت ستحمله اسم «ديسكفرر». ومنذ البداية، شارَكَ القمرُ «كورونا» القمرَ «يو-٢» في مستوى السرِّيَّة الاستثنائي.
بناءً على ذلك، أصدرت وكالة المشروعات البحثية المتقدمة في أواخر شهر فبراير قرارًا رسميًّا بإلغاء ذلك الجزء في القمر «دبليو إس-١١٧إل» المماثِل لمركبة «ديسكفرر»؛ وتضمَّنَ هذا القرار مجموعةً من إلغاءات العقود القانونية، وإخطاراتٍ رسمية أخرى كانت تصدر عادةً عندما كان البنتاجون يتخلَّى عن أحد مشروعاته. أثار هذا القرار استياءَ الشركات المتعاقِدة ومسئولي القوات الجوية على حدٍّ سواء؛ إذ صُدِموا من تخلِّي وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، التي تُعَدُّ أحدثَ الوكالات وأقلَّها خبرةً، عن نظام الاستطلاع الذي أظهر أفضل احتمالات النجاح. ولكن، جاء هذا الاستياء الشديد لصالح أهداف ريتشارد بِسل.
بدأ بِسل العمل في مشروع «كورونا» في هدوءٍ واستعدَّ لإطلاقه على غرار ما فعل مع القمر «يو-٢». ورتَّبَ بِسل للحصول على تصريحاتٍ أمنية تسمح بانضمام عددٍ من الأفراد الذين اختارهم بعنايةٍ — سواءٌ أكانوا في القوات الجوية أم من بين العاملين في الشركات المتعاقدة — إلى المشروع، واتخذ خطوةً سرِّيَّة لتفعيل العمل في مشروع «ديسكفرر» في إطار «كورونا».
كان من المفترض أن تطلق القوات الجوية هذه الأقمار الفضائية، بَيْدَ أن موقع كيب كانافيرال لم يكن مناسبًا. كان من المقرَّر أن يحلِّق القمر «ديسكفرر» في مدار قطبي، وكان سيجري إطلاقه قريبًا شمالًا أو جنوبًا. وفي موقع كيب، كان الأمر يتطلَّب حملَ القمر فوق مناطق آهلة للسكان لإطلاقه في أيٍّ من الاتجاهين، وهو ما لم يكن مأمونًا. وكان البنتاجون يبني قاعدة فاندنبرج التابعة للقوات الجوية، وهو مركز جديد على ساحل ولاية كاليفورنيا، على مسافة ١٥٠ ميلًا شمال غرب لوس أنجلوس؛ وكان الموقع يوفِّر مجالَ إطلاقٍ خاليًا نحو الجنوب. وكان من المقرر أيضًا أن يدعم عمليات الإطلاق العسكرية للصاروخين «أطلس» و«ثور»، وهو ما كان يعني إمكانية إطلاق «ديسكفرر» من هذه القاعدة الجديدة. كانت القاعدة الجديدة توفر عنصر الأمان أيضًا، وهو ما لم يكن متوافرًا في موقع كيب. كان الموقع لا يسمح للسائحين بالاقتراب على نحوٍ ما من أيِّ منشأة عسكرية، على الرغم من أن خط السكك الحديدية «ساوثرن باسيفك» كان يمر عبر فاندنبرج، وكان يسمح للسائحين بإلقاء نظرة عبر نوافذ القطارات على الموقع. بَيْدَ أن بِسل استطاع وضع الجدول الزمني لعمليات الإطلاق بالرجوع إلى الجداول الزمنية لخط السكة الحديد، وانتظر حتى توارت تلك القطارات عن الأنظار.
قدمت شركة «لوكهيد»، التي كانت تشتهر بسرعة التنفيذ، تصميمًا كاملًا في أواخر شهر يوليو، ووصل أول صاروخ «ثور-أجينا» مصحوبًا بمركبة «ديسكفرر» الخاصة به إلى منصة الإطلاق في أوائل عام ١٩٥٩، وضمَّ الطاقم الأرضي مجموعةً مخضرمة عملت ضمن فريق عمل الصاروخ «في-٢» أطلقوا على أنفسهم «بروملايترز»؛ حيث كان أحدهم يشغِّل محرك الصاروخ «في-٢» — عندما لا يستطيع الانطلاق كما يجب — باستخدام مكنسة مغمورة في الكيروسين. ولم يكن الصاروخ «ثور» الذي كان يحمل المركبة «ديسكفرر ١» يحتاج إلى كل هذه الأعمال البطولية؛ حيث حلَّقَ بسرعةٍ إلى الفضاء في نهاية شهر فبراير. ولكن، لم يستطع الصاروخ «أجينا» بلوغَ المدار، وكتب أحد محلِّلي وكالة الاستخبارات المركزية قائلًا: إن «معظم الناس كانوا يعتقدون أن الصاروخ هبط في مكانٍ ما قُرْبَ القطب الجنوبي.»
شهد منتصف شهر أبريل إطلاقَ «ديسكفرر ٢»، الذي بلغ المدار بنجاحٍ ودار حول الأرض لمدة يوم، وكان من المفترض أن يسقط الصاروخ قرب هاواي، ونقل أحد العاملين في محطة التحكم الأرضية أمرًا يجعل كبسولة القمر تعاوِد الولوج إلى المجال الجوي في وقت محدد؛ ولسوء الحظ، نسي أن يضغط زرًّا معينًا. وعلم المسئول عن استرجاع القمر، العقيد تشارلز موس ماثيسون، أن المركبة سقطت قُرْبَ جزيرة شبيتسبرجن النرويجية.
هاتَفَ ماثيسون صديقًا في القوات الجوية النرويجية، وهو اللواء تافتي جونسون، وطلب منه رصد مركبة فضائية صغيرة ستهبط على الأرجح بواسطة مظلة، وهاتف جونسون أحد المسئولين التنفيذيين في إحدى شركات التعدين في الجزيرة، وأمره بإرسال دوريات تزلُّج، وسرعان ما عادت دورية مؤلَّفة من ثلاثة رجال حاملةً معها الأخبار. وكانوا قد رأوا المظلة البرتقالية مع انجراف الكبسولة قُرْبَ قرية بارنتسبرج. ولم يكن هذا أمرًا طيبًا؛ إذ كان سكان القرية من الروسيين المقيمين في البلاد.
أرسل بِسل طائرة وهليكوبتر، بينما شارَكَ السكان المحليون في عملية البحث بحماس بالغ. قال أحد السكان: «لا يجد الناسُ هنا كثيرًا ممَّا يمكنهم فعله؛ لذا تَلْقَى عمليةُ البحث هذه ترحيبًا كبيرًا.» ولكن، كلُّ ما عُثِر عليه هو آثار لأحذية تزلُّج على الجليد، وربما كانت هذه آثار أقدام الروس؛ إذ كان سكان الجزيرة من النرويجيين يستخدمون الزلاجات عادةً. ألهمت هذه الحادثة لاحقًا الروائي ألستر ماكلين عندما كتب روايته «حمار وحشي في محطة الثلج». لكن، كان مبعث الراحة الوحيد بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية؛ هو أن «ديسكفرر ٢» لم تكن تحمل على الأقل معدات تصوير.
كان هذا أقرب ما يكون من النجاح الذي حقَّقَه البرنامج خلال الأشهر الستة عشر المقبلة؛ فمن بين محاولات الإطلاق العشر لمركبات «ديسكفرر»، لم تنجح إلا خمسٌ فقط في بلوغ مدار. وكانت جميع المركبات تتصرَّف على نحوٍ غريب، واتخذ أحد الصواريخ الكابِحة اتجاهًا خاطئًا؛ فبدلًا من الهبوط من الفضاء، انتهى به المطاف صاعدًا إلى مدار أعلى. وفي محاولة إطلاقٍ أخرى، عجز الصاروخ عن الانطلاق تمامًا. وأفضت مشكلة كهربية إلى سقوط صاروخ آخَر سُدًى، بينما لم تعمل الكاميرات في ثلاث بعثاتٍ خلال المدار الأول أو الثاني. وحقَّقَ الصاروخ «ديسكفرر ٨» عمليات ولوج مقبولة إلى المجال الجوي، غير أن مظلة كبسولته لم تفتح؛ فاصطدم بمياه المحيط وغاص فيه.
في تلك الأثناء، كان كوروليف يمضي قُدمًا في عمليات إطلاق الصاروخ «آر-٧» كصاروخ باليستي عابر للقارات؛ حيث كانت تُجرَى عملية إطلاقٍ تجريبية مرةً كل أسبوع في دلالةٍ واضحة على الاستعداد العسكري. وفي يناير ١٩٦٠، أطلق كوروليف صاروخَيْ «آر-٧» في مساراتٍ بعيدة المدى بلغت منتصف المحيط الهادئ، وأعلن الكرملين وقتَها عن جاهزية هذا الصاروخ. وخلال هذا الشهر أيضًا، أُجرِيت مناقشات في واشنطن استجابةً إلى تقديراتٍ استخباراتية جديدة، كانت تتوقَّع أن تمتلك موسكو ما يصل إلى ٤٥٠ صاروخًا باليستيًّا في منتصف عام ١٩٦٣؛ وهو ما كان يزيد بمقدار الضِّعف عن القوة التي كانت أمريكا تتوقَّعها، وهو أمر مخيف بما يكفي، لكن ما أثار الشكوك هو أن التقدير الأخير قدَّمَ أرقامًا أقلَّ كثيرًا عن التقديرات السابقة. وتساءل عضوا الكونجرس ستيوارت سايمونتن وليندون جونسون عن احتمالية أن تكون الأرقام التي قدَّمَها آيك مبالغًا فيها، في محاولةٍ منهما لتقليل التهديد الواضح خلال عامٍ انتخابي. وبَدَا من الضروري الحصول على صور جديدة من الصاروخ «يو-٢»، ووافَقَ آيك على رحلات الانطلاق.
ثم في أول مايو، أَسقَط صاروخ أرض جو القمرَ «يو-٢» قُرْب سفيردلوفسك، وأعرب خروتشوف — الذي كان يأمل أن يمتلك الاتحاد السوفييتي قمرًا كهذا — عن صدمته عندما اكتشف أن الأمريكيين كانوا يتجسسون عليه. وانسحب خروتشوف فجأةً من اجتماع كان مقرَّرًا مع آيزنهاور في باريس، وبعد افتضاح أمر القمر بما جعله معرَّضًا للإسقاط بواسطة الصواريخ السوفييتية، لم يُرسَل القمر «يو-٢» مجددًا في أية مهمة فوق الاتحاد السوفييتي؛ ومن ثَمَّ، لم يكن أمام بسل سوى الاعتماد على أقمار الاستطلاع فقط الموجودة لديه.
تبيَّنَ أن ثمة حلًّا لمشكلة الكاميرا. كان الفيلم يحتوي على قاعدة أسيتات، وكان يتعرَّض للتمزُّق أو الكسر عند وجوده في الفراغ؛ ممَّا يؤدي إلى تعطُّل الكاميرا وتوقُّفها عن العمل. ابتكرت شركة «إيستمان كوداك» قاعدة بوليستر، نجحت في التغلب على هذه المشكلة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت درجة الحرارة في الأقمار الصناعية تنخفض بشدة وتصير باردة للغاية؛ ممَّا يَحُول دون عمل البطاريات، ولكنَّ الطلاء الأسود ساعَدَ في امتصاص ضوء الشمس وجعلها أدفأ. ولضمان عدم إغفال أي شيءٍ، وضع بِسل مزيدًا من المعدات على متن مركبته، لتُرسِل بياناتٍ وتقارير عن تفاصيل الرحلة.
وحان بعد ذلك إطلاق المركبة التالية التي بلغت مدارًا، وهي «ديسكفرر ١١». عملت الكاميرات الموجودة على متن هذه المركبة، وكذلك البطاريات، على نحو جيد، لكنَّ الصواريخ الصغيرة المسئولة عن التحكم في الاتجاه — التي كان من المفترض أن توجِّه الصاروخ في الاتجاه الصحيح لمعاوَدة الولوج إلى المجال الجوي — لم تعمل، واختفت كبسولاتها إلى الأبد. استخدم بِسل الصواريخ بدلًا من المحركات النفاثة الغازية التي كانت تستخدم النيتروجين المضغوط وتخلَّصَ من معدات التصوير لإفساح المكان لوضع مزيدٍ من المعدات الأخرى.
في أغسطس، كان «ديسكفرر ١٣» هو الأوفر حظًّا. جهَّزَ موس ماثيسون طائرةً لسحب الصاروخ عن طريق الإمساك بمظلته، لكنَّ السُّحب الكثيفة حالت دون ذلك. ولكن الأمر مرَّ بسلام، فقد اصطدم الصاروخ بالماء وطفا على سطحه، ناقلًا إشارة لاسلكية، وأطلق صبغة فُسْتُقية اللون (ما بين الأصفر والأخضر)، وأومَضَ بضوءٍ كضوء الفلاش. وبعدها بثلاث ساعات، وصلت هليكوبتر على متن سفينة واستطاع أحد السبَّاحين استرجاعَ الصاروخ. وفي ضوء هذه النتيجة المُشجِّعة، سمح بسل بإطلاق «ديسكفرر ١٤» وعلى متنه الكاميرا الخاصة به. واستُرجِعت كبسولة «ديسكفرر ١٤» أيضًا بنجاح يوم ١٩ أغسطس، ولكن هذه المرة أثناء تحليقها في الهواء.
وسرعان ما وصلَ فيلم «ديسكفرر ١٤» إلى مركز تحليل الصور في وكالة الاستخبارات المركزية؛ حيث اجتمع محلِّلو الصور في صالة عرضٍ، وأخبرهم مدير المركز، آرثر لوندال، أنه سيحدِّثهم عن «شيءٍ جديد وعظيم حصلنا عليه هنا»، ثم عرَضَ نائبه خريطةً للاتحاد السوفييتي. وكانت هذه الخرائط تعرض في السابق خطًّا رفيعًا وحيدًا للإشارة إلى مسار أحد أقمار «يو-٢»، أمَّا الخريطة المعروضة هذه المرة، فكانت تعرض ثمانية خطوط عريضة تمر من الشمال إلى الجنوب عبر الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا؛ حيث تغطي ما يربو عن خُمْس المساحة الإجمالية. وهذه الخطوط كانت تمثِّل المناطق التي التقط هذا القمر صورًا لها، فأطلق الجميع صيحاتٍ حماسية مدوية. وبَدَتْ بعضُ الصور ضبابيةً بسبب الشحنات الكهروستاتيكية، لكنَّ دقة الوضوح كانت تتراوح بين عشرين وثلاثين قدمًا، وهي نسبة وصفها المحلِّلون بأنها تماثِل النطاق «جيد إلى جيد جدًّا». ولا شكَّ أنها كانت نقطة تحوُّل هائلة.
كانت ثمة لحظات أخرى من خيبة الأمل، بما فيها خيبة الأمل الكبرى التي حدثت في شهر سبتمبر عندما رصدَتْ طائرة كبسولة الصاروخ «ديسكفرر ١٥» أثناء طفوها في المحيط، ثم تعرُّضها للغرق وسط الأمواج العاصفة قبل التمكُّن من استرجاعها. لكن في الرحلة التالية، شرع بِسل في استخدام صاروخ المرحلة الثانية «أجينا بي»، الذي كان أطول من الصاروخ السابق بسبع أقدام، وأدخَلَ تطويراتٍ على «ديسكفرر» لزيادة حجمه وقوته؛ ونتيجةً لذلك، نجح الصاروخ «ديسكفرر ١٨» الذي أطلقته وكالة الاستخبارات المركزية في مهمته التي استغرقَتْ ثلاثة أيام في ديسمبر. وكانت الصور التي التقطها تضاهي في جودتها أفضل الصور التي التقطها «ديسكفرر ١٤»، وتضاءلَتْ ضبابيةُ الصور إلى حدٍّ كبير.
تولى الرئيس كينيدي مهام منصبه في يناير ١٩٦١، وكان قد أطلق عدة حملات حول قضية الفجوة الصاروخية. وكان نائب وزير دفاعه، روزويل جيلباتريك، مؤمنًا بهذه القضية بشدة؛ لذا، بعد أن تولَّى جيلباتريك مهامَّ منصبه، ذهب ورئيسه — وزير الدفاع روبرت ماكنامارا — إلى مكتب الاستخبارات في القوات الجوية في الدور الرابع من مبنى البنتاجون، وعكفا على دراسة صور «ديسكفرر» على مدى عدة أيام.
كانت القوات الجوية ترى أن موسكو تبني أعدادًا كبيرة من مواقع الصواريخ المُخفاة جيدًا، وكان من بين القواعد المُخفاة المفترضة نُصُب تذكاري لشهداء حرب القرم، وبرج يعود إلى القرون الوسطى. ولكن، فضَّلَ ماكنامارا وجلباتريك الأخذ بوجهة نظر مكتب استخبارات الجيش، الذي كان يرى أنه نظرًا لضخامة الصاروخ «آر-٧» وقوته، فلا يمكن نقله إلا عن طريق خط سكة حديد أو طريق عسكري. وكانت صواريخ «ديسكفرر» قد التقطت صورًا بطول خطوط السكك الحديدية في الاتحاد السوفييتي والطرق السريعة الرئيسية، ولم تكتشف أيَّ منصات إطلاق. وفي فبراير، في مؤتمر صحفي لم يكن مُصرَّحًا بتداوُل وقائعه، أثار أحد الصحفيين مسألةَ الفجوة الصاروخية، وأجاب ماكنامارا بأنه «لا توجد أي أدلة سوفييتية تشير إلى بناء صواريخ باليستية عابرة للقارات». وأسرع الصحفيون إلى هواتفهم، وامتلأت صفحات الصحف بالتصريح بعدم وجود فجوة صاروخية، واضطرَّ كينيدي نفسه أن يتدخَّل، مُعلِنًا أنه من المبكر للغاية استخلاص نتائج كتلك.
خلال فصلي الربيع والصيف، وصلت معلومات جديدة ومثيرة من الفضاء ومن جاسوس في موسكو يُدعَى أولج بنكوفسكي. كان بنكوفسكي برتبة كولونيل في إدارة الاستخبارات المركزية في الجيش السوفييتي، قبل أن يبدأ العمل مؤخرًا لصالح وكالة الاستخبارات البريطانية «إم آي-٦»، وكان قد عرض من قبلُ تقديمَ خدماته على وكالة الاستخبارات المركزية، لكن قُوبِل عرضه بالرفض شكًّا في كونه عميلًا مزدوجًا، لكن سرعان ما هدَّأَتْ صلاته بالاستخبارات البريطانية من الشكوك الأمريكية. وخُصِّص ضابطٌ في وكالة الاستخبارات المركزية لتولِّي أموره وحصل على اسم حركي، هو أليكس (لا كاردينال، مثلما في روايات توم كلانسي)، وتلقَّى طلبًا بتقديم تقرير حول برنامج الصواريخ السوفييتية.
في مايو ١٩٦١، أرسل بنكوفسكي ثلاثةَ رولات من الميكروفيلم كانت تتضمَّن معلومات فنية حول الصاروخ «آر-٧»، وتقريرًا حول الجداول الزمنية لإطلاقه وجداول تأخير عمليات الإطلاق، ومحاضر اجتماعات الكرملين التي كان المسئولون قد قرَّروا فيها استخدامَ الصاروخ «آر-٧» في بعثاتٍ فضائية، لا نشره كصاروخ باليستي عابر للقارات. ولم يكن الصاروخ «آر-٧» كبيرًا وثقيلًا فقط، بل كانت منشآت إطلاقه عرضةً للهجوم بدرجة عالية، وكان كلُّ صاروخ يحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات لتزويده بالوقود والانتهاء من إعداده للإطلاق. كان القادة السوفييت يتوقَّعون الحفاظَ على سرِّيَّةِ مواقع الصاروخ «آر-٧»، للحيلولة دون قصفها، لكنهم كانوا يدركون تمامًا أن بعثات أقمار «ديسكفرر» فوق أراضيهم جعلت هذا أمرًا مستحيلًا. وكان السوفييت يطورون صاروخًا باليستيًّا جديدًا عابرًا للقارات، هو الصاروخ «آر-١٦»، الذي كان يستخدم أنواعًا من الوقود قابلةً للتخزين ويمكن نشره في صوامع، ولا يستغرق أكثر من ثلاثين دقيقة لإعداده للإطلاق. ولكن، كان «آر-١٦» لا يزال في مرحلة الاختبار، بينما كان لا يزال ثمة بعض الوقت لاستخدامه فعليًّا.
ثم في شهرَيْ يونيو ويوليو، انطلق القمران «ديسكفرر ٢٥» و«ديسكفرر ٢٦» في مداريهما بنجاح، ولم تكن مهمَّتا هذين القمرين سوى المهمتين الثالثة والرابعة اللتين تعودان محمَّلَتين بصور ذات قيمة استخباراتية، لكن قدَّمَتْ هذه البعثات الأربع مجتمِعةً تغطيةً مفيدة لمساحةٍ بلغت ثلاثة عشر مليون ميلٍ مربعٍ تقريبًا، وهو ما كان يشمل أكثر من نصف المناطق الأصلح لنشر صواريخ باليستية عابرة للقارات.
تقع القوة السوفييتية الحالية في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بحسب تقديراتنا الأخيرة، في نطاقٍ يتراوح ما بين ١٠ و٢٥ منصةَ إطلاقٍ يمكن إطلاق قذائف صواريخ من خلالها في اتجاه الولايات المتحدة، ولن يشهد مستوى القوة هذا زيادةً كبيرة خلال الأشهر المقبلة.
من الواضح أن الأمريكيين هم مَنْ كانوا متقدمين في سباق الصواريخ وليس الروس. بالإضافة إلى ذلك، كان آيزنهاور قد التزم باتباع أسلوب قديم، وهو أسلوب كانت أمريكا قد استخدمته منذ أيام الحرب الأهلية، لصدِّ التحدي العسكري السوفييتي؛ وكان هذا الأسلوب يتمثل في الاعتراف بقوة العدو المبدئية، مع استخدام القوة المتاحة لحماية البلاد. ثم، من خلال الحماية التي يوفرها هذا الدرع، كانت البلاد تعبِّئ مواردَ صناعيةً وفنية هائلة، لا قِبَلَ لبلادٍ أخرى أن تضاهيها أو حتى تحاوِل أن تضاهيها، لبناء أسلحة تحقِّق لها السيادة.
بهذه الطريقة، نجح الاتحاديون في هزيمة الكونفيدراليين في أول حرب صناعية في العالم. وفي الحرب العالمية الأولى صارت الولايات المتحدة مستودعًا وترسانة ومصدرًا هائلًا لقروض الحرب، ومن ثَمَّ دعمت جهود بريطانيا وفرنسا عندما خذلتهما قواهما. وقال سيد المعارك الحربية الألمانية، المارشال بول فون هندنبورج، عن الأمريكيين: «لقد فطنوا الحرب وفهموها». وفي عام ١٩٤٣، التقى ستالين بروزفلت وشربَا معًا في نخب: «الإنتاج الأمريكي، الذي من دونه كانوا سيخسرون هذه الحرب.»
في مواجهة التحدِّي الأخير، كان آيك قد أحدث ثورةً في عملية التسليح مُخرِجًا القوات الاستراتيجية للبلاد من ظلال الحرب العالمية الثانية إلى صورةٍ ندركها جميعًا اليومَ. وعندما تولَّى مهام منصبه عام ١٩٥٣، كانت القوات الجوية تعتمد على القاذفات التي كانت تستخدِم المكابس، بينما كانت القوات البحرية لا تزال تستخدم السفن التي استخدمتها في حرب المحيط الهادئ. وفي عام ١٩٦١ امتلكت القيادة الجوية الاستراتيجية القنبلة الهيدروجينية، بعدما توافرت أكثر من ١٥٠٠ طائرة قاذفة نفاثة تستطيع حملها. وتصدَّرَتْ أقمارُ الاستطلاع وحاملات الطائرات الكبرى والغواصات النووية قائمةَ الأولويات. كان الصاروخ «ثور» قد بلغ ما وراء البحار، وكان «أطلس» جاهزًا، وأبحرت غواصة «جورج واشنطن»، التي كانت تحمل ستة عشر صاروخًا من طراز «بولاريس»، في أول مهمة قتالية في نوفمبر ١٩٦٠. وفي غضون أقل من أسبوعين بعد دخول كينيدي البيت الأبيض، بلغ الصاروخ «مينتمان» الثلاثي المراحل مداه الكامل انطلاقًا من موقع كيب كانافيرال، من أول محاولة إطلاق. وبحلول عام ١٩٦٧، نشرت البحرية إحدى وأربعين غواصةً من هذا النوع، بينما كان من المقرَّر أن تنشر ألفَ صومعةٍ لإطلاق صواريخ «مينتمان» في منطقة السهول العظمى الشمالية.
لكن، عندما صدر تقرير مجلس الأمن القومي ١١–٨ / ١–٦١، وهو ما كان يمثِّل بيانًا صادرًا بإجماع الآراء عن المجتمع الاستخباراتي، وعندما ثبت ضعف السوفييت وعدم قوتهم، لم يكن ثمة احتفالٌ على المستوى القومي. وكذلك لم يشهد ميدان تايمز أي أجواءٍ احتفالية. وعلى أية حال، صُنِّف التقرير باعتباره سرِّيًّا للغاية، ولم يُسمَح لأحد بالاطلاع عليه إلا مَن حصلوا على تصاريح أمنية للاطلاع على صور القمرين «يو-٢» و«ديسكفرر». وبالنسبة إلى الآخرين، وهو ما كان يشمل الجميع تقريبًا، كان سباق الفضاء لا يزال ينذر بخطر موسكو الماثِل. وفي مجال الفضاء كان الروس في المقدمة؛ حيث كانوا قد استكشفوا القمر وأرسلوا أول روَّاد إلى مدار فضائي.