مستقبل الفضاء الواعِد في الصعود إلى القمر
على الرغم من أن مشروعات كوروليف الفضائية كانت تخدم أهدافًا مدنية مثل السياسة والعلوم، فإن مصدر تمويلها كان وزارة الدفاع. كان كوروليف يسعى إلى اتخاذ مبادراتٍ جديدة، مُرسِلًا مركبةً فضائية غير مأهولة إلى القمر وروَّادًا في بعثاتٍ لبلوغ مدارات فضائية، من خلال بناء صواريخ أكثر قوةً من طراز «آر-٧»؛ لكن لتطوير هذه الصواريخ، كان عليه أن يشير إلى استخداماتها العسكرية. لحُسْن الحظ، لم يكن هذا أمرًا صعبًا؛ إذ استطاع كوروليف أن يبني أقمارَ استطلاعٍ كانت تماثل أقمار «يو-٢» الأمريكية. استطاع أيضًا أن يقدِّم طريقة جديدة لتوصيل الأسلحة النووية، وذلك من خلال إطلاقها في مدارٍ ثم استخدام صاروخ ارتكاسي كابح لإلقاء كل قنبلة من مدارها الفضائي لتسقط على الهدف المحدد لها؛ ومن ثمَّ تستطيع الرأس الحربية بعد ذلك الاقتراب من الولايات المتحدة من أي اتجاه وتوجيه ضربة دون سابق إنذار.
لتنفيذ ذلك، احتاج كوروليف إلى صاروخ مرحلة عليا يُوضَع أعلى الصاروخ «آر-٧» الأساسي. فمثلما قَبِلَ بمقترح تيخونرافوف لإطلاق القمر البسيط طراز «بي إس» باسم «سبوتنيك ١»، احتاج أيضًا إلى مركبة فضائية على قدر مماثل من البساطة لتكون بمنزلة حمولة أوَّلية لصاروخ المرحلة العليا؛ واستطاع بذلك خدمةَ القضايا العلمية والأغراض الدعائية واستكشاف الفضاء، واستطاع في الوقت نفسه إسعاد خروتشوف، من خلال بناء الحمولة كمركبة فضائية لا تزيد في تعقيدها عن القمر «بي إس»، وإطلاقها إلى القمر. ومثلما أكَّد في صحيفة «برافدا» في ديسمبر ١٩٥٧: «إنَّ بلوغ القمر عن طريق صاروخ، يجري إطلاقه من الأرض، أمرٌ ممكن من الناحية الفنية حتى الآن.»
تعاوَنَ كوروليف بعد ذلك مع عالِم الرياضيات مستيسلاف كلديش لإعداد مقترح رسمي، وضعَا خطوطَه العريضة في خطابٍ أرسلاه إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بنهاية شهر يناير ١٩٥٨. كان من المقرَّر أن يبدآ باقتراح إطلاق مركبةٍ بسيطة تلامِس سطحَ القمر، حامِلةً مقياسًا مغناطيسيًّا فضلًا عن أجهزة كشْفِ الأشعة الكونية والنيازك. لكنْ، تقرَّرَ لاحقًا إرسال بعثة فضائية حول الجانب البعيد غير المرئي للقمر، تلتقط صورًا باستخدام كاميرا تليفزيونية وترسلها إلى الأرض.
حاز الاقتراحُ الموافَقةَ سريعًا، وأخبر كوروليف طاقم عمله: «أيُّها الرفاق، تلقَّيْنا أمرًا من الحكومة بإرسال شعار النبالة السوفييتي إلى القمر. أمامنا عامان لنفعل ذلك.» بدأ بإقامة مشروعَين منفصلين لبناء المرحلة العليا، متوقِّعًا أن تدفع المنافسةُ كلَّ مجموعة لبذل مزيدٍ من الجهد. بالإضافة إلى ذلك، أعرَبَ عن رغبته في أن يكون محركُ المرحلة العليا من الصاروخ جاهزًا خلال تسعة أشهر فقط؛ ومن ثَمَّ، تمكَّنَ من تنفيذ عمليات الإطلاق الأولى في خريف ١٩٥٨، ولم يكن قد مضى عامٌ على تاريخِ إطلاق «سبوتنيك ١».
أرغم كوروليف نفسه مثلما أرغم الجميع على العمل وفْقَ إيقاع سريع لا هوادةَ فيه. لم يكن الاتحاد السوفييتي قد وضَعَ عطلةَ نهاية الأسبوع بعدُ؛ فكان أسبوع العمل المكوَّن من ستة أيام لا يزال هو النظام التقليدي المُطبَّق. مع ذلك، استغل كوروليف أيامَ الآحاد لعقد اجتماعات مع فريق العمل لا تتخلَّلها أيُّ مكالمات هاتفية أو مقاطعاتٍ للنظر في مشكلات روتينية معتادة؛ بالإضافة إلى ذلك، فرض كوروليف قاعدة على معاونيه بألا يستقلُّوا الطائرات إلا ليلًا عند الانتقال إلى تيوراتام. على حدِّ تعبير أحد زملائه، ويُدعَى بوريس راوشنباخ: «لم يكن كوروليف يتصوَّر إهدارَ يومِ عملٍ في الانتقال من الموقع إلى المحطة. كان يرى أن ليلةً لا نومَ فيها تقريبًا، في مقعد طائرة، كافيةٌ للراحة.»
في الواقع، لم يكن تطوير المرحلة العليا يتيح وقتًا للراحة، ودامَت الحال كذلك لفترة من الوقت. لم تكن المهمة في حد ذاتها جديدةً، بَيْدَ أنها أظهرت عددًا من المشكلات الفنية الجديدة؛ إذ كان يجب أن تقاوِم المرحلةُ العليا الارتجاجَ والاهتزاز الشديدين في الرحلة أعلى صاروخها المعزِّز، ثم تُحلِّق عاليًا في السماء، حيث لا يوجد أيُّ طاقمِ إطلاقٍ لمعالجة أي عطب أو مشكلة. لتيسير المشكلة قليلًا، تقرَّرَ توصيلُ المرحلة العليا بالصاروخ «آر-٧» من خلال شبكة مفتوحة؛ وعندئذٍ أمكن بدءُ تشغيل المحرك قبل أن تبدأ قوة دفع الصاروخ المعزِّز في التضاؤُل، بينما يتسرَّب عادم المحرك عبر الشبكة، وهو ما جعل تفادي مشكلة إطلاق المرحلة العليا في ظل انعدام الجاذبية ممكنًا. لكنَّ تصميمَ أيِّ صاروخ كان ينطوي على مشكلاتٍ أخرى كثيرة، أصعب في تجنُّبها.
ترأَّسَ فالنتين جلشكو، مصمِّم محركات الصاروخ «آر-٧»، إحدى مجموعتَيْ تصميمِ المرحلة العليا، وكان نظيره في المجموعة الثانية مصمِّمًا مبتدئًا يُدعَى سميون كوزبِرج. كانت لدى كوزبِرج خبرةٌ محدودة في مجال الصواريخ؛ إذ كان قد قضى الخمسة عشر عامًا الأخيرة في تصميم المحركات النفاثة للطائرات، لكن في عام ١٩٥٦، أثناء عمله في فورونِزه، بنى كوزبِرج محرك صاروخ يُعاد تشغيله أثناء التحليق، واختبره بنجاح. كانت مشكلات إعادة تشغيل هذا المحرك مشابهة للغاية لمشكلات تشغيل محرك صاروخ مرحلةٍ عليا، ووجَّهَ كوروليف توجيهاتٍ رسميةً إلى كوزبِرج لبناء المرحلة العليا في فبراير ١٩٥٨، بعد أسبوعين فقط من إرسال خطابه إلى اللجنة المركزية. واتضح أن هذا القرار كان صائبًا؛ إذ إنه في الوقت الذي كانت جهودُ جلشكو قد بدأت تتداعى وتتعثر شيئًا فشيئًا، جاء كوزبِرج، الوافِد الجديد، في قوةٍ.
أثناء ذلك، في لوس أنجلوس، كان الجنرال شريفر يمهِّد الطريق أمام الصاروخ «ثور» ليكون بمنزلة صاروخ منافس يصعد إلى القمر. في البداية، كان مشغولًا بتطوير المقدمة المخروطية للصاروخ «أطلس»، ولم تكن الصواريخ المتوافرة لإجراء اختبارات الإطلاق ملائمةً. كان الصاروخ «إكس-١٧» والصاروخ «جوبيتر-سي» التابع للجيش يحملان مقدماتٍ مخروطية صغيرة لصواريخ باليستية متوسطة المدى، وكان الصاروخ «جوبيتر» يتطلَّب إجراءَ اختباراتٍ على نموذج كامل. أما فيما يتعلق بالصاروخ «أطلس»، كان شريفر يبحث عن طريقةٍ لإطلاق مقدمة مخروطية لمسافة ٥٠٠٠ ميل كاملة أو أكثر، واستطاع عمل ذلك من خلال وضع صاروخ مرحلة عليا أعلى الصاروخ «ثور»، وأوصى كبارَ المديرين في «إيروجت» باستخدام صاروخ المرحلة الثانية من طراز «فانجارد»، الذي كانوا يبنونه. قبل عيد الشكر مباشَرةً في عام ١٩٥٧، وافَقَ شريفر على بناء هذا الصاروخ المكوَّن من صاروخين مرحليين لإجراء اختباراتٍ على المقدمات المخروطية، وذلك من خلال استبعاد بعض نماذج الصاروخ «ثور» التقليدية من خط الإنتاج.
كان الصاروخ، الذي أطلقوا عليه اسم «ثور-إيبُل»، يمثِّل بدايةَ جهودِ تزويدِ الصاروخ «ثور» بصواريخ مرحلية عليا ذات قدراتٍ متزايدة؛ وهو ما جعله الصاروخ الرئيسي الأكثر استخدامًا في البلاد في مجال الفضاء. في مؤسسة «راند»، كان الباحثون يقدمون مقترحات لاستخدام الصاروخ «ثور-إيبُل» لإطلاق قمر استطلاع مبكر. وفي النهاية، كان هذا الصاروخ أشبه باستخدام الصاروخ «فانجارد» متضمنًا الصاروخ «ثور» كصاروخ مرحلة أولى، وهو مزيج تمكَّنَ بالتأكيد من إطلاق أكثر من مجرد ثمرة جريب فروت. كان الصاروخ «ثور-إيبُل» مكملًا للصاروخ «ثور-أجينا»، وهو نموذج تطوير منفصل، يتضمن صاروخ مرحلة ثانية من شركة «لوكهيد»، وكان يحمل أقمار «ديسكفرر».
عقب عيد الشكر مباشَرةً في عام ١٩٥٧، زار وفدٌ من شركة «رامو وولدريدج» شركةَ «مارتن» في بالتيمور، التي كانت تبني صواريخ «فانجارد» الكاملة. أراد الوفد أن يشتري بعض صواريخ المرحلة الثانية، لكنه اكتشف أنها جميعًا محجوزةٌ لسلاح البحرية. مع ذلك، كانت «إيروجت» مستعدة تمامًا لبيع صاروخ المرحلة الثانية الذي لم يكن يتضمن سوى المحرك وخزانات الوقود الدفعي. كان هذا الصاروخ يتطلَّب نظامَ توجيهٍ، بَيْدَ أن شركة «رامو وولدريدج» كانت لديها مجموعة مختصة بتصميم نُظُم التوجيه برئاسة جيمس فلتشر، واستطاعت هذه المجموعة إعدادَ نظامِ التوجيه الخاص بها داخلَ الشركة، من خلال تعديل نظام الملاحة الآلية في الصاروخ «ثور». أقامت المجموعة ورشةَ إنشاءاتٍ ميكانيكية في إحدى حظائر الطائرات في مطار لوس أنجلوس، ثم مضت في إجراء الاختبارات على صاروخها التجريبي ذي المقدمة المخروطية.
في تلك الأثناء، في واشنطن، أفضَتْ صدمةُ إطلاقِ أول قمرين من طراز «سبوتنيك» إلى سَيْلٍ من المقترحات حول عددٍ من المشروعات الفضائية؛ قال أحد الأدميرالات لاحقًا: «بَدَا الأمر لي كما لو أن كلَّ مَنْ في البلاد تقدَّمَ بمقترح إلا محلات فاني فارمر كاندي، وكنتُ أتوقَّع أن يتقدَّموا بمقترح في أي وقت.» سعى ويليام بيكرنج جاهدًا، بوصفه رئيس مختبر الدفع النفاث، لإقامة مشروع لإطلاق مركبة فضائية سريعًا إلى القمر، وسُمِّي المشروع باسم مشروع «الجوارب الحمراء». في شركة «رامو وولدريدج»، أظهرت العمليات الحسابية التي أجراها أحد مهندسي فلتشر أن الصاروخ «ثور-إيبُل»، الذي كان يحمل صاروخ المرحلة الثالثة طراز «فانجارد»، كان بإمكانه أيضًا إطلاق أحمالٍ إلى القمر. أدلَتْ مؤسسةُ راند بدَلْوها من خلال تقريرها، الذي ذكرت فيه أن القوات الجوية بإمكانها فعليًّا تنفيذ مهمةٍ كتلك.
في البيت الأبيض، كان جيمس كيليان يشغل منصب كبير مستشاري آيزنهاور لشئون الصواريخ والفضاء. في يناير ١٩٥٨، تقدَّمَ كيليان إلى شركة «رامو وولدريدج» وتلقَّى تعليماتٍ موجزة وشرحًا مختصرًا لمهمة إرسال صاروخٍ إلى القمر؛ قال: «قدِّموا مقترحًا وسنشرع في التنفيذ.» بعد جلسةٍ استمرَّتْ طوالَ الليل، كان المقترح جاهزًا، وعلى الرغم من أنه لم يكن يزيد عن ثلاثين صفحة، فإنه كان كافيًا. دعا المُقترح إلى ما هو أكثر من مجرد عملية إطلاقٍ بسيطة إلى القمر؛ إذ كانت المركبة الفضائية ستحمل صاروخ جو-جو يعمل بالوقود الصلب من فالكون، وتستخدمه كصاروخ ارتكاسي كابح لوضع المركبة في مدار حول القمر.
كان من المقرَّر أن تدير هيئةُ المشروعات البحثية المتطورة هذه العملية. كان لدى الهيئة طاقم صغير، يقارب ثمانين شخصًا، بما في ذلك موظفو السكرتارية ومجموعة منتقاة من الاختصاصيين اختيروا من ثلاثة أسلحة عسكرية. أصدر مدير الهيئة، روي جونسون، أمرَ الهيئةِ الأولَ إلى الجيش، معطيًا تعليماته إلى فون براون بتصميم صاروخ في إطار مشروع «الجوارب الحمراء». ثم صدر الأمر الثاني إلى القوات الجوية، والذي طالَبَ شريفر بالانضمام إلى سباق إرسال رحلاتٍ إلى القمر. في أواخر شهر مارس، أصدَرَ آيك بيانًا عامًّا، قال فيه: «هذا ليس خيالًا علميًّا؛ هذا عرضٌ تقديمي معقول وواقعي أعَدَّه علماء رائدون.»
كان القمر الصناعي الأمريكي الأول قد بلغ مداره قبل أقل من شهرين، بَيْدَ أن الرئيس كان قد ألزَمَ البلاد بالدخول في سباقٍ مع السوفييت للصعود إلى القمر. لم تكن عملية إطلاق مركبة فضائية إلى القمر ستجرى، على طريقة كينيدي، «قبل نهاية هذا العقد»؛ بل، إذا سارت الأمور على ما يرام، فإن البلاد كانت ستُطلِق مركبةً فضائية في مدارٍ حول القمر قبل انتهاء الصيف.
خلال تلك الأشهر القليلة، كان على طاقم العمل لدى دان بناء مركبة الإطلاق ذات المراحل الثلاث، في وقتٍ لم يكن الصاروخ «ثور-إيبُل» ذو المرحلتين قد انطلق بعدُ. كان على طاقم العمل تصميم المركبة الفضائية القمرية وبناؤها، وكان عليهم أيضًا إنشاء شبكة في كل أنحاء العالم من المحطات الأرضية، لتتبُّع المركبة الفضائية أثناء رحلتها. كان عليهم أن ينفذوا معظم العمليات الحسابية باستخدام مساطر حاسبة. وكان جهاز الكمبيوتر الوحيد المتوافر لديهم عبارة عن كمبيوتر «آي بي إم طراز ٧٠٤» ذي أنبوب مُفرَّغ، لا تزيد قدرته الحسابية عن قدرة آلة حاسبة صغيرة من الآلات المُستخدَمة اليومَ.
لم يكن أحدٌ يعرف متى سيضرب الروس ضربتهم التالية؛ لذا كانت السرعة مسألة ضرورية. في تلك الأثناء، لم يكن لديهم متسعٌ من الوقت لعقد اجتماعات طويلة للِّجان. كان مدير المشروع، جورج مولر، مستعِدًّا لاتخاذ قرارات عاجلة، وأبقى بابَه مفتوحًا لكلِّ مَن يريد أن يتقدَّم باقتراحاتٍ. قبل شهر تقريبًا من إجراء عملية الإطلاق الأولى، تقدَّمَ أحدُ أفراد طواقم العمل باقتراح أنه لزيادة دقة إصابة الهدف يمكن استخدام نظام تتبُّع يعتمد على الإشارات اللاسلكية لتحديد سرعة صاروخ المرحلة الثانية بدقة عالية، ثم إرسال إشارة في اللحظة المناسبة لفصل المحرك وإيقافه عن العمل. كان بديلُ ذلك هو تزويد صاروخ تلك المرحلة بكمياتٍ محسوبة من الوقود، والسماح لمحركه بالعمل حتى يحترق الوقود عن آخِره.
يتذكر جورج جلجهورن، الذي كان مسئولًا عن صاروخ المرحلة الثانية، ذلك قائلًا: «أجرينا عملية حسابية شديدة البساطة.» أظهرت العملية الحسابية أن هذا الأسلوب يوفر قدرًا أكبر من الدقة في حقيقة الأمر. واستطرد قائلًا: «لم يُدرَس الأمر باستفاضة. قدَّمْنا نتيجةَ العملية الحسابية إلى مولر، الذي قال: «حسنًا. ابدءوا في بنائه.» عثرنا على مهندس، وأخبرناه أن يصمِّم جهاز الاستقبال، فتولَّى تصميمَه وبناءه، ثم نقلنا الجهازَ إلى موقع كيب ووضعناه في صاروخ المرحلة الثانية.»
في موسكو، كان إيقاع العمل مشابهًا، فقد ظلَّ كوروليف — مثل مولر — يتابع البعثة عن كثبٍ. ظهرت مشكلات في لحام خزانات صاروخ المرحلة العليا، وسرعان ما ألقى مهندسو الإنتاج باللائمة على المصمِّمين. استدعى كوروليف الجميع لعقد اجتماع؛ حيث نظر إليهم بحدَّة قائلًا لهم: «حسنًا، ماذا حدث؟ هل من أحد يخبرني بما يحدث ها هنا؟ هل تدركون عواقب أي تأخير؟»
بعدها بأسبوع كان جهاز اللحام يعمل كما ينبغي، وجرى تجميع أجزاء خزانات الوقود بالكامل. لكن، على الرغم من أن كوروليف كان يسابق الزمن بأقصى سرعةٍ، كان الأمريكيون يسبقونه إلى منصة الإطلاق. في أبريل ١٩٥٨، بدأت عملياتُ الإطلاق المبدئية للصاروخ «ثور-إيبُل»، التي كانت تتضمَّن اختبارَ المقدمات المخروطية. لم تكد عملية الاختبار الأولى تنتهي حتى توقَّفَ المحرك قبلَها بعشر ثوانٍ؛ إذ تعطَّلَتْ إحدى المضخات التوربينية عن العمل وأدَّتْ إلى توقُّف المحرك. لكن، نجحت عمليتا إطلاقٍ في يوليو بلغَتْ خلالهما المقدماتُ الصاروخية المسافةَ المطلوبة على ارتفاع ٦١٠٠ ميل أولًا، ثم على ارتفاع ٦٣٠٠ ميل.
كانت هذه أولى رحلات أمريكا في المدى العابر للقارات. أثبتَتْ عمليات الإطلاق هذه أن المقدمات المخروطية القابلة للانفصال عند درجات الحرارة العالية، التي كانت أقلَّ وزنًا بكثيرٍ من المقدمات النحاسية، قادرةً على تلبية احتياجات الصاروخ «أطلس». مع ذلك، لم يتسنَّ للقائمين على تلك الرحلات العثورُ على المقدمات المخروطية التجريبية أو استرجاعها، وهو ما كان يُنذِر بمصير سيئ للفئران التي كانت على متنها. كانت الرحلات الثلاث تحمل «فأرًا في إيبُل»، لكنها جميعًا لاقَتْ مصيرَ الكلبة «لايكا». على حد تعبير الممثل الساخر بيل دانا، الذي أطلق على نفسه اسم خوسيه خيمنيز: «أغلقوا الباب … على ذلك الفأر الصغير … لا أريد أن أتحدَّث عن الأمر!»
على الرغم من ذلك، بدا أن الرحلات الناجحة في شهر يوليو قد أهَّلَتِ الصاروخ «ثور-إيبُل» لبعثة الانطلاق إلى القمر، وانطلق الصاروخ الأول إلى القمر من موقع كيب كانافيرال بعد شروق الشمس مباشَرةً في ١٧ أغسطس. حقَّقَتْ شبكة «إن بي سي» التليفزيونية سبقًا فضائيًّا ثانيًا بتغطية هذا الحدث، وتولِّي مذيع الأخبار هربرت كابلو التعليقَ عليه. ارتفع الصاروخ عن منصة الإطلاق، وخرج مَنْ كانوا في برج المراقبة للحصول على رؤية أفضل؛ ثم، بعد مرور سبعٍ وسبعين ثانيةً على الإطلاق، رأوا الصاروخ يختفي في السماء وسط حفنة من الدخان.
كان الجنرال شريفر من بين المراقبين، فاستدار إلى دولف ثيل، مدير البرنامج في شركة «رامو وولدريدج»، وسأله قائلًا: «ماذا حدث؟» أجاب ثيل: «انفجر، انفجر.» ثم جرت دمعة على وجهه. انضمَّ لويس دان إليهما، وكان يبدو محبطًا للغاية. وعبَّرَ ألين دونوفان، المديرُ المسئول عن مركبة السَّبْر القمرية، عمَّا شعر به وقتَها بقوله: «شعرتُ بخيبة أمل بالغة، وارتسمَتْ على وجهي علامات الإحباط الشديد. كنتُ في حالة صدمة بالغة.»
استعاد الغوَّاصون حطامَ الصاروخ، الذي كان قد سقط في المحيط على مسافة بعيدة من الشاطئ، وأُعيد المحرك الرئيسي إلى «روكيت داين» لفحصه جيدًا. كانت المشكلة تتعلَّق بالمضخة التوربينية. وللمفارقة، كانت دان وثيل وشريفر على درايةٍ تامةٍ بتلك المشكلة. كان الصاروخ «جوبيتر» التابع للجيش يستخدم المحرك نفسه، وكان الجنرال السابق مداريس قد أصدَرَ أمرًا بوقف كل اختبارات الإطلاق؛ نظرًا لأنه اتضح أن دعامات المضخة التوربينية قابلة للكسر، كان شريفر يتلقَّى آنذاك عددًا من صواريخ «ثور» التي كانت جاهزةً للإطلاق، وكان يعلم أنه في حال انتظاره إلى حين الانتهاء من تصميم محركات جديدة؛ فهو يؤخِّر بذلك برنامجَ عمليات الإطلاق التجريبية. كان معدل ظهور تلك المشكلة مرةً كلَّ سبع عملياتِ إطلاقٍ؛ لذا قام شريفر بمخاطرة محسوبة؛ حيث قرَّرَ إطلاق «ثور» بغرض الحصول على بياناتٍ مفيدة كان سيعود بها إذا تمت عملية الإطلاق على النحو الصحيح، بينما كان يدرك أن بعض نماذج صواريخ «ثور» لن تفلح في الإطلاق؛ ومن ثَمَّ، كان انفجار الصاروخ في السماء أمرًا خارجًا عن نطاق السيطرة.
لكن على حدِّ تعبير ثيل: «ما يشغلنا كثيرًا هو العمل على إطلاق صاروخ جديد قريبًا جدًّا؛ لذا، هَلُّموا يا رفاق، دعونا نبدأ العمل.» سنحت الفرصة التالية بعدها بثمانية أسابيع، قُبَيْل يوم كولومبس مباشَرةً. في هذه المرة، اقتربوا كثيرًا من إحراز النجاح، حتى إن الجميع استشعر مذاقَه.
جرت عملية الإطلاق بعد منتصف الليل ببضع ساعات؛ أضاء الصاروخ «ثور» منطقة الإطلاق لوهلة من خلال الضوء الأبيض الساطع لعادمه، ثم خلَّفَ شعاعًا منحنيًا برَّاقًا مع صعوده، ثم بدأ يحلِّق في اتجاه المسار. بدأَتْ جميعُ محركات صواريخ المراحل الثلاث في العمل، بينما تخلَّى عددٌ من طاقم الإطلاق عن تحفُّظهم الحَذِر وانتابتهم موجةُ فرحٍ عارمة. لكن، يتذكَّر ريتشارد بوتن، الذي كان مسئولًا عن عملية التتبُّع، قائلًا: «ربما لم يمر أكثر من خمس دقائق على عملية الانطلاق حتى اكتشفنا وجود مشكلة.» لم يتمكَّن صاروخ المرحلة الثالثة من الانفصال عن الصاروخ الرئيسي على نحوٍ سليم؛ إذ ظلَّ معلقًا للحظة ثم انحرف عن الاتجاه الصحيح؛ وهو ما أدَّى إلى خروج الصاروخ سريعًا عن المسار؛ ومن ثمَّ أسفرت عنه عملية تحليق غير دقيقة وانخفاض شديد في مستوى السرعة.
احتاجت المركبة الفضائية «بايونير ١» إلى سرعة ٢٤١٠٠ ميل في الساعة لبلوغ القمر، إلا أن هذه السرعة تضاءلت إلى أقل من ٥٠٠ ميل في الساعة. مع ذلك، كانت ترتفع عاليًا وبطلاقةٍ، وعلى الرغم من أنها لم تبلغ القمر، فقد وصلت إلى ارتفاع ٧٠٧٤٥ ميلًا. كانت هذه رحلة استكشاف فضاءٍ حقيقية، تحمل على متنها معدات تُرسِل بيانات حول أوضاع كونية تتجاوز بكثيرٍ المدارَ الأرضي. ومع بلوغ المركبة الفضائية «بايونير ١» ذروةَ ارتفاعها، لامسَتْ حدودَ الفضاء بين الكواكب.
لم يكترث بالنوم سوى عددٍ قليل من طاقم العمل في المشروع، على الأقل بينما كانت المركبة الفضائية لا تزال منطلقة في مسارها. بعد ثلاث وأربعين ساعة من الإطلاق، عاودَتِ المركبة الفضائية الولوجَ إلى الغلاف الجوي فوق منطقة جنوب المحيط الهادئ. لم تتذبذب الإشارةُ الصادرة عن المركبة على الإطلاق، وظلت واضحةً وقويةً، حتى توقَّفَتْ دون سابق إنذار. وبينما كانت المركبة تندفع في أعماق الغلاف الجوي العلوي، احترقَتْ كما لو كانت نيزكًا، لكنها كانت قد اقتربت جدًّا من بلوغ الأرض، وحتى تلك اللحظة كان ذلك كافيًا.
حان الآن دور أمريكا لتلقى الثناء من عالم مبهور بما يراه. وصفت صحيفة «لا كروا» الصادرة في باريس الأمرَ بأنه «أكثر الأحداث إبهارًا في التاريخ». كما وصفَ رئيسُ وزراء الهند نهرو، الذي كان ينتقد الولايات المتحدة باستمرار، ذلك الحدث بأنه «نصر مؤزر للعلم الحديث». وفي الولايات المتحدة، أعربَ سايمون رامو عن وجهة نظره قائلًا: «ظفرنا في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة ببضع ثوانٍ في عالَم الوجود اللامتناهي.»
أثبتَتْ عملية الإطلاق أنها تمثِّل ذروةَ نجاح جهود التطوير. سرعان ما حان دور فون براون، الذي كان يأمل في التحليق إلى ما وراء القمر بمركبة فضائية لا يتجاوز وزنها ثلاثة عشر رطلًا. كان حجم المركبة صغيرًا، حتى إن أحد مديري مختبر الدفع النفاث، ويُدعَى دان شنايدرمان، استطاع أن يحملها بنفسه إلى موقع كيب على متن طائرة، حيث وضعها إلى جانبه في حاويةٍ شغلَتْ مقعدًا بمفردها. أثبت حجمُها الضئيل أن البعثة اقتربَتْ من حدودِ ما كان فون براون يستطيع أن يقدِّمه، واتضح أنه كان على بُعْد مسافة صغيرة للغاية من ذلك.
انطلقت هذه المركبة، وتُسمَّى «بايونير ٣»، في أوائل شهر ديسمبر. كان صاروخها التعزيزي يتضمَّن الصاروخ «جوبيتر» بوصفه صاروخَ المرحلة الأولى، فضلًا عن مجموعة من صواريخ الوقود الصلب في المراحل العليا، وانطلقت جميعها في نجاح؛ بَيْدَ أن الصاروخ «جوبيتر» ارتفع بزاوية حادة للغاية وتوقَّف محركه قبل الوقت المقرَّر لذلك بثوانٍ معدودة. مرةً أخرى، لم يتجاوز نقص السرعة الناتِج عدة أميال في الساعة، ومع ذلك كان هذا كافيًا لإحداث فَرْق في عملية الإطلاق. كرَّرَ الصاروخ «بايونير ٣» هذا السيناريو من النجاح الوشيك الذي حقَّقَتْه القوات الجوية، محقِّقًا ارتفاع ٦٣٥٨٠ ميلًا. قدَّمَ الصاروخ «بايونير ٣» إسهامًا مهمًّا في مجال علم الفضاء، من خلال اكتشاف حزام فان ألين ثانٍ أو منطقةٍ يَعْلَق فيها الإشعاع، تحوط الحزام الأول. لكن، لم يتمكَّن «بايونير ٣» أيضًا من الاقتراب من القمر.
مع ذلك، بينما أخفقَتِ الولايات المتحدة في إجراء عمليةِ إطلاقٍ كاملةٍ بفارِق عدَّة بوصات، كان كوروليف لا يكاد يجهِّز منصةَ الإطلاق. كان كوروليف قد أجرى محاولة الإطلاق الأولى في ٢٣ سبتمبر ١٩٥٨، بَيْدَ أن الصاروخ التعزيزي تفكَّكَ بعد اثنتين وتسعين ثانيةً فقط من إطلاقه. ولم يكن القمر في الوضع الأفضل لإطلاقِ صاروخٍ إليه إلا في بضعة أيام قليلة من كل شهر، وتزامنت محاولة كوروليف الثانية، في شهر أكتوبر، مع إطلاق «بايونير ١». لوهلة قصيرة، بدا الأمر كما لو أن سباق الصعود إلى القمر سيصير سباقًا حقيقيًّا؛ حيث كانت صواريخ كلتا الدولتين تتنافس مثل سيارات «فورميلا وَن» في سباق الجائزة الكبرى.
عندما سَمِعَ كوروليف بإجراء عملية إطلاق أمريكية ناجحة، طلب من طاقم عمله نفض النوم عن أعينهم ونسيان التعب، واحتساء كمياتٍ من الشاي الثقيل، ومواصلة العمل، وختم حديثه إليهم قائلًا: «لا تقلقوا من انطلاق صاروخ الأمريكيين في رحلته إلى القمر؛ سنصعد إلى القمر قبل أن يصل إليه الأمريكيون بعدَّة ساعات.» لكن مرةً أخرى، بعد مرور ١٠٤ ثوانٍ على انطلاق الصاروخ من المنصة، انفجَرَ صاروخه التعزيزي وسقط على الأرض كما لو كان عرضًا للألعاب النارية.
بَدَا واضحًا أن إضافة صاروخ المرحلة العليا إلى الصاروخ «آر-٧» الأساسي قد جعلَتْه غير صالح للتحليق. أرسَلَ كوروليف فريقَ إنقاذ إلى سهول الاستبس في كازاخستان، لاسترجاع حطام الصاروخ. كانت أجزاء الحطام قد سقطت في منطقة واسعة على مسافةٍ من موقع الإطلاق، وقال أحد أعضاء فريق الإنقاذ متذكِّرًا هذا الحادث: «ليلًا كنَّا نتجمَّد من البرد في الخيام. كانت حصص الطعام الجاف ضئيلةً. لم يكن الماء متوافرًا دومًا؛ إذ كان يتعيَّن في بعض الأحيان نقل الماء بعد استخراجه من الآبار في شاحنات لمسافة بضعة كيلومترات. كلُّ مَنْ كان في كازاخستان يعلم مدى صعوبة استكشاف الطريق أو الأشياء من حولك»، وسط مناطقها السهلية المنبسطة الخالية من الأشجار. بَيْدَ أن قائد الفريق كان قد أحضَرَ بندقية ونجح في اصطياد طائر حَجَل لتناوُله كطعام، وكذلك نجح في إصابة غزالة عندما كان قطيعٌ كبير من الغزلان يعبر منطقةَ الاستبس.
في موسكو، أصدر كوروليف تعليماته إلى كبير مصمِّمي الصواريخ الباليستية، «إسفيت» لافروف، لتحديدِ المشكلة وحلِّها. أرجَعَ لافروف مصدرَ المشكلة إلى اهتزازات قوية في خطوط الأكسجين السائل؛ وهو ما أدَّى إلى تحطُّم الصواريخ وتفكُّكها. كانت هذه الاهتزازات قد ظهرت خلال اختبارات إطلاق الصواريخ الأولى، ورتَّبَ لافروف لاجتماعِ عددٍ من كبار العلماء، وفيهم كلديش نفسه، لعَرْض آرائهم كمستشارين. بعد إجراء التجارب ووضع نموذج رياضي، خَلُص فريق لافروف إلى أن بإمكانهم منْعَ الاهتزازات من خلال تركيب أجهزة تخميد في خطوط الأكسجين. وبنهاية عام ١٩٥٨، كان صاروخ التعزيز المعدَّل جاهزًا.
إن المحاولات الفاشلة لإجراء عمليات إطلاق ناجحة، مع اقتراب أمريكا من تحقيق نجاح كامل في عمليات الإطلاق، وضعت كوروليف تحت ضغوط هائلة، لكنه لم يهمل التفاصيل ولم يتعجل. ذات يوم، بينما كان يزور الورشة حيث كان العمَّال يؤمِّنون وضْعَ المركبة الفضائية في هيكل التركيب، سمع صوتَ مطرقة؛ كان أحد أفراد طاقم العمل قد رأى مصادَفةً بعضَ المسامير اللولبية عالقةً في هيكل التركيب، وكان يحاوِل فكَّها قليلًا عن طريق دقِّها بمفتاح ربط ثقيل. صاح كوروليف ثائرًا: «ماذا تفعل بحق السماء! لماذا تدقها؟ هذه مركبة فضائية!» حاوَلَ العاملُ أن يوضِّح أنه كان يدقُّ على هيكل التركيب، لا الصاروخ نفسه، بَيْدَ أن كوروليف رفض الاستماع إليه. لم يهدأ كوروليف إلا عندما تعهَّدَ الرجل بألا يكرِّر فعلته أبدًا. وفي خضم صدمته من أن شخصًا يتصرَّف على هذا النحو غير المسئول، خرج كوروليف وكان لا يزال يتمتم قائلًا: «هذه مركبة فضائية.»
جاء كوروليف إلى موقع إطلاق تيوراتام قبل أعياد الكريسماس مباشَرةً، مصطحِبًا معه كلديش. كان طقس الشتاء قارص البرودة؛ إذ انخفضت درجاتُ الحرارة إلى عشرين درجة تحت الصفر. كانت أنابيبُ التدفئة قد انكسرت في أحد أماكن المبيت، وكانت المواقد المؤقتة قد أطلقَتْ دخانًا كثيرًا حتى إن العاملين في الموقع كانوا يتنفسون بصعوبةٍ. كان العمال في موقع الإطلاق يرتدون معاطف وأحذية طويلة مغطَّاة بالفراء، غير أن كل ذلك لم يوفر إلا قليلًا من التدفئة وسطَ الرياح العاتية القارصة البرودة. ظهرت مشكلاتٌ في أجهزة اللاسلكي؛ وهو ما أدَّى إلى تأخير عملية الإطلاق.
كان الأمل يراود العاملين في الحصول على بعض التدفئة باحتساء الكحول، بَيْدَ أن لجنة حكومية كانت في طريقها إلى الوصول، ولم يكن كوروليف يسمح بذلك. بعد انصراف أعضاء اللجنة، اقترب من كوروليف أحد مسئولي العمليات اللوجيستية ولاحَ في عينَيْه سؤالٌ صامت، فأجاب كوروليف صائحًا في غضب: «اللعنة عليها، وزِّعها.» ثم سرعان ما اصطف العاملون في صفٍ طويل عند أحد منافذ التوزيع، ومع كلٍّ منهم إناء شاي لملئه بالمشروب الكحولي.
حلَّتْ عطلةُ رأس السنة، لكنَّ كوروليف عاد إلى المنصة مرةً أخرى. كان الوقت صباحًا، وكانت الرياح قد هدأت، وصار الطقسُ أصفى قليلًا. كان الوضع قبل عملية الإطلاق مفعمًا بالتوتر في اليوم التالي، لكنَّ كوروليف شعر بالألفة والارتياح في هذه الأجواء. استمع كوروليف مبتهجًا إلى الأصوات المألوفة لهسيس الغاز داخل الأنابيب، وهدير المحركات الكهربية، والمولدات الدائرة، والأصوات المرتفعة الصادرة عن الصمامات الآخِذة في الانغلاق. حدَّثَ نفسه قائلًا: «يا إلهي! كل شيء في موضعه، وفي توقيته، وكلُّ مَنْ في المكان رائعون.»
كانت عملية انطلاق الصاروخ من المنصة رائعةً أيضًا؛ إذ كان أداءُ الصاروخ في هذه المرة، بما في ذلك صاروخ المرحلة العليا، لا تشوبه شائبة، ثم سرعان ما انطلق القمر الصناعي «لونا ١» في مساره، متجاوزًا الارتفاعات التي كانت صواريخ «بايونير» الأخيرة قد بلغتها، مقتربًا من القمر، ثم مارًّا به عن قُرْب. عند عودة كوروليف إلى موسكو، شعر بالإحباط مجددًا. لم يكن ما خطَّطَ هو أن يحلِّق الصاروخ مارًّا بالقمر، بل أن يلامسه تلامُسًا مباشِرًا.
لكن، في العاصمة، كانت الروح المعنوية مرتفعةً. مرةً أخرى، أعلن الجميع أن كوروليف قد حقَّقَ نجاحًا هائلًا؛ إذ كان قد بنى أول صاروخ يستطيع بلوغَ سرعةِ الإفلات المطلوبة. شكَّلَ القمر «لونا ١» علامةً فارقة حتى مع عدم صعوده إلى القمر؛ إذ صار أولَ مركبة فضائية تخرج عن نطاق الجاذبية الأرضية وتدخل في مدارٍ حول الشمس. بالإضافة إلى ذلك، أظهَرَ وزن «لونا ١» البالغ ٨٠٠ رطل قدرةَ الرفع التي يتميَّز بها الصاروخ «آر-٧» الحامِل له.
جاء رد فعل واشنطن مبالَغًا فيه مرةً أخرى؛ حيث أعلنَتْ إحدى لجان مجلس النواب أن «تغييرات لا سبيلَ إلى العدول عنها في المجتمع والسلطة السياسية ستأتي في أعقاب تنمية القدرات الفضائية وتطويرها، وسيعني إغفالُ هذه التغييرات وعدم أخذها في الاعتبار اختيارَ مسار الهلاك القومي». كتبت مجلة «تايم» مُشِيرةً إلى ذلك قائلةً: «سباقٌ ربما يقرِّر ما إذا كان للحرية أي مستقبل قادم.» كان آيزنهاور، بالتعاون مع مستشاره جيمس كيليان، يعدُّ العُدَّةَ لاستكمال المشروعات الفضائية العسكرية في وكالة المشروعات البحثية المتطورة من خلال مشروعٍ مدني كبير ووكالةٍ فيدرالية جديدة، وهي الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا).
أُسِّست وكالة ناسا في الأساس بموجب قانونٍ صادر عن الكونجرس، وهو القانون الوطني للملاحة الفضائية والفضاء لعام ١٩٥٨. كانت نواة وكالة ناسا مؤسسة صغيرة يرجع تاريخها إلى عام ١٩١٥، وهي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، التي شغلت مكانةً مرموقةً بوصفها بيتَ خبرةٍ متخصِّصًا في مجال تكنولوجيا الفضاء. عملت اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية بميزانية محدودة؛ حيث نجحت في تشغيل مختبرَين فضائيَّين ومركزٍ لبحوث الدفع. لم يكن لدى اللجنة أصدقاء كثيرون في مناصب عُلْيا مؤثِّرة في واشنطن، وكانت أنشطتها غير ملحوظة، حتى طائرتها التجريبية لم تكن إلا إحدى طائرات القوات الجوية التي أعطتها إياها بعدما استخدمتها لفترة. في عام ١٩٥٤، وسط موجة من تخفيض التكاليف، لم تحصل اللجنة إلا على نصف الموارد المالية التي تقدَّمَتْ بطلبها.
كانت اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية تحظى بسُمعة جيدة بين الذين يعرفونها. في عام ١٩٥٧، شغل منصبَ رئيس اللجنة جيمي دوليتل، وهو باحث رائد وجنرال حرب من الطراز الأول. كانت اللجنة تضمُّ في عضويتها عددًا من الباحثين المُبتكرين، من بينهم ريتشارد وتكومب وآر تي دونز، اللذان حدَّدَا شكلَ الطائرات النفاثة الأسرع من الصوت؛ وجون بيكر، الذي كان قد بنى نفقًا هوائيًّا بسرعة ٧ ماخ. كان من بين أعضاء اللجنة باحثون آخَرون قدَّموا إسهاماتٍ مهمة في عصر الصواريخ والفضاء البازغ، منهم جون سلوب، الذي كان يبني أول محركات صاروخية تستخدم الهيدروجين كوقود. كان روبرت جيلروث رائدًا في تطوير الدروع الحرارية القابلة للإزالة عند ولوج الغلاف الجوي. كان جوليان ألن وألفرد إجرز قد اخترعا الشكل الصريح للمركبات الفضائية التي تعاوِد الولوج إلى الغلاف الجوي.
بحلول الوقت الذي ارتفَعَ فيه قمرا «سبوتنيك» الأولان، كان ثُلث عمل اللجنة الاستشارية للملاحة الفضائية تقريبًا متعلِّقًا بالفضاء. مع ذلك، كانت اللجنة في حد ذاتها أصغرَ كثيرًا من أن تتولَّى مسئوليةَ إدارة برنامج فضاءٍ كبير، لكنها كان من المنتظر أن تصبح بمنزلة نواة، تنمو من خلال تولِّي المسئولية الإدارية لبرامج فضاءٍ وصواريخ أخرى قيد التنفيذ. كانت جهود بناء الصاروخ «فانجارد» القائمة، في مختبر البحوث البحرية، إحدى المهام الأولى المُوكَلة إلى اللجنة. انضمَّ أيضًا مختبرُ الدفع النفاث التابع للجيش إلى وكالة ناسا الجديدة. وكانت الإدارة العليا في اللجنة تضع نُصب أعينها أيضًا فريقَ عمل الصواريخ في «ردستون آرسنال» الخاضع لإشراف فون براون؛ وبالإضافة إلى ذلك، أحرزَتْ مبادرةٌ مبكرة أخرى نتائجَ غير مسبوقة قُرْبَ بلتيمور؛ حيث باشرَتِ العملَ في مركز جودارد الجديد للرحلات الفضائية، الذي كان سيستخدم مركبات فضائية غير مأهولة مخصَّصة للأغراض العلمية.
تبلورت ناسا خلال عام ١٩٥٨، وسط موجة عارمة من الاهتمام بالرحلات الفضائية المأهولة. قبل إطلاق القمر «سبوتنيك» بفترة طويلة، كان عدد من الاختصاصيين قد بدءوا في إجراء دراساتٍ في هذا المجال، متوقِّعين أن تكون المركبة الفضائية الأولى مركبةً تجريبية عاليةَ الأداء تنطلق في مدارٍ على متن صاروخ كبير. طالبَتْ إحدى الخطط على وجه التحديد ببناء صاروخ متطور طراز «إكس-١٥» لهذا الغرض. كان الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا للانتهاء من تطوير الصاروخ، وبعد شهر أكتوبر ١٩٥٧، كان الجميع في عجلة من أمرهم، ثم صار الأمر يتعلَّق بإرسال رائد فضاءٍ بأسرع طريقة ممكنة.
قدَّمَ فون براون، الذي لم يكن متخاذلًا قطُّ في هذه الأمور، نموذجَ صاروخ سمَّاه مشروع «آدم»، وهو أول إنسان كُتِب له الصعود إلى الفضاء. أراد فون براون أن يضع رجلَ فضاءٍ في مقصورة محكمة الغلق داخل المقدمة المخروطية، ويُطلِقها أعلى الصاروخ «ردستون»، إلى ارتفاع ١٥٠ ميلًا. دعمه أصدقاؤه مشيرين إلى أن مشروع آدم «سيلبِّي متطلبات الجيش الأمريكي للتحسين من سهولة الحركة والقوة الضاربة لقوات الجيش من خلال وسيلةِ نقلٍ واسعةِ النطاق عبر صواريخ حاملة للجنود». لكن، بما أن الصاروخ «ردستون» كان على وشك التحليق، لم ينتهِ النقاشُ حول هذا الموضوع. أخبرَ هيو درايدن، الذي كان يرأس اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية منذ عام ١٩٤٩، لجنةَ الفضاء التابعة لمجلس النواب أن «إطلاق رجل في الفضاء ثم إرجاعه أمرٌ يتساوى في قيمته الفنية مع فقرة السيرك المثيرة التي تتضمَّن إطلاقَ سيدة شابة من فوهة مدفع». توقَّفَ مشروع «آدم» خلال عام ١٩٥٨، لكن عندما صار التحدي الروسي أكثر إلحاحًا، حان الوقت الذي أصبحت فيه فقرةُ السيرك هذه محورَ الأمل وإحدى نقاط ارتكازه الأساسية.
كانت لدى القوات الجوية خطط أكثر طموحًا وجرأةً، وهو ما كان يمثِّل نقطة تحوُّل. قبل «سبوتنيك»، عمل جنرالات القوات الجوية بجدٍّ للتمييز بين المجال الجوي لكلِّ دولة، والذي يكون تحت سيادتها، وبين الفضاء الخارجي الذي كان هؤلاء الجنرالات يأملون في أن تحلِّق أقمارُهم الاستطلاعية فيه بحرِّيَّة. أما الآن، وقد حقَّقوا بغيتهم بترسيخ مبدأ حرية السفر عبر الفضاء كممارسة مقبولة، فإنهم متحمِّسون لتمويه الحد الفاصل بين المجال الجوي والفضاء، بحيث تتمكَّن القوات الجوية من المطالَبة باستخدام الفضاء. كانوا يروِّجون بحماس لاستخدام التعبير الجديد «فن الملاحة الجوية وعلم الطيران»، وهو تعبيرٌ يوحي بأن المجالين جزءٌ من كلٍّ لا يتجزأ. ونظرًا لأن عددًا كبيرًا من هؤلاء القادة الكبار طيَّارون في الأساس، كان من الطبيعي أن يتوقعوا أن يرتدي أول مَن يرتاد مدارًا فضائيًّا زيَّ الخدمة الأزرق.
في البداية، أكَّدَتْ هذه الآمال على مشروع «مان إن سبيس سونيست»؛ أيْ «إنسانٍ في الفضاء في أقرب وقتٍ»، ونال هذا المشروع دعمًا قويًّا من نائب رئيس الأركان الجديد كورتيس لوماي، الذي كان يتمتع بنفوذ كبير وحضور قوي. اعتمد المشروع الجديد على البحوث التي أُجرِيت في شركة «كونفير» التي تولَّتْ بناءَ الصاروخ «أطلس»، والتي برهنت على أن هذا الصاروخ يستطيع حمل كبسولة صغيرة مأهولة في مدار منخفض جدًّا، إذا سارت الأمور على ما يرام. قدَّمَ المشروع مثالًا آخَر على وضوح قلة أعداد وأحجام الصواريخ المصمَّمة في تلك الأيام المبكرة على نحوٍ هامشي، بَيْدَ أن المشروع حمل في طيَّاته على الأقل أملًا في تحقيق نتائج سريعة. في يونيو ١٩٥٨، اقترح الجنرال شريفر خطةَ تنفيذِ هذه المهمة بحلول شهر أبريل ١٩٦٠، بتكلفة ٩٩ مليون دولار أمريكي.
كان مختبر لانجلي للبحوث الفضائية التابع للجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، قُرْبَ نورفولك بولاية فرجينيا، يمثِّل مركزًا ثالثًا للاهتمام برحلات الفضاء المأهولة. كان المختبر قد لعب دورًا فاعلًا في استخدام أنفاق الرياح العالية السرعة لتطوير أشكال محددة من مقدمات الصواريخ المخروطية، وشكَّلَ تصميمُ كبسولةٍ قابلة للاسترجاع لرائد فضاء امتدادًا طبيعيًّا لهذه الجهود. أخذ خبير ديناميكا الهواء ماكسيم فاجت بزمام المبادرة؛ حيث سعى إلى تصميم شكل يحافظ على ثبات الصاروخ واستقراره أثناء عملية ولوج المجال الجوي، وقلَّلَ من ارتفاع حرارة الكبسولة مع توفير مساحةٍ للإنزال بالمظلات. كان التصميم الذي انتهت إليه عملياتُ التطوير يتضمَّن مقدمةً مخروطية مقطوعة ذات درعٍ حراري واضح منحنٍ قليلًا. من خلال بعض التعديلات البسيطة، ظلَّ هذا الشكل الأساسي شائعًا في الولايات المتحدة حتى ظهَرَ المكوك الفضائي.
صارت مشروعات «آدم» و«مان أون سبيس سونيست» وكبسولة «فاجر» عناصرَ رئيسية في مشروع «ميركوري»، وهو أول مشروع لرحلات الفضاء المأهولة. كانت القوات الجوية ترغب في إدارة مشروع كهذا، وكان لديها النفوذ السياسي الذي يؤهِّلها للاستحواذ على إدارة المشروع والتفوُّق على ناسا التي كانت لا تزال وكالةً جديدة ومحدودة الإمكانيات. بَيْدَ أن آيك نفسه قرَّرَ أن ناسا هي مَن ستتولَّى إدارة البرنامج، وهو قرار يفصح عن الكثير من الأهمية الحقيقية لرحلات الفضاء المأهولة؛ ويرجع هذا إلى حقيقة أن القوات الجوية لم يكن لديها سببٌ حقيقي لإرسال روَّاد فضاءٍ إلى مدار فضائي، وهي حقيقة واضحة تمامًا كوضوح الدرع الحراري للصاروخ «ميركوري».
لو أنَّ مفهوم «فن الملاحة الجوية وعلم الطيران» المحتفى به كان يتضمن معنًى حقيقيًّا، إذن فربما كان شريفر سيتمكَّن من تقديم مقترح قمر صناعي استطلاعي مأهول، على غرار القمر «يو-٢» المداري. في حقيقة الأمر، حتى دراسات مؤسسة «راند» المبكرة كانت قد تنبَّأت بإطلاق بعثاتٍ تُدار آليًّا. نتيجةً لذلك، تبيَّنَ أن قرار آيك كان نسخةً طبقَ الأصل من قرار عام ١٩٥٥، الذي فضَّلَ اختيار الصاروخ «فانجارد» عن المركبة المدارية التابعة للجيش لتوفير غطاءٍ للقمر «دبليو إس-١١٧إل».
كان اختيار «فانجارد» عام ١٩٥٥، واختيار ناسا مديرًا لمشروع «ميركوري» عام ١٩٥٨، يؤكدان على صورةٍ سِلْميةٍ وغير عسكرية لرحلات الفضاء. مع ذلك، كان قرار عام ١٩٥٥ يتضمَّن ميزة حقيقية، حيث قدَّمَ دعمًا فعالًا للقمر «دبليو إس-١١٧إل»، الذي كانت ثمة حاجة أساسية إليه. لكن، في المقابل، لم يكن قرار عام ١٩٥٨ يتضمن هذه الميزة العملية؛ لأنه إذا لم تكن لدى القوات الجوية متطلبات حقيقية لإرسال روَّاد إلى مدار فضائي، فإن متطلبات ناسا في هذا الصدد أقل منها.
مع صعود نجم أقمار «سبوتنيك»، تضاءَلَ في واشنطن عدد مَنْ يرون الأمور من هذا المنظور خلال عام ١٩٥٨. إذا كان مشروع «ميركوري» لا يتضمن ميزة كبيرة فيما يتعلَّق بما يمكن أن يقوم به روَّاد الفضاء، فإنه مشروع غاية في الأهمية من وجهة النظر السياسية. لعلَّ التشديد على أهمية المشروع يرجع في الأساس إلى الرغبة في إظهار التفوق الأمريكي في مجال الفضاء، لكنَّ المشروع كان يقدِّم تطميناتٍ على الأقل. في ظل النظر إلى الفضاء باعتباره مسألةً مهمةً لا جدالَ فيها، وتحوُّل التصورات في حقيقة الأمر إلى واقع، منح الرأي العام آيزنهاور سببًا كافيًا لاتخاذ خطوات فعلية. لم يكن آيزنهاور يسعى إلى خوض سباق نحو الفضاء، وكان يأمل في تجنبه، لكن الأحداث أرغمَتْه على ذلك.
سرعان ما برز روَّاد الفضاء، في حقيقة الأمر، بوصفهم محورَ تركيزِ المشروع. قرَّرَ آيك نفسه أن يكون روَّادُ الفضاء طيَّارِي اختباراتٍ عسكرية يحملون مؤهلاتٍ جامعية. منذ البداية، كانت هذه الخطة تعني أن طيَّاري الفضاء السلميين في ناسا كان سيجري إخفاء هوياتهم ومنحهم هويات مدنية بديلة، بنفس الطريقة تقريبًا التي كانت تُخفَى بها طبيعةُ أقمار «يو-٢» التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. بالإضافة إلى ذلك، أدى هذا المعيار على الفور إلى استبعاد عدد من أفضل العناصر، من بينهم تشاك ياجر وبيل بريدجمان وسكوت كروسفيلد.
كان ياجر يبلغ أربعة وعشرين عامًا في عام ١٩٤٧، عندما اخترق حاجز الصوت. وبعد أقل من اثني عشر عامًا، كانت حدود الطيران قد تطوَّرت من الطيران في الجو بسرعة ١ ماخ إلى الطيران في مدار فضائي بسرعة ٢٥ ماخ. وكان ياجر يتمتع بصحة جيدة، وكان في ريعان شبابه أيضًا، لكنه لم يلتحق قطُّ بالجامعة، وهذا ما جعله مُستبعَدًا. أما بريدجمان، فقد سجَّلَ أرقامًا قياسية في السرعة والارتفاع في دوجلاس سكايروكت، وكان يعيش مستمتعًا بوقته على شاطئ ماليبو في الأوقات التي لم يكن يقود فيها طائرات نفاثة، لكنه كان قد تخطَّى عامَه الأربعين، وهو ما جعله أكبر سنًّا ممَّا ينبغي. وأخيرًا كروسفيلد، الذي كان أول طيَّار يبلغ سرعة ٢ ماخ، وكان يتدرَّب آنذاك على قيادة «إكس-١٥»، لكنه كان مدنيًّا، وهو ما جعله مُستبعَدًا أيضًا.
مع ذلك، لم يكن أي شخص شديدُ الحياء يصلح لأن يصبح رائد فضاء «ميركوري»؛ إذ كان عالَم روَّاد الفضاء مليئًا بمصادر الخطر المُهدِّدة للحياة. في البحرية، كان هذا يتضمن عملياتِ إطلاقٍ بمساعدة مَراجم على حاملة طائرات، مَراجم قد تفقد قوةَ دفعها في أية لحظة. وفي كثير من الأحيان، كانت الطائرات تسقط فوقَ مقدمات حاملات الطائرات ثم في البحر، بينما تهرع سفينة خلفها لاسترجاعها. كانت ثمة عمليات هبوط ليلية أيضًا؛ حيث يقترب الطيَّار من سطح حاملة طائرات تتأرجح يمنة ويسرة وإلى الأمام وإلى الخلف في الظلام. كان عامل إشارات يقف قرب مؤخرة الحاملة، يراقب الطائرة الآخِذة في الهبوط ويلوح للطيَّار بإشارات مستخدِمًا الكشَّافات الضوئية إذا لم تكن عمليةُ الهبوط تسير على نحوٍ سليم. كان الطيَّار يستطيع رؤيةَ عامل الإشارات بوضوحٍ على مسافة خمسمائة قدم، وكانت الطائرة تقطع المسافة في ثلاث ثوانٍ. وإذا لم يكن هذا كافيًا لتأمين سلامة الطيَّار، كانت البحرية توفر بوالص تأمين على الحياة بمبالغ قيِّمة.
كان لمقاتلي القوات الجوية عاداتهم الغريبة؛ فقد يقود أحد الطيَّارين طائرته على الممر استعدادًا للإقلاع، متجاوزًا نقطةً كان يمكن وقف الإقلاع عندها، ثم فجأةً يرى إشارةً ضوئية للتحذير من الحريق. بالنظر إلى حمولة الكيروسين القابل للاشتعال في الطائرة النفاثة، قد تنفجر الطائرة في أي لحظة، ومن ثَمَّ يجذب الطيَّار حبلًا وتُطلِق شحنةٌ من النتروجليسرين مقعدَ الطيَّار إلى أعلى، وهو ما يسمح للطيَّار بإنقاذ حياته باستخدام مظلة؛ ذلك إذا لم يكن الطيَّار يقود طائرة طراز «إف-١٠٤ إيه»، التي ينطلق مقعدها «إلى أسفل».
كان مقعد النجاة هذا سببًا في أن فقدَ واحدٌ من أكفأ طياري الاختبارات في البلاد، ويُدعَى آيفن كينشلوي، حياتَه. كان كينشلوي قد بلغ ارتفاع ١٢٦ ألف قدم في طائرة طراز «إكس-٢» في عام ١٩٥٦، وهو ارتفاع كان يسمح برؤية المنطقة الواقعة من باجا كاليفورنيا إلى سان فرانسيسكو بوضوح. لكن لم يحالفه الحظ بعدها بعامين، بعد إقلاعه مباشَرةً؛ إذ حاوَلَ أن يدور بالطائرة طراز «إف-١٠٤ إيه» التي كان يقودها بحيث يستطيع الارتفاع إلى السماء، لكن لم يفلح. وتكريمًا له، أطلقت القوات الجوية اسمَه على إحدى القواعد في ميشيجان.
على الجانب الآخَر، ربما كان الاستخدام الحاذِق لمقعد النجاة يبرهن على حضور ذهن الطيَّار وهو ما يجعله مؤهَّلًا للانضمام إلى روَّاد الفضاء. يذكر تشاك ياجر تدريبًا على نموذج مطوَّر من طائرة «إف-١٠٤»، كانت مقاعدها تنطلق إلى أعلى، ومن ثَمَّ كان على الطيَّارَيْن ديفيد سكوت ومايك آدامز الضغطَ على كابِح الوقود بأقصى قوة للحيلولة دون سقوط الطائرة على الأرض. توقَّفَ المحرك، واندفع آدامز خارج مقعده الخلفي، بينما ظلَّ سكوت في الطائرة وواصَلَ قيادتها.
كتب ياجر قائلًا: «أثار الأمرُ دهشتي؛ ففي لحظةٍ، اتخذ كلا الطيَّارَين قرارًا صائبًا تمامًا، لكن بمسارَيْ عمل مختلفين.» دفع التصادمُ المحركَ إلى قمرة آدامز، ومن ثَمَّ كان التصادم سيُودي بحياته إذا ظلَّ موجودًا في قمرته، بينما كان سكوت سيلقى حتفه إذا قرَّرَ الانطلاق بمقعده، نظرًا للضرر الذي لحق بالمقعد. واصَلَ سكوت رحلته ليسير على سطح القمر. قاد آدامز «إكس-١٥» لاحقًا، على الرغم من أنه لقي حتفه عندما خرج الأمر عن السيطرة عند سرعة ٥ ماخ وتحطمت الطائرة.
كان من الممكن أن يصطبغ روَّاد «ميركوري» بالأجواء العامة لهذه الحقبة، لولا حرص ناسا الشديد على تقديمهم بوصفهم رموزَ الحقيقة والعدالة والنهج الأمريكي. بدأ التعامُل معهم على هذا النحو في أول مؤتمر صحفي لهم، في أبريل ١٩٥٩. وقف جون جلين، الذي كان أول مَن انطلق في مدار فضائي، وألقى خطابًا قصيرًا حول الرب والأمومة وفطيرة التفاح، وكان يعني كلَّ كلمةٍ ممَّا قال. تناولت الصحافة تلك الكلمة في نهم. كتبت مجلة «تايم» بحماس: «من بين أمة يبلغ تعداد سكانها ١٧٥ مليون نسمة، تصدَّرَ المشهدَ الأسبوعَ الماضي سبعةُ رجال قُدُّوا من الحَجر نفسه الذي قُدَّ منه كولومبس وماجلان ودانيال بون وأورفيل وويلبر رايت.»
على الرغم من أن مركبة «ميركوري» قد صُوِّرت في وسائل الإعلام بوصفها مجرد تجربة في العلم والتكنولوجيا، كانت العلاقات العامة حاضرة عادةً. ضمَّ المسئولون السبعة عن «ميركوري» مسئولًا صحفيًّا في ناسا على الفور، وهو المُقدِّم جون «شورتي» باورز، الذي صار يُعرَف باسم «رائد الفضاء الثامن». لم تكن هذه إلا بداية؛ إذ سرعان ما أدرك مسئول العلاقات العامة في المشروع حاجتَه إلى المساعَدة، وخاطَبَ أحد محامي واشنطن البارزين، ويُدعَى ليو ديورسي. كان ديورسي على دراية جيدة بعالم المسرح والسينما والاستعراضات. كان من بين عملائه عددٌ من المشاهير، مثل آرثر جودفري. عرض ديورسي أن يبيع إلى المجلات حقوق نشر القصص الشخصية لروَّاد الفضاء، وعقد صفقة مع مجلة «لايف» كان من ثمرتها عقدٌ بقيمة ٥٠٠ ألف دولار أمريكي. كانت هذه الصفقة أفضل كثيرًا من الشهرة والمجد؛ لأن روَّاد مركبة «ميركوري» كانوا موظفين حكوميين، من الدرجة ١٢ إلى الدرجة ١٥ في هيكل الوظائف المدنية العامة، يحصلون على رواتب مبدئية تتراوح بين ٨٣٣٠ دولارًا أمريكيًّا و١٢٧٧٠ دولارًا أمريكيًّا. أتمَّ ديورسي الصفقة في وقت مبكر من شهر أغسطس، ووضعت مجلة «لايف» صورة روَّاد الفضاء على الغلاف في عدد ١٤ سبتمبر، وقدَّمَتْ تغطيةً في ثماني عشرة صفحة متقابلة بعنوان «مستعِدُّون لصنع التاريخ». بعدها بأسبوع، تناولت المجلة زوجات روَّاد الفضاء تناولًا مماثلًا؛ حيث نشرت صورةً ملوَّنةً على الغلاف أجريت عليها تعديلاتٍ طفيفة لإزالة أي تغضنات أو تجاعيد، وكتبت موضوعًا في أربع عشرة صفحة متقابلة، تحت عنوان جديد «بطلاتٌ سبعٌ وراء روَّاد الفضاء».
لم ينبهر ياجر بالأمر؛ إذ كان اسمه كطيَّار يفوق كونه رمزًا، وخلال ظهوره العلني الأول ممثلًا عن القوات الجوية أشار بطريقته المفتقرة إلى اللباقة إلى أن «قردًا سيسافر في أول رحلة على متن ميركوري». كان على المرء أن يتصوَّر عالَم ياجر لاختبارات الطيران حتى يدرك الحجم الحقيقي لتعليقه؛ ففي عالَمٍ كذلك، لم يقترب الكثير من الطيَّارين الماهرين من طائراتٍ نفاثة حقيقية. في حقيقة الأمر، كان ياجر لطيفًا في تعليقه أكثر من اللازم؛ إذ كان من المُقرَّر أن تتم الرحلة الأولى بنظام التحكم الآلي، دون أن تلمسها يد حتى وإن كانت غير بشرية. لكنَّ تعليق ياجر جاء في غير موضعه.
لم تكن مداهنة الأبطال وتملقهم مسألةً جانبية في حالة مركبة «ميركوري»، مثلما لم تكن أيضًا منتجًا ثانويًّا عَرَضيًّا. فقد كانت مسألة جوهرية بالنسبة إلى المشروع، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المراد من روَّاد الفضاء كان أن يضفوا طابعًا بشريًّا على البرنامج الفضائي، الذي كان بديلًا عن سباق التسلُّح، وكان يرمز إلى الأمل في أن تتمكَّن أمريكا من مواجهة التهديد السوفييتي. لم تستطع النفسية البشرية استيعاب هذه الأمور العظيمة عند تقديمها في صورة مجردة غير مشخصنة، وكانت في حاجةٍ إلى أشخاص، ليكونوا رموزًا وشخصياتٍ محوريةً. كان آيك يرمز إلى الدولة وإلى الحكومة، وكان الجنرال ماكارثر، خلال حرب المحيط الهادئ، قد مثَّلَ الأمل في النصر. بالمثل، كان روَّاد فضاء مركبة «ميركوري» يرمزون إلى الأمل في النجاح في مواجهة هذه التحديات الأخيرة الآتية من الخارج. كان من المنتظر أن يصبح روَّاد الفضاء مصدرَ إلهام لفيضٍ هائل من مشاعر الكبرياء والإعجاب، وكان من المُقرَّر أن يلعبوا أيضًا أدوارًا سياسية، حتى إذا فعلوا ما فعلوه من قبيل التفاخر ليس إلا. كل ما كان على أيٍّ منهم أن يفعله هو أن ينطلق إلى الفضاء، ثم يعود سالمًا.
لكن، بينما كان هؤلاء الروَّاد يؤدُّون أدوارَهم كرموز لاستكشاف الفضاء، كان كوروليف يقدِّم مجددًا الحقيقة الملموسة؛ إذ كان يُعِدُّ العدَّةَ في تلك الأثناء لتنفيذ أكثر البعثات إلحاحًا على الإطلاق، وهي البعثة التي كانت ستمثل الخطوة التالية في برنامجه لاستكشاف القمر؛ إذ كان كوروليف يسعى إلى التقاط صور فوتوغرافية للجانب البعيد غير المرئي من القمر.
هذه البعثة كانت تتطلَّب مركبة فضائية ذات قدراتٍ متطورة على نحوٍ غير اعتيادي؛ إذ كان على هذه المركبة أن تتبع مسارًا شديد الدقة، وهو ما كان من المتوقَّع أن تخفق فيه المركبة «لونا ١» بعد فشلها في إصابة الهدف. كان على المركبة أن توجِّه نفسَها بينما هي خلف القمر، وتحدد موضعَ القمر من خلال مجسَّات، ثم توجِّه الكاميرا التي تحملها في الاتجاه الصحيح. وكان يتعيَّن عليها بعد ذلك تشغيل مختبر تحميض صور آلي يحمِّض الفيلم من خلال غمره في مواد كيميائية، وهو تطوُّر ينطوي على قيمة واضحة في مجال الاستطلاع العسكري، بل إنه تطوُّر غير متوافر في أقمار «ديسكفرر» المتطورة. واستجابةً لأمرٍ صادرٍ عبر إشارة لاسلكية من محطة أرضية، تدير المركبة كاميرا تليفزيونية، وتجري عملية مسح ضوئي للصور المُحمَّضة، ثم ترسلها.
لتطوير نظام التوجيه، استعان كوروليف بزميل قديم آخَر، هو بوريس روشنباخ، الذي عكف على دراسة موضوعات فنية مشابهة لفترة من الوقت. بدأ روشنباخ باقتراض ألف روبل وأرسلَ أحد مهندسيه إلى متجر آلات إلكترونية محلي، لشراء كمياتٍ كبيرة من المكونات الإلكترونية المُستعمَلة، ثم سرعان ما كان فريق عمله يبني نماذجَ أوَّلية من مجسَّات بصرية، وطائرات نفاثة تتضمَّن أجهزةَ تحكُّمٍ في الوضع، تعمل باستخدام النيتروجين المضغوط، وتتضمَّن بوصلاتِ توجيهٍ، ونُظُمَ تحكُّمٍ إلكترونية. كانت هذه المركبة الفضائية هي أول مركبة تستخدم الخلايا الشمسية للحصول على طاقة كهربية. خلال عمليات الاختبار الأرضية، كانت ثمة رافعة ترفع المركبة من خلال حبل بينما كانت الأضواء الباهرة تتراقص على جسم المركبة، التي كانت تتلألأ مثل كرة لامعة في مَرقَص.
ثم واصَلَ كوروليف جهودَه نحوَ القمر ضاربًا عصفورَين بحجرٍ واحد. في سبتمبر ١٩٥٩، زار خروتشوف الولايات المتحدة في لقاءِ قمةٍ مع آيزنهاور، وكان متحمِّسًا لتحقيق نصرٍ دعائيٍّ آخَر. التزمَ كوروليف بتعهُّده بإجراء عملية إطلاق ناجحة ثانية إلى القمر، من خلال القمر «لونا ٢»؛ وبالإضافة إلى ذلك، رتَّبَ كوروليف الإدلاءَ بمجموعة من التصريحات المهمة، لا من موسكو، بل من التليسكوب اللاسلكي الضخم في جودرل بانك في بريطانيا، وهو أكبر جهاز من نوعه في العالَم. كان مدير مركز جودرل، السير برنارد لوفل، يتمتع بسُمْعة لا نظيرَ لها؛ وهو ما أضفى مزيدًا من البريق على هذا الإنجاز الأخير.
كان السوفييت يديرون برنامجهم الفضائي في سرِّيَّة تامة، مُخفِين حالات الفشل ومُبرِزين حالات النجاح على نحوٍ مبالغ فيه. من جانبه، عملَ لوفيل عن كثب مع القوات الجوية في خضم استعداداتها لإجراء عمليات إطلاق صواريخ «بايونير»، لكنه لم يجد إلا صمتًا مُطبِقًا عندما سعى إلى التعاون مع السوفييت. لكن، بمجرد أن اتضح للسوفييت أن الصاروخ الأخير المزمع إطلاقه إلى القمر قد انطلق إلى الفضاء بنجاحٍ، أعلنت موسكو أنها في طريقها إلى تحقيقِ إنجازٍ مماثل.
كان لوفل على وشك الذهاب إلى مباراة كريكت عندما أمسك به صحفي وسأله عمَّا سيفعل حيال هذه المركبة المنطلقة إلى القمر؛ أجاب بأنه سيلعب مباراة كريكت؛ إذ لم يكن «لونا ٢» ليبلغ القمر إلا بعد مرور ما يزيد على ثلاثين ساعة. عاد لوفل إلى مكتبه بعد المباراة، ووجد تلكسًا مُرسَلًا إليه من موسكو، متضمنًا البيانات التي كان في حاجةٍ إليها لتتبُّع المركبة الفضائية. تزايدَتْ سرعةُ «لونا ٢» عند ولوجه مجال جاذبية القمر؛ ممَّا نتج عنه انحراف دبولري في تردُّدات جهاز الإرسال. بعد ذلك، بالنظر عبر تليسكوب لوفل الهائل الموجَّه مباشَرةً نحو القمر، كان «لونا ٢» يقترب من فوهة أوتوليكس بينما تضعف الإشارات الصادرة عن جهاز الإرسال بحدَّة.
أفضت دقة المركبة «لونا ٢» غير المعتادة بكاتِب سيرة كوروليف، ياروسلاف جولوفانوف، إلى مقارنة الإنجاز بإطلاق طائر من طائرة أثناء تحليقها. في تلك الأثناء، قدَّمَ لوفل تقييمَه الخاص الذي قال فيه: «إنه فقط أمرٌ مدهش، يعجز العقل عن استيعابه.»
ثم في أكتوبر، في الذكرى الثانية لإطلاق «سبوتنيك ١»، أطلق كوروليف «لونا ٣». مع عبور المركبة فوق منطقة القطب الجنوبي في القمر، التقطت المجسَّات حرارة الشمس، ثم أدارت المركبة مؤخرتها في ذلك الاتجاه. ظلت المركبة موجَّهةً نحو الشمس في الوقت الذي ظهر فيه القمر في مجال رؤية مجموعةٍ أخرى من المجسَّات، موضوعةٍ أعلى «لونا ٣». استجابةً لهذه المجسَّات، استدارت المركبة بمواجِهة القمر؛ حيث ثبَّتَتْ حركتها نحو القمر وأغلقت المجسَّات الموجَّهة نحو الشمس. ثم بدأت المركبة في التقاط سلسلة من تسع وعشرين صورة متتابعة للجانب البعيد من القمر. مرَّ الفيلم عبر المعالج الآلي، الذي أطلق عليه طاقم عمل كوروليف «لاندرومات» و«بابليك ووشرووم»؛ ومع تحميض الفيلم، توقَّفَتِ المركبة استعدادًا لمسح الصور ضوئيًّا باستخدام جهاز فاكس، بسرعة ألف خط لكل إطار، ولإرسال الصور إلى محطة أرضية في سيميز في جزيرة القرم.
الآن، بعد أن ارتفعت المركبة عاليًا فوق القطب الشمالي للقمر، بدأت في العودة إلى الأرض، في مدار مخطَّط بعنايةٍ؛ بحيث تظل المركبة في مجال رؤية محطة التتبُّع الأرضية هذه طوال الوقت. كان جهاز الإرسال الخاص بالمركبة يفتقر إلى القدرة على إرسال إشارة واضحة على مسافاتٍ بعيدة مثل المسافة بين الأرض والقمر، وهو ما لم يكن جهازُ الإرسال يستطيع إنجازَه إلا عند مسافاتٍ قريبة من الأرض؛ ومن ثمَّ، كان على روَّاد الفضاء — مثل أي سائح — الانتظار فترةً حتى يروا الشكل الذي تبدو عليه صورهم. لكن، المخاطرة هذه المرة كانت هائلةً حقًّا؛ إذ كانت هذه البعثة تمثِّل عمليةَ استكشاف بالمعنى التقليدي؛ فكما هي الحال مع ماجلَّان وكولومبس، كان كوروليف وطاقمه أول مَنْ يرون هذا العالَم غير المُكتشَف المتمثِّل في القمر، ويشاهدون جانبه البعيد الخفي عن الأنظار.
على الرغم من أن «لونا ٣» كان لا يزال بعيدًا كلَّ البُعْد عن عمليات الإرسال الناجحة، لم يُطق الجميع صبرًا، وقرَّرَ المسئولون عن عمليات التحكُّم إجراء محاولة بإرسال الأوامر الملائمة. يسترجع ألكسندر كاشيتس، أحد المشاركين، ما حدث قائلًا: «كنا نجلس في غرفة التحكم المظلمة، محدِّقين في إحدى شاشات الرصد. كنَّا نحاول مرةً بعد مرةٍ أن نرى، أو بالأحرى أن نخمِّن، ولو لمحةً على الأقل من أي صورة». لكن، لم تُظهِر الشاشةُ شيئًا، مثلما لم تُظهِر شيئًا خلالَ جلسةٍ ثانية وثالثة.
كان كوروليف مُقِيمًا في منتجع أورياندا المطل على البحر الأسود، الذي كان يضمُّ شاطئًا ومتنزهًا رائعًا. حاوَلَ كوروليف التكيُّف مع حالة عدم الصبر التي كان يمر بها من خلال جولات متكررة من المشي، وكان يتحدث أحيانًا إلى أحد الأصدقاء ليصرف ذهنه عن التفكير في الأمر. كان يعرف أن لا شيء في يده ليفعله حتى تصله الصور على نحوٍ أسرع، وظلَّ محافظًا على رباطة جأشه عندما حذَّرَه أحد معاونيه قائلًا: «أستطيع أن أؤكِّد لك أنه لن يكون ثمة أيُّ صور. سيُتلِف إشعاعُ الفضاء أيَّ صورة.»
للحدِّ من أي تداخل لاسلكي، أغلقت السلطات الطريقَ الساحلي أمام حركة المرور، وأصدرت تعليماتها إلى السفن العابرة بالتزام الصمت اللاسلكي؛ أي التوقُّف عن إرسال إشارات لا سلكية أثناء المرور. لم يفلح الأمر، ولم تُسفِر جلسة رصد رابعة عن وصول أي صور. وبينما الأمل يتلاشى، اجتمع الجميع على إجراء محاولة خامسة؛ في هذه المرة، ظهر قرصٌ قمري ببطء على الشاشة، وسرعان ما جاءت أول نسخة تجريبية مطبوعة من مختبر سيميز للصور. تناوَلَ كوروليف الورقةَ المطبوعة بين يديه كما لو كان في حالة غيبوبة، ثم قال: «حسنًا، ماذا لدينا هنا؟» كانت الصورة ضبابيةً وغير واضحة. أشار أحد الزملاء: «نعرف الآن على الأقل أن الجانب المظلم من القمر مستديرٌ أيضًا؟» سارَعَ آخَر إلى طمأنة الآخَرين قائلًا: «لا تقلقوا. سنضيف مرشحات ونُزِيل التشوُّهات الموجودة في الصورة.»
تلقَّوْا صورتين خلال تلك الجلسة. صارت الإشارة الصادرة عن «لونا ٣» أكثر قوةً مع اقتراب «لونا ٣» أكثر من المجال الجوي للأرض، وحصل الباحثون في نهاية المطاف على سبع عشرة صورة صالحة للاستخدام من إجمالي تسع وعشرين صورة جرى التقاطها. ثم دعا كوروليف كاشيتس أن يأخذ الصور ويذهب بنفسه بها إلى موسكو لإجراء المزيد من عمليات المعالجة لها. غادَرَ كاشيتس الموقعَ بعد بضع ساعات، وكان الراكب الوحيد على متن الطائرة التي أقلَّتْه؛ حيث كان يحمل معه النسخ المطبوعة من الصور في ظرف مُحكَم الغلق.
لم تقدِّم هذه الصور خارطةَ صورٍ حاسمة للجانب المظلم من القمر؛ إذ لم يتسنَّ الحصول على هذه الخارطة حتى وصول الصور الأكثر وضوحًا بكثيرٍ من مركبة الفضاء المدارية القمرية الأمريكية خلال عامَيْ ١٩٦٦ و١٩٦٧. كانت الصور تكفي تمامًا لإعداد أول خارطة جيدة تشير إلى الفوهات الرئيسية وغيرها من التضاريس الأخرى التي أمكن الآن إطلاق أسماء عليها. في خضم لحظة الانتصار هذه، اختار العلماء السوفييت أسماء ذات صدًى دولي قوي. بالطبع، خلَّدوا مشاهيرهم بإطلاق أسماء من قبيل تسيولكوفسكي ولوباتشفسكي ولومونوسوف ومندلييف، بَيْدَ أنهم اختاروا أيضًا أسماءً غير روسية، مثل ماكسويل وإديسون وجوردانو برونو وجول فيرن وباستور. صدَّقَتْ لجنةٌ من الاتحاد الفلكي الدولي على هذه المسمَّيات، التي صارت على نحوٍ دائم جزءًا من قاموس الجغرافيا القمرية.
لكن مع دوران «لونا ٣» حول القمر، كانت الولايات المتحدة تتخذ خطوات قوية للتصدي لاحتكار السوفييت للصواريخ الكبيرة. ترجع أولى هذه الخطوات إلى عام ١٩٥٥، عندما طلبت القوات الجوية من شركة «روكيت داين» إجراءَ دراسةِ جدوى حول محرك جديد، «إي-١»، كانت قوة دفعه تتراوح بين ٣٠٠ ألف رطل و٤٠٠ ألف رطل. تقدَّمَتْ «روكيت داين»، التي سرعان ما أعلنت عن قدرتها على إنتاج محرك أفضل كثيرًا، بمقترحِ إنتاجِ محركٍ تبلغ قوةُ دفعه مليون رطل كاملة. وفَّرَتْ لها القواتُ الجوية مصادرَ التمويل الإضافية، وبحلول عام ١٩٥٧ كانت شركة «روكيت داين» قد قدَّمَتْ تحليلًا كاملًا ومفصَّلًا حول هذا المحرك الأكبر حجمًا، وبدأت في صناعة المكونات الرئيسية. تلقَّتْ جهود إنتاج المحرك دعمًا إضافيًّا في يونيو ١٩٥٨، عندما أرست قاعدة رايت-باترسون التابعة للقوات الجوية على الشركة عقدَ إنتاج محرك. زُوِّد هذا المحرك — الذي أُطلِق عليه اسم «إف-١» — بقوة دفع أكبر؛ ممَّا سمح باستخدامه في إطلاق صاروخ يحمل روَّاد فضاء إلى القمر.
كان فيرنر فون براون يباشر جهوده بنشاطٍ أيضًا. أصدر وزير الدفاع ويلسون قرارًا في نوفمبر ١٩٥٦ استبعَدَ فيه الجيش من مهمة نشر صواريخ بعيدة المدى، لكنه كان قرارًا ينطوي على ثغرة. لم يذكر القرار شيئًا فيما يتعلَّق بالفضاء، ولم يذكر شيئًا عن تنفيذ بعثاتٍ مأهولة طويلة المدى، وهي ما كان فون براون يأمل في تنفيذه. قبل ثلاثين عامًا، كان كارل بيكر الألماني قد استغلَّ ثغرةً مشابِهةً في معاهَدة فرساي، التي كانت قد منعت ألمانيا من امتلاك الدبابات والمدفعية الثقيلة، لكنها لم تذكر شيئًا عن الصواريخ، وكان فون براون تلميذَ بيكر النجيب. في أبريل ١٩٥٧، أجرى فون براون عدَّة دراسات حول تصميم صواريخ تعزيز عنقودية تستخدم أربعة محركات طراز «إي-١» لتحقيق قوة دفع ١٫٥ مليون رطل؛ أطلق على الصاروخ اسم صاروخ «جوبيتر» الفائق، ثم أعاد تسميته ﺑ «ساتورن»، الكوكب التالي لكوكب جوبيتر.
تسارعت وتيرة تنفيذ المشروع خلال عام ١٩٥٨، عندما رأت هيئة المشروعات البحثية المتطورة أن «ساتورن» يجب أن يعتمد على المحركات الموجودة بالفعل، بدلًا من انتظار نتائج تطوير محرك «إي-١» الذي لم تثبت كفاءته بعدُ. استجابَ فون براون إلى هذا التوجيه بوضع تصميم جديد كان يَعِد بقوة دفع ١٫٥ مليون رطل عن طريق استخدام ثمانية محركات طراز «جوبيتر»، وهو تصميمٌ يساهم في خفض التكاليف مع تسريع إيقاع العمل في المشروع. في منتصف شهر أغسطس، أرست هيئة المشروعات البحثية المتطورة عقدًا لتنفيذ عملية تطوير الصاروخ هذه؛ وبعدها بشهر، أرسى الجنرال مداريس عقدًا منفصلًا على شركة «روكيت داين» لتطوير محركات تزيد قوة الدفع من ١٥٠ ألف رطل إلى ١٦٥ ألف رطل أولًا، ثم إلى ١٨٨ ألف رطل. أصدر الجنرال مداريس أوامرَ بتعديل منصة الاختبار بما يمكِّنها من حمْلِ صاروخ «ساتورن» كامل.
كانت السرعة مطلبًا جوهريًّا، ولم يكن من السهل تصنيع خزانات صاروخ التعزيز الضخمة، إلا أن الصاروخ «ساتورن» استخدَمَ مجموعةً من المحركات الصغيرة، بدلًا من الخزانات؛ وذلك لأن خزانات الوقود الدفعي بصواريخ «ردستون» و«جوبيتر» كانت متوافرة. وبالفعل وضع المصمِّمون ثمانية خزانات من الصاروخ «ردستون» حول أحد صواريخ تعزيز «جوبيتر»، وهو ما صار يُعرَف مجددًا بالصاروخ «جوبيتر-سي»، لكن بحجم أكبر كثيرًا، ومزوَّد بخزانات وقود ومحركات متصلة معًا بنفس الطريقة تقريبًا التي كان فون براون قد وضع بها مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة المتوافرة أعلى نموذج الصاروخ «ردستون» التقليدي، لإطلاق أول أقماره الصناعية.
اعتمد مسارٌ ثالث في إنتاج صواريخ متطورة على استخدام الهيدروجين كوقود عالي الأداء في المراحل العليا. لم يكن الهيدروجين سهلًا في تسييله؛ لأنه أكثر برودةً من الأكسجين السائل، ويتبخَّر على نحوٍ أسرع كثيرًا. لكن، من نواحٍ مهمة أخرى، كان الهيدروجين أكثر أمانًا من الجازولين؛ لأنه يميل إلى الارتفاع في الهواء عند إطلاقه، بدلًا من تكوين خليط قابل للانفجار يمكث قريبًا من سطح الأرض. كما أن الهيدروجين مادة مبرِّدة رائعة أيضًا. في مختبرٍ لويس للدَّفْع التابع لِلَّجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، كان جون سلوب بصدد تطوير محرك ذي نظام تبريد متجدد، تبلغ قوة دفعه ٢٠ ألف رطل، واستطاع سلوب تشغيل هذا المحرك بنجاح على منصة اختبار.
كان من بين مراكز الاهتمام الأخرى بمحركات الهيدروجين شركة «برات آند وتني» العاملة في مجال بناء المحركات. كانت محركات الطائرات النفاثة هي منتج الشركة الأساسي، وكانت الشركة تجرِّب استخدامَ الهيدروجين من خلال بناء محرك نفاث توربيني يمكن استخدام هذا الوقود فيه، لتسيير طائرة تجسُّس مقترحة تحلُّ محلَّ القمر «يو-٢». في عام ١٩٥٦، قرَّرَ كبير مهندسي الشركة، بيري برات، محاوَلةَ الظفر بعقود جديدة في مجال الصواريخ الآخِذ في الازدهار. كان يعلم أن شركته انضمَّتْ إلى هذا المجال متأخرًا، وكان عليها أن تواجِه شركات منافِسة راسخة ومعروفة مثل «روكيت داين» و«إيروجت» و«ريأكشن موتورز»، لكنه كان يرى أن شركة «برات آند وتني» تستطيع تحقيق السَّبْق على الآخَرين من خلال ابتكار أنواع جديدة من الوقود الدفعي. استعان برات باختصاصي في مجال الصواريخ، يُدعَى برانسون سميث، سرعان ما وضع الهيدروجين على رأس قائمة موضوعاته البحثية.
لأكثر من عام، حاوَلَ سميث وبرات أن يظفرَا باهتمام القوات الجوية، لكنهما لم يفلحا كثيرًا في ذلك. ثم جاء القمر «سبوتنيك»، ولاح في الأفق أملٌ جديد. في شركة «كونفير»، انتهَزَ زميلٌ قديم لفون براون، يُدعَى كرافت إيريكه، الفرصةَ بعرض تصميمٍ خاص بصاروخ مرحلة عليا يعمل باستخدام وقود الهيدروجين يمكن وضعه على الصاروخ «أطلس» الذي تنتجه شركته، ويحمل حمولاتٍ ثقيلة في مدار فضائي. سرعان ما برزت هذه المرحلة، المعروفة باسم «سينتاور»، باعتبارها محورَ ارتكازٍ لآمال سميث في استخدام الهيدروجين كوقود. ساندت هيئةُ المشروعات البحثية المتطورة المشروعَ، وكذلك فعلت القوات الجوية؛ وفي شهر أغسطس من عام ١٩٥٨، أصدرت الهيئة توجيهاتها لتطوير الصاروخ «سينتاور»، باستخدام محرك يعمل بوقود الهيدروجين من إنتاج شركة «برات آند وتني».
بناءً على ذلك، خلال صيف عام ١٩٥٨، كان الجيش والقوات الجوية يتابعان العمل في مشروعَيْ «ساتورن» و«سينتاور»، بينما كانت شركة «روكيت داين» تطوِّر محرك «إف-١» ليكون باكورة مشروعاتها لإنتاج جيل جديد من محركات الصواريخ. في ٢٩ يوليو، وقَّعَ آيزنهاور قانونَ إنشاء ناسا. كان مدير اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، هيو درايدن، منخرطًا حتى أذنَيْه في عملية التخطيط التي كانت سَتحوِّل اهتمامَ اللجنة من فنِّ الملاحة الجوية وعلم الطيران إلى رحلات الفضاء. لتولِّي مهامِّ عمليةِ التخطيط هذه، استحضَرَ درايدن إلى واشنطن آيب سيلفرستين، المدير المشارك لمركز لويس للدَّفْع، وانطلاقًا من خلفيته في مجال المحركات المبتكرة، شرع سيلفرستين في تولِّي مشروعات جديدة، وفي اجتذاب فريقِ عملِ فون براون للعمل تحت مظلة ناسا، وقيادة هذه الوكالة نحوَ عصرٍ جديد من الصواريخ الضخمة والرؤى الطموحة.
كان درايدن، رئيس سيلفرستين، خبيرًا معروفًا في مجال ديناميكا الهواء، لكنه لم يكن لديه نفوذ كبير في واشنطن. عبَّرَ آيك عن التزامه بجعل وكالة ناسا قوية من خلال تخطِّي درايدن في اختيار مدير الوكالة. أفسح آيك المجالَ أمام درايدن لشغل ثاني أهم موقع في الوكالة، ونفَّذَ توصيةً من جيمس كيليان في اختيار مدير الوكالة. كان المنصب من نصيب كيث جلينان، وهو عضو سابق في هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة. بدأت ناسا العمل رسميًّا في الأول من أكتوبر، وبدأ سيلفرستين ودرايدن وجلينان في البحث عن مشروعات جديدة ومؤسسات قائمة للتعاون معها.
كان المحرك «إف-١» من إنتاج شركة «روكيت داين» بمنزلة جائزة مبكرة حازت عليها الوكالة. كان عقد الشركة مع القوات الجوية يتضمَّن تقديمَ تمويلٍ لمدةٍ لا تزيد عن بضعة أشهر؛ حيث كان قد تقرَّرَ منذ البداية نقْلُ هذا المشروع إلى إدارة ناسا. تقدَّمَ سيلفرستين بمقترح أفضل إلى القوات الجوية من خلال عرض تصميم محرك بقوة دفع ١٫٥ مليون رطل؛ ممَّا جعل هذا المحرك الوحيد الذي يماثل في قدرته الصاروخ «ساتورن» الذي يتضمن ثمانية محركات. جرى العمل بالعقد في يناير ١٩٥٩؛ حيث بدأت عملية تطوير واسعة النطاق.
كان المحرك «إف-١» بدوره يتضمن آفاقًا جديدة تخدم مساعي فون براون لإنتاج صواريخ تعزيز عنقودية. اعتمد فون براون على هذا الأسلوب في مقالاته التي نُشِرت في مجلة «كوليرز» عام ١٩٥٢، والتي اقترح فيها بناءَ صاروخٍ ضخم يتضمَّن واحدًا وخمسين محركًا في المرحلة الأولى، وتبلغ قوة دفعه الإجمالية ثمانية وعشرين مليون رطل. وبالنظر إلى إمكانية استخدام المحرك «إف-١» التي أصبحت مواتية آنذاك، استطاع فون براون التطلُّع إلى بناء الصاروخ «نوفا»، وهو صاروخ تعزيز ذو خواص مشابهة. كان من المقرَّر أن يحتوي الصاروخ «نوفا» على مجموعة من محركات «إف-١»؛ إذ كان من المُقرَّر أن يحصل فون براون على قوة دفع تصل إلى ثمانية عشر مليون رطل إذا استخدم اثني عشر محركًا. كما كان مُقرَّرًا أن يصل ارتفاع الصاروخ إلى عدة مئات من الأقدام، بما يضاهي ارتفاع نُصب واشنطن التذكاري، وكان الصاروخ سيحمل روَّاد فضاء يهبطون على سطح القمر.
تجدَّدت هذه الرؤية في مارس ١٩٥٩، عندما أجرت شركة «روكيت داين» عمليةَ إطلاقٍ تجريبية أوَّلية للمحرك «إف-١» في نموذجه الذي كان يوفِّر قوةَ دفعٍ مقدارُها مليون رطل. لم يكن المحرك «إف-١» محركًا صاروخيًّا حقيقيًّا، بل كان غرفةَ دفعٍ، لا توجد بها مضخات توربينية ويجري تغذيتها من خلال خزانات الوقود الدفعي المضغوط في منصة الاختبار. كانت غرفة الدفع ذات جدار صلب سميك، ولم تكن تعمل إلا لمدة اثنين على عشرة من الثانية، وهو ما يكفي لضمان سلامة الإشعال واستقرار عملية الاحتراق. مع ذلك، ها هو محرك صاروخي يعقب الصاروخ «نوفا»، تزيد قوة دفعه عن قوة الدفع في الصاروخ «آر-٧» الكامل الذي صمَّمه كوروليف.
كانت ناسا في تلك الأثناء بصدد تقديم عرض بخصوص مجموعة صواريخ فون براون كذلك، بَيْدَ أن الجيش لم يوافِق على طلب الوكالة، وهو ما أجبر جلينان على الانصياع إلى سيطرة مختبر الدفع النفاث. في ضوء توقعات الجيش للدور البارز المزمع لعبه في مجال الفضاء، كان الجيش يأمل في استغلال الثغرة في قرار وزير الدفاع ويلسون في عام ١٩٥٦ إلى أقصى حدٍّ. كان ذلك القرار لا يزال قائمًا. وكانت هانتسفيل قد ظفرت بحقِّ المُضِيِّ قُدمًا في تطوير الصاروخ «جوبيتر» الباليستي المتوسط المدى، لكن القوات الجوية كانت لا تزال تستأثر وحدَها بمسئولية التشغيل الكاملة لجميع الصواريخ البعيدة المدى، وعندما صار الصاروخ «جوبيتر» جاهزًا للاستخدام، انتقَلَت سلطة تقرير هذا الأمر إلى القيادة الجوية الاستراتيجية؛ لكن، ربما كان سيظل «ساتورن» مِلكًا للجيش.
مع ذلك، كانت وكالة ناسا أوفر حظًّا عندما سعت إلى استعادة الصاروخ «سينتاور» من القوات الجوية. لم تظفر الوكالة بعقد تنفيذ المشروع وحدها؛ إذ ظلت القوات الجوية مشارِكةً في تنفيذه، لكن في منتصف عام ١٩٥٩، انتقل تطوير الصاروخ «سينتاور» رسميًّا من هيئة المشروعات البحثية المتطورة إلى ناسا. في شركة «برات آند وتني»، دارَ محرك «سينتاور» بنجاح خلال عملية اختبار أوَّلية أُجريت في شهر أغسطس، كخطوةٍ نحوَ تحقيق قوةِ دفعٍ تُقدَّر بنحو ١٥ ألف رطل، وهو ما كان مُكمِلًا لعمل جون سلوب في ناسا «لويس»، الذي حقَّقَ محركه — الذي تبلغ قوة دفعه ٢٠ ألف رطل، والذي جرى اختباره أكثر من مرة خلال عام ١٩٥٩ — معاييرَ عاليةً وأظهَرَ أداءً متميزًا.
لم يمضِ سوى عامين أو أقل في عصر الصواريخ حتى كانت البلاد تتطلَّع إلى إنتاج عائلة من صواريخ التعزيز تستطيع إطلاق أي شيءٍ، بدءًا من الأقمار الصناعية الصغيرة الحجم وحتى البعثات المأهولة إلى سطح القمر. كان الصاروخان «ثور-إيبُل» و«ثور-أجينا» لا يزالان في الخدمة، وسرعان ما أصبح الصاروخ «أطلس-أجينا» متوافرًا. وأعقب ذلك بعدة سنوات الصاروخ «أطلس-سينتاور»، الذي كان من المُقرَّر أن يحمل أحمالًا أثقل كثيرًا. كذلك، نجح الصاروخ «ساتورن»، الذي جرى إنتاجه في منتصف الستينيات من القرن العشرين، في حمل أطقم كاملة من روَّاد الفضاء إلى مدار فضائي، وربما إلى محطة فضائية، بينما كان الصاروخ «نوفا» يَعِدُ بالانطلاق إلى القمر. وبينما كانت جهود التطوير الكاملة لعائلة الصواريخ هذه تتطلَّب ما يقرب من عقد من الزمان على أقل تقدير، كان الوقت ملائمًا تمامًا لوضع الأهداف التي كانت تتجاوز أهدافَ مشروعِ «ميركوري».
في ربيع عام ١٩٥٩، شكَّلَ جلينان لجنة برئاسة هنري جويت — الذي صار لاحقًا رئيسَ مركزِ جودارد الجديد — وأسند إلى هذه اللجنة مهمةَ اقتراح برنامج طموح للرحلات الفضائية المأهولة خلال فترة الستينيات من القرن العشرين. اقترح ألفرد إجرز، أحد أعضاء اللجنة، أن هدف ناسا المقبل يجب أن يكون إرسالَ بعثةٍ فضائية تدور حول القمر ثم تعود إلى الأرض، ويكون على متن هذه البعثة رائدا فضاءٍ. حذَّرَ أحد الزملاء من «وضع أهداف متواضعة للغاية». حضَّ ماكس فاجت الذي شارَكَ في برنامج «ميركوري»، وجورج لُو — أحد أقرب معاوني سيلفرستين — ناسا على مراعاة ألَّا يقل هدفها عن إرسال بعثة فضائية مأهولة للهبوط على سطح القمر، على أن يكون ذلك خطوةً مبدئيةً نحو السفر إلى كوكب المريخ. في أواخر شهر يونيو، صدَّقَتِ اللجنة بحماس على هذا الهدف، وعلى حدِّ تعبير جويت: «كان أحد الأسباب الرئيسية وراء اختيار هذا الهدف أنه كان يمثِّل هدفًا نهائيًّا حقًّا، وله مبرراته الخاصة، ولم يكن في حاجةٍ إلى دعم على أساس أنه يؤدِّي إلى هدف أكثر نفعًا لاحقًا.»
لم يكن في مقدور أحد تقديم هذا التعهُّد إلا رئيس الوكالة؛ إذ كان جُلُّ ما يركِّز عليه جلينان آنذاك هو عمليات التخطيط البعيدة المدى، ولا شيء أكثر من ذلك. في صيف ذلك العام، بدت الفجوة بين الخطط الموضوعة والواقع الفعلي في طريقها إلى الاتساع؛ إذ واجَهَ الصاروخ «ساتورن» تهديدًا وشيكًا بإلغاء برنامجه. وعلى أية حال، كان برنامج «ساتورن» أحدَ مشروعات الجيش، وكان ثمة تساؤل حقيقي حول استطاعة الصاروخ تلبيةَ حاجةٍ عسكرية قائمة. حاوَلَ الجنرال مداريس تقديم المساعدة، مصرِّحًا لإحدى لجان مجلس النواب: «أعتقِد أن الجيش الأمريكي عليه أن يضع خططًا طويلة المدى لنقل فِرَق قتالية صغيرة عن طريق الصواريخ. أعتقد أيضًا أن نقل البضائع عن طريق الصواريخ مسألةٌ ذات جدوى اقتصادية.»
كان ثمة كثيرون ممَّن كانوا لا يؤمنون بذلك، وفيهم هربرت يورك، الذي كان كبيرَ العلماء في هيئة المشروعات البحثية المتطورة، والذي شغل أعلى منصب في البنتاجون في مجال البحث والتطوير في أوائل عام ١٩٥٩. كان الجنرال مداريس يسعى إلى الحصول على زيادة هائلة في الميزانية المخصَّصة لصاروخ «ساتورن»، بَيْدَ أن يورك أجابه قائلًا: «لا شيء في الجيش، حتى بعد سنوات عديدة من المحاولات الصعبة، يشير إلى أي حاجة حقيقية لإرسال بشر إلى الفضاء.» في شهر يونيو، أعرب يورك عن عدم موافقته على توفير تمويل جديد لمشروع «ساتورن»، وأبلغ روي جونسون في هيئة المشروعات البحثية المتطورة بذلك. في رسالة تالية إلى جونسون، كتبَ يورك قائلًا: «قررتُ أن ألغي برنامج «ساتورن» نظرًا لعدم وجود أي تبرير عسكري مقبول للاستمرار فيه.» لم يجد جونسون سببًا للاعتراض.
اعترض المسئولون في وكالة ناسا بشدة، وفي سبتمبر التقى يورك درايدن. بادَرَ يورك باقتراح تولِّي ناسا برنامج «ساتورن»، والاستعانة في ذلك بخبرات جميع أفراد فريق فون براون لتطوير الصواريخ. لاقَتْ هذه الفكرة تأييدًا واسعَ النطاق، إلا أن شخصين مهمين اعترضَا عليها، أَلَا وهما سكرتير الجيش ويلبر بروكر وفيرنر فون براون. كان بروكر قد ناضَلَ بنجاح لإبقاء هانتسفيل في حوزة الجيش، وشعر بغضب هائل لإثارة الموضوع مجددًا. كان وزير الدفاع ماكلروي أعلى منه رتبةً، وكان قد أيَّدَ نقلَ المشروع. تساءَلَ فون براون إذا كانت ناسا تستطيع دعمه على النحو الذي كان يأمل أن يعهده فيها؛ فالتقى جلينان فون براون وأزال عنه مخاوفه. وفي نوفمبر، وافَقَ آيزنهاور على الترتيبات الجديدة للمشروع.
احتفظت شركة «ردستون آرسنال» بدورها النشط في مجال الصواريخ الحربية، بَيْدَ أن كل برامج فون براون اتخذت غطاءً مدنيًّا لتصبح بذلك جزءًا من مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لناسا. صار فون براون نفسه يقدِّم تقارير إلى مسئولين مدنيين للمرة الأولى منذ الانضمام إلى رايخسفير في عام ١٩٣٢. كانت ناسا منشغلة بالفعل ببرنامج الفضاء التابع لسلاح البحرية، الذي كان متمحورًا حول «فانجارد»؛ إذ كانت القوات الجوية هي المنوطة بإدارة المشروع الفضائي العسكري المستقل الوحيد، إلى جانب الجهود المدنية في وكالة ناسا. كانت القوات الجوية بدورها تدير أنشطة الفضاء الخاصة بها دون الرجوع إلى هيئة المشروعات البحثية المتطورة كمؤسسة وسيطة؛ ومن ثَمَّ تضاءلت مع الوقت أهميةُ هيئة المشروعات البحثية المتطورة. أدَّى قرار آيك إلى سدِّ الثغرة في قرار وزير الدفاع ويلسون حول الأدوار والمهام، الذي كان قد أصدره قبل ثلاثة أعوام، بمنع الجيش من ممارسة أي أنشطة تتعلَّق بالفضاء مثلما منع ويلسون الجيش من تنفيذ مشروعات تطوير للصواريخ الطويلة المدى. في ضوء هذه التطورات، تبلورت مؤسسات الفضاء في أمريكا في صورتها الدائمة.
كان فون براون قد ركَّزَ على «ساتورن» بوصفه صاروخَ المرحلة الأولى، وترك موضوع المراحل العليا معلَّقًا. عالجَ سيلفرستين هذا الأمر على الفور؛ حيث شكَّلَ لجنةً تقدِّم توصيات رسمية إلى جلينان. كانت خبرة سيلفرستين في اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية ومركز لويس، قد جعلته مؤيدًا قويًّا لاستخدام الهيدروجين كوقود. كان سيلفرستين قد ساند جهود جون سلوب، وأدرك بنفسه أن محركات سلوب واعِدة ومُبشِّرة. استهوت وجهة نظر سيلفرستين فون براون المتشكِّك، الذي لم يكن لديه أي خبرة عن وقود الهيدروجين، وفي منتصف ديسمبر كتب تقريرًا يشير إلى ضرورة استخدام الهيدروجين في المراحل العليا من الصاروخ «ساتورن»، ومن ثَمَّ تحقيق أعلى أداء.
تسارَعَ إيقاعُ العمل مجددًا خلال عام ١٩٦٠. كان ثمة نموذج أوَّلي من الصاروخ «ساتورن» منصوب بالفعل فوق إحدى منصات الاختبار في هانتسفيل، وفي أبريل جرى إشعال جميع المحركات الثمانية، وهو ما أسفر عن قوة دفع بلغت ١٫٣ مليون رطل، وصوت هدير كان يمكن سماعه على مسافة مائة ميل. وبالطبع، كانت الصحراء غير الآهلة بالسكان هي المكان الوحيد المناسب لإجراء تلك الاختبارات ذات القوة الهائلة، وبالفعل عثرت شركة «روكيت داين» على المساحات الشاسعة التي كانت تحتاج إليها في قاعدة إدواردز التابعة للقوات الجوية، في صحراء موهافي. أقامت شركة «روكيت داين» منصةَ اختبار لصواريخ «إف-١» ذات أبعاد هائلة على غرار المسلَّات الفرعونية، بارتفاع ٢٥٠ قدمًا، وألواح صلبة من الخرسانة لدعم عاكِس اللهب.
بالإضافة إلى ذلك، تابعت ناسا تقريرَ سيلفرستين بإرساء مجموعة من العقود على عدة شركات لإنجاز صواريخ المراحل العليا من الصاروخ «ساتورن». في مايو، قرَّرَ جلينان أن تتولَّى شركة «دوجلاس إيركرافت» بناءَ صاروخ المرحلة الثانية، الذي أُطلِق عليه اسم «إس-٤». طبَّقَ هذا الصاروخ في تصميمه مبدأ الصواريخ العنقودية؛ حيث وُضِعت فيه ستة محركات طراز «سينتاور» بقوة دفع إجمالية بلغت ٩٠ ألف رطل، ومع ذلك لم يكن هذا إلا تصميمًا مؤقتًا فقط؛ إذ كانت لجنة سيلفرستين قد أوصت أيضًا بتصميم محرك جديد تمامًا يستخدم الهيدروجين كوقود، ويتسم بقوة دفع مرتفعة للغاية. أُرسِي عقد تصميم هذا الصاروخ الجديد على شركة «روكيت داين» في يونيو، حيث وضَعَ «حدود الأمان القصوى للرحلات الفضائية المأهولة». أظهر هذا المحرك، «جيه-٢»، مبلغَ طموحِ ناسا مجددًا، ولأن هذا المحرك قد صُمِّم للاستخدام في صاروخ المرحلة الثانية للصاروخ «ساتورن»، كان من المُقرَّر أن يوفِّر قوةَ دفعٍ تصل إلى ٢٠٠ ألف رطل، وهو ما كان يزيد على قوة دفع محرك الصاروخ «ثور» أو «جوبيتر».
شهد العام نفسه أيضًا نشاطًا هائلًا بين الشركات المتعاقدة المُحتمَلة، التي كانت بصدد دراسة تصميماتٍ لمركبات فضائية مأهولة تُطلَق في بعثاتٍ إلى القمر. كان الاهتمام المبدئي ينصبُّ على إرسال ثلاثة روَّاد فضاء يدورون حول القمر، وهو أحد المتطلبات التي كان الصاروخ «ساتورن» يستطيع القيام بها، ولم يكن يتطلَّب الاستعانة بالصاروخ «نوفا» الأكبر حجمًا بكثير. في أواخر شهر يوليو، اجتمع نحو ألف وثلاثمائة شخص في جلسة تخطيطية حول مشروع ناسا. كان سيلفرستين، الذي كان قد اقترح اسم «ميركوري» لأول برنامج فضائي مأهول، لديه مقترح فيما يخص المركبة الجديدة. في بداية المؤتمر، أعلن درايدن أن: «المركبة الفضائية التالية لمركبة «ميركوري» سيكون اسمها أبولُّو.»
كان مشروع «ساتورن» وحده سيستهلك معظم ميزانية ناسا، التي كانت تتجاوز مليار دولار أمريكي سنويًّا وتزيد. كان البرنامج الكامل الذي يستغرق خمسة عشر عامًا خارج نطاق المناقشة، وكانت تكلفته الإجمالية المحتملة، التي تبلغ ٤٦ مليار دولار أمريكي، تفوق الميزانية الفيدرالية بأكملها حتى عام ١٩٥١ أو نحوه. (في الاقتصاد الحالي، يساوي هذا التقدير الإجمالي تقديم مقترح بإنفاق ٧٠٠ مليار دولار أمريكي على برنامج الفضاء. كانت ميزانية ناسا في عام ١٩٩٧ تبلغ ١٣٫٧ مليار دولار أمريكي.)
لكن، وسط هذه الرؤى حول السفر إلى القمر، كان جلينان ونظراؤه في البنتاجون يديرون برنامجًا فضائيًّا غير مأهول كان يتَّسم بالقوة والحماسة. كان البرنامج يتمحور حول خمسة موضوعات وأنشطة رئيسية، أَلَا وهي عمليات الاستطلاع العسكري، والأرصاد الجوية، والملاحة الفضائية، والاتصالات، وعلم دراسة الكواكب. خلال العقود التالية، كانت هذه الموضوعات ستشهد نموًّا وازدهارًا مثل شجرة فارِعة، تمتد جذورها عميقًا إلى مجموعات من العملاء والأشخاص الذين يعتمدون على هذه الخدمات المُقدمة، وتُزهر فروعًا جديدة مع ابتكار المجتمعات المستهلكة لاستخدامات جديدة. في هذه المجالات، وبالأحرى في الرحلات المأهولة، برزت الأهمية الحقيقية للبرنامج الفضائي.
صارت أقمار الأرصاد الجوية واقعًا ملموسًا خلال عام ١٩٦٠، عندما أطلقت ناسا القمر «تيروس ١» (وهو قمر الرصد الجوي باستخدام الأشعة التليفزيونية والأشعة فوق الحمراء) في أوائل شهر أبريل من ذلك العام. ونظرًا لأنه كان في الأساس مشروعًا تابعًا لهيئة المشروعات البحثية المتطورة، انبثق المشروع عن نتيجة توصَّلَتْ إليها القوات الجوية، في أغسطس ١٩٥٧، مفادها أن وضع كاميرا تليفزيونية في مدار فضائي لن يوفر الدقةَ العالية اللازمة في عمليات الاستطلاع العسكري. لم يَنَلِ اليأسُ من «آر سي إيه»، التي كانت قد ساندت جهودَ إطلاق كاميرا تليفزيونية في مدار فضائي، ولم تثبط همتها؛ إذ إنه على الرغم من أن الصور التي كانت توفرها الكاميرات التليفزيونية لم تكن تناسب الأغراض العسكرية، فإن هذه الكاميرات كانت تبشِّر بمستقبل واعِد في الأرصاد الجوية. تولَّتْ ناسا إدارةَ المشروع بدلًا من هيئة المشروعات البحثية المتطورة في أبريل ١٩٥٩، وأرسلت مركبة فضائية منفردة في محاولة الإطلاق الأولى، وضعتها أعلى الصاروخ «ثور-إيبُل».
أبلت المركبة الفضائية بلاءً رائعًا على مدى شهرين ونصف؛ حيث أرسلت ما يقرب من ٢٣٠٠٠ صورة أبيض وأسود. لكن، لم تدم بعثة المركبة لمدة طويلة بما يكفي لتقديم العون أثناء موسم الأعاصير، وفقَدَ خبراء الأرصاد الجوية صورَ المركبة عندما ضرب الإعصارُ «دونا» الساحلَ الشرقي. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن المركبة في المدار المتزامن مع الأرض، بل كانت تدور في مدار منخفض، على ارتفاع ٢٢٣٠٠ ميل، وهو ما كان من شأنه أن يجعلها تدور في مدار ثابت حول الأرض وتقدِّم عروضًا ومناظر بانورامية لنصف الكرة الشمالي بأكمله؛ بَيْدَ أن تقديم هذه العروض البانورامية تأخَّرَ إلى حين إرسال أول قمر صناعي مخصَّص للتكنولوجيا التطبيقية (أيْ في مجال تطبيقات تكنولوجيا الفضاء)، في عام ١٩٦٦. لكن، مثَّلَ القمر «تيروس» تطورًا هائلًا مقارَنةً باستخدام الطائرات التقليدية في رصد العواصف العاتية. وعلى خلاف الطائرات، لم يكن القمر «تيروس» عرضةً للإسقاط أو الهبوط الاضطراري في ظل الأحوال الجوية السيئة.
برزت الملاحة عبر الأقمار الصناعية كمبادرة جديدة انبثقت عن احتياجات غواصة «بولاريس». كانت غواصات «بولاريس» تستخدم نُظُم توجيه داخلية للملاحة أثناء وجودها تحت سطح الماء، بَيْدَ أن رُبَّاني هذه الغواصات كانوا في حاجة إلى تصحيح الأخطاء في نُظُم التوجيه من خلال تحديث إحداثيات موضعها باستخدام نقاط مرجعية معروفة. لم تكن سُبُل أداء ذلك واضحةً في البداية؛ إذ كان من تعاليم طاقم الغواصات عدم الإفصاح عن إحداثياتهم، كأنْ يصعدوا مثلًا إلى السطح. لم يكن رصد النجوم يوفر دليلًا استرشاديًّا جيدًا؛ حيث كان هذا الأسلوب يصل إلى محاولة إجراء ملاحة فلكية من خلال منظار غواصة. بالإضافة إلى ذلك، كانت غواصات «بولاريس» تقضي وقتًا طويلًا في بحر النرويج؛ حيث كانت السُّحب تحجب رؤيةَ النجوم في كثيرٍ من الأحيان.
بدا «لوران» — وهو نظام ملاحة لاسلكي تقليدي — واعِدًا، لكنه لم يكن يجدي نفعًا عندما تكون الغواصات في عرض البحار. كان علماء المحيطات يضعون خرائط أيضًا للمناطق تحت سطح البحر باستخدام أشعة السونار؛ ومن ثَمَّ كان قائد الغواصة يستطيع الملاحة من موضع محدَّد جيدًا إلى الموضع الذي يليه. لكن، كانت الغواصات لا تتعرَّف على تلك المعالم إلا باستخدام أشعة السونار التي تطلقها، وهو ما قد يفصح عن موضعها لأي سفنٍ أو غواصات أخرى قريبة متجسِّسة. بالإضافة إلى ذلك، لم يفلح هذا أسلوب إلا في المناطق المحدودة التي كانت البحرية تضع خرائط مفصَّلة بها.
طرح الفيزيائيُّ فرانك ماجواير الحلَّ من مختبر الفيزياء التطبيقية التابع للبحرية؛ إذ رأى ماجواير أنه مثلما يمكن تحديد الموقع الصحيح لقمرٍ صناعي من خلال عمليات الرصد الأرضية، فإنه يمكن بالمثل تحديد الموقع الصحيح من خلال تلقِّي إشارات لاسلكية من قمر صناعي في مدار معروف بدقة. أقنع ماجواير رئيسَه ريتشارد كرشنر بالفكرة، التي أقنع بها بدوره الأدميرال أرليه بيرك، رئيس العمليات البحرية. في سبتمبر ١٩٥٩، أخفق أول قمر صناعي من هذا النوع، وهو «ترانزيت ١-إيه»، في أداء مهمته؛ لكنْ في شهر أبريل من العام التالي، بلغ القمر «ترانزيت ١-بي» مداره بنجاح. استعان «ترانزيت ١-بي» بإحدى نماذج الصاروخ «ثور-إيبُل» للانطلاق إلى مداره، وهو الصاروخ الذي قدَّمَ إسهامًا كبيرًا في مجال تطوير الصواريخ؛ فقد أُعيد تشغيل صاروخ المرحلة الثانية المعزِّز في الفضاء، ومن ثَمَّ قدَّمَ طريقةً جديدة ومفيدة في بلوغ مدارٍ على النحو المأمول.
انطلق أيضًا أول قمر صناعي حقيقي لأغراض الاتصالات في عام ١٩٦٠. كان القمر «سكور»، في وقتٍ سابق على ذلك، قد اجتاز بعض اختبارات الإطلاق غير الناجحة، بَيْدَ أن القمر الذي عُوِّل عليه هو القمر «إكو». كان «إكو» عبارة عن بالون مملوء بالهواء المضغوط مصنوع من طبقة مايلار رقيقة مطلية بالألومنيوم، بقُطْر مائة قدم. عند عرض القمر داخل إحدى حظائر مناطيد المراقبة التابعة للبحرية، بَدَا مثل كرة شاطئ فضية ضخمة. وضَعَ أحدُ مهندسي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، ويُدعَى ويليام أوسوليفان، تصوُّرًا لاستخدام القمر الصناعي باعتباره قمرًا يقيس الكثافة عند حدود المجال الجوي من خلال الاحتكاك والمقاومة. فكَّرَ جون بيرس، مدير بحوث الاتصالات في «بيل لابس»، في استخدام مختلف؛ إذ كان يعلم بإمكانية إرسال إشارة لاسلكية من القمر الصناعي، ثم استقبالها على الطرف الآخر من البلاد. عندما انطلق «إكو ١» في مداره في أغسطس ١٩٦٠، تابَعَ بيرس العملَ على تحقيق ذلك التصوُّر، ونظرًا لأن «بيل لابس» كانت جزءًا من شركة «إيه تي آند تي»، كان هذا هو القمر الأول الذي يلبي احتياجات القطاع الخاص. كان القمر «إكو ١» أول خطوة مهمة نحو تحقيق مشروع تجاري في الفضاء، وصار المجال التابع له، وهو مجال الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، يمثِّل الاستخدام الشائع للفضاء على مستوى العالم بأسره. انبثقت كل تلك التوقُّعات الطموحة من ريادة بيل.
بعدما حصل بيرس على درجة الدكتوراه في هندسة الكهرباء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، انضمَّ إلى «بيل لابس» في عام ١٩٣٦ ضمن مجموعة منتقاة شملت دين وولدريدج فضلًا عن ويليام شوكلي، الذي أدار عملية اختراع الترانزستور. عمل بيرس على نُظم الرادار خلال الحرب، وفي عام ١٩٤٤، في زيارة إلى إنجلترا، التقى رودلف كومفنر، وهو أحد النمساويين المقيمين في إنجلترا وكان قد اخترع مكبِّرًا شديدَ الحساسية، وهو أنبوب الموجات المتنقلة. كان الأنبوب يستطيع إرسال واستقبال نطاقٍ كبيرٍ من الترددات، وهو ما جعله مثاليًّا في الوصلات الهاتفية التي تحمل أعدادًا كبيرة من المحادثات المتزامنة، وأمضى بيرس العقد التالي يطوِّر فيها. لم يكتفِ بيرس ببناء نماذج مطوَّرة منها بل وضع نظرية لتشغيلها، وصفها كومفنر بقوله: «إنها مختلفة جدًّا عن نظريتي، ولا تتميَّز بأنها أكثر اتساقًا فحسب، بل أكثر قوة.» بمرور الوقت، برز أنبوب الموجات المتنقلة باعتباره العنصرَ الرئيسي في الأقمار الصناعية المخصَّصة للاتصالات.
بدأ بيرس في التفكير لأول مرة في هذه الأقمار الصناعية في عام ١٩٥٤. كان الحديث عن الصواريخ ورحلات الفضاء منتشرًا في كل مكان، وعندما دُعِي بيرس لإلقاء كلمة في أحد اللقاءات الهندسية، جلسَ وحسبَ متطلبات الطاقة اللازمة في عمليات الاتصال عبر الأقمار الصناعية. وعندما تلقَّى استجابةً مُشجِّعة، توسَّعَ بيرس في هذا العمل المبدئي وأعَدَّ ورقةً بحثية فنية مفصَّلة عنه، بعنوان «المُرحِّلات اللاسلكية المدارية». نُشِرت الورقة البحثية في أوائل عام ١٩٥٥ في مجلة «جيت بروبولجن»، الصادرة عن جمعية الصواريخ الأمريكية.
كانت «بيل لابس» آنذاك في قمة مجدها. كان العلماء في «بيل لابس» قد اخترعوا الخلية الشمسية، فضلًا عن أنواع جديدة من الترانزستور، وكانوا يستهلُّون عصرَ إلكترونيات الحالة الصلبة من خلال ابتكار طرق جديدة لاستخدام السيليكون كمادة هندسية عملية. كان المناخ الإبداعي لا نظيرَ له، وكانت مجلة «فيزيكال ريفيو» — المجلة الرائدة في البلاد في مجال الفيزياء — تنشر أوراقًا بحثية من «بيل لابس» تفوق ما تنشره من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أو هارفرد أو برنستون. أخبر أحدُ رؤساء قسم الأبحاث في «بيل لابس» مجلة «فورتشن» أنه لم يكن من الصعب تقييم أي عالِم ضمن أعضاء الفريق: «كلُّ ما كان علينا هو أن نسأله، هل هذا مجال عمله ونطاق تخصُّصه، هل هو مُلِمٌّ بأدواته، وهل له بحثٌ رائد في مجاله؟ هل يسعى الآخَرون إلى الاستعانة بأفكاره؟» كانت هذه المعايير تنطبق على بيرس؛ إذ كان يُنظَر إلى الورقة البحثية التي كان قد أعَدَّها حول أنبوب الموجات المتنقلة باعتبارها ورقةً بحثية حاسمة في مجاله. على حدِّ تعبير يوجين فوبيني، أحد كبار مديري البحوث في البنتاجون الذي عَدَّ كلًّا من بيرس وكومفنر ضمن أصدقائه: «اخترع رودي أنبوب الموجات المتنقلة، واكتشفها جون.»
كان من بين التخصُّصات في «بيل لابس» تشكيل مجموعاتٍ بحثية صغيرة يمكنها تقديم إسهاماتٍ كبيرة؛ وقد أسفر هذا التعاون عن الترانزستور. بالإضافة إلى ذلك، فضَّلت إدارة المختبر اتباع أسلوب تدريجي، رافضةً أن تأخذ قفزات غير محسوبة نحو المجهول. جاء القمر «إكو» ملائمًا لهاتين السياستين، ونظرًا لأن ناسا كانت هي مَنْ سيتولَّى بناء القمر، فإنها أفسحت بذلك المجال أمام «بيل لابس» للتركيز على البحوث المتعلقة بالمحطات الأرضية ذات المكبرات الحساسة، وهو مجالٌ ساهَمَ في ازدهار تلك الشركة وزادَ من قوتها. تولَّى تنفيذَ هذه المهمة مجموعة من الأشخاص، جميعهم أصدقاءٌ مقرَّبون، ولم يتخطَّ العددُ الإجمالي للعاملين في «بيل» في مشروع القمر «إكو» أكثرَ من أربعين شخصًا.
مع ذلك، لم يكن «إكو» يصلح فعليًّا في الاتصالات العملية؛ إذ لم يكن جهازُ الاستقبال الموجود فيه يتلقَّى إلا جزءًا واحدًا من المليار من الإشارة المنقولة. وللتعامل مع هذا القصور، فيما أشار بيرس بأنه نقصٌ في قوة الإشارة بمقدار ١٨٠ ديسيبل، كان القمر «إكو» في حاجةٍ إلى تليسكوب لاسلكي بحثي عالي الجودة يُستخدَم كمحطة أرضية، فضلًا عن مكبِّر مازر، وهو أكثر مضخِّمات النبضات الكهربائية حساسيةً وأكثرها دقةً. كان التغلب على تلك العقبة يتطلَّب أقمارًا لا تعتمد فقط على الانعكاس السلبي مثلما في القمر «إكو»، بل تعتمد أيضًا على تَلقِّي الإشارات وتكبيرها وإعادة نقلها على نحو فعَّال.
كان هذا القمر سيعتمد على أنبوب الموجات المتنقلة، وكانت «بيل لابس» تبني «تلستار»، أول أنبوب من هذا النوع، على الرغم من عدم وصوله إلى مدار حتى عام ١٩٦٢. في أكتوبر ١٩٦٠، أطلق الجيش القمر «كورير ١-بي»، وعلى الرغم من أن هذا القمر الصناعي لم يكن يشتمل على أنبوب بيرس، فقد كان من بين الأجهزة الإلكترونية التقليدية به خمسةُ أشرطةِ تسجيلِ؛ شريط لتسجيل الصوت وأربعة أشرطة لماكينات الآلة الكاتبة عن بُعْد. كان القمر يرسل حتى ٨٠٠ ألف كلمة من النصوص خلال الأربع عشرة دقيقة التي كانت في مرمى رؤية محطة أرضية. لم يُكمِل القمر مهمته بعد سبعة عشر يومًا، لكن ذلك كان بمنزلة خطوة وسيطة مهمة.
ظهرت مبادرة أخرى مثيرة للاهتمام في عام ١٩٦٠، كخطوة تمهيدية لإرسال بعثاتٍ غير مأهولة إلى كوكبَي الزهرة والمريخ. كان يتعيَّن استخدام الطاقة الشمسية لتشغيل هذه المركبات الفضائية لعدة أشهر، بينما تتصل بالأرض عبر عشرات الملايين من الأميال. كانت عربة السَّبْر الفضائية الأولى التي تعتمد على الطاقة الشمسية هي «بايونير ٥»، التي انطلقت في مارس. تولَّتْ هذه البعثةَ نفسُ المجموعة التي تولَّتْ إطلاقَ القمر «بايونير ١» التابع للقوات الجوية، وتألَّفَتْ هذه المجموعة من دولف ثيل وجورج مولر، وألن دونوفان وورب متلر، ولويس دان، وجورج جلجهورن، وريتشارد بوتن، وغيرهم ممَّن ساهموا في هذا المشروع. حاول مجددًا أفراد هذه المجموعة الذين أصقلتهم التجربة؛ وانضمَّ إليهم السير برنارد لوفيل، مستخدِمًا تليسكوبه اللاسلكي العملاق ليس فقط في تتبُّع المركبة الفضائية، بل أيضًا في إصدار أوامر إليها.
انطلق الصاروخ في سماء الصباح الصافية، حاملًا القمر «بايونير ٥» في رحلته، ومخلِّفًا وراءه لسانًا من اللهب. مرَّتْ أسابيع، وكانت الإشارات اللاسلكية الصادرة عنه واضحة ومحددة. بدأ الطلاب المتظاهرون حركةَ حقوقٍ مَدنيَّة بالجلوس على طاولات طعام منفصلة في الجنوب، ولا تزال عربة السَّبْر الفضائية مستمرة في رحلتها. فاز السيناتور جون كينيدي في الانتخابات التمهيدية في فرجينيا الغربية ويسكونسن، واضعًا نفسه على طريق البيت الأبيض. واصلت المركبة الفضائية رحلتها، وأرسل جهاز الإرسال في المركبة ما لا يزيد عن ٥ وات من الطاقة، وهو ما لا يزيد عن طاقة مصباح في شجرة الكريسماس، إلا أن لوفيل ظلَّ يتلقَّى الإشارة بوضوح. وأخيرًا، في أواخر شهر يونيو، على مسافة اثنين وعشرين مليون ميل عن المحطة الأم، أرسلت المركبة آخِرَ رسالةٍ لها ثم اختفت في غياهب الفضاء الكوكبي الشاسع.