ما بعد الظهيرة في شهر مايو
مطعم لوك أوبرز في بوسطن المشهور بباره الهادئ الذي يقدِّم المحَار. خلال فترة الخمسينيات من القرن العشرين، كان من بين روَّاد المطعم المعتادين جاك وروبرت كينيدي، اللذان غالبًا ما كانا يمكثان في المطعم حتى إغلاقه. كان كبير النُّدُل في المطعم، الذي كان يُطلِق على نفسه اسم فريدي، مولعًا بالصواريخ، وفي إحدى الأمسيات قدَّمهما إلى عميل آخَر، وهو ستارك دريبر الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان فريدي يأمل أن يقنعهما دريبر بمزايا البرنامج الفضائي، لكن الأخَوان كينيدي رفضا الفكرة جملةً وتفصيلًا. ذكرَ دريبر لاحقًا أن جون فيتزجيرالد كينيدي، الذي كان عضو كونجرس آنذاك، «لم يكن من الممكن إقناعه أنْ ليست كل الصواريخ هدرًا للأموال، وأن الملاحة الفضائية ليست أسوأ.»
لم يكن ثمة ما يدعو كينيدي للتفكير بأسلوب مختلف. كان كينيدي يمثِّل ماساتشوستس؛ حيث كان غياب الشركات الكبرى في مجال صناعة الفضاء لافتًا. كتب هيو سايدي من مجلة «تايم»، وهي مجلة لها باعٌ في مراقبة أداء الرؤساء، أنه من بين الموضوعات التي صادَفَها في البيت الأبيض، «ربما كان الفضاء هو الموضوع الذي عرف عنه أقلَّ القليل ولم يفهمه كثيرًا». لكنَّ الديمقراطيين كانوا قد قطعوا شوطًا كبيرًا في ذلك باتهام آيزنهاور بعدم الاكتراث بهذا المجال، وكان كينيدي يعرف القضيةَ الرابحة متى ارتآها. خلال حملته الانتخابية في عام ١٩٦٠، تبنَّى موضوع الرحلات الفضائية وجعله قضيته الشخصية؛ إذ تطرَّقَ إلى الموضوع مرارًا وتكرارًا في خطاباته، بينما اتهم السياسات الجمهورية بأنها جعلت البلاد ضعيفةً في مواجهة هذا التحدي. وبينما هو يحذِّر من خطورة التحدي، كان سيرجي كوروليف يزيد التحدِّي خطورةً.
منذ عام ١٩٥٧، كان كوروليف قد عمل على تطوير الصواريخ التعزيزية ومركبات الفضاء العسكرية، مؤهِّلًا إياها لإجراء اختبارات إطلاق تجريبية تحقِّق أفضلَ دعاية ممكنة. كان كوروليف قد نجح في تحقيق ذلك مع بعثات أقمار «لونا»، التي كانت قد برهنَتْ على كفاءة الصاروخ «آر-٧» في التحليق باستخدام صاروخ المرحلة العليا لسيمون كوزبِرج. كان النموذج الأوَّلي للمرحلة العليا قد جرى تصميمه في عجلة، إلا أن كوزبِرج قد بنى نموذجًا محسَّنًا منه ذا قوة دفع أكبر. ومن خلال هذا الصاروخ، استطاع كوروليف الإعداد لإطلاق أول قمر استطلاعي، باسم «زينيت» (زينيث).
على غرار ما كان في صواريخ «ديسكفرر»، التقطت هذه الأقمار صورًا لمساحاتٍ شاسعة بجودة عالية. كانت كلُّ رحلة تغطي الولايات المتحدة بكامل مساحتها، وبينما لم يستطع القمر «زينيت» تقديمَ صورٍ تُظهِر كرات الجولف في ملاعب الجولف الرئاسية، كانت الصور التي يبعث بها واضحةً بما يسمح لمحلِّلي الاستخبارات بإحصاء عدد السيارات في باحة انتظار. بالإضافة إلى ذلك، كان «زينيت» يشبه «ديسكفرر» في الاعتماد على كبسولةٍ تعود إلى الأرض، وهو ما يسمح بالاسترجاع العَيني؛ ومن ثَمَّ، طرح البرنامج المشكلةَ نفسها التي كانت تقضُّ مضجعَ ريتشارد بِسل، أَلَا وهي كيفية تطوير الوسائل لتنفيذ عملية الاسترجاع هذه على نحوٍ موثوقٍ فيه. بالإضافة إلى ذلك، كان على كوروليف حل المشكلة قبل دخول «زينيت» الخدمة في وزارة الدفاع، وكان عليه أن يتأكَّد من أن كبسولات القمر ستعود إلى موضعها الصحيح. ولم يكن مجديًا بناءُ قمرٍ مُناظِرٍ للقمر «ديسكفرر ٢»، الذي سقط في أيدي السوفييت.
لكن كوروليف كانت لديه ميزة مهمة؛ لأن «زينيت» كان أكبر حجمًا من «ديسكفرر»، وهو ما كان يعني أن نسخة معدَّلة من القمر يمكنها أن تحمل على متنها كلابًا ورائدَ فضاء؛ أما كبسولة «ديسكفرر» فكانت غايةً في الصِّغَر، حتى إن أقصى ما يمكنها حمله هو الفئران. لكن من خلال «زينيت»، استطاع كوروليف إرسال أول إنسان إلى الفضاء، محقِّقًا نصرًا مؤزرًا؛ وأُطلِق على هذا النموذج المأهول اسم «فوستوك» (أيِ الشرق).
كانت السمة الأكثر تمييزًا للمركبتين هي كبسولة مستديرة لمعاوَدة الولوج إلى المجال الجوي للأرض. مثلما فعل ألن وإجرز من اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، قدَّر مصمِّمو كوروليف أن هذه المركبة لم يعوزها سوى شكل انسيابي غير حادٍّ بدلًا من الشكل الحاد ذي المقدمة المدببة. في اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، كان خبير ديناميكا الهواء ماكس فاجت قد أجرى مجموعةَ تجارب عند سرعاتٍ تفوق سرعةَ الصوت في أنفاق هوائية، ومن ثَمَّ برهَنَ على أن الشكل المخروطي العادي لكبسولة «ميركوري» يمكن أن يحافِظ على ثباته عند ولوجه المجالَ الجوي. كان كوروليف يفتقر إلى وجود المنشآت اللازمة لإجراء هذه الدراسات، وهو ما كان يعني أن أي شكلٍ يجري اختياره لكبسولته ربما يتسبَّب في تعثُّرها أثناء ولوجها المجال الجوي: ستنسابُ الكبسولة المستديرة بحرِّيَّة عبر الفضاء. وعلى الرغم من أن هذا قد يسبِّب حالةً من عدم الارتياح لرائد الفضاء على متنها، فلن يؤدي إلى الإضرار ببكرةِ فيلمٍ على سبيل المثال.
بلغ النموذج التجريبي الأول للمركبة «فوستوك» مدارَه في مايو ١٩٦٠. لم تكن المركبة تحمل كلابًا أو كاميرا، ولم تكن تتوافر فيها أنظمةُ حمايةٍ حرارية؛ ومن ثَمَّ، احترقَتْ كبسولتها في المجال الجوي للأرض. توقَّفَ نظامُ توجيهِ المركبة، ومثلما حدث مع «ديسكفرر ٥»، انطلق صاروخها الارتكاسي الكابح في الاتجاه الخطأ، وهو ما جعل الكبسولة تنطلق في مدار جديد وأعلى ارتفاعًا.
مع ذلك، ناقشَتِ المصادر السوفييتية عمليةَ إطلاقِ المركبة بشيءٍ من التفصيل، مشيرةً إليها بوصفها نموذجًا أوَّليًّا لمركبة مأهولة، يزن خمسة أطنان. أقَرَّ السوفييت بصراحة أنهم حاولوا تنفيذ عملية ولوج المجال الجوي للأرض لكنهم فشلوا في ذلك، ولكنه أمرٌ لم يُسفِر عن أي أضرار؛ فلم يكن ثمة أي شخص على متن الكبسولة، إذ كانت عليها دُمية فقط. أدهَشَ هذا التصريحُ الكثيرين، وصرَّحَ السيناتور جاكسون والجنرال مداريس أن هذه المركبة كان على متنها إنسان بالفعل. نشرت صحيفة «لندن إيفنينج ستاندرد» رسمًا كاريكاتوريًّا يظهر فيه رائد فضاء يرسل إشارة لاسلكية يقول فيها: «من الدُّمية إلى القاعدة، من الدُّمية إلى القاعدة، ما هذا الحديث عن عدم العودة؟» لكن، كانت موسكو تقول الحقيقة، وكانت لديها أسبابها للقيام بذلك؛ إذ كانت تستطيع أن تحقِّق مكاسبَ دعائية من خلال إظهار أن لديها الوسائلَ اللازمة لإرسال إنسانٍ إلى الفضاء، حتى إنْ لم تكن قد فعلت ذلك بعدُ، وهو ما أضاف بدوره مزيدًا من الضغط على الأمريكيين.
في أواخر شهر يوليو، انفجرت مركبةٌ فضائية وأفضَتْ إلى مقتل كلبَيْن، اسمهما «تشايكا» و«ليزيشكا». أظهرت مجددًا عملية الإطلاق التالية للمركبة «فوستوك»، في منتصف أغسطس، تشابهًا عجيبًا بين البرامج السوفييتية والأمريكية. كانت حكومتا هذين البلدين قد منحتا برامج الصاروخين الباليستيَين العابرَين للقارات، الصاروخ «آر-٧» والصاروخ «أطلس»، أولويةً قصوى خلال الأسبوع نفسه من شهر مايو ١٩٥٤. كان يفصل بين اختبارات إطلاق الصاروخين أقل من أربعة أسابيع في ربيع ١٩٥٧. بعد عام ونصف العام، أرسلَ كوروليف والجنرال شريفر بعثاتٍ فضائية إلى القمر في اليوم ذاته، ومع نجاح عمليات استرجاع كبسولتَي القمرين «ديسكفرر ١٣» و«ديسكفرر ١٤» خلال الأسبوع الماضي، حقَّقَت المركبة «فوستوك» الثانية نجاحًا مماثلًا، عند عودتها بعد يوم واحد فقط من عودة «ديسكفرر ١٤». كان على متن المركبة السوفييتية كَلبان اسمهما «بيلكا» و«ستريلكا» (أي السنجاب والسهم)، وفقًا للصور التي أرسلتها كاميرا تليفزيونية على متن المركبة إلى المحطة الأرضية. اعترضَ أحدُ العلماء الأمريكيين قائلًا: «سيرسلون في المرة القادمة فريقَ كرةِ قدمٍ وشاحنةً طراز «ماك» إلى الفضاء.» حذَّرَ جاك كينيدي قائلًا: «كان اسم أول كَلبَين صعدا إلى الفضاء وعادَا سالمَين «ستريلكا» و«بيلكا»، لا «روفر» أو «فيدو».»
شجَّعت تلك النتائج المسئولين السوفييت على الموافَقة على إرسال إنسانٍ إلى الفضاء بحلول نهاية العام. جرت عملية إطلاقٍ تجريبية أخرى في ديسمبر، لكن المركبة احترقَتْ أثناء إعادة ولوجها المجال الجوي، ومات الكَلبان «شيلكا» و«موشكا» اللذان كانا على متنها. في وقتٍ لاحق خلال هذا الشهر، فشلت عملية إطلاق أخرى في الوصول بالمركبة إلى مدارها، بَيْدَ أن الكبسولة سقطت في سيبيريا، وجرى إنقاذ الكَلبَين اللذين كانا على متنها. فتحت روسيا جبهةً جديدةً أيضًا في فبراير ١٩٦١، من خلال إرسال أول بعثة لها إلى كوكب الزهرة؛ إذ نشرت موسكو رسومًا لهذه المركبة، توضح أنها كانت أكثر تطورًا بكثير من المركبة «بايونير ٥». كانت لدى المركبة أيضًا مهمة عاجلة؛ إذ كان عليها الاقتراب من كوكب الزهرة ثم المرور بجواره. تعطَّلَ جهازُ نقل الإشارات في المركبة عند ارتفاع ٤٫٧ ملايين ميل، بَيْدَ أن العلماء الأمريكيين كانوا على استعدادٍ للترحيب بالمحاولة. قال أحد أعضاء طاقم عمل المركبة «بايونير»: «عندما سمعتُ بالمتاعب التي واجَهَها السوفييت، كان ردُّ فعلي الفوري هو الرضا عن أدائنا، وأننا أبلينا بلاءً أفضل. ثم، شعرتُ بالخزي من ردِّ فعلي.»
لم تكن المركبة «فوستوك» جاهزةً بعدُ لإرسال إنسان في بعثة فضائية؛ لذا أُجرِي اختبارَا إطلاقٍ آخران خلال شهر مارس، وكانت المركبة «فوستوك» في كلتا المرتين تحمل كلبًا؛ في المرة الأولى «تشيرنوشكا» (أي الأسود)، وفي المرة الثانية «زفيزدوشكا» (أي النجم الصغير). عادت المركبة في كلا الاختبارَين بسلام؛ وبذلك، تكون المركبة قد نجحت في العودة سالمةً أربعَ مرات من إجمالي خمس محاولاتٍ، بما في ذلك تحقيق نجاح كامل في البعثتين الأخيرتين. لم يكن إطلاق رائد الفضاء الأول في بعثة مسألةً بعيدةَ المنال. في تلك الأثناء، كان جون كينيدي يحمل زمام السلطة في البيت الأبيض، وكان عليه التعامل مع تلك النتائج.
الكلُّ يعرف أن كينيدي وافَقَ على المشروع الذي لم يشرع آيك في تنفيذه إلا في شهر ديسمبر. اختار كينيدي التصديق على مشروع «أبولُّو» وعلى إرسال روَّاد فضاءٍ إلى القمر؛ كان هذا القرار أحد أكثر التحولات اللافتة في صناعة سياسات الحرب الباردة، وهو قرار كان له ما يبرِّره؛ إذ يُعزَى القرارُ في جزءٍ منه إلى الجهود المستمرة لتوسيع نطاق الدور الفيدرالي في مجال التكنولوجيا، كما أنه كان يعتمد بقوة على وجهة نظر شائعة، أَلَا وهي أن أهم التقنيات الجديدة لن تتمخض عن العمل في القطاع الخاص، بل ستكون نِتاج المبادرات الفيدرالية.
كان البرنامج الفيدرالي الأساسي في مجال التكنولوجيا يتضمن أشغالًا عامة، وكان قد بدأ خلال القرن التاسع عشر؛ فبنى لنكولن أولَ خط سكة حديد عابر للقارات، لا من خلال عمليات مصادرة الأراضي، بل من خلال منح قطع أراضي شاسعة لشركتَيْ بناء خطوط السكك الحديدية «سنترال باسيفيك» و«يونيون باسيفيك». امتدت خطوط سكك حديدية أخرى عبر البلاد بعد تَلقِّي منح أراضي مماثلة. في حقيقة الأمر، كان تمويل القطاع الخاص في عالم خطوط السكك الحديدية، غير معتادٍ على الإطلاق، حتى إن رجل الصناعة صاحب النفوذ الواسع جيمس جيه هيل اشتهر باعتماده على التمويل الخاص، وهو ما أفضى إلى توفير دعم فيدرالي عندما شرع في بناءِ خط جريت نورذرن.
ثم جاءت قناة بنما، وهي مشروع فيدرالي سبق «أبولُّو» بأكثر من نصف قرن، لكنه أظهر رغم ذلك بعضَ أوجه التشابُه المفيدة. انبثقَتْ فكرةُ مشروع قناة بنما من الأحداث العسكرية الأخيرة؛ إذ لم تجد البحرية، خلال الحرب الإسبانية الأمريكية، طريقةً لتحريك سفنها البحرية بسرعة بين المحيطين. وكان ثمة تحدٍّ آخَر من الخارج؛ إذ كانت فرنسا قد حاولت حفر هذه القناة، لكنها فشلت؛ ومن ثمَّ، كان المشروع اختبارًا للصلابة الأمريكية. مثَّلَ مشروعا بنما و«أبولُّو» مركزًا لأفضل المهارات والطاقات في البلاد، وقد استغرقَ كلا المشروعَين عِقدًا لإتمامهما، سار العمل خلاله في ظل ثلاثة رؤساء وحِزبيْن.
شهدت فترة الكساد العظيم، بعدها بعشرين عامًا، عصرًا من بناء السدود والمشروعات المائية: هيئة وادي تينيسي، وسد هوفر، وجراند كوليه. ثم في منتصف خمسينيات القرن العشرين، أطلق آيزنهاور أكبرَ برامج الأشغال العامة على الإطلاق؛ نظام الطرق السريعة بين الولايات. عكسَ المشروعُ إلى حدٍّ كبير حجمَ النشاط الذي كانت واشنطن مستعدةً آنذاك لأدائه، كما أوضحَ هذا المشروع كيف يمكن لهذه المبادرة أن تغيِّر حياةَ الناس إلى الأفضل.
كانت الحكومة الفيدرالية قد بدأت في بناء الطرق منذ عام ١٩١٦، ومرَّرَ الكونجرس مشروعَ قانونٍ لإنشاء طريقٍ سريع رئيسي في عام ١٩٤٤. أدَّى توفير هذه التمويلات إلى بناء طرق مثل طريق «يو إس ١» على طول الساحل الشرقي، وكان من بين مشروعات الطرق الأخرى طريق ٦٦ الأسطوري بين شيكاجو ولوس أنجلوس، وطريق ٦١ السريع شمال نيو أورلينز، وطريق لنكولن السريع الممتد عبر القارة، المعروف ﺑ «يو إس ٣٠»؛ لكنْ، لم يكن أيٌّ من تلك الطرق طريقًا رئيسيًّا يربط بين الولايات، بل كانت عبارة عن حاراتٍ ضيقة يفصلها شريطٌ أصفر مطلي، وكثيرًا ما كانت تشهد حوادثَ تصادُمٍ بالمواجَهة، لا سيَّما عند المنحنيات أثناء الليالي المطيرة. شهدت هذه الطرق السريعة أيضًا حوادثَ تصادُمٍ بين مقدمة سيارة ومؤخرة سيارة أخرى؛ حيث إن السيارات في تلك الحقبة لم تكن تحتوي على إشارات انعطاف؛ إذ كان السائقون يعتمدون على إشارات اليد للإشارة إلى وجهتهم. وكانت حركة السيارات تتدفَّق كيفما تشاء عبر وصلات الطرق، وكان سائقو السيارات في كثيرٍ من الأحيان يتعرَّضون لحوادث تصادُم من الخلف عندما كانوا يقلِّلون فجأةً من سرعة دراجاتهم للانعطاف نحو محطةٍ على جانب الطريق.
نشأت أولى الطرق السريعة بين الولايات، بمفهومها الحقيقي، من خلال جهود حكومات الولايات. كان مسئولو الولايات يفضِّلون بناءَ الطرق الخاضعة لرسوم مرورٍ، وذلك بتمويل من سنداتٍ حكومية تصدرها حكومةُ كلِّ ولاية، بينما كانت الرسوم التي كان يدفعها سائقو السيارات على الطرق تغطي تكلفة أصل القرض وقيمة الفائدة. جاءت المبادرة الأولى من ولاية بنسلفانيا؛ حيث انتهى العمل في الطريق السريع الخاضع لرسوم مرور، الذي امتد ليغطي الولاية بأكملها بحلول عام ١٩٥١؛ لكنَّ قطاعًا كبيرًا من هذا الطريق كان يمر عبرَ أراضٍ زراعية لا تكاد تكون مأهولة ومراعٍ مرتفعة. على النقيض من ذلك، كان طريق نيو جيرسي السريع الخاضع لرسوم مرور يمر في قلب المنطقة المأهولة بالسكان في الشمال الشرقي. حدَّدَ هذا المشروع وتيرةَ العمل؛ فقد صدر السند الحكومي بتاريخ ١٩٥٠، وافتُتِح الطريق في عام ١٩٥٢ قبل موعده وحقَّقَ نجاحًا فوريًّا. قلَّصَ الطريق الجديد من فترة القيادة عبره — من نيويورك إلى ديلاور — من خمس ساعاتٍ إلى ساعتين، وأدَّى إلى الحد من الإجهاد الواقع على السيارات والسائقين على حدٍّ سواء. في غضون أشهر، جاءت النتائج مُرضية، حتى إن مسئولي الطرق السريعة الخاضعة لرسومِ مرورٍ قد وجدوا أن حركة المرور والإيرادات فاقتا التوقُّعات. شجَّعَ هذا النجاح على نحوٍ بالغ مؤيدي إقامة الطرق السريعة في الولايات الأخرى.
في يونيو ١٩٥٢، في ظل الإنجاز الواضح الذي تحقَّقَ في نيو جيرسي، باعت ولاية أوهايو سندًا حكوميًّا بقيمة ٣٢٦ مليون دولار أمريكي لتمويل طريقها السريع الخاضع لرسوم مرور، ثم أعلن مسئولو ولاية إنديانا أنهم سينشئون الطريق السريع الخاص بالولاية لربطه بالطريق السريع لولاية أوهايو؛ كذلك، بدأت أعمال الإنشاءات في طريق نيويورك السريع، وهو طريق آخَر خاضع لرسوم مرور. بالنسبة إلى سائقي السيارات، أسفرَ كلُّ هذا النشاط عن توقعاتٍ مُذهلة؛ فبإكمال مجموعة من الطرق، كانت لا تزال قيد الإنشاء والتخطيط آنذاك، يستطيع سائقو السيارات القيادةَ من نيو إنجلاند إلى شيكاجو دون الحاجة إلى إشارة توقُّف خلفية.
لكن، حتى مؤيدو الطرق السريعة الخاضعة لرسوم في الولايات كانوا يعلمون أن هذه الطرق لا يمكن ألا تكون سوى جزءٍ صغير فقط من شبكة عامة للطرق السريعة بين الولايات. ونظرًا لأن هذه الطرق كانت تُموَّل من خلال السندات، لم يكن من الممكن إنشاؤها إلا في الأماكن التي بها كثافة مرورية بالقدر الذي يكفي لتحقيق الإيرادات المطلوبة. لم يكن أحدٌ يشكُّ في قيمة الطرق السريعة؛ إذ إنها لم تكن فقط توفِّر الوقتَ وتنقذ الأرواح، بل كانت أيضًا توفر ميزة هائلة لصناعة الشاحنات. على الرغم من ذلك، كانت ثمة حدود تتصرَّف في نطاقها الولايات، وكانت تلك الحدود باديةً للعيان.
في هذه المرحلة، تدخَّلَ آيزنهاور فأخبر مستشاريه في عام ١٩٥٤ أنه «يريد خطة شاملة للبدء في إنشاء شبكة طرق سريعة ذاتية التمويل بقيمة ٥٠ مليار دولار أمريكي»، وكان من المقرَّر أن تموِّل الطرقُ ذاتَها من خلال الضرائب التي يدفعها سائقو السيارات. لم يكن هذا المبلغ صغيرًا بالطبع؛ إذ كانت قيمةُ الميزانية الفيدرالية الإجمالية خلال هذا العام ٦٨ مليار دولار أمريكي. مع ذلك، أدَّى نجاحُ الطرق السريعة الخاضعة لرسومِ مرورٍ إلى اجتذاب الدعم السياسي اللازم؛ وهو ما أدَّى إلى صدور قانون المساعدة الفيدرالية لتمويل الطرق السريعة لعام ١٩٥٦. كانت شبكة الطرق السريعة الحديثة بين الولايات إحدى ثمار هذا القانون، ومع انتشار الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور عبر البلاد، تجلَّى بوضوحٍ كيف استطاعَ هذا البرنامج الفيدرالي الطَّموح تغيير الطريقة التي كان الناس يعيشون ويعملون بها.
أدت الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور إلى تدفُّق هائل نحو ضواحي المدن. لطالما كانت المدن تضم مجموعاتٍ من سكان الضواحي غير الدائمين، الذين كانوا يتنقلون عبر القطار؛ حيث كانت طرق السكك الحديدية التي يستخدمها هؤلاء المسافرون المرتحلون بصفة يومية قد أُنشِئت قبل الحرب الأهلية. برزت الطرق السريعة بين الولايات بوصفها ممرات تنمية في حد ذاتها؛ فقُرْبَ بوسطن، كان طريق ١٢٨ يمثِّل قطاعًا مبدئيًّا من طريق آي-٩٥، وصارت هناك أربعون شركة على طول الطريق في منتصف عام ١٩٥٥، وأكثر من مائتَيْ شركة بعدها بثلاث سنوات. في تقرير صادر عن ولاية نيويورك، ورد أن بناء طريق نيويورك السريع قد أدَّى إلى تنفيذ استثماراتٍ جديدة على طول الطريق بما لا يقل عن ٦٥٠ مليون دولار أمريكي، من بينها مركز إلكترونيات كبير في سيراكيوز، بَنَتْه شركة «جنرال إلكتريك». صرَّحَ مسئولو الشركة أن طريق نيويورك السريع سيصبح كأنه خط نقل، يأتي بالمواد الخام وينقل المنتجات النهائية إلى الأسواق في الشمال الشرقي.
على غرار مركز الإلكترونيات في سيراكيوز، عادةً ما كانت المصانع الجديدة نظيفة وغير ملوثة، من دون المداخن الكئيبة وساحات الشحن المثيرة للاشمئزاز التي كانت تميِّز الصناعة في أيامها الأولى. نتيجةً لذلك، كانت هذه المصانع قائمةً جنبًا إلى جنب مع الضواحي الجديدة دون إثارة أي مشكلات، وسرعان ما شرعَ مختصو التنمية في بناء المزيد من كلتَيْهما. على طول شارع جاردن ستيت المشجَّر بولاية نيو جيرسي، على سبيل المثال، وضعَتْ إحدى النقابات الكائنة في نيويورك خططًا لبناء مائتي ألف منزل، فضلًا عن منشآت صناعية ومُجمَّعات سكنية. أفضت هذه الترتيبات إلى تحولاتٍ اجتماعية كبيرة؛ إذ إنه مع تدفُّق الوظائف إلى خارج المدن المركزية بطول الطرق الجديدة، لم تعُد المدن أماكنَ التجمُّع الرئيسية في البلاد التي يقصدها الناس بغرض العمل والعيش. في عام ١٩٦٠، لم يكن تدهورها التام قد حدث بعد. لكن، كان من الواضح آنذاك أن ضواحي المدن، التي تمر بها الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور، ستصبح المراكز الجديدة للحياة الأمريكية.
أظهر نجاح الطرق السريعة بين الولايات على نحوٍ لافتٍ ما يمكن أن تفعله واشنطن، وهو ما أثار الأملَ في أن تحقِّق مبادراتٍ فيدرالية أخرى فوائدَ مماثلة. ساهَمَ نشاطٌ حكومي آخَر في تحويل النُّظم العسكرية الكبرى إلى منتجاتٍ تُنشِئ صناعاتٍ جديدة في السوق المدنية، وكان من بين تلك الصناعات صناعةُ الطائرات النفاثة والطاقة النووية للأغراض السلمية.
ترجع أصول الطائرات النفاثة الأمريكية الكبيرة إلى الجنرال كرتيس لوماي، الذي رأسَ القيادة الجوية الاستراتيجية في الفترة ما بين عامَيْ ١٩٤٨ و١٩٥٧، والذي ظلَّ يقدِّم طلبات لا تتوقَّف لإرسال طائراتٍ قاذفة نفاثة أكبر في حجمها ومداها وقوتها الضاربة. يرجع مسار تطوير هذه الطائرات إلى تطوير محرك نفاث جديد، وهو المحرك «جيه-٥٧»، من قِبَل شركة «برات آند وتني». بلغت قوة دفع المحرك عشرة آلاف رطل، وهي قوة دفع مرتفعة للغاية آنذاك، وتساعد أيضًا في ترشيد استهلاك الوقود بدرجة جيدة، بالنسبة إلى صواريخ المدى الطويل.
كانت شركة «بوينج» قد بَنَتِ الكثيرَ من الطائرات القاذفة وقتَ الحرب، بما في ذلك الطائرة «بي-٢٩» التي قد ساهمت في هزيمة اليابان. كانت الطائرة «بي-٤٧» التي طوَّرتها شركة «بوينج» أهم الطائرات القاذفة النفاثة الأولى، لكن كان لوماي يريد ما هو أكثر من ذلك. استجابت «بوينج» إلى ذلك بالطائرة الأكثر إمكاناتٍ «بي-٥٢»، التي كانت تستخدم محرك «جيه-٥٧». أخذت هذه الشركة أيضًا زمامَ المبادرة في بناء خزانات لإعادة التزوُّد بالوقود جوًّا، وهو ما سمح لطائرة لوماي بزيادة مدى طيرانها كيفما شاءت. في عام ١٩٤٩، بشَّرَت الطائرة «بي-٥٠» التابعة للقوات الجوية بما يمكن لهذا الأسلوب أن يحقِّقه في المستقبل، وذلك من خلال التحليق حول العالم دون توقُّف. كان بإمكان القاذفة «بي-٥٠» حمْلُ قنبلة ذرِّيَّة، وكان ستالين يعرف ذلك.
كانت طائرات النقل الأولى تستخدم محركات ذات مكابس؛ مما يجعلها لا ترقى إلى مستوى القاذفات النفاثة الجديدة التي كانت أسرع بكثير. في عام ١٩٥٢، قرَّرَ رئيس شركة «بوينج»، ويليام ألن، إنفاقَ ١٦ مليون دولار أمريكي من أموال الشركة لبناء طائرة نفاثة جديدة، يمكنه تقديمها إلى القوات الجوية لاستخدامها كطائرة نقل. بالإضافة إلى ذلك، كان ألِن يحاول بيع الطائرة نفسها كطائرة نفاثة إلى شركة خطوط «بان أمريكان» العالمية وإلى شركات طيران أخرى، بل كان يبني كلا النموذجين في منشآتٍ حكومية، باستخدام معداتٍ وأدواتٍ تُورِّدها الحكومة.
كان هذا أسلوبًا جريئًا، لكنه يحمل في طيَّاته شيئًا من اليأس المُفضِي إلى التهوُّر؛ إذ لم تفلح «بوينج» قطُّ في بناء طائرة مدنية ناجحة تجاريًّا؛ فقد ازدهرت «بوينج» بوصفها شركة مختصة ببناء طائرات حربية، تارِكةً سوق الطائرات المدنية للشركتين المنافستين لها، «لوكهيد» و«دوجلاس إيركرافت». كان دونالد دوجلاس، مؤسِّس «دوجلاس إيركرافت» ورئيسها التنفيذي، قد بنى معظم الطائرات المدنية المستخدمة وقتها في سوق الطائرات المدنية، ولم يكن في حاجة إلى نموذجٍ أوَّليٍّ تبتكره الشركة أو تصميمٍ ذي حجم واحد يلائم كلَّ الأغراض. كان دوجلاس يعرف أن قرار ألن كان يُعتبَر محاولةً للدخول إلى عالم الطائرات النفاثة المدنية مع تحميل لوماي فاتورة ذلك. جلسَ دوجلاس في هدوء، ينتظر أن يتعرَّف على رغبة عملائه، ويرقب ما يجري بينما كانت «بوينج» تضع نفسها في مأزق صعب بابتكار طائرة تلائم احتياجات لوماي بدلًا من احتياجات عملائها من شركات الطيران، ثم يطلُّ هو بطائرته النفاثة الجديدة، وهي طائرة تفوق نظيراتها كثيرًا، تكتسح السوق وتخلِّف «بوينج» وراءها تلعق جراحها.
كان دوجلاس على دراية بما يفعله. كانت الكابينة في النموذج الأوَّلي لطائرة «بوينج» ضيقة للغاية بما لا يوفر الراحة للركَّاب، فضلًا عن أن المدى الذي كانت تقطعه الطائرة قصير للغاية بما لا يجعلها تتفادى التوقُّف في محطات مؤقتة في رحلاتها عبر المحيط الأطلنطي. انتظر دوجلاس حتى واتَتْه الفرصة، ليفوز بعقد تصميم طائرة جديدة، هي «دي سي-٨»، التي كانت تحتوي على محركات أكثر قوةً يمكنها التزوُّد بحمولات أثقل من الوقود؛ ممَّا يمكِّنها من قطع المدى الكامل لرحلاتها عبر المحيط الأطلنطي دون توقُّف، فضلًا عن كابينة ركَّاب أكثر راحةً. بَيْدَ أن ألِن كان على قدر هذا التحدي؛ فقد تقبَّلَ تكبُّدَ تكاليف إضافية عن طيب خاطر، فزوَّدَ تصميمَ الطائرة الجديدة بجناح جديد أكبر حجمًا يتيح لها أيضًا التزوُّد بكمية أكبر من الوقود، كما وافَقَ على تركيب المحركات الأحدث وتوسيع الكابينة كذلك. نجحت المحاولة؛ إذ فاقت طائرته الجديدة، «بوينج ٧٠٧»، في مبيعاتها مبيعات طائرة «دي سي-٨».
أطلقت شركة «بان أمريكان» أولى طائراتها النفاثة العابرة للمحيط الأطلنطي، الطائرة «بوينج ٧٠٧»، في رحلة من نيويورك إلى باريس في أكتوبر ١٩٥٨، وسرعان ما تبعتها شركات طيران أخرى في رحلات داخلية، وبحلول عام ١٩٦٠ كانت طائرات «بوينج ٧٠٧» تحلِّق في كل مكان في البلاد. اكتسبت مدينة سياتل، مقرُّ شركة «بوينج»، ميزةً جديدة عندما صارت شركة «بوينج» في مصافِّ الشركات العملاقة في مجال بناء الطائرات المدنية النفاثة. تدفَّقَتْ أفواجُ المسافرين على الطائرات النفاثة الجديدة، التي كانت سرعتها وسبل الراحة فيها على النقيض تمامًا من الاهتزازات الشديدة وفترات السفر الطويلة في الطائرات الأولى التي كانت تعمل باستخدام المكابس. في غضون سنوات قليلة، باعت شركات الطيران الكبرى نماذجَ تلك الطائرات التي تعمل باستخدام المكابس إلى شركات الطيران المحلية، وانتقلت بالكامل إلى استخدام الطائرات النفاثة الجديدة.
بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من وجود بعض التفاصيل المهمة بالنسبة إلى المسئولين التنفيذيين في شركات الطيران، كالمسافة التي تقطعها الطائرة وحجم كابينة الركَّاب، فإن نموذجَيْ «بوينج ٧٠٧» و«دي سي-٨» كانا يضاهيان النماذج التجارية من طائرة النقل التي طوَّرَها لوماي، «كيه سي-١٣٥»، حيث كانا يستخدمان محركات مطوَّرة مباشَرةً من نموذج محرك «جيه-٥٧». حدثت تطورات مشابهة في مجال الطاقة الكهربية، الذي لم يكن يحمل سوى القليل جدًّا من أوجه التشابه مع مجال الطيران التجاري؛ لكن، سنحت الفرصة هنا أيضًا في مجال الطاقة الكهربية لتطبيق التكنولوجيا العسكرية لأغراض الاستخدامات المدنية؛ إذ طُوِّر أول مفاعلات توليد الطاقة من مفاعلات بحرية، مثل مفاعل غواصة «نوتلس» التابعة للبحرية الأمريكية.
لم يكن رؤساء شركات الكهرباء مهتمين بالذرَّة؛ إذ كانوا معتادين على توليد كميات تُقدَّر بالميجا وات من الطاقة الكهربية من خلال السدود المائية، أو من خلال حرق الفحم أو زيت الوقود تحت غلايةٍ لتوليد البخار. كان استخدام الطاقة الذَّرِّيَّة سرِّيًّا في البداية، وكانت الحكومة وحدها بحُكْم القانون هي الجهة الوحيدة المخوَّل لها امتلاك مفاعلات خاصة بها. لكن خلال عامَيْ ١٩٥٣ و١٩٥٤، اتخذ رئيسَا هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة، جوردون دين ولويس شتراوس، خطوةً رائدة في اتجاه نزع غطاء السرِّيَّة عن الأنشطة النووية وإجراء تعديلاتٍ في القانون. كذلك، بنى شتراوس — الذي قال في تصريح شهير عام ١٩٥٤ أن الطاقة النووية ستصبح زهيدة التكلفة للغاية، بما لا يجعل فرْض رسومٍ على استهلاكها ذا جدوى اقتصادية — مفاعلًا قويًّا في مختبر أرجون الوطني التابع لهيئة الطاقة الذَّرِّيَّة قُرْبَ شيكاجو، ليكون بمنزلة محطة تجريبية.
أدَّى هذا الجهد الفردي إلى بناء أول محطة تجارية حقيقية. تمخَّضَتْ هذه المبادرة عن شراكة بين الأدميرال ريك أوفر وهيئة الطاقة الذَّرِّيَّة وشركات الكهرباء؛ حيث تعاقدت هيئة الطاقة الذرِّيَّة مع شركة «وستينجهاوس» لبناء المفاعل. تولَّتْ شركة «دوكين لايت» — وهي شركة كهرباء في بيتسبرج — بناءَ المفاعل في شيبنجبورت بولاية بنسلفانيا واتفقت على تشغيله، بينما شجَّعَ ريك أوفر العمل في المشروع بفضل حماسه المميَّز واهتمامه الملموس. كان مقدار القدرة الكهربية التي كان هذا المفاعل يستطيع توليدها لا يتجاوز ٦٠ ميجا وات، وهي قدرة صغيرة نسبيًّا، لكن سرعان ما تلته مفاعلات أخرى أكثر قدرةً.
في عام ١٩٥٥، أعلنت هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة — في إطار جهودها لتشجيع الشركات الأخرى على المشاركة في المشروع — عن بدء الجولة الأولى من برنامج المفاعلات النووية التجريبية لتوليد الطاقة الكهربية. تضمَّنَتْ هذه المبادرة مجموعةً من حزم الدعم المالي والمساعدة الفنية لتحفيز شركات الكهرباء لتمويل عمليات إنشاء محطات نووية كاملة. اقتنع الكثير من الشركات واستجابوا للمبادرة، بينما أعلنت شركتان — هما شركة «كونسيليداتيد إديسون» في نيويورك، وشركة «كومنولث إديسون» في شيكاجو — أنهما ستبنيان محطات بتمويل كامل من القطاع الخاص، وبقدرة نووية تصل إلى ثلاثة أضعاف القدرة النووية في شيبنجبورت. لم تكن هاتان الشركتان لتقبلا بعرض هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة على علته، بل كانتا ترغبان في اكتساب خبرة مباشرة فيما يتعلَّق بالتكلفة الحقيقة لهذه التكنولوجيا الجديدة.
دخلت محطة «شيبنجبورت» الخدمةَ في أواخر عام ١٩٥٧، ونظرًا لما حازته من الخبرة التشغيلية، صارت مدرسةً للمسئولين التنفيذيين والمهندسين الإداريين. في تلك الأثناء، كانت شركات بناء المفاعلات — «وستينجهاوس» و«جنرال إلكتريك» و«بابكوك آند ويلكوكس» — تروِّج لمنتجاتها بكثافة. في أواخر عام ١٩٦٠، أطلقت شركة «ساوذرن كاليفورنيا إديسون» مبادرة نحو بناء محطة تتَّسِم بقدرة كبيرة حقًّا عندما أعلنت عن بناء محطة بقدرة ٣٧٥ ميجا وات جنوب لوس أنجلوس، بمساعدة هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة. بعدها بأشهر قليلة، تقدمت شركة «باسيفيك جاس آند إلكتريك» في سان فرانسيسكو بخطة مماثلة لبناء محطة خاصة بها بقدرة ٣٢٥ ميجا وات، دون أي دعم مالي أو مساعدة فيدرالية.
حدث التطور الحقيقي بعدها بثلاث سنوات، تحديدًا في عام ١٩٦٤، عندما أعلنت شركة «جيرسي سنترال باور آند لايت» أن محطتها المُزمَع بناؤها في أويستر كريك ستُنتِج فعليًّا طاقةً كهربيةً بتكلفةٍ أقلَّ من تكلفة إنتاجها في المحطات التي تعمل بالفحم؛ أدَّى هذا التصريح إلى طفرة هائلة بين شركات بيع المفاعلات النووية، بينما حاوَلَ المسئولون التنفيذيون في شركات الفحم التصدي للأمر بخفض الأسعار لديهم؛ لكنْ لم يفلح الأمر. تصدَّرَتِ الطاقة النووية خلال عام ١٩٦٥ سوقَ الطاقة بقوة، وخلال السنوات العديدة التي أعقبت ذلك، أصبحت الطاقة النووية تمثل نصف القدرة الجديدة المطلوبة من قِبَل شركات الكهرباء الأمريكية.
في عام ١٩٦٠، كانت ثمة أسباب كثيرة للاعتقاد بأن الطاقة النووية ينتظرها مستقبل باهر؛ فقد كانت الطاقة النووية مواكبةً لروح العصر، في عصرٍ كان فيه الناس يُعجَبون بالتكنولوجيا على نحوٍ أقل انتقادًا ممَّا في السنوات اللاحقة. كانت الطاقة النووية تحمل في طيَّاتها شعورًا بالتكفير عن الذنب؛ حيث أعطت الأمل بأن الطاقة الذَّرِّيَّة التي دمرَتْ مدنًا من قبلُ ربما تمدُّها بالطاقة والضوء. لم يكن ثمة استنكارٌ جماهيري واسع النطاق لكل ما هو نووي؛ كان الناس مستعِدِّين لقبول ادِّعاءات الصناعة وهيئة الطاقة الذَّرِّيَّة، دون تمحيص.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الطاقة النووية تُبشِّر بإمكانية تحقيق فوائد بيئية. كانت محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم آنذاك تشتهر بإطلاق الأدخنة والسخام، في ظل وجود القليل من القوانين التي تُلزِمها بتنظيف مداخنها، وكان تعدين الفحم معروفًا بالأضرار المتعددة التي يخلِّفها، مثل تجريف التربة وتلويث المجاري المائية، فضلًا عن أنه قد تسبَّبَ أيضًا في قتل عشرات الآلاف من الرجال في حوادث المناجم. كانت البلاد تمر بحالة توسُّع سريعة في مجال صناعة الطاقة، وإذا جرى الاعتماد على الفحم في إنتاج تلك الكميات الهائلة من الطاقة الكهربية المقدَّرة بالميجا وات، فمن المتوقَّع أن تكون التكلفة باهظةً حقًّا ممثلة في تجريف التربة وتلويث الأنهار وتكوين سحب دخان كثيفة تغطي المدن؛ لذا، بدلًا من الاقتصار على المحطات التي تعمل بالفحم، كان كثير من المسئولين التنفيذيين على استعدادٍ للتحوُّل إلى استخدام البديل النووي، في وقتٍ لم تكن فيه تكاليفُ الطاقة النووية ومخاطرها معروفةً جيدًا بعدُ.
لكن، عند دخول كينيدي البيت الأبيض، لم تكن النقاشات قد حدثت بعدُ؛ كان أغلبية الناس ينظرون إلى الحكومة باعتبارها المنبع الذي ستتدفَّق منه الابتكارات التكنولوجية الجديدة، ومن الأمثلة البارزة على ذلك الطرق السريعة بين الولايات، والطائرات النفاثة، والطاقة النووية. ساد هذا الاتجاه حتى في مجال الإلكترونيات؛ إذ كان التليفزيون يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنُظُم الرادار، وهي ابتكار عسكري. كانت شركات الإلكترونيات الكبرى — مثل: «آي بي إم»، و«آر سي إيه»، و«إيه تي آند تي» — جميعًا شركات خاصة وليست أذرعًا للحكومة، لكنها جميعًا كانت متعاقِدةً مع البنتاجون، وكانت أشبهَ بالمنشآت الخاضعة للتوجيه الحكومي أكثر منها للشركات الناشئة في منطقة سيليكون فالي في العقود التالية.
بناءً عليه، عندما اقترح جون كينيدي اتخاذ مبادرة فيدرالية كبرى جديدة في مجال الفضاء، كان يعلم أن جهوده ستؤتي ثمارها المرجوة. كان الناس يثقون في الحكومة، وهو شعور مُستقًى من تجربة شخصية؛ لو كنتَ أحد المعاصرين لجيل كينيدي، فلربما كنتَ ممَّن التحقوا بالجامعة بفضل مشروع قانون «جي آي». لو لم تلتحق بالجامعة، وحصلت على وظيفة في أحد المصانع أو في شركة كبرى، فلربما كنتَ عضوًا في أحد الاتحادات العمالية آنذاك، وكنتَ على دراية جيدة بأن الديمقراطيين قد شرعوا قوانين تحمي حقوقَ العُمَّال. بالإضافة إلى ذلك، كانت الرواتب التي تدفعها الاتحادات العمالية مرتفعةً بما يكفي لتقديم توقُّعات كانت تُعتبَر فيما سبق ضربًا من الخيال، مثل منزلٍ في إحدى الضواحي وإلحاق الأبناء بالجامعة. وعندما كان المرء يخطِّط للانتقال من شقة في إحدى المدن إلى منزل خاص به، وسط الحدائق الوارفة والمدارس الجيدة، كانت إدارة الإسكان الفيدرالية تساعد البنوك في تقديم قروض عقارية على مدى ثلاثين عامًا بفائدة خمسة في المائة.
كان كينيدي مستعِدًّا لتقديم المزيد؛ كان كينيدي أول عضو من الحزب الديمقراطي يخلف رئيسًا جمهوريًّا منذ الرئيس روزفلت في عام ١٩٣٣، وكانت عقول مستشاريه تمتلئ بالتشريعات المُعَدِّ لها. لم يكن النجاح حليف كينيدي دومًا؛ فقد رُفِض مشروعُ الرعاية الصحية لكبار السن (المديكير) — وهو أحد أهم الإصلاحات الأساسية في فترة ما بعد الحرب — في مجلس الشيوخ في يوليو ١٩٦٢؛ لكنْ لم يستَحِ كينيدي من طرح مبادرات جديدة، ولم يكن «أبولُّو» البرنامج الوحيد من نوعه في ظل جهوده في مجال الفضاء الجوي. في جهد فردي، خلال عام ١٩٦٣، قرَّرَ كينيدي تحويلَ إدارة الطيران الفيدرالية إلى هيئة مناظرة لوكالة ناسا في مجال الفضاء الجوي، وجعلها تقود جهود صناعة طائرة مدنية تفوق سرعتها سرعة الصوت، «إس إس تي»؛ حيث يعني هذا الاختصار: طائرة نقل بسرعةٍ تفوق سرعة الصوت.
كان تصميم طائرة نقل تفوق سرعتها سرعة الصوت ينطوي على تحدٍّ خارجي آخَر، ممثَّلًا هذه المرة في بريطانيا وفرنسا. كانت شركة «دو هافيلاند» البريطانية قد بنت بالفعل أول طائرة نقل نفاثة في العالم، الطائرة «كوميت»، وأدخلتها مجال الخدمة خلال عام ١٩٥٢؛ خلال العامين التاليين لذلك، حقَّقَتِ الطائرة دعايةً ضخمة ومبيعات هائلة، وبَدَا أن البريطانيين الروتينيين كانوا يتخطَّوْنَ الأمريكيين الذين يتمتعون بروح عملية. ثم سرعان ما تلاشَتْ هذه التوقُّعات تمامًا خلال عام ١٩٥٤؛ إذ ثبت أن جسم طائرة «كوميت» يتعرَّض لإجهاد معدني؛ ممَّا كان يتسبَّب في تحطُّم الطائرة أثناء طيرانها. استغرق الأمر أربعَ سنوات لإصلاح المشكلة، وكان الوقت متأخرًا جدًّا آنذاك؛ كان الأمريكيون قد ابتكروا الطائرتين «بوينج ٧٠٧» و«دوجلاس دي سي-٨»، اللتين كانتا أكثر تطورًا بكثير.
بعد ذلك، تولَّدَ إحساسٌ قوي لدى قادة الطيران البريطاني بأنهم كادوا يحقِّقون نجاحًا ولم يخسروا المنافسة إلا بالمصادفة؛ كانوا متحمسين لإعادة المحاولة، لتحدي الولايات المتحدة مجددًا، ووجدوا حليفًا لهم في شارل ديجول، الرئيس الفرنسي. كانت صناعة الطيران في فرنسا من أقوى صناعات الطيران في العالم؛ إذ كان رائد تصميم الطائرات الفرنسي، مارسيل داسو، رائدًا في مجال الطيران بسرعاتٍ تفوق سرعة الصوت، وكان ديجول يكره ما سمَّاه «استعمار أمريكا للسماء»؛ كان يرغب في أن يُرفَع العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة على أفضل الطائرات المدنية في العالم، وكان على استعدادٍ تامٍّ للانضمام إلى رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لتحقيق ذلك. تمخَّض عن هذه الشراكة مشروعُ طائرة الكونكورد.
تولَّتْ هيئة الطيران الفيدرالية عمليةَ تطوير طائرة النقل الفائقة لسرعة الصوت وتحمَّلَتْ ما وصل إلى ٩٠٪ من نفقات التطوير.
عند دراسة الظروف المحيطة بتطوير «أبولُّو»، يكتسب المرء رؤيةً عميقةً بملاحظة مسارَيِ التوسُّع المتوازيَين اللذين سارت فيهما هيئةُ الطيران الفيدرالية وناسا خلال سنوات إدارة آيزنهاور وكينيدي. انبثقت هيئة الطيران الفيدرالية من إدارة الطيران المدني، وهي إحدى الإدارات التابعة لوزارة التجارة، وعلى غرار اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية قبل إطلاق القمر «سبوتنيك»، كانت ميزانية إدارة الطيران المدني منخفضةً وكانت عباءةُ نفوذها محدودةً، على الرغم من أنها كانت تتولَّى المسئوليةَ المهمة المتمثِّلة في ضمان سلامة الطيران المدني.
في عام ١٩٥٦، واجهت إدارة الملاحة الفضائية الوطنية حدثًا مساويًا في أبعاده المأساوية لحدث إطلاق القمر «سبوتنيك»؛ إذ اصطدمَتْ طائرتان أثناء تحليقهما في الجو. حصد هذا الحادث أرواحَ ١٢٨ شخصًا ليكون بذلك أسوأ كارثة في تاريخ الطيران، كما أنه أوضح بما لا يدع مجالًا للشك أن عدم توفير التمويل الكافي يجعل طرقَ الطيران غير آمِنةٍ. ومثلما أشار القمر «سبوتنيك» إلى تهديدٍ وشيكٍ من قِبَل الصواريخ السوفييتية، أشار هذا الحادث الذي وقع في عام ١٩٥٦ إلى خطر وشيك يُنذِر بأن الطيران سرعان ما سيصبح أقل أمانًا. كانت الطائرات النفاثة الجديدة على وشك الدخول في الخدمة في ذلك الحين، وإنْ لم يتسنَّ التعامُل مع الطائرات السريعة التي تعمل بالمكابس وقتَها لارتياد الطرق الجوية، فثمة خطر أكبر سيهدِّد سلامةَ ارتياد الطرق الجوية في حالة الطائرات النفاثة الجديدة.
تفاعل الكونجرس مع الأزمة بطريقته المعتادة من خلال زيادة مصادر التمويل، بينما قدَّمَ السيناتور مايك منوروني، وهو من جهات الدعم القوية لصناعة الطيران، ما هو أكثر من ذلك. قدَّمَ منوروني مشروع قانون، جرى التصديق عليه خلال عام ١٩٥٨، وبموجبه تحوَّلَتْ إدارة الطيران المدني إلى هيئة الطيران الفيدرالية، لتصبح وكالةً مستقلةً بميزانية أكبر ونفوذ أوسع بكثير. كان مشروع القانون شبيهًا بمشروع القانون الذي تحوَّلَتْ بموجبه اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية إلى وكالة ناسا، ومع ذلك ظلت صلاحيات كلتا الوكالتين الجديدتين محدودة. كانت هيئة الطيران الفيدرالية تركِّز بصفة أساسية على سلامة الطيران، بينما كانت ناسا تركِّز على الأنشطة الفضائية في مدار أرضي.
ثم جاء كينيدي، الذي توسَّعَ كثيرًا في مهام كلتا الوكالتين. تولَّتْ ناسا إدارةَ مشروع «أبولُّو»، وهو مشروع طَموح لإطلاق مركبة فضائية مأهولة إلى القمر كان آيك قد رفضه من قبلُ. ومن جانبها، وسَّعَتْ هيئة الطيران الفيدرالية من مجال تركيزها المتعلِّق في الأساس بنُظُم الرادار وسلامة الطيران، ليشمل كذلك توجيهَ الجهود لصناعة طائرةِ نقلٍ مدنية تفوق سرعتها سرعة الصوت، باعتبار ذلك برنامجًا جديدًا كبيرًا سيفضي إلى بناء الجيل القادم من طائرات النقل. ومثلما حدث في برنامجَيِ الطاقة النووية وإطلاق رحلات مأهولة إلى القمر، كان برنامجُ طائرات النقل التي تفوق سرعتها سرعة الصوت مبادرةً فيدرالية أخرى تبشِّر بآمال واعدة خلال سنوات كينيدي.
ستمضي رحلة استكشاف الفضاء قدمًا سواء انضممنا إليها أم لا، وهي واحدة من أعظم المغامرات والتجارب المثيرة في التاريخ كله، ولا يتسنَّى لأيِّ أمة ترى أنها رائدة الأمم الأخرى أن تتوقَّع أن تتخلَّف عن الركب في سباق الفضاء هذا.
تتطلَّع أعين العالم الآن إلى الفضاء — إلى القمر وإلى ما وراءه من كواكب — ولقد أقسمنا على ألَّا نرى القمر يغزوه علمُ أمةٍ معادية استعمارًا، بل يرفرف فوقه لواء الحرية والسلام.
شرعنا في الإبحار في هذا البحر الجديد لأن أمامنا معرفةً جديدةً يجب أن نكتسبها، وحقوقًا جديدة يجب أن ننالها، وهي معرفة وحقوق يجب الظفر بها واستخدامها بما يحقِّق تقدُّم البشرية.
لكن البعض يتساءل: لماذا القمر؟ لماذا نختاره هدفًا لنا؟ وربما يسأل هؤلاء أيضًا قائلين: لماذا نتسلَّق أعلى المرتفعات؟ مثلما طُرِح السؤال قبل ثلاثين عامًا، لماذا نحلِّق عبر المحيط الأطلنطي؟ لماذا يلعب فريق جامعة رايس ضد فريق جامعة تكساس؟
لكن، كان «أبولُّو» ينطوي على ما هو أكثر من الأمل البرَّاق؛ إذ كانت ثمة تحديات مخيفة أيضًا. كان كينيدي، مثل حزبه، يحمل عبئًا ثقيلًا؛ فقد تولَّى كينيدي وحزبه إدارةَ البلاد في ظل سقوط الصين في يد الحزب الشيوعي عام ١٩٤٩.
تصعُب المبالغة في تصوير حالة الحيرة والفزع التي مرَّتْ بها أمريكا في مواجهة التهديد الشيوعي في سنوات ما بعد الحرب؛ كان الأمر أشبه تقريبًا بالقول بأن انتصار الولايات المتحدة في الحرب لا معنى له، فقد نجحت الولايات المتحدة في هزيمة اليابان وألمانيا لتجد نفسها في مواجهة قوة ستالين الأعظم شأنًا. كان ترومان قد دعم شيانج كاي شيك بوصفه عميلًا مواليًا للولايات المتحدة، على الرغم من أن نظام كومِنتاج كان فاسدًا حتى النخاع ولم يكن يحظى بالتأييد الشعبي. عندما أطاح ماو تسي دونج بالنظام؛ ممَّا جعل فلوله يسعَون إلى اللجوء إلى تايوان وإعلان جمهورية الصين الشعبية، كانت روسيا قد انتهت توًّا من تفجير أول قنبلة ذرِّيَّة. كان نابليون قد كتب قائلًا: «دَعِ الصين ترقد في سُباتها. وعندما تستيقظ، سيشعر العالم كلُّه بالأسف.» في أمريكا، دعمت هذه الأحداث التطورات التي جعلت هذه الحقبة من أقبح الفترات في تاريخ السياسة الوطنية.
لطالما كانت السياسة معتركًا للآراء الحماسية المتعارضة، وبيئةً لإثارة الفتن والمخاوف المُغالى فيها. لكن، ثمة حدود عادةً، مثلما يحدث عندما يجد الحزب المعارِض لنفسه سُبلًا للتعاون مع الرئيس، بدلًا من مساءلته ومحاوَلة سحبِ الثقة منه جدِّيًّا؛ بَيْدَ أن هذه الحدود تتلاشى في أوقات الأزمات الكبرى، وهو ما حدث خلال فترة إعادة الإعمار في أعقاب الحرب الأهلية؛ إذ تعامَلَ الجمهوريون المتطرفون مع الولايات الجنوبية المهزومة مثل أقاليم مُستعمَرة. تكرَّرَ الأمرُ مجددًا في وقت مبكر من الحرب الباردة، عندما لم يكتفِ الجمهوريون باتهام ترومان بالتخبط وارتكاب أخطاءٍ فادحة، بل أعلنوا أن إدارته مليئة بالشيوعيين، حتى إن مسئولين كبارًا ارتكبوا جريمة الخيانة العظمى.
في ظل التهديد القادم من الخارج، أصَرَّ ترومان على مقاومة أي تقدُّم شيوعي آخَر مهما كانت تكلفة ذلك، وهو ما يبرر تدخُّله الفوري في كوريا في يونيو ١٩٥٠. لم تمنح البلاد كوريا الشمالية أيَّ فرصة لالتقاط الأنفاس، وهلَّلَتْ عندما تقدَّمَ الجنرال ماكارثر في اتجاه نهر يالو، الذي كان يمثِّل الحدودَ مع الصين نفسها. عندما تدخَّلَتِ الصين وأجبرَتِ الأمريكيين على التراجع، ارتجف العالم للحظة؛ ظنًّا منه أنه على أعتاب حرب نووية؛ إذ كان قد أشار تورمان إلى أن رد الفعل ربما يتضمَّن استخدام القنبلة الذَّرِّيَّة.
يربط المؤرِّخون بين هذا العصر وبين السيناتور ماكارثي، الذي دمَّرَ في طيش بالغ سُمعةَ أشخاص فُضلاء ومحترمين بوصمهم بتهمة الشيوعية. لكن، لم يكن ماكارثي سوى سياسي انتهازي؛ حيث أخذ يغذي المناخ العام في البلاد بالمخاوف التي كانت سائدة آنذاك. لم يكن ماكارثي هو مَن أوجَدَ هذه المخاوف، لكنه استغلَّها فقط لتحقيق أغراضه الشخصية. صوَّتَ مجلس الشيوخ لتعنيفه وانتقاده في عام ١٩٥٤، وسطَ تلاشي حالة التوتر في أعقاب وفاة ستالين ونهاية الحرب الكورية. مات ماكارثي بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، بعدما لحقته وصمة الخزي. كان كينيدي يعلم أنه في حال تجدُّد التهديد الشيوعي، ربما تتجدَّد معه حالةُ الماكارثية، التي توجه الاتهامات بالتآمُر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة.
كان شبح ماكارثي لا يقوى على الرقود في هدوء. كان من بين حلفائه المقرَّبين عضو الكونجرس ريتشارد نيكسون، الذي صار معروفًا بوصفه من أبرز مَن اتُّهموا بالشيوعية. كان نيكسون هو مَن فضحَ أمرَ ألجر هيس، وهو مسئول رفيع في وزارة الخارجية وأحد خلطاء دين آتشسون، وزير الخارجية. أثبت نيكسون أن هيس كان جاسوسًا وأحد أعضاء الحزب الشيوعي، وأنه قد كذب بشأن ذلك. خدمت هذه الحادثة أغراض ماكارثي وحقَّقَتْ له أكبرَ نصرٍ في حياته؛ حيث عملت على تعميق حالات الشك المريرة آنذاك وإطالتها. كان نيكسون خصم كينيدي في الانتخابات الرئاسية، وكان قاب قوسين أو أدنى من هزيمته.
كان من دواعي الفخر لدى الجمهوريين التابعين لآيزنهاور أنه في حين فقد ترومان أوروبا الشرقية وكذلك الصين، فقد حالوا هم دون توسُّع المد الشيوعي. لم يكونوا مُحِقِّين تمامًا في تصريحهم هذا؛ ففي عام ١٩٦٠، كانت كوبا تقبع في الشيوعية في ظل حكم كاسترو، ولم تكن تبعد إلا تسعين ميلًا فقط عن مدينة كي ويست الأمريكية في ولاية فلوريدا. كانت الشيوعية لا تزال قريبة من أمريكا، وتعاملوا معها؛ بَيْدَ أن كوبا زادت كثيرًا من التحدي الرئيسي في سياسة كينيدي الخارجية، وهو مواصَلة التصدِّي للزحف الشيوعي، والحيلولة دون تحقيق أي انتصارات أخرى من جانب موسكو والصين.
مع ذلك، في ظل ما حدث في الصين، لم يكن كينيدي يستطيع المضيَّ في سياساته بنفس الثقة الرزينة التي كانت تميِّز آيزنهاور وسياساته. كان الجميع يعلم أن أخطاء ترومان في كوريا — التي أوقعت البلاد في شَرَك صراعٍ لم تتمكن من الانتصار فيه أو إنهائه — قد تسبَّبَتْ في هزيمته وخروجه من البيت الأبيض. كان الجميع يعلم أيضًا أن آيك قد انتصر في الحرب في أوروبا، وأنهى الحرب في كوريا، محافظًا في الوقت نفسه على السلام وسطَ أخطارٍ متعاقبةٍ في عالَم محفوف بالمخاطر. تحت وطأة تلك الأحداث، وفي مواجهة تناقض كهذا، وجد الديمقراطيون التابعون لكينيدي أنفسَهم مدفوعين إلى أن يكونوا أكثر مناهَضةً للشيوعية من الجمهوريين. في إطار جهود السياسة الخارجية، كان الديمقراطيون يعملون وسطَ مخاوف متزايدة من ثبوت ضعفهم، فكانوا يعوِّضون ذلك بالتصرُّف بجرأة مبالَغ فيها، وكان من أهم النتائج المترتبة على ذلك الحرب في فيتنام.
كانت الفرصة قد سنحت لآيك للتدخُّل على نحوٍ هائل في تلك البلاد، عندما هُزِم الفرنسيون في صراعهم ضد الرئيس الأول لفيتنام الشمالية هو تشي منهْ في عام ١٩٥٤، بَيْدَ أن آيك أَبَى أن يتدخَّلَ وترك الفرنسيين يواجهون مصيرهم. لكن فيتنام كانت مجاورة للصين، في منطقة من العالم كان المد الشيوعي هو الأمر الأرجح، ولم يكن ذلك مقبولًا على الإطلاق. كذلك، لم يلتفت كينيدي ومستشاروه إلى فيتنام الجنوبية في هذا الشأن، باعتبارها عميلًا غير ذي أهمية للولايات المتحدة. قَبِل كينيدي ومستشاروه بنظرية الدومينو، التي كانت تعتبر فيتنام الجنوبية بمنزلة حجر زاوية؛ إذا سقطَتْ، فسرعان ما ستتداعى أيضًا منطقةُ جنوب شرق آسيا بأسرها. كان الأمر أشبه بافتراض أن فقدان سايجون سيفضي إلى ظهور مجال الازدهار المشترك لشرق آسيا الكبرى، الذي ستصبح فيه الصين هي القوة الاستعمارية بدلًا من اليابان. لكن، كانت إدارة كينيدي تؤمن بذلك واتخذته أساسًا لسياستها.
كانت فيتنام مهمة من جانب آخَر؛ فقد كانت جزءًا من العالم الثالث، الساحة الكبرى التي ربما تشهد انتصار الحرب الباردة أو هزيمتها. وكان يوجد في هذا العالم عدد كبير من الأمم المستقلة حديثًا التي رأت أملًا في الاشتراكية، وعادةً ما كانت تزدري الغرب وتنظر إلى موسكو بإعجاب نظرًا لأنها كانت تتبنَّى الاشتراكية ولم تبنِ أي إمبراطورية استعمارية خارج أراضيها. كانت المخاطر مرتفعة حتى في أمريكا اللاتينية؛ حيث كان من الممكن لأيٍّ من أمم القارة العشرين أن تصبح كوبا القادمة، وكانت مخاطر الاشتراكية مرتفعةً بالقدر نفسه في أفريقيا وآسيا.
من هذا المنطلق، كان لا بد من دحض أي انتصارات دعائية وعسكرية لموسكو. كانت الرحلات الفضائية أحد الموضوعات الرئيسية التي تصدَّرَتِ الحربَ الدعائية، وكان من السهل تصوُّر تسلسل النتائج المنطقية المترتبة على ذلك؛ روسيا في المقدمة؛ ممَّا يعني أنها تمتلك أفضل الأسلحة؛ ومن ثَمَّ أفضل تكنولوجيا؛ ومن ثَمَّ مجتمعًا أفضل وأكثر تميُّزًا (وهو ما كان قادةُ العالَم الثالث يميلون إلى الاعتقاد في صحته على أية حال).
تحترم شعوب العالم الإنجاز. خلال معظم سنوات القرن العشرين، كانت شعوب العالم تنظر بإعجاب إلى العِلْم والتعليم الأمريكيين، اللذين لم يكن لهما مثيل. أما الآن، فلا تعرف شعوب العالم على وجه اليقين أين سيكون المستقبل. كان اسم المركبة الأولى في الفضاء الخارجي «سبوتنيك»، وليس «فانجارد». كانت أول دولة تضع شعارها الوطني فوق القمر هي الاتحاد السوفييتي، وليس الولايات المتحدة.
كان مشروع «أبولُّو» يمثِّل إذن الكثيرَ بالنسبة إلى كينيدي؛ كان برنامجًا فيدراليًّا في مجال التكنولوجيا، في عصرٍ كان الناس يُعجبون بهذه البرامج ويتوقَّعون المزيد. كان «أبولُّو» يمثِّل خطة مدروسة جيدًا من إحدى وكالات كينيدي التي استطاعت أن تعالج مشكلة مُلِحَّة، وكان كينيدي مسئولًا عن التصديق على هذه الخطط واعتمادها. جاء مشروع «أبولُّو» متوافِقًا مع حسِّه التاريخي، ورؤيته للمستقبل، وروحه كإنسان. كما أنه كان مهمًّا للغاية؛ لأنه كان من شأنه أن يَحُول دون تحقيق أي انتصارات إضافية من جانب موسكو، ويسهم في وقف المد الشيوعي في العالَم الثالث. ولم يكن هذا كل ما في الأمر؛ إذ كان الاسم الذي اختاره كينيدي لإدارته، الحدود الجديدة، يشير بقوة إلى رحلات الفضاء. ومثل أي قائد سياسي، كان كينيدي يعرف كيف يُكيِّف خطابه بما يتوافَق مع الجمهور الذي يخاطبه؛ إذ أوضح كينيدي العلاقة في عبارةٍ نُشِرت في المجلة التجارية «ميسايلز آند روكتس»: «هذا هو عصر الاستكشاف الجديد؛ فالفضاءُ هو أعظم حدودنا الجديدة.»
تولَّى كينيدي مهامَّ منصبه في يناير ١٩٦١، وبدأ يباشِر مهامه بنشاطٍ وحماسٍ بالغَيْن، وسطَ سيلٍ من البيانات والقرارات والإجراءات. أراد كينيدي منذ البداية أن يراه العامة بوصفه شخصًا نشيطًا ومتأهبًا لاتخاذ خطوات، وعلى الرغم من أن الفضاء لم يكن مسألة ملحة، فقد تعامَلَ كينيدي معه أيضًا. أصدر كينيدي توجيهًا إلى نائبه، ليندون جونسون، لتولي المسئولية في هذا المجال لعلمه أن جونسون كان يتولَّى أمورَ الصواريخ والفضاء منذ إطلاق القمر «سبوتنيك» الأول؛ كما التقى كينيدي مع مسئولي ناسا واتفق على دعم موازنتهم للإسراع بعملية تطوير الصاروخ «ساتورن». مع ذلك، كانت قرارات كينيدي المبكرة تميل إجمالًا إلى ترسيخ حَذْر آيك بدلًا من توجيه البلاد نحو آفاق جديدة.
لكن، كان السوفييت يحقِّقون انتصارات متوالية ولم يكونوا ليتوقفوا عن ذلك، حتى في حال موت رائد فضاء، وهو ما حدث في ٢٣ مارس. كان الضحية، فالنتين بوندارينكو، يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، وكان أصغر روَّاد الفضاء في بلاده. كجزءٍ من تدريبه، قضى بوندارينكو عشرة أيام معزولًا في غرفة ضغط ممتلئة بالأكسجين؛ كان يرتدي سترةَ تدريب من الصوف، وكانت ثمة مجسات موضوعة على جلده لتسجيل قياساتٍ طبية. كانت الغرفة تحتوي أيضًا على لوح تسخين كهربائي، كان يُعِدُّ عليه وجباته.
مع نهاية الأيام العشرة، بدأ في إزالة المجسَّات، منظِّفًا مواضعها على جلده عن طريق مسحها بقطعة قطن مغموسة في الكحول. ألقى قطعة القطن بعيدًا دون أن ينظر، فسقطت على لوح التسخين؛ مما أدَّى إلى تصاعد ألسنة اللهب. انتشرت النيران بسرعة في هواء غرفته الصغيرة الغني بالأكسجين؛ ممَّا أدى إلى اشتعال سترته؛ حاوَلَ بوندارينكو إطفاء النيران لكنه لم يفلح، وخرج الحريق عن السيطرة، كما أنه لم يستطع الهرب؛ لأن فَرْق الضغط جعل الباب محكمَ الغلق يأبى على الفتح.
رأى أحد الأطباء ألسنةَ اللهب عبر زجاج إحدى النوافذ، لكنه لم يستطع أيضًا فتح الباب؛ فأدار صمامًا لمعادلة الضغط، لكنَّ الأمر استغرق بعض الوقت قبل أن يتمكَّن من الوصول إلى بوندارينكو، وفي تلك الأثناء كانت النيران قد أحاطت برائد الفضاء الروسي تمامًا ونالت منه. مع ذلك، كان لا يزال واعيًا وقال: «إنه خطئي، لا تلوموا أيَّ شخص آخَر.»
هرع الأطباء به إلى أحد المستشفيات، استحضر الطبيب المعالج لاحقًا ما حدث قائلًا: «لم أتمالك نفسي من الارتجاف، كان الجسد بأكمله عاريًا من الجلد، وكانت الرأس عاريةً من الشعر، ولم يكن ثمة عينان في الوجه. كان احتراقًا كاملًا من الدرجة القصوى.» مع ذلك، ظلَّ بوندارينكو يتحدَّث: «ألمٌ هائل، افعلوا شيئًا رجاءً لتسكين هذا الألم.» ظلت قوى بوندارينكو تخور لمدة ثماني ساعات، ثم أسلم الروح في النهاية. ترك أرملةً شابةً وطفلًا عمره خمس سنوات، فأمَرَ وزيرُ الدفاع ﺑ «توفير كل مستلزماتهما، كما يليق بعائلة رائد فضاء روسي»، وهذا ما كان.
ثم في ١٢ أبريل، في صباح ربيعي جميل في تيوراتام، توقَّفَتْ حافلةٌ فجأةً إلى جانب منصة إطلاق؛ كان على متنها رائدا فضاء روسيَّان آخَران، هما يوري جاجارين ومساعده جيرمان تيتوف، وفي صحبتهما مجددًا عددٌ من الأطباء. ترجَّلَ جاجارين عن الحافلة والتقى كوروليف، الذي حيَّاه بالأحضان والقبلات، ثم استقلَّ الرجلان مصعدًا للصعود إلى متن الصاروخ. لوَّحَ جاجارين مودِّعًا، ثم اختفى خلف باب مركبته الفضائية. سأل أحدُ أفراد برج المراقبة قائلًا: «يوري، لن تشعر بالملل في الداخل، أليس كذلك؟» أجاب جاجارين: «إذا كان ثمة بعض الموسيقى، سأحتمل الأمر على نحوٍ أفضل.» أمر كوريليف بتشغيل بعض أغاني الحب، لكن مرَّ بضع دقائق قبل توفير تلك الأغاني. أخبر كوروليف جاجارين قائلًا: «هذا هو حال الموسيقيين، يتنقلون هنا وهناك، لكن ما من شيء يفعلونه بسرعة كبيرة.»
جرت عملية الإطلاق بعد خمسين دقيقة تقريبًا. قال جاجارين عقب رحلته: «كنتُ أسمع صوت الصمامات وهي تعمل، ثم بدأت المحركات تعمل مُصدِرةً صوتَ هدير. كان الصوت الصادر يشبه تقريبًا الصوت الصادر عن طائرة. كنتُ مستعِدًّا لما هو أكثر من ذلك، ثم ارتفع الصاروخ بانسيابية وخفة عن موضعه.»
قال كوروليف: «سبعون ثانية بعد الإطلاق.» سبعون ثانية من وقت الإطلاق.
وصفَ جاجارين القوى خلال عملية التسارع بأنها «تحت السيطرة تمامًا، مثل ما في الطائرات العادية.» وواصَلَ قائلًا: «معدل التسارُع خمسة تقريبًا، وهو ما يساوي خمسة أضعاف قوة الجاذبية العادية. عند هذا المعدل، كنتُ أرسل تقارير إلى المحطة الأرضية وأتواصَلُ معها طوال الوقت. كان الحديث صعبًا إلى حدٍّ ما؛ إذ كانت جميع عضلات وجهي متقلِّصة، ويعتريني بعض الإجهاد.»
عند الثانية ١٥٠ من وقت الإطلاق، انفصلت المقدمة المخروطية؛ ممَّا سمح لجاجارين بالنظر عبر جهاز بصري.
ذكر جاجارين خلال البيان الصحفي الذي أدلى به بعد الرحلة: «فجأةً، لم تَعُدْ هناك سُحب، رأيتُ الطيَّات الطبيعية للتضاريس الأرضية، منطقة جبلية قليلًا. استطعتُ أن أرى الغابات والأنهار والوديان، لكنني لم أتمكن من تحديد مكانها على وجه الدقة. أعتقد أن ذلك كان نهر أوب أو إيرتيش، لكنني استطعت أن أرى أن ذلك كان نهرًا كبيرًا وتوجد جزرٌ فيه.» كان الصاروخ لا يزال ينطلق بقوة الدفع، ثم سرعان ما توقَّفَ الدفع؛ أصبح جاجارين في مدار فضائي.
قال جاجارين لاحقًا: «استطعتُ أن أرى الأفق، النجوم، السماء. كانت السماء مظلمة تمامًا، وكان حجم النجوم وبريقها أوضح قليلًا إزاء هذه الخلفية السوداء. رأيتُ أفقًا جميلًا للغاية، وشاهدتُ انحناءَ الأرض وتقوُّسها. بدا الأفق جميلًا بلونه الأزرق الفاتح. فوق سطح الأرض، يتحوَّل تدريجيًّا اللون الأزرق الخفيف الناعم إلى لون داكن قليلًا، ثم يتحوَّل إلى لون بنفسجي يتغيَّر تدريجيًّا إلى لون أسود.
أثناء تحليقي فوق البحر، كان سطح البحر يبدو رماديًّا، لا أزرقَ فاتحًا. كان السطح غير مستوٍ، مثل الكثبان الرملية في الصور الفوتوغرافية. كنتُ أتناول الطعام والشراب بصورة طبيعية، كنتُ أستطيع أن آكل وأن أشرب؛ لم أشعر بأي مشاكل فسيولوجية. كان شعور انعدام الوزن غير مألوف مقارَنةً بالوضع على الأرض؛ هنا، يشعر المرء بأنه مُعلَّق في وضع أفقي مربوط بوثاق.»
كان ضوء الشمس شديدًا للغاية؛ ومن ثَمَّ كان عليه أن يصرف بصره عنه أو أن يغطي عينيه. حلَّ وقت الشفق على الأرض، واستهواه كثيرًا المنظر الذي شاهده: «كان التحوُّل من اللون الأزرق إلى الظلمة تدريجيًّا تمامًا ورائعًا للغاية.» لكن عندما حلَّقَتْ مركبته الفضائية في ظل الأرض، كان التحوُّل إلى الظلمة مفاجئًا للغاية.
عَبَرَ المحيط الهادئ، وسار في مسارٍ منحنٍ فوق أمريكا الجنوبية، ثم رأى بزوغ الصباح فوق منطقة جنوب المحيط الأطلنطي. «عندما خرجتُ من ظلِّ الأرض، بَدَا الأفق مختلفًا؛ كان ثمة شريط برتقالي برَّاق عبر الأرض تحوَّلَ لونه مرةً أخرى إلى اللون الأزرق، ثم تحوَّلَ مجددًا إلى لونٍ أسود حالك.»
بعد مرور ستٍّ وسبعين دقيقة من زمن الرحلة، أصبح جاجارين فوق أفريقيا وأصبح جاهزًا لمعاودة الولوج إلى المجال الجوي، وهو ما حدث آليًّا. شعر بدوران محرك صاروخ إبطاء الحركة، مع وجود «صوت أزيز بسيط وجلبة عبر جسم الصاروخ بالكامل». توقَّفَ الصاروخ بعد أربعين ثانية، مع وجود اهتزاز شديد، وبدأت المركبة في الدوران، تدور دورة كاملة مرة كل اثنتي عشرة ثانية تقريبًا.
قال جاجارين: «كنتُ في حالٍ أشبه تمامًا بفرقة رقص الباليه. تدور الرأس، ثم القدمان، بسرعة كبيرة؛ كلُّ شيءٍ كان يدور. رأيت أفريقيا أولًا، ثم الأفق، ثم السماء. نجحت بالكاد في حجب عينيَّ عن الشمس.» استمرت حركة الدوران، أثناء عبوره فوق الساحل الشمالي ورأى الصحراء الكبرى والبحر المتوسط. حدث عطلٌ ما؛ حيث أدَّى كابل كهربي إلى احتجاز كبسولته في المركبة. بعد مرور عشر دقائق فقط من تشغيل صواريخ الكبح، عند الولوج في المجال الجوي، احترق الكابل الكهربي عن آخِره فانفصلت كبسولته عن المركبة. تضاءلت حركة الدوار إلى حركة اهتزاز قوية إلى الأمام وإلى الخلف، ثم ما لبثت هذه الحركة الاهتزازية أن توقَّفَتْ.
كان جاجارين قد أغلق تليسكوبه بستار، بَيْدَ أن «ضوءًا قرمزيًّا ساطعًا ظهر على طول حوافِّ الستار». يقول جاجارين: «شعرتُ باهتزازات المركبة واحتراق الدرع الحراري. كان الدرع يتكسَّر بصوت مسموع؛ فإما أن هيكل المركبة ينكسر مُحدِثًا صوتًا، وإما أن الدرع الحراري كان يتمدد مع زيادة حرارته. شعرتُ بارتفاع في درجة الحرارة، ثم بدأ معدل تسارع المركبة يزداد بانتظام؛ بدا كما لو أن معدل التسارع عشرة أمتار لكل ثانية مربعة. مرَّتْ ثانية أو ثانيتان قبل أن تبدأ المعدَّات في الظهور بصورة ضبابية؛ بَدَا كل شيء بلون رمادي. أمعنتُ النظر؛ ممَّا ساعدني على الرؤية بوضوح، كما لو أن كلَّ شيء قد عاد إلى موضعه.»
كان يوري جاجارين، وهو طيَّار في القوات الجوية السوفييتية، يتمتع بصحة جيدة لكن لم يكن لديه سوى القليل من الخبرة. وُلِد جاجارين في عام ١٩٣٤ في مزرعة جماعية غرب موسكو، والتحق بمدرسة تجارية ليصير بعد ذلك عاملًا ماهرًا؛ لكن سجله كطالب كان جيدًا بما يؤهله للالتحاق بمدرسة فنية في ساراتوف تحديدًا. هناك، تعلَّمَ الطيران في نادي طيران محلي، وتأهَّلَ للانضمام إلى القوات الجوية، ثم انضمَّ إلى مدرسة لتأهيل الضباط المرشحين في أورينبِرج؛ حيث تخرَّجَ فيها بمرتبة الشرف الأولى في عام ١٩٥٧.
تزوَّج جاجارين من اختصاصية في النواحي الفنية، تُدعَى فالنتينا إفانوفنا. أنجبا طفلتين، كان عمر أصغرهما شهرًا واحدًا فقط عندما انطلق في رحلته. كان هو وزوجته يعيشان في شقة متواضعة — مكوَّنة من غرفة نوم، ومطبخ، وغرفة معيشة، وحمام — في الدور الخامس من مبنًى مخصَّص لطياري الاختبار العسكريين، وكان جاجارين يسافر يوميًّا إلى موقع التدريب على ريادة الفضاء في وسط مدينة موسكو. في أعقاب رحلته، أظهر جاجارين مهارةً في الحديث وقول ما يجب أن يُقال: «بينما كنتُ في الفضاء الخارجي، كنتُ أفكِّر في حزبنا وفي بلادنا. عندما كنتُ في طريقي إلى الأرض، أنشدتُ أغنية «الوطن يسمع، الوطن يعرف».»
في واشنطن، دارَ الحديث مجددًا حول «سبوتنيك». هاتَفَ أحد الصحفيين «شورتي» باورز، المتحدث باسم روَّاد الفضاء، في الثالثة صباحًا وأيقَظَه سعيًا للحصول على تعليق منه، لكن باورز أجابه قائلًا: «إذا كنتَ تريد أيَّ شيء منَّا، أيُّها الأحمق، فالإجابة أننا جميعًا نيام.»
لم يكن كينيدي نائمًا، لكنه لا شك انزعج كثيرًا. دعا كينيدي إلى عقد مؤتمر صحفي في ظهيرة اليوم نفسه، فسأله أحدهم قائلًا: «سيدي الرئيس، صرَّحَ أحد أعضاء الكونجرس اليوم بأنه سَئِم من مجيء الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بعد روسيا في مجال الفضاء؛ فما هي فُرَص لحاقنا بروسيا وربما تخطِّينا لها في هذا المجال؟» أجاب كينيدي قائلًا: «مهما سَئِم أحدهم، فلا يوجد مَنْ هو أشد سَأمًا مني، سيستغرق الأمر بعض الوقت بالتأكيد. فلا نلبث أن نحسِّن الأمور وندفعها نحو الأفضل حتى يقع الأسوأ. سنمضي، مثلما آمُل، في مجالاتٍ أخرى حيث يمكننا إحراز السَّبْق والريادة؛ مجالاتٍ ربما ستعود بفوائد على البشرية على المدى البعيد. أما الآن، فلا نزال متخلِّفين عن الرَّكْب.»
في الأسابيع الأخيرة السابقة على ذلك، كان كينيدي قد تلقَّى ثلاثة تقارير. كان مستشاره العلمي، جيروم فيزنر الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قد حذَّرَ من التركيز أكثر ممَّا ينبغي على مشروع «ميركوري»؛ إذ لم يكن من الممكن هزيمة السوفييت بهذا المشروع، علاوةً على أنه ينطوي على خطر قتل رائد الفضاء، ربما من خلال علوقه في مدار فضائي. دعا تقرير منفصل من تريفور جاردنر إلى أسلوب معاكس؛ حيث أوصى بتنفيذ برنامج مأهول كبير، تحت رعاية القوات الجوية، بالطبع. ناقشَتِ الأكاديمية الوطنية للعلوم وجهةَ نظر ثالثة؛ حيث دعَتْ لجنة برئاسة ليود بيركنر بحماس بالغ إلى إرسال روَّاد فضاء إلى القمر عبر ناسا. وسط هذه التوصيات المتضاربة، كان ثمة موضوع مشترك، أَلَا وهو: للفوز في سباق الفضاء، يجب ألَّا تقبل أمريكا بما هو أقل من إجراء عملية هبوط مأهولة على سطح القمر، وهي العملية التي سبقها إليها السوفييت على نحوٍ رائع.
بعدها بيومَيْن: في ١٤ أبريل، عندما توافَدَ مواطنو موسكو إلى الميدان الأحمر للترحيب ببطلهم ترحيبًا حارًّا، التقى كينيدي بمستشاريه. استمع إليهم، وهو يتمتم قائلًا: «ربما لن نلحق بهم أبدًا.» ثم استعاد حماسه قائلًا: «دعونا نتأمَّل الأمر. هل ثمة أي مجال يمكننا اللحاق بهم فيه؟ ما الذي في وسعنا فعله؟ هل يمكننا أن ندور حول القمر قبلهم؟ هل يمكننا إرسال رائد فضاء إلى سطح القمر قبلهم؟ ماذا عن «روفر» و«نوفا»؟ («روفر» عبارة عن صاروخ نووي تجريبي، وهو أحد مشروعات هيئة الطاقة الذَّرِّيَّة. انظر الفصل التاسع.) متي سيصبح «ساتورن» جاهزًا؟ هل يمكننا تحقيق قفزة في هذا الشأن؟»
أشار درايدن من وكالة ناسا إلى أن أملهم الوحيد يتمثل في برنامج سريع يشبه مشروع «مانهاتن»، بَيْدَ أن برنامجًا كهذا ربما يتكلف ٤٠ مليار دولار أمريكي، وحتى ذلك الحين لم تكن فرصة الفوز في سباق الفضاء التي يطرحها هذا البرنامج تزيد عن خمسين في المائة. أجاب كينيدي قائلًا: «التكلفة، هذا هو ما يقلقني.» فكَّرَ لحظةً، ثم تابَعَ قائلًا: «عندما يتسنَّى لنا معرفة المزيد، أستطيع أن أقرِّر إن كان المشروع يستحق تكلفته أم لا. فقط لو أن شخصًا في مقدوره أن يرشدني إلى كيفية اللحاق بهم! لنبحث عن شخصٍ ما، أي شخص، لا أعبأ حتى إن كان هذا الشخص هو الحارس الواقف هناك، ما دام يعلم كيف نلحق بهم.»
توقَّف مرةً أخرى لبرهة، محوِّلًا بصره من وجهٍ إلى آخَر، ثم أضافَ في هدوء قائلًا: «لا يوجد ما هو أكثر أهميةً من ذلك.»
كان الرئيس قد اتخذ قرارَه بدافعٍ حدسي؛ حيث كان يعلم أن التكلفة ستكون هائلة، لكنه قَبِلَ هذا التحدي باعتباره تحديًا لا بدَّ له من مواجهته، الآن وهنا. كان ينوي معرفة المزيد من زملائه الآخرين، ليتأكَّد من الأمر، لكن عندما فُضَّ الاجتماع، كان يدرك في قرارة نفسه ما يريد فعله. مع مرور أيام الأسبوع، انصرَفَ انتباهه إلى مسألة منفصلة تمامًا، وهي عملية غزو ترعاها وكالة المخابرات المركزية لكوبا انطلاقًا من خليج الخنازير.
شكَّلَ الغزاة قوةً من اللاجئين الكوبيين المنفيين، أطلق عليهم كاسترو «جوسانوس»؛ أي الديدان. خطَّطَ ريتشارد بِسل لتنفيذ العملية، مديرًا إياها بأسلوبه الشخصي الذي سبق أن استخدمه مع برنامجَيْ «كورونا» و«يو-٢»؛ حيث وضع خطة صغيرة لتنفيذ عملية سرِّيَّة يجري القيام بها من خلال غزو برمائي، في ظل دعم جوي. كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد اتخذت خطوة مشابهة إلى حدٍّ ما في عام ١٩٥٤، من خلال الإطاحة بإحدى الحكومات الماركسية في جواتيمالا؛ بَيْدَ أن كاسترو تعلَّمَ من ذلك، وأعَدَّ كوبا للتصدِّي لمثل هذا الهجوم. لم يؤدِّ فشلُ هذه العملية إلى سقوط بِسل فحسب، بل أيضًا سقوط رئيسه ألين دالاس، مدير الوكالة.
كانت آمالُ بِسل وكينيدي، ترتكز على الرأي القائل بأن الأجواء في كوبا كانت سانحةً لاندلاع ثورة مضادة. أيُّ قوةٍ تستولي على رأس جسر ساحلي — حتى إنْ كانت قوة وليدة — يمكنها إعلان حكومة مؤقتة تحظى باعتراف أمريكا بها، وهو ما يفتح الباب أمام التقدم إلى هافانا. كان لدى وكالة الاستخبارات المركزية عملاء قليلون في كوبا (معظمهم اعتُقِل أو قُتِل رميًا بالرصاص)، وعجزت عن إدراك نقطة غاية في الأهمية، أَلَا وهي أن شعوب تلك البلاد كانت فعليًّا على أتم الاستعداد للقتال من أجل كاسترو، والتضافر والاحتشاد من أجل مساندته ودعمه.
كان شعب كاسترو يعيش في فقر مدقع، وكان أُمِّيًّا، وتتفشَّى بين أفراده الأمراض. أخذ كاسترو يبني المدارس والعيادات الصحية، ويصادر أملاكَ المُلَّاك غير المقيمين في أملاكهم. كذلك، قضى كاسترو على المافيا، التي كانت تدير هافانا كمدينة مفتوحة، تضم بيوت دعارة لا تتجاوز أعمار الفتيات فيها أربعة عشر عامًا؛ لذا، عندما حاوَلَ لواء ٢٥٠٦ التابع لوكالة الاستخبارات المركزية مهاجمة خليج الخنازير، لم يكن المدافعون عن الخليج في حاجةٍ إلى سماع قيمة أن يموت المرء وطنيًّا، أو إلى تلقِّي خُطَبٍ حماسية عن حب الوطن؛ كان يكفيهم معرفة أنه في حالة هزيمتهم، ستصبح بناتهم مرةً أخرى عاهراتٍ يمارِسْنَ البغاء مع السائحين الأمريكيين.
قدَّمت وكالة الاستخبارات المركزية دعمًا بالقدر الذي يكفي لزيادة اهتمام أمريكا بالأمر. مع ذلك، رفض كينيدي دعم الغزو بالقوة البحرية والجوية التي ربما كانت ستضمن تحقيقَ النجاح. منذ ما يزيد عن قرن مضى، كتب الشاعر البريطاني اللورد بايرون قائلًا: «أَلَا تعلمون أن الذي يريد الحرية، عليه أن يحصل عليها بنفسه؟» لكنه ربما لم يكن يفكِّر في الناقلة البحرية «ريو إسكونديدو». كانت ناقلة القوات القديمة هذه غير مطليَّة وصَدِئة، وكان محركها صعب التشغيل وقاعها ممتلئًا بالروائح الكريهة. كانت الناقلة تحمل مخزونَ الحملة الكامل من الذخيرة والجازولين والمؤن، وانفجرَتْ مطلقةً لسانًا هائلًا من اللهب عندما استهدفها طيَّار كوبي بصاروخ. مع ذلك، لم يكن لأحد أن ينكر أن أمريكا قد زوَّدَتْ جانبًا واحدًا على الأقل بأسلحة فعَّالة؛ إذ كانت الطائرة النفاثة التي يقودها الطيَّار الكوبي من الولايات المتحدة.
مضى سباق الفضاء إلى الأمام كجزءٍ من رد فعل واسع للغاية لحرب باردة صارت فجأةً أكثر إثارةً. لم يجد كينيدي بُدًّا من الالتقاء بقادة الكونجرس، لاستشعار رد الفعل إزاء «أبولُّو» في كابيتول هيل؛ كان يريد من وزير الدفاع ماكنمارا أن يقدِّم وجهةَ نظرِ البنتاجون، وكان في حاجةٍ إلى أن يعرف المزيد من ليندون جونسون مستشاره لشئون الفضاء. التقى كينيدي ليندون جونسون في ١٩ أبريل ١٩٦١، يوم فشل غزو كوبا، وأرسَلَ إليه مذكرةً في اليوم التالي: «هل لدينا أيُّ فرصةٍ لهزيمة السوفييت من خلال وضع مختبر في الفضاء، أو من خلال القيام برحلة حول القمر، أو عن طريق صاروخ يهبط على سطح القمر، أو من خلال صاروخ يصعد إلى القمر وعلى متنه إنسان ثم يعود إلى الأرض؟ هل ثمة أيُّ برنامج فضاء آخَر يبشِّر بتحقيق نتائج كبيرة نتفوَّق بها عليهم؟»
السوفييت متقدِّمون على الولايات المتحدة في المكانة العالمية التي تحقَّقَتْ من خلال الإنجازات التكنولوجية المبهرة في مجال الفضاء. يجب أن تتحلَّى هذه البلاد بالواقعية وتدرك أن الأمم الأخرى، بصرف النظر عن تقديرها لقِيَمنا المثالية، ستميل إلى الانحياز إلى جانب الدولة التي يعتقدون أنها ستكون الدولةَ الرائدة في العالم؛ الدولة المنتصِرة على المدى الطويل. يُشار إلى الإنجازات الهائلة في مجال الفضاء على نحوٍ متزايد بوصفها أحدَ المؤشرات الرئيسية على الريادة العالمية.
إذا لم نبذل قصارى جهدنا الآن، فسيأتي سريعًا وقتٌ يميل فيه هامشُ السيطرة على الفضاء وعلى عقول الشعوب من خلال الإنجازات الفضائية إلى الجانب الروسي بدرجة كبيرة، حتى إننا لن نستطيع اللحاق به، فضلًا عن تحقيق الريادة.
ثم بعدها بأسبوع، في ٥ مايو، سجَّلَ مشروع «ميركوري» أولَ نجاحٍ ذي قيمة سياسية. كان رائد الفضاء ألان شيبارد على متن الصاروخ «ردستون» في رحلةٍ استمرت خمس عشرة دقيقة، بلغت ارتفاع ١١٥ ميلًا، ليكون بذلك أول أمريكي يصعد إلى الفضاء.
في الواقع، لم تكن الرحلة سوى مشروع «آدم» لفون براون، الذي كان درايدن قد استبعده قبل ثلاث سنواتٍ بدعوى أنه ضربٌ من ألعاب السيرك البهلوانية. على الرغم من ذلك، ظلَّ نموذج الصاروخ موجودًا ليصير عنصرًا في برنامج «ميركوري»، ولنفس السبب الذي كان قد دفع آيك إلى الاستعانة به لإطلاق أول قمر صناعي، أَلَا وهو أن هذا صاروخ متاح وجاهز ويمكن الاستعانة به في دعم عملياتِ إطلاقٍ مهمة، قبل أن يصبح الصاروخ «أطلس» متوافرًا وجاهزًا لتنفيذ مهماتٍ كبيرة. كان طاقم المشروع يأمل في ربيع ذلك العام أن تتاح الفرصة لأن يحمل الصاروخ «أطلس» رائدَ فضاءٍ في مدار حول الأرض بنهاية عام ١٩٦١. لكن، في غمار تلك اللحظة المُلِحَّة، بَدَا الصاروخ «ردستون»، بمداه الذي بلغ ثلاثمائة ميل، الصاروخَ الذي كان الجميع يحتاج إليه.
عرضت الشبكات التليفزيونية عمليةَ الإطلاق وقدَّمَتْ تغطيةً حيةً سرعان ما صارت تغطية قياسية، وهو ما كان يعني أن الجميع كان يشهد عملية الإطلاق؛ ومن ثَمَّ، لو كان الصاروخ قد انفجر، فإن العالم بأسره كان سيرى ذلك. قاطعَتْ لحظةُ الإطلاق المثيرة سيْرَ الإجراءات القانونية في المحاكم؛ ففي أنديانابوليس، أمر أحد القضاة بوقف محاكمة للسماح للحاضرين في قاعة المحكمة بمشاهدة تليفزيون كان حِرْزًا من أحراز حادث سرقة. في مختلف أنحاء البلاد، تقلَّصَتْ حركة المرور على الطرق السريعة نظرًا لتوقُّف مستخدميها إلى جانب الطريق للاستماع إلى المذياع. جذبت التغطية المباشِرة انتباهَ الجميع؛ نظرًا لأنه كان ثمة رجلٌ على متن ذلك الصاروخ بالفعل. كانت البلاد كلها عن بكرة أبيها تصغي إلى صوت شيبارد الذي يأتي متقطعًا عبر إشارة اللاسلكي:
ربما كانت روسيا تمتلك الصواريخ الكبيرة، إلا أن أمريكا كان لديها أطقم عمل التليفزيون والسينما، وهو أمرٌ من شأنه أن يقدِّم ميزة مؤثرة وقوية في معركة نَيْلِ المكانة العالمية. على حد تعبير صحيفة «إيفنينج نيوز» التي تصدر في مدينة لندن: «لقد فعلوها في وضح الدعاية المبهر.»
بعدها بثلاثة أسابيع، بعد ظهيرة ٢٥ مايو، دخل كينيدي في دائرة الضوء نفسها عندما ألقى خطابًا في جلسة مشتركة للكونجرس فيما سمَّاه الرسالةَ الثانية لحالة الاتحاد. تناوَلَ خطابه، الذي كان يُبَثُّ بثًّا مباشِرًا، عددًا من الموضوعات، وقال فيه: «هذه أوقات استثنائية، ونحن بصدد تحدٍّ استثنائي.» تحدَّثَ عن الاقتصاد، مقترِحًا برنامجًا جديدًا للتدريب الوظيفي، وخصمًا ضريبيًّا لتشجيع الاستثمار، لكنه تحدَّثَ في جانب كبير من خطابه عن الحرب الباردة.
إذا كنا نريد أن ننتصر في المعركة الدائرة في كل أرجاء العالم بين الحرية والطغيان، إذا كنا نريد أن ننتصر في معركة الظفر بعقول الناس؛ فقد أوضحَتِ الإنجازات الهائلة التي تحقَّقت في مجال الفضاء خلال الأسابيع الأخيرة لنا جميعًا، مثلما أوضحت «سبوتنيك» في عام ١٩٥٧، أثرَ هذه المغامرة على عقول البشر في كل مكان، الذين يحاولون أن يتخذوا قرارًا بالطريق الذي عليهم أن يسلكوه.
حان الوقت الآن لاتخاذ خطوات أكبر، لتحقيق إنجاز أمريكي عظيم وجديد، لأنْ تلعب هذه الأمة دورًا رائدًا وواضحًا في إنجازات الفضاء، الذي ربما سيكون من نواحٍ كثيرة مفتاحَ مستقبلنا على الأرض.
كان اختيار هذا الهدف يلبِّي عدة متطلبات. كان الهدف يتجاوز قدرةَ الصواريخ في عام ١٩٦١، بما في ذلك الصاروخ «ساتورن»، وكانت موسكو ستحظى بميزة بسيطة بفضل ريادتها الحالية. كان الهدف يتطلَّب تطويرَ صواريخ من نوع جديد تمامًا، وهو ما قد يشمل أيضًا الصاروخ «نوفا»؛ ومن ثَمَّ فمن شأنه أن يغيِّر من شروط المنافسة؛ وعليه، فبدلًا من أن يجعل الولايات المتحدة تسعى إلى اللحاق بقدرات الصاروخ «آر-٧» في المستقبل القريب، كان على الاتحاد السوفييتي أن يحشد قدراته الفنية والصناعية إزاء قدراتٍ صاروخية أكبر كثيرًا للولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، كان هدف الهبوط على سطح القمر هدفًا يمكن إنجازه. لم يكن هذا الهدف يقبع في المستقبل البعيد، لكنه استغرق فترتين رئاسيتين فقط لتنفيذه. كان هذا المدى الزمني مهمًّا جدًّا؛ إذ لم يكن كينيدي يريد الانتظار حتى عام ١٩٧٥ لإنزال روَّاد فضاء على القمر، وهو ما كان عنصرًا أساسيًّا في خطة ناسا التي كان آيك قد رفَضَها قبل خمسة أشهر فقط بسبب التكلفة. رفض كينيدي الخطةَ لسبب مختلف؛ إذ كان يعلم أن العامة لن يطيقوا صبرًا حتى خمسة عشر عامًا.
بالإضافة إلى ذلك، كان الهدف يتميَّز ببساطته وسهولة استيعابه. أشار فون براون إلى أن «الجميع يعرف ما هو القمر، الجميع يعرف ما هو هذا العقد، والجميع يمكنه التمييز بين رائدِ فضاءٍ حيٍّ عاد من القمر وآخَر لم يَعُدْ.»
سار تطوير الصواريخ على غرار نمطٍ يماثل نمطَ الإجراءات التنفيذية في برنامج الفضاء. كان ثمة تمييزٌ واضح بين البرامج غير المأهولة التي يمكن استخدامها في تطبيقات عملية، وبين البرامج المأهولة الأكثر تكلفةً التي تخدم أهدافًا سياسية. برز تمييزٌ مماثِل بين الصواريخ المستخدمة في رحلاتٍ مأهولة، التي كانت أكبر حجمًا بكثير، والصواريخ العسكرية — مثل «مينتمان» و«بولاريس» — المُصمَّمة بحيث تكون صغيرةً بما يتلاءم مع أحجام الصوامع والغواصات.
كانت موسكو متخلِّفة كثيرًا في سعيها لتطوير هذه الصواريخ الصغيرة. في حقيقة الأمر، كانت لا تزال تركِّز جلَّ اهتمامها على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وكانت بصدد تطوير صاروخ جديد ضخم للغاية، وهو الصاروخ «آر-١٦». كان هذا المشروع محلَّ اهتمام كبير لدى مارشال ميتروفان ندلن، أحد نائبي وزير الدفاع وقائد سلاح الصواريخ الاستراتيجية؛ إذ كان يستعِدُّ لخوض حرب نووية حرارية، وعلى غرار كيرتس لوماي، لم يكن يُخفِي رغبتَه في ذلك.
كان ندلن قد أشرف على اختبار أول قنبلة هيدروجينية حقيقية في بلاده، في ٢٢ نوفمبر ١٩٥٥. أسفر انفجار القنبلة عن ١٫٦ ميجا طن من الآثار الانفجارية، وهو ما يزيد بمائة مرة تقريبًا عن الآثار الانفجارية لقنبلة هيروشيما. في مساء ذلك اليوم، أقام ندلن مأدُبةً ودعا مصمِّمَ الأسلحة أندريه سخاروف إلى اقتراح النخب الأول. قال سخاروف: «لنأمل أن تنفجر كلُّ قنابلنا بنجاحٍ مثل القنابل التي انفجرت اليوم، لكن ليكن انفجارها دومًا فوق مواقع إجراء الاختبارات، لا فوق المدن.»
شعر سخاروف بالغضب؛ إذ كان هذا الجنرال الواسع النفوذ قد أجاب ببذاءة ومجون على وجهاتِ نظرٍ كان خروتشوف نفسه يتبنَّاها. بعدها بخمس سنواتٍ، دفع ندلن حياته ثمنًا لعدم احترام قوة الأسلحة الحديثة.
جاء ندلن إلى تيوراتام في أكتوبر ١٩٦٠ لمشاهدة أول تجربة إطلاق للصاروخ «آر-١٦»، الذي كان سيحلُّ محلَّ الصاروخ «آر-٧». بلغ طول الصاروخ مائة قدم، واستطاع إلقاء قنبلة على مسافة ٦٥٠٠ ميل بآثار انفجارية بلغت عشرة ميجا طن. لم يكن الصاروخ في ضخامة «آر-٧»، لكنه كان لا يزال ضمن أكبر الصواريخ التي وصلت إلى مرحلة الاستخدام التشغيلي. كان الصاروخ من عمل أحد تلاميذ كوروليف الذين تلقَّوا التدريب والتوجيه على يدَيْه، ويُدعَى ميخائيل فانجل، الذي كان يدير مركزًا هندسيًّا مستقلًّا.
كان فانجل مهتمًّا اهتمامًا كبيرًا بأنواع الوقود القابلة للتخزين، بما في ذلك حمض النيتريك وهيدرازين، اللذان استخدمهما في الصاروخ «آر-١٦». كان كوروليف يرفض وقود حمض النيتريك باعتباره «سُّمَّ الشيطان»؛ حيث كان يخشى استخدامه نظرًا لسُّمِّيَّته الشديدة. في حقيقة الأمر، كان وقود حمض النيتريك يتسبَّب في حروقٍ شديدة عند ملامسته الجلد. لم تكن لدى فانجل هذه الهواجس؛ حيث كان يتوقَّع إمكانيةَ الاستخدام الآمِن له مع التزام الاحتياطات الاحترازية الصارمة. صمَّمَ الصاروخ «آر-١٦» من مرحلتين، مستخدِمًا حمضَ النيتريك في محركات كلتا المرحلتين.
في منتصف شهر أكتوبر، قبل أيام قليلة من عملية الإطلاق، كان خروتشوف يزهو فخرًا بقوة الصواريخ السوفييتية في خطابٍ أمام الأمم المتحدة. كان لديه العديد من الصواريخ المتوسطة المدى مثل الصاروخ «آر-٥»، ولم يكن لديه سوى القليل من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجاهزة للإطلاق، هذا إنْ وُجِدت من الأساس، وربما كان على الصاروخ «آر-١٦» أن يقطع شوطًا طويلًا قبل أن تتوافَق الحقيقةُ مع خطابه الرنَّان. كان الأمر إذن يمثِّل أهميةً استثنائية، وفي ظل ما كان يمارسه خروتشوف من ضغوط هائلة على ندلن، ذهب ندلن إلى تيوراتام ليُظهر اطِّلاعه على آخِر التطورات. لم يبثَّ حضورُ ندلن الطمأنينةَ في نفوس طاقم الإطلاق، بل جعلهم يشعرون بالتوتر، ويميلون أكثرَ إلى ارتكاب أخطاء.
ضَخَّ الفنِّيُّون الوقودَ في الصاروخ، بينما كان ندلن وعددٌ من الأشخاص الآخَرين يجلسون إلى مقاعد قُرْبَ الصاروخ. ظهرت مشكلات عند بدء العد التنازلي، واستلزَمَ الأمر إجراء بعض الإصلاحات. كانت قواعد السلامة تتطلَّب عادةً تصريفَ الوقود والمادة المؤكسِدة، للحدِّ من مخاطر اندلاع حريق، لكن لم يُطِقْ ندلن صبرًا. أشار ندلن بنفسه على طاقم الإطلاق أن يتركوا الصاروخ ممتلئًا بالوقود ويمضوا قُدمًا في الإصلاحات. لم يغيِّر هذا الإجراء، حتى عندما شرع بعض أفراد طاقم الإصلاح في استخدام مشاعِل لحام، وهي ربما تؤدي إلى اشتعال أي وقود متسرِّب.
كانت إحدى هذه الجثث هي جثة ندلن؛ إذ كانت ألسنة النيران قد أحاطت به بينما كان جالسًا قُرْبَ الصاروخ. كان بعض العاملين في المستويات العليا من برج الخدمة يربطون حبالًا لضمان السلامة، وها هم الآن يتدلَّون منها، بعد احتراق أجسادهم. مات كذلك الكثير من أبرز مساعدي يانجل، وفيهم نائبه. أكثر من مائة شخصٍ لقوا حتفهم في هذا الحادث؛ ممَّا جعله أسوأ كارثةٍ في تاريخ دراسة الصواريخ وتصميمها.
كان يانجل قد قصد غرفة معزولة لإشعال سيجارة، وهو ما أنقذ حياته. قليلٌ هم مَن حالَفَهم الحظ كما حالَفَ يانجل. دُفِن المارشال ندلن في حائط الكرملين، وسط مراسم جنائزية رسمية مهيبة كاملة، بينما دُفِن معظم الآخَرين في مقبرة جماعية في تيوراتام.
أحدثت الكارثة طفرة هائلة في الاهتمام بتدابير السلامة. جرى تأجيل رحلة جاجارين المدارية التي كان مقررًا لها أن تنطلق في أواخر ديسمبر ١٩٦٠ إلى الربيع، للسماح بإجراء المزيد من الاختبارات الإضافية باستخدام الكلاب. جرى بنجاح استئناف العمل في برنامج إطلاق الصاروخ «آر-١٦» في أوائل شهر فبراير؛ وهو ما جعل الصاروخ جاهزًا لدخول الخدمة في عام ١٩٦٢. وفي أعقاب عملية خليج الخنازير، التقى خروتشوف كينيدي في فيينا. خرج خروتشوف من الاجتماع مقتنعًا من جديد بإمكانية الانتصار من خلال الترهيب، وهدَّدَ باستيلاء ألمانيا الشرقية على برلين الغربية.
كان كلٌّ من قرار كينيدي حول «أبولُّو»، والإجراءات الأخرى التي أعلنها في الخطاب نفسه، يمثِّل جزءًا فقط من رد فعله. في أواخر شهر يونيو، طلب كينيدي توفير مزيد من التمويل لصالح البنتاجون، واستدعاء جنود الاحتياط، وزيادة عدد القوات القتالية، ومضاعفة عمليات استدعاء المواطنين للتطوُّع في الجيش بمقدار ثلاثة أضعاف، وإدخال تعديلات على الطائرات والسفن التي كانت مُستبعَدة من الخدمة. اتخذ خروتشوف خطوته في أغسطس ببناء حائط برلين، كما أجرى اختبارات لقنابل نووية ذات قدرات مرتفعة للغاية، وكان منها قنبلة تبلغ آثارها التفجيرية ٥٠ ميجا طنًّا. لكنه لم يستولِ على برلين الغربية، بل عزلها من خلال الحائط؛ ممَّا جعل الأزمة تهدأ تدريجيًّا. مع ذلك، شعر كينيدي أن عليه فعل المزيد؛ حيث تحوَّلَ بناظريه إلى جنوب شرق آسيا. توقع الجنرال ليمان لمنيتسر، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بأنه في حالة سقوط فيتنام الجنوبية، «سنفقد جميع دول آسيا حتى سنغافورة». في ديسمبر، أطلق كينيدي حملة تعبئة، فزادت التزاماته؛ إذ بعد أن كان مسئولًا عن ثمانمائة مستشارٍ، صار مسئولًا عن ستة عشر ألف جندي في أرض المعركة.
في تلك الأثناء، كانت الخيارات الاستراتيجية تنفد من بين يدَيْ خروتشوف. لم تتجاوز قوة القاذفات البعيدة المدى ثمانيًا وخمسين قاذفةً تعمل باستخدام المكابس، وستًّا وسبعين طائرة طراز «تي-يو ٩٥»، تعمل بالمحركات المروحية التوربينية وبطيئة ويسهل إسقاطها من قِبَل الدفاعات الجوية الأمريكية. شرع خروتشوف في نشر صواريخ «آر-١٦»، لكن لم يكن لديه إلا عشرون صاروخًا باليستيًّا عابرًا للقارات؛ كان يستطيع مهاجمة الولايات المتحدة بنحو ٢٢٠ سلاحًا نوويًّا، لكن لم يكن الكثير منها سيبلغ هدفه.
كانت القوة الأمريكية هائلة؛ إذ كان لدى أمريكا ١٢٢ صاروخًا باليستيًّا عابرًا للقارات جاهزًا للاستخدام، فضلًا عن ١٣٨١ قاذفة نفاثة، كان نحو خُمسَيْها تقريبًا من طائرات «بي-٥٢». كان لدى أمريكا أيضًا ستون صاروخًا طراز «ثور» في إنجلترا، وخمسة وأربعون صاروخًا طراز «جوبيتر» في إيطاليا وتركيا، فضلًا عن ثمانية وأربعين صاروخًا طراز «بولاريس» على متن ثلاث غواصاتٍ جاهزة للانطلاق والمزيد في مخازن أسلحتها. كانت الآثار الانفجارية الجاهزة التي يمكن لأسلحة الولايات المتحدة إحداثها تُقدَّر بحوالي ٤٠٠٠ ميجا طن. ووفقًا لتقديرات هيئة الأركان المشتركة، كان يمكن لهذه القوة التدميرية أن تُودي بحياة نصف مليار شخص، بزيادة ثمانين مرةً عمَّنْ لقوا حتفهم في محرقة اليهود على يد النازيين (الهولوكوست).
مع ذلك، لم يستطع خروتشوف أن يفعل سوى شيء واحد لمواجهة حالة عدم التوازن هذه. في إطار من السرِّيَّة، قرَّرَ خروتشوف أن ينشر أربعين صاروخًا متوسط المدى في كوبا، لزيادة عدد الأسلحة التي يستطيع توجيهها مباشَرةً إلى الولايات المتحدة زيادةً كبيرة. تمخَّضَ ذلك عن أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر ١٩٦٢. في غضون أيام قلائل، بات العالم قاب قوسين أو أدنى، عن أي وقتٍ مضى، من اندلاع حرب نووية؛ إذ بَدَا أن المنطق المرعب وراء حرب تطوير الصواريخ والقذائف، التي كانت دائرةً بلا هوادة منذ عام ١٩٤٥، سيبلغ نهايته المنشودة.
كم اقتربنا في حقيقة الأمر من حربٍ عالميةٍ ثالثة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال الإشارة إلى حالة الأزمة التي اندلعت يوم السبت، ٢٧ أكتوبر؛ أيْ قرابة أسبوعين بعد معرفة كينيدي بهذا الخطر الوشيك.
كان كينيدي قد فرض حظرًا اقتصاديًّا على كوبا، وهو ما كان في حد ذاته ضربًا من أعمال الحرب، لكن الصواريخ كانت قابعةً هناك بالفعل، وكانت أطقم العمل تباشِر عملَها بحماسٍ محموم لتجهيز الصواريخ. كان وزير الدفاع ماكنامارا مستعِدًّا لشَنِّ ضرباتٍ جوية؛ إذ كان كرتيس لوماي قد صار آنذاك رئيسَ أركان القوات الجوية، وكان سيرحِّب بتنفيذ الضربة الجوية؛ بَيْدَ أن ماكنامارا أشار على كينيدي بأنه لا يضمن أن تستأصل تلك الضربات كل الصواريخ، وأعرب عن خشيته أنه في حال تبقِّي أيٍّ من تلك الصواريخ دون تدميرها، ربما يُطلِقها القادة على الفور ردًّا على الضربات الجوية، استنادًا إلى مبدأ «استخدمه أو اخسره»، قبل أن توجِّه أمريكا ضربة ثانية.
كان ماكنامارا قد بنى أيضًا قوةً هائلةً كانت على استعدادٍ لغزو كوبا إذا أعطى كينيدي الإشارة. توقَّعَ محلِّلو البنتاجون أن تتراوح الخسائر في الأرواح بين أربعين ألف أمريكي وخمسين ألف أمريكي.
كانت التحركات الدبلوماسية تقترب من بلوغ طريق مسدود؛ فقد أرسل خروتشوف رسالة شخصية في يوم الجمعة، مقترحًا سحْبَ الصواريخ مقابلَ وعدٍ من الولايات المتحدة بألَّا تهاجم كوبا، وهو ما أحيا آمالًا مؤقتة في إمكانية التوصُّل إلى تسوية. لكن جاءت في تلك الأثناء رسالة جديدة، أعَدَّتْها فيما يبدو إحدى اللجان، جعلت الشروط أكثر صرامةً. كانت موسكو تُصِرُّ آنذاك على أن واشنطن يجب أن تسحب صواريخ «جوبيتر» المنشورة في تركيا، أحد حلفاء الناتو. كان هذا شرطًا غير مقبول؛ حيث كان يعني التخلِّي عن تركيا لحماية الولايات المتحدة، ومثل هذا الصنيع كان من شأنه أن يدمر التحالف داخل الناتو، الذي كان يعتمد على التزامات الدعم العسكري المتبادلة بين الدول الأعضاء.
أشار ماكجورج باندي، مستشار الأمن القومي، على كينيدي بتجاهُل الرسالة الثانية والرد على الرسالة الأولى، منتقيًا الشروطَ التي يراها أفضل. كانت تفوح من هذه الخطة الماكرة رائحةُ القنوط؛ الاستجابة إلى عرض لم يتقدَّم به خروتشوف. مع ذلك، كان الرد يمثِّل فرصةً أخيرة للحل الدبلوماسي، من خلال تفادي رفض شروط موسكو في ذلك الوقت، الذي كان سيفضي إلى مضاعفة مخاطر الحرب.
قدَّم أعضاء هيئة الأركان المشتركة، وفيهم لوماي، توصياتهم الخاصة المتمثِّلة في توجيه ضربة جوية يوم الإثنين، تعقبها عملية غزو. أظهر كينيدي عدم اكتراثه قائلًا: «ليست الخطوة الأولى هي ما يهمني، لكن ما يهمني حقيقةً هو تصعيد حدَّة التوتُّر من قِبَل كلا الطرفين إلى الخطوة الرابعة والخامسة، حين لن يكون في مقدورنا أن ننتقل إلى الخطوة السادسة؛ إذ لن يكون ثمة أحد ليتخذ هذه الخطوة. يجب أن نذكِّر أنفسنا بأننا نسير في طريقٍ غاية في الخطورة.»
صدَّقَ كينيدي على ردٍّ على رسالة خروتشوف وأرسَلَه، وأعلن على الملأ قبوله شروط موسكو، ثم أخبر شقيقه روبرت السفير الروسي أن الوقت قصير جدًّا. لم تكن أمامه إلا سويعات قليلة؛ كان يتحتم على خروتشوف الرد في اليوم التالي.
في فلوريدا، كانت القوات الأمريكية مستعِدَّة للتحرك؛ وفي كوبا، كانت القوات السوفييتية تجهِّز عشرين رأسًا حربية نووية لوضعها في صواريخها. كان السوفييت يجهِّزون أيضًا تسعة أسلحة نووية تكتيكية، وكان لقائد العمليات في كوبا صلاحية استخدامها. لم يكن كينيدي يعرف عنها شيئًا. كان مستشاروه يعلمون أن خروتشوف نفسه كان أول مَن بادَرَ برسم مبدأ بلاده في دخول الحرب.
كان هذا المبدأ يقضي بأنه إذا ما خاضت موسكو الحرب، كانت ستخوض حربًا عالمية شاملة. ربما بدأ هذا المسار بصراع محلي تصاعدت حدَّتُه، لكن كان من «الحتمي» حدوث مزيدٍ من التصعيد يصل إلى المستوى النووي، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي إلى شن ضربات «متزامنة» ضد المدن فضلًا عن الأهداف العسكرية، مع «أقصى» استخدامٍ للأسلحة النووية من بداية الصراع. كانت الحرب تتضمَّن استخدامَ الاتحاد السوفييتي لمخزونِ القوة الضاربة الاستراتيجية بالكامل، ذاك المخزون الذي استخدمه الاتحاد السوفييتي من قبلُ.
كان اليوم لا يزال يوم السبت، وفي المساء عاد ماكنامارا إلى البنتاجون. كان يتساءل عن مرات غروب الشمس التي كان سيراها مرةً أخرى.
انتهت الأزمة.
في ذلك المساء، تحدَّثَ آل كينيدي عن الأمر، وتذكَّرَ جون نهايةَ الحرب الأهلية قائلًا: «ربما هذه هي الليلة المناسبة للذهاب إلى المسرح.» ضحكَ كينيدي وروبرت، ثم أضافَ روبرت قائلًا: «إذا كنتَ ستذهب إلى المسرح، فإنني أعتزمُ الذهاب معك.»