حصيلة الرحلات الفضائية إلى القمر
في أواخر عام ١٩٦٨، انطلقت «أبولُّو ٨» في رحلتها في ذروة حرب فيتنام. كان أحدُ الأسباب المهمة وراء مشروع «أبولُّو»، الذي يعود إلى عام ١٩٦١، هو رغبة الولايات المتحدة في إبهار دول العالم الثالث بقوة أمريكا الفنية؛ ومن ثَمَّ إثناؤها عن اعتناق الشيوعية. كانت حرب فيتنام قد انبثقت عن الأصل نفسه؛ فقد صدرت الأوامر بخوض حرب فيتنام وبدء مشروع «أبولُّو» عن قيادة الرئيس كينيدي. صرَّحَ كينيدي في خطابه الافتتاحي، الذي ألقاه في عام ١٩٦١ أيضًا، بأن البلاد «ستدفع أي ثمن، وتتحمل أي عبءٍ» في سبيل الانتصار في «الصراع الطويل المرير» ضد الشيوعية. بَيْدَ أن العالم قد تغيَّرَ منذ ذلك الحين؛ كانت الحرب الباردة تضع أوزارها، وهو ما جعل تصوُّر الانسحاب من فيتنام دون اشتراط النصر أمرًا ممكنًا. ولأن ناسا كانت قد تطوَّرَتْ لتكون إحدى أدوات الحرب الباردة، أصابها التغيير هي الأخرى.
بدأ الصراع يتراجع وتخف حدته في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية. في غضون أشهر، التقى الدبلوماسيون الأمريكيون والسوفييت لتوقيع معاهدة تجرِّم إجراء اختبارات على الأسلحة النووية فوق سطح الأرض، وهو ما مَثَّلَ وقتَها خطوة مهمة نحو الحد من الأسلحة. أثبتَتِ المعاهدة إمكانيةَ تحوُّل القوى العظمى من المواجَهة إلى التفاوُض. في هذا المناخ، ومع تراجُع النظر إلى الحرب النووية بوصفها خطرًا وشيكًا، كانت البلاد توجِّه اهتمامها نحو الشئون المحلية، وكان سباق الفضاء هو الموضوع الأساسي الذي برز خلال عام ١٩٦٣.
ليس من قبيل المصادَفة أنْ تصدَّرت حركةُ الحقوق المدنية الاهتمامَ وسطَ تراجُع حدَّة التوترات بين القوتين العُظميين. لا تُجري الدول برامج إصلاح شاملة في ظل تهديد الحرب؛ إذ يجب إرجاء هذا الإصلاح إلى وقت السِّلم. يرجع عصر الحقوق المدنية الحديثة إلى عام ١٩٥٤، عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها التاريخي الذي يقضي بأن الفَصْلَ العنصري في المدارس غير دستوري؛ لكنْ، على الرغم من ذلك، تطلَّبَ الأمرُ عقدًا آخَر لحشد الاهتمام العام بدرجة كبيرة تسمح بسَنِّ التشريع الملائم. بعد ذلك، صارت قوانين الحقوق المدنية هذه جزءًا من حركة تغيير أوسع نطاقًا في وقت السِّلْم، وهي حركة «المجتمع العظيم».
تصاعدت الحرب في فيتنام — أحد الآثار الأخرى للحرب الباردة — خلال ستينيات القرن العشرين، على الرغم من تراجُع حدَّة التوترات بين القوتين العُظميين. دعم عموم الشعب الأمريكي المجهود الحربي، وسطَ تطميناتٍ من الرئيس جونسون وقادة آخَرين بأن الصراع سينتهي قريبًا. ثم في فبراير ١٩٦٨، شَنَّ شمالُ فيتنام وَفيت كونج — حلفاؤها في جنوب فيتنام — هجومًا كبيرًا. فشل الهجوم عسكريًّا، عندما أفضت الهجمات الأمريكية المضادة إلى هزيمة العدو؛ بَيْدَ أن الهجوم حقَّقَ نجاحًا باهرًا بإقناع الولايات المتحدة بأن الشيوعيين دخلوا الحرب غير مبارحين ولن يستسلموا. في أعقاب هذا الهجوم، استجابت واشنطن إلى ذلك، ليس من خلال مزيدٍ من التصعيد، بل بإجراء محادثاتِ فضِّ اشتباك. أثناء الحملة الرئاسية، وعَدَ ريتشارد نيكسون بإنهاء الحرب، وعندما فاز في الانتخابات، بَدَا واضحًا أن الولايات المتحدة تنوي الانسحاب حقًّا من فيتنام، حتى إذا كانت التفاصيل غير مؤكَّدة.
ومثلما أدَّى فتور حدَّة الحرب الباردة إلى الانسحاب من فيتنام، كان من المقرَّر أن تؤدِّي أيضًا إلى تراجُع مماثِل من القمر. في الوقت الذي حقَّقَتْ فيه «أبولُّو» نجاحًا كاملًا وأصبحت ناسا قاب قوسين أو أدنى من القمر، حالت الأولويات المتغيرة على مستوى البلاد دون أن تواصِل هذه الوكالة برنامج متابَعةٍ لإجراء عملية استكشاف موسَّعة للقمر؛ ممَّا أدَّى إلى إرسال رحلات مأهولة إلى المريخ. وبدلًا من أن يمضي برنامج الفضاء إلى الأمام باعتباره محورَ آمال الأمة، صار يبحث عن دوره في عالم رتيب بعيد عن الخيال والإبداع، مع خبوِّ جذوة التحدي الذي أعلنه كينيدي، ومع نظر الكثيرين إلى «أبولُّو» باعتباره إهدارًا للمال.
حدَث خلاف لفترة قصيرة حول مشروع «أبولُّو» خلال مرحلة دفء العلاقات الدبلوماسية في عام ١٩٦٣، حيث انتقَدَ قادة مؤثِّرون تكلفةَ المشروع وشكَّكوا في قيمته. اقتطع الكونجرس بعد ذلك نصف مليار دولار أمريكي من ميزانية ناسا؛ لكن، في أعقاب اغتيال الرئيس كينيدي، تراجعَتْ حدَّة هذا الخلاف. صار هدف الهبوط على سطح القمر هدفًا مقدسًا على الصعيد السياسي؛ حيث كان يُنظَر إلى الأمر باعتباره سيكون تخليدًا لذكرى هذا القائد الشهيد. لم يكن من المستغرب أيضًا أن تنهمك ناسا في توسيع نطاق المجتمع العظيم، حيث قاد ليندون جونسون الجهود منذ عام ١٩٥٧ في الدفع في اتجاه برنامج فضاء نَشِط. كان جونسون قد أشار على كينيدي أن يواصِل برنامج «أبولُّو»، واتخذ هذا هدفًا شخصيًّا له بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض.
سار العمل في مشروع «أبولُّو» بخطًى سريعة بفضل الازدهار الاقتصادي؛ حيث ارتفع إجمالي الناتج القومي من ٥٠٠ مليار دولار أمريكي في عام ١٩٦٠ إلى ٦٦٠ مليار دولار أمريكي بعد خمس سنوات فقط، مع انخفاض هائل في معدل التضخم. ساعَدَ ذلك في تغطية تكلفة برنامج الصعود إلى القمر، مع زيادة ميزانية ناسا من ١٫٢ مليار دولار أمريكي في العام المالي ١٩٦٢ إلى ذروة ارتفاعها وهي ٥٫٩ مليارات دولار أمريكي في العام المالي ١٩٦٦. عند تلك الذروة، كانت الوكالة تنفق ما يقرب من واحد في المائة من إجمالي الناتج القومي. بلغ إجمالي معدل التوظيف لدى الشركات المتعاقدة ٤١١ ألف شخص، وفي ناسا نفسها ٣٦١٦٩ شخصًا. وعلى مستوى البلاد ككل، كان أكثر من مليون شخص يعيشون في أُسَر تعتمد في مصدر دَخْلها على برنامج الفضاء، وهو ما كان يقترب من تعداد سكان ولاية نبراسكا، متجاوزًا يوتا ونيو مكسيكو ونيو هامبشير.
كدولة ناشئة آخِذة في النمو، كان برنامج الفضاء يضع المستقبل نصب عينيه وينفِّذ مشروعات من شأنها أن توفر فرصًا تتجاوز ما يقدمه مشروع «أبولُّو»؛ كان من أبرز هذه المشروعات مشروع «إكس-١٥»، الذي على الرغم من أنه يرجع إلى خمسينيات القرن العشرين، فإن أثره الممتد استمرَّ لعقود لاحقة.
سجَّلَ الصاروخ «إكس-١٥» أرقامًا قياسية في السرعة والارتفاع حتى عند تزويده بمحركيه الأصليين طراز «إكس إل آر-٢»، من إنتاج شركة «ريأكشن موتورز»، اللذين كانا يوفران قوة دفع مقدارها ١٦ ألف رطل. وفي آخِر مشروعاتها بعد ذلك، بنت شركة «ريأكشن موتورز» محرك «إكس إل آر-٩٩» اللاحق لاستخدامه في الصاروخ «إكس-١٥»، الذي كانت قوة دفعه البالغة ٥٧ ألف رطل تضاهي قوةَ دفعِ الصاروخ «في-٢». بالإضافة إلى ذلك، لزيادة أدائه، لم تنطلق هذه الطائرة الصاروخية من ممر إقلاع، بل وُضِعت أسفل جناح طائرة قاذفة طراز «بي-٥٢» على حاملة طائرات. بلغت في أنجح رحلاتها ارتفاع ٦٧ ميلًا بسرعة ٤٥٢٠ ميلًا في الساعة، أو ما يساوي ٦٫٧ ماخ. لم تستطع أي طائرة يقودها طيَّار تجاوُز هذه الأرقام حتى ظهور المكوك الفضائي.
كان يمكن لهذا الأمر أن يحدث حتى لأفضل الطيَّارين وأمهرهم؛ فقد حدث لتشاك ياجر في عام ١٩٥٣، عندما ارتفع بطائرة «إكس-١ إيه» بسرعة ٢٫٤٤ ماخ، حيث سقطت الطائرة من ارتفاع ٧٥ ألف قدم؛ جعلته حركاتها العنيفة يتخبَّط في القمرة ويفقد وعيه تقريبًا، بينما انخفضت الطائرة إلى ما دون ٣٠ ألف قدم قبل أن يستعيد رشدَه ويُوقِف دورانه. بعدها بعامين، حدثت الواقعة نفسها لميلبورن آبت في طائرة «إكس-٢»؛ بلغ آبت ارتفاع ٣٫٢ ماخ قبل أن يفقد السيطرة، لكن كانت لديه الفرصة لإنقاذ نفسه عن طريق فصل مقدمة «إكس-٢» وفتح مظلة، لكنه لم يتمكَّن من القفز واستخدَمَ مظلته الخاصة ولقي حتفه عندما اصطدمت مقدِّمة الطائرة بالأرض.
بالنسبة إلى «إكس-١٥»، كان الحل يتضمَّن إدخالَ أربع ريشات كبيرة، تُركَّب على غرار الموجودة في سهم، فضلًا عن نظام تحكُّم في ردِّ الفعل يوجِّه المركبة باستخدام محركات نفاثة صغيرة، مثلما في مركبتَيْ «ميركوري» و«جيميني». كانت هذه الريشات تحل محلَّ الجُنيحات والدفة عندما تصير كثافة الهواء منخفضة للغاية. كانت أجهزة التحكم في رد الفعل تعتمد على استخدام الأدوات الموجودة في القمرة، التي لم تكن مأمونة الاستعمال تمامًا. عندما تعطَّلت تلك الأدوات أثناء رحلةٍ بقيادة مايك آدامز في عام ١٩٦٨، هبطَ من ذروة ارتفاع بلغت خمسين ميلًا وولَجَ المجالَ الجوي بينما كانت طائرته تعاني انحرافاتٍ جانبية شديدة. دخلت الطائرة في حالة دوران، جاهَدَ للخروج منها، ثم واجَهَ انحدارًا عنيفًا عرَّضَه لقوة جاذبية بلغت خمسة عشر مترًا في الثانية المربعة؛ لم يستطع تحريك ذراعه لبلوغ أزرار التحكم، التي كانت على مسافة بضع بوصات فقط، ولقي حتفه عندما تحطَّمَتِ الطائرة أثناء الطيران.
مع ذلك، كان هذا هو الحادث المميت الوحيد خلال أكثر من مائة بعثة على ارتفاع مائة ألف قدم. أوضحت طائرة «إكس-١٥» أن الطائرة ذات المحرك الصاروخي يمكنها التحليق نحو الفضاء والعودة بسلام، وهو ما أتاح المجال أمام تطوير صواريخ التعزيز المُجنَّحة التي كانت تستطيع بلوغ مدار فضائي ثم العودة عن طريق الهبوط على ممر إقلاع.
كان من بين المبادرات الواعدة الأخرى لناسا، التي نفَّذَتْها بالاشتراك مع هيئة الطاقة الذرِّيَّة، بناء محركات صواريخ تعمل باستخدام الطاقة الذَّرِّيَّة. كانت هذه المحركات تعمل من خلال ضخِّ الهيدروجين عبر مركز المُفاعِل، عند درجات حرارة تصل إلى أربعة آلاف درجة مئوية، ثم ترتفع درجة حرارة الهيدروجين على نحوٍ هائل وسرعان ما يتمدَّد، متدفِّقًا عبر فوهة لتوفير قوة الدفع.
كانت الصواريخ النووية واعدةً للغاية؛ لأن أداءها كان يتجاوز بمراحل أفضل نماذج الصواريخ المزوَّدة بوقودٍ كيميائي. يُقاس أداء الصاروخ بسرعة عادمه؛ كانت سرعة عادم الصاروخ «إف-١»، الذي كان يستخدم الكيروسين والأكسجين، ٨٥٠٠ قدم في الثانية، بينما كانت سرعة عادم «جيه-٢»، المزوَّد بوقود الهيدروجين والأكسجين، ١٣٧٠٠ قدم في الثانية، وهو ما كان يحسِّن كثيرًا من قدرته على إرسال بعثات «أبولُّو» إلى القمر. كان الهدف من جهود تطوير الصواريخ النووية هو تحقيق سرعةِ عادمٍ مقدارُها ٢٦٥٠٠ قدم في الثانية، وهو ما كان يساوي تقريبًا ضِعْفَ أداءِ «جيه-٢»؛ وكان يمكن لمحركٍ كهذا أن يساعد في إرسال بعثة مأهولة إلى المريخ.
بدأ المشروع في عام ١٩٥٥، وكان يمثِّل مشروعًا آخَر من المشروعات التي كانت ناسا قد خلفت القوات الجوية في إدارتها. أسفرت الجهود الأولى، التي بدأت منذ عام ١٩٥٩، عن بناء سلسة من مفاعلات الصواريخ التجريبية كان يُطلَق عليها «كيوي»، على غرار اسم الطائر الذي لا يطير. خلال منتصف الستينيات من القرن العشرين، أُجريت من خلال المشروع تجاربُ أرضية حول صاروخ نووي حقيقي يُسمَّى «نيرفا» (أي المحرك النووي المُستخدَم في المركبات الصاروخية). بَنَتْ شركة «إيروجت» هذا الصاروخ باستخدام مفاعل من إنتاج شركة «وستينجهاوس»؛ دار المحرك لمدة ساعة كاملة عند مستوى القدرة المقدَّرة، وهي ١١٠٠ ميجا وات. بحلول عام ١٩٦٨، صار البرنامج جاهزًا للخطوة التالية، وهي تطوير محرك مُقنَّن للطيران بقوة دفع ٧٥ ألف رطل. لم يكن من المقرَّر أن يرتفع عن سطح الأرض، واحتاج إلى الصاروخ «ساتورن ٥» ليتمكَّن من ذلك؛ لكنْ، بعد الدفع إلى مدار أرضي، تمكَّنَ هذا المحرك من الصعود إلى المريخ بسهولة.
لكن، في حين تمثِّل الصواريخُ النووية المستقبلَ، كانت «أبولُّو» تمثِّل الحاضرَ. أثبتت رحلة «أبولُّو ٨»، في أواخر عام ١٩٦٨، أنها توفر كل المتطلبات. بعد الصعود إلى مدار فضائي، انشغل روَّاد الفضاء بعمليات الفحص على متن المركبة لمدة ساعتين ونصف، ثم صدر الأمر من هيوستن: «حسنًا، ابدءوا في تنفيذ عملية حقن خارج مدار القمر.» كان هذا التوجيه المقتضب يعني أن فرانك بورمان، قائد المركبة، سيطلق الصاروخ «إس-٤ بي» المرحلي لمدة خمس دقائق وثماني عشرة ثانية لتنفيذ عملية حقن خارج مدار القمر، ثم الصعود إلى القمر.
بلغ تسارع المركبة القمرية ٢٤٢٢٦ ميلًا في الساعة، وهي سرعة جعلتها تفلت تقريبًا من الجاذبية الأرضية. عند النظر عبر نافذة فتحة الخروج، بَدَا العالَمُ كرةً زرقاء وبيضاء. اختفت المسافة الفاصلة بين السحب والسطح، بل بدلًا من ذلك التصقَتْ تكويناتُ السُّحُب بالسطح كما لو كانت طلاءً. بعد الحقن خارج مدار القمر، تضاءَلَ حجمُ الكوكب على نحو ملحوظٍ دقيقةً بعد دقيقة، وخلال الأيام الثلاثة التالية، بَدَتِ الأرض ككرة سلة، ثم صارت كرة بيسبول، ثم تضاءلت أخيرًا ليصير حجمها في حجم كرة برَّاقة كبيرة من الرخام تُومِض بقوة في فراغ الفضاء السحيق.
اقترب روَّاد الفضاء كثيرًا من القمر أثناء استعدادهم لإطلاق الصاروخ الذي كان من المقرَّر أن يضع المركبة الفضائية في مدار قمري. رأى آندرز سماءً مليئة بالنجوم البرَّاقة، ورأى قوسًا محددًا بدقة لم يستطع رؤية أي نجوم في نطاقه، وإنما هو ظلام فقط. وسط شعور بالخوف والغرابة، أدرَكَ آندرز أن هذه الفجوة في مجالات الرؤية المرصَّعة بالنجوم هو القمر.
قضوا معظم اليوم في مدار قمري، ثم نقلوا بثًّا تليفزيونيًّا مباشِرًا:
في عشية الكريسماس لهذا العام، استمعت أنحاء كثيرة من العالم إلى الأصوات الرتيبة لروَّاد الفضاء الثلاثة، بينما تُنقَل عبر دائرة البث اللاسلكي:
لكن، على الرغم من نجاح هذا الإنجاز، لم يصل روَّاد الفضاء إلى القمر؛ حيث لم تطأ أقدامهم سطحه. كما أن هذا لم يتحقق أيضًا مع «أبولُّو ٩» أو «أبولُّو ١٠»؛ حيث كانت هذه البعثات تتمثل في تجربة مركبة الإنزال القمري، فضلًا عن المركبة الفضائية المأهولة، في مدار أرضي أولًا، ثم في مدار حول القمر. لكن، أُجرِيت عملية الإنزال في بعثة «أبولُّو ١١»، وأُطلِق على المركبتين الفضائيتين في هذه الرحلة اسمان يلائمان هذا الحدث القومي التاريخي؛ حيث أطلق روَّاد الفضاء نيل أرمسترونج وباز ألدرين ومايك كولينز عليهما اسمَيْ «كولومبيا» و«إيجل» (أي النسر).
انطلق أول شخصين هبطا على سطح القمر من قاعدة كيب كانافيرال يوم ١٦ يوليو ١٩٦٩، بعد سبعة أشهر من رحلة «أبولُّو ٨». شاهدت أعداد هائلة من سكان العالم الحدثَ لحظةَ صعودِ الصاروخ «ساتورن ٥»، واستمعت إليه وسط هدير هائل، فوق عمود من النيران أكثر سطوعًا من الصلب المصهور الأبيض الساخن. بعدها بأربعة أيام وصلوا إلى مدار قمري، وولَجَ أرمسترونج وألدرين مركبةَ الإنزال، التي أطلقت ناسا عليها «إل إم»، أي المركبة القمرية. عند انفصالها عن «كولومبيا»، المركبة الأم، أرسل أرمسترونج قائلًا: «لإيجل جناحان»، كما كان بها وقود دفعي يكفي لاثنتي عشرة دقيقة من أجل استخدامه خلال عملية الهبوط على سطح القمر. لم تكن طبيعة القمر الخالي من الهواء لتسمح بأية حال بالهبوط بواسطة المظلات؛ لذا، كان على روَّاد الفضاء إبقاء محركاتهم قيد التشغيل في كل شبر من الطريق.
الآن، على ارتفاع ٣٤ ألف قدم، سمعوا صوت جهاز الإنذار الرئيسي مدويًا. أومَضَ الكمبيوتر بعلامة تحذيرية، وأشار إلى وجود حمولة زائدة. تسارَعَتْ ضرباتُ قلب أرمسترونج؛ إذ كان يعلم أن باستمرار ذلك سيضطرون إلى إنهاء عملية الإنزال. توصَّلَ إلى حلٍّ للمشكلة، لكن سرعان ما تكررت. بعد حدوث ذلك عدة مرات، نقلت هيوستن بعض المهام إلى كمبيوتر أرضي الموقع، على مسافة ربُع مليون ميل. قلَّ مستوى الصعوبة، وتضاءل احتمال إيقاف الإنزال. مضت «إيجل» في طريقها نحو إتمام عملية الإنزال وسط بحر السكون.
عمل الكمبيوتر الموجود على متن المركبة على توجيهها بينما تواصِلُ هبوطَها. على ارتفاع ألف قدم، رأى أرمسترونج أنهم يهبطون في اتجاه فوهة عرضها عدة مئات من الأقدام، يحيطها نطاقٌ ممتد من الجلاميد الكبيرة. تولَّى أرمسترونج توجيهَ المركبة عوضًا عن الكمبيوتر، موجِّهًا مركبةَ الإنزال بينما كان يبحث عن أرض خالية ومستوية. عثر أرمسترونج على مبتغاه، لكن في تلك الأثناء كان مستوى الوقود ينخفض بشدة.
الآن، مع اقتراب أرمسترونج، أثار عادم صاروخه الغبار القمري وحجبَ رؤيته؛ قال أرمسترونج لاحقًا: «صار هذا الغبار المتطاير أكثر كثافةً، كان الأمر أشبه بعملية هبوط وسط ضباب أرضي سريع الحركة.» ركَّزَ عينيه على الصخور التي ظلت مرئيةً عبر الضباب. كانت لا تزال أمامه مسافة ستين قدمًا ليقطعها، والوقود الذي معه كان يكفي لستين ثانية. لم يطأ الأرض بقدميه بعدُ، ولم يَعُدْ متبقيًا لديه سوى ثلاثين ثانية.
قال ألدرين: «ننحرف إلى اليمين قليلًا، ضوء التماس. حسنًا، توقَّفَ المحرك.» لامست المجسَّات في منطقة الهبوط السطح. أغلق المستكشفان المحرك وسط موجة سريعة وعارمة من النشاط، ثم تطلَّعَ كلٌّ منهما في الآخَر وشبَّكَا أيديهما. قال أرمسترونج: «هيوستن، هنا قاعدة السكون. هبطت «إيجل».» أجابت هيوستن: «روجر، قاعدة السكون، نسمعك على الأرض. لقد حُبِست أنفاس الرجال هنا وتحوَّلَ لونهم إلى الزُّرقة. ها نحن نتنفس من جديد. شكرًا جزيلًا.»
وصفَ أرمسترونج بعد ذلك منطقة الهبوط قائلًا: «خارج النافذة سهلٌ مستوٍ نسبيًّا، يحتوي على عدد كبير إلى حدٍّ ما من فوهاتٍ يتراوح محيطها بين خمس أقدام وخمسين قدمًا، وبعض النتوءات الصغيرة بارتفاع عشرين أو ثلاثين قدمًا، حسبما أظن. نرى أمامنا على مسافة بضع مئات من الأقدام بعض الكتل البارزة التي قد يصل حجمها إلى قدمين. ثمة تلٌّ في مجال الرؤية.» كان هذا الوصف ملائمًا؛ إذ كانوا قد تسلقوا تلًّا مرتفعًا بالفعل.
استغرق الأمر بضع ساعات من الإعداد قبل أن يصبحا جاهزين لفتح فتحة الخروج والنزول على سلم من تسع درجات للسير على سطح القمر. خرج أرمسترونج أولًا: «أنا في أسفل السلم. على الرغم من أن السطح يبدو دقيقَ الحبيبات للغاية عند الاقتراب منه، فإنه أشبه غالبًا بمسحوق. سأترجَّل الآن عن المركبة القمرية.»
كان أرمسترونج قد خطَّطَ سابقًا للكلمات الخالدة التي سيتفوَّه بها في هذه اللحظة: «هذه خطوة صغيرة للإنسان، لكنها وثبة عملاقة للبشرية كلها.» كان يقصد أن يقول «خطوة صغيرة للمرء»، بَيْدَ أنه تعثَّرَ في نطق عبارته نظرًا لإثارة الحدث.
هنا وطأ رجلان من كوكب الأرض
بقدمَيْهما للمرة الأولى على سطح القمر.
يوليو ١٩٦٩ ميلاديًّا.
أَتينا في سلام من أجل البشرية جمعاء.
كانت «إيجل» مركبة من مرحلتين. كان من المقرَّر أن تبقى المرحلة الأولى، التي كانت قد أدارت الهبوط، في القمر كتذكار دائم وغامض. بعد يوم تقريبًا من الهبوط، انطلقت المرحلة الثانية للالتقاء بمركبة «كولومبيا»، حيث كان مايك كولينز ينتظر في مدار قمري. مع التقاء الرواد الثلاثة مجددًا، انطلقوا بعيدًا عن مرحلة «إيجل» التي نفد وقودها وعادوا إلى الأرض حيث تلقَّوْا مظاهرَ الحفاوة المعروفة على هذا الكوكب.
في ناسا، أثار نصرُ «أبولُّو» الأملَ في أن تحقِّق أيضًا برامجُ تاليةٌ تقدُّمًا سريعًا. كان على رأس تلك البرامج برنامجُ بناءِ محطة فضائية، يكون فون براون من أهم داعميها. فون براون يدير مركز مارشال لرحلات الفضاء كمركز لتطوير الصواريخ، الذي تولَّى بناءَ صواريخ التعزيز طراز «ساتورن»، لكنه كان يعلم أن المركز يحتاج إلى مشروعات جديدة وإلا فستتضاءل أهميته وسيتقلص كذلك طاقم عمله. بالإضافة إلى ذلك، كانت تداعب مخيلته أفكارٌ حول محطات فضائية حتى وسط مشروعات الصواريخ السريعة الإيقاع في خمسينيات القرن العشرين. يتذكَّر سام هوفمان من مركز «روكيت داين» أن فون براون عندما جاء لزيارته في منزله قرب لوس أنجلوس، «كان يحمل مخططًا كبيرًا يتضمن نموذج محطة فضائية، بسطه على أرضية غرفة المعيشة. هذا ما كان يهتم به؛ إذ لم تكن الصواريخ والأمور الأخرى سوى خطوات على الطريق».
حظيت آمال فون براون بدعم مهم بعد عام ١٩٦٥، عندما أطلق مدير ناسا جورج مولر برنامجًا جديدًا باسم برنامج «تطبيقات أبولُّو». كان الاهتمام في البداية منصبًّا على البحث عن أنشطةٍ لتوفير مهامَّ للصاروخ «ساتورن ١-بي»، الذي لم يستطع الوصول إلى القمر لكنه قدَّم توقعاتٍ جيدة حول عملياتٍ يمكن تنفيذها في مدار أرضي. اقترحت مجموعة فون براون للمشروعات المتقدمة وضْعَ ركيزةٍ لهذه العمليات، أَلَا وهي محطة فضائية مبدئية يجري تطويرها انطلاقًا من مرحلة «إس ٤-بي» المنتهية. بعد الصعود إلى مدار على متن الصاروخ «ساتورن ٤-بي»، كان من المقرَّر أن يحلِّق روَّاد الفضاء إليه على متن صاروخهم «١-بي»، مُجرِين التجاربَ وحاملين التجهيزات اللازمة لطاقم المركبة. كان من المقرَّر أن يحوِّل روَّاد الفضاء هذه المرحلة إلى منزل ومختبر، حيث يُقِيمون ويعملون داخلها.
مع تبلور هذه الجهود التي أعقبت «أبولُّو»، تقدَّمَ مسئولون آخَرون بمقترحاتٍ أخرى. كان من بين هذه المقترحات حامل منظار «أبولُّو» الذي كان من المقرَّر أن يحمل مرصدًا شمسيًّا في مدار محدد، فضلًا عن معدات لدراسة الشمس عند أطوال موجية للأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية، وهي الأشعة التي يحجبها الغلاف الجوي. ثم تطلَّبَ حاملُ منظار «أبولُّو» بعد ذلك صاروخين طراز «ساتورن ١-بي»، أحدهما لحمله عاليًا للالتحام بالمحطة المدارية، والآخَر لحمل طاقم المركبة.
كانت خطة هذه البعثة تدور حول فكرة «ورشة العمل المُبلَّلة»، وهي الصاروخ «ساتورن ٤-بي» الذي كان خزانه الرئيسي يحوي الهيدروجين السائل، والذي استُخدِم فيما بعدُ كمقرٍّ لإقامة روَّاد الفضاء. كان من المقرَّر أن يوفر حيزه الداخلي الذي تبلغ سعته ٩٥٥٠ قدمًا مكعبة مساحةً كبيرة، بينما كانت الألواح الشمسية — الموضوعة على الجسم الخارجي من هذه المرحلة وتعمل في المدار — ستوفر ٥ كيلو وات من الطاقة. كأسلوب بديل لهذه الخطة، كانت «ورشة العمل الجافة» تتطَّلب محطةً فضائية كاملة يجري تجميعها في الأرض، مع الالتحام بحامل منظار «أبولُّو» منذ البداية. كان هذا النموذج يتجنَّب مشكلات بناء محطة يتعيَّن أن يحوي حيزها الداخلي وقودَ صواريخ. كان من المقرَّر أن يحمل هذا النموذج معداتٍ أكثر تعقيدًا، فضلًا عن أكسجين إضافي ومؤن طواقم العمل، وهو ما كان يسمح لهم بالبقاء فترةً أطول في الفضاء.
بلغ وزن المحطة الفضائية في شكلها النهائي ١٦٥ ألف رطل، كان الأمر يتطلَّب الصاروخ «ساتورن ٥» لإطلاقها. بَدَا هذا الشرط بعيدَ المنال لِلَحظة، واضطرَّ جيمس ويب من وكالة ناسا أن يبذل قصارى جهده لإقناع الكونجرس ومكتب الإدارة والموازنة بأن «أبولُّو» تحتاج إلى خمس عشرة مركبة على الأقل من مركبات الإطلاق هذه، ولم يكن يسمح بالإشارة إلى إمكانية استخدام أيٍّ منها في برنامج «تطبيقات أبولُّو». لكن خلال النصف الأول من عام ١٩٦٩، أصبح تحقيق النجاح الكامل وشيكًا ممَّا زاد من إمكانية توفير صواريخ «ساتورن ٥»، وبنهاية شهر يونيو، نجح مولر في تحويل تركيز البرنامج من مفهوم ورشة العمل المبللة إلى مفهوم ورشة العمل الجافة. في ٢٢ يوليو، بينما كانت «أبولُّو ١١» لا تزال في طريق عودتها، صار القرار نهائيًّا. كان من المقرَّر أن تستخدم محطة «سكايلاب» الفضائية الصاروخ «ساتورن ٥»، بينما كان مقررًا أن تحمل ثلاثةُ صواريخ طراز «١-بي»، يجري إطلاقها تباعًا، مركبةَ «أبولُّو» الفضائية التي تحمل على متنها طاقمًا من ثلاثة أفراد يعيشون داخلَها.
في تلك الأثناء، مع تبلور خطط «سكايلاب»، لم يكن الوقت مبكرًا جدًّا حتى يتصوَّر مخططو ناسا المحطةَ الفضائية «التالية». كان النموذج الذي برز عبارة عن مركبة مأهولة دائمًا بطاقم من اثني عشر شخصًا. على الرغم من ذلك، أوضحت دراسات ناسا أنه في مشروع كهذا لم يكن «ساتورن ١-بي» ليتمكَّن من أداء المهمة. بلغت التكلفة المقدَّرة لكل رحلة ١٢٠ مليون دولار أمريكي، وعلى الرغم من أن هذا السعر مقبولًا بالنسبة إلى «سكايلاب»، التي لم تكن في حاجةٍ إلا لبضع عمليات من عمليات الإطلاق هذه، كانت المحطة الفضائية التالية تتطلَّب الكثير من الرحلات، حتى إن الجانب الأعظم من الميزانية كان سيخرج لما لا يزيد عن الإجراءات اللوجيستية المتعلِّقة بإعادة تجهيز هذا المختبر المداري.
استجابةً لذلك، سعت ناسا إلى أساليب جديدة لإطلاق رحلات فضائية منخفضة التكلفة. كان للقوات الجوية نشاط واضح في هذا المجال بالفعل، وكانت نقطة انطلاقها تدور حول جهود فترة الستينيات من القرن العشرين، التي أسفرت عن تطوير صواريخ ضخمة تعمل بالوقود الصلب لاستخدامها كصواريخ تعزيز. على عكس صواريخ الوقود السائل التي كانت حسَّاسة ودقيقة، كانت صواريخ الوقود الصلب الضخمة تشتمل على أغطية صواريخ خارجية كان يمكن لترسانة سفن — على وجه التحديد، شركة «صن شيببلدينج آند دراي دوك» — أن تصنعها بنجاح.
في سبتمبر ١٩٦٤، أطلقت شركة «إيروجت» محركًا بقطر ١٢٠ بوصة قُرْبَ ميامي، بقوةِ دفعٍ ٦٠٠ ألف رطل. كان لدى شركة «لوكهيد» في تلك الأثناء محرك قطره ١٥٦ بوصة، بقوة دفع ١٫٢ مليون رطل خلال دقيقتين ونصف. تجاوَزَ صاروخٌ مشابه من شركة «ثيوكول» ثلاثةَ ملايين رطل في أوائل عام ١٩٦٥؛ لكنْ، كان المشروع الذي انصبَّتْ عليه أعين الناس هو مشروع ناسا. كان قطر محرك ناسا ٢٦٠ بوصة، بَنَتْه شركة «إيروجت».
كان تشغيل هذا المحرك العملاق صعبًا للغاية؛ كان الحل يتطلَّب صاروخَ وقود صلب يوفر قوة دفع رُبع مليون رطل، مُصدِرًا ألسنةَ لهب بارتفاع ثمانين قدمًا من شأنها أن تشعل سطح الوقود الصلب في الصاروخ الكبير في الحال. تطلَّبَ صاروخ الإشعال هذا جهازَ إشعالٍ خاصًّا به، وهو محرك وقود صلب زنة مائة رطل وبقوة دفع ٤٥٠٠ رطل. احتُفِظ بهذا المحرك الذي كان محيطه ٢٦٠ بوصة في فوهة اختبار حيث كانت مقدمته متجهةً لأعلى. جرَتْ عمليةُ إطلاق ليلية في فبراير ١٩٦٦، قُرْبَ ميامي مجددًا، فارتفعت ألسنة اللهب والأدخنة حتى ٧٥٠٠ قدم في الهواء؛ حيث رآها الناس على مسافة مائة ميل تقريبًا. سجَّلَتْ عمليةُ إطلاقٍ أخرى، في يونيو ١٩٦٧، رقمًا جديدًا حيث حقَّقَتْ قوةَ دفع بلغت ٥٫٧ ملايين رطل.
في الوقت نفسه، كانت القوات الجوية تبني مركبةَ إطلاق جديدة عبارة عن مركبة نقل ثقيل بوضع صاروخَيْ وقود صلب قطرهما ١٢٠ بوصة على جانبَي الصاروخ «تايتان ٢». كان هذا الصاروخ ذو المرحلتين يتميَّز في حقيقة الأمر بإمكانية استخدام أنواع الوقود السائل القابل للتخزين، وهو ما كان يقلِّل من تعقيده. بلغت قوة الدفع في كلا صاروخَي الوقود الصلب ٢٫٤ مليون رطل عند انطلاقهما من المنصة. تضمَّنَتْ حزمةُ الصواريخ الكاملة وضْعَ صاروخِ مرحلةٍ ثالثة أعلى الصاروخ «تايتان ٢»، مع توافُر إمكانية إعادة التشغيل في الفضاء ونقل حمولته من مدار إلى آخَر. كانت مجموعة التجميع هذه، المكوَّنة من ثلاثة صواريخ مرحلية بالإضافة إلى صاروخَيْ وقود صلب، هي الصاروخ «تايتان ٣». انطلق الصاروخ للمرة الأولى في يونيو ١٩٦٥، حامِلًا ٢١ ألف رطل إلى مدار فضائي، وعلى الرغم من أن هذه الحمولة لم تكن تتضمن أكثر من قرميد من الرصاص، سرعان ما ظهرت المركبة الفضائية الحقيقية في أعقاب ذلك.
كانت شركة «مارتن» هي مَنْ تولت تصنيع هذا الصاروخ. بعدها بسنوات قليلة، عندما دخل «تايتان ٣» مجال الخدمة وترك سجلًّا من التجارب، أعلنت شركة «مارتن» أن صاروخ التعزيز هذا يستطيع إطلاق حمولات بتكلفة ٤٣٥ دولارًا أمريكيًّا لكل رطل، ضاربًا بذلك الرقم القياسي لتكلفة الصاروخ «ساتورن ٥» البالغة ٦٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل رطل، والتي حقَّقها الصاروخ «ساتورن» من خلال توزيع تكلفة إطلاقه على رُبع مليون رطل من الأحمال. بالإضافة إلى ذلك، كان الصاروخ «تايتان ٣» ينطوي على إمكانية كبيرة لمزيد من التطوير. من خلال الاستعاضة عن صواريخ التعزيز المثبتة به البالغ قطرها ١٢٠ بوصة بالوحدات البالغ قطرها ١٥٦ بوصة، أمكن إطلاق ١٠٠ ألف رطل إلى مدار فضائي بزيادة طفيفة في تكلفة الإطلاق، وهو ما كان من شأنه أن يقلِّل التكلفة لكل رطل إلى ما يقرب من ١٠٠ دولار أمريكي.
كانت ناسا أيضًا ترغب في أن تصير التكلفة ١٠٠ دولار أمريكي لكل رطل، فاستعانت بالشركات المتعاقدة معها من أجل تقديم أفكار من خلال تمويل سلسلة من الدراسات في أوائل عام ١٩٦٩. اقترح أحدَ الأساليب المفيدة ماكس هانتر من شركة «لوكهيد»، الذي كان كبير مهندسي التصميم في برنامج الصاروخ «ثور» قبل أكثر من عقد؛ إذ اقترح مركبة إطلاق ومعاودة ولوج متكاملة، من شأنها أن تقلل التكاليف من خلال إمكانية إعادة الاستخدام. لم يستطع الصاروخ «ساتورن ١-بي» أو «تايتان ٣» الانطلاق سوى مرة واحدة قبل أن يسقطا في المحيط، بينما كانت مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة تستطيع الانطلاق مرارًا وتكرارًا، مثل أي طائرة. كان من المقرَّر أن تضع هذه المركبة مكونات صاروخ التعزيز الباهظة الثمن في مركبة رئيسية، وكانت هذه المكونات تتمثل في محركات الصاروخ والتجهيزات الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر على متن المركبة ونُظُم الحفاظ على حياة طواقم العمل، وما شابه ذلك. أما فيما يتعلق بوقود المحركات الرئيسية، فكان من المقرَّر تخزينه في مجموعة كبيرة من الخزانات القابلة للاستهلاك التي كان من المفترض تثبيتها بالغطاء الخارجي للمركبة الرئيسية. كان من المقرَّر إفلات الخزانات مع اقتراب مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة من المدار؛ حيث ستحترق عن آخِرها في الجو. لكن، لم تكن هذه الخزانات باهظة الثمن، وكان من الممكن أن تنخفض المركبة الرئيسية في مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة، المتوسطة الحجم، عبر الغلاف الجوي لتهبط على مدرج هبوط.
في مركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن، اقترح ماكسيم فاجت — الذي كان قد وضع الشكل النهائي لمركبتَيْ «ميركوري» و«جيميني» قبل عقد — الحدَّ من التكاليف أكثر من ذلك عن طريق قابلية إعادة الاستخدام الكاملة. لم يكن نموذجه يتخلَّص من أي شيء، حتى الخزانات غير باهظة الثمن. تطلَّب النموذج صاروخًا من مرحلتين، بحيث تشكِّل كلتا المرحلتين صاروخَيْ تعزيز مجنَّحين يستخدمان الهيدروجين والأكسجين. كان صاروخ المرحلة السفلى يحمل صاروخَ المرحلة العليا على ظهره، منطلقًا من كيب كانافيرال، ثم كان يزيد سرعته وصولًا إلى عدة آلاف من الأميال في الساعة. كان صاروخ المرحلة العليا، الذي كان يتضمن غرفة حمولات، ينطلق بعد ذلك إلى المدار. كان كلا الصاروخين يحملان كمية الوقود الكاملة داخلهما، ويهبطان على مدرجات هبوط لإعادة استخدامهما.
كانت ناسا تتوقَّع أن تتنقل مركبة كهذه من المدار وإليه وفقَ جدول زمني متواتِر، ومن ثَمَّ صارت تُعرَف باسم مكوك الفضاء. صارت هذه النماذج بالإضافة إلى مكونات أخرى ظهرت بعد ذلك — «نيرفا»، و«سكايلاب»، والمحطات الفضائية المتابعة — جزءًا من تدريب كبير لتخطيط ما بعد «أبولُّو»، بدأ في فبراير ١٩٦٩، بعد تولِّي الرئيس نيكسون شئونَ الرئاسة بفترة قصيرة.
قبل ثماني سنوات، أصدر جون كينيدي تعليماته إلى نائبه جونسون بوضع أهدافٍ جديدة بشأن الفضاء؛ استجاب ليندون جونسون إلى ذلك بالتصديق على برنامج الهبوط المأهول على سطح القمر. وبعدما تولَّى نيكسون منصبَ الرئيس خلفًا لكينيدي، أمر نائبه سبيرو أجينو بأن يترأس لجنةً رفيعةَ المستوى تضع مزيدًا من الأهداف. كان بين أعضاء اللجنة روبرت سيمانز، الذي كان يشغل آنذاك منصب قائد القوات الجوية، ولي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا المخضرم الذي كان مستشارَ نيكسون العلمي. كان مدير ناسا الجديد آنذاك، توماس باين، عضوًا أيضًا في هذه اللجنة. في صباح يوم إطلاق «أبولُّو ١١»، جاء أجينو إلى كيب كانافيرال وأعلن أن ناسا ستُرسِل روَّاد فضاء إلى المريخ.
في سبتمبر، أصدرت لجنته، التي أُطلِق عليها مجموعة العمل المعنيَّة بشئون الفضاء، تقريرًا يدعو إلى إطلاق برنامج فضاءٍ يتجاوز «أبولُّو» في كلٍّ من نطاقه وتكلفته. كان الهدف الأساسي في البرنامج في حقيقة الأمر هو إرسال رحلةٍ مأهولة إلى المريخ، بتكلفة ١٠٠ مليار دولار أمريكي تقريبًا. على العكس من ذلك، بلغ إجمالي تكلفة «أبولُّو» ٢١٫٣٥ مليار دولار أمريكي خلال الهبوط الأول على القمر. في تلك الأثناء التي كان إجمالي الناتج القومي فيها يكاد يقترب من تريليون دولار أمريكي، قُدِّرت تكلفة بعثة المريخ هذه بأنها تعادل تكلفة النشاط الاقتصادي لولاية كاليفورنيا بأكملها، خلال عام كامل.
اقترح التقرير مشروعات أخرى كذلك، مثل بناء مكوك فضائي ومحطة فضائية تضمُّ اثني عشر شخصًا، فضلًا عن قاعدة فضائية تضم ١٠٠ شخص. اقتضت الخطة أيضًا إطلاقَ محطةٍ في مدار قمري، وبرنامجًا قويًّا لإطلاق مزيدٍ من الرحلات إلى القمر يكون مستقرها النهائي في محطة على سطحه. تقدَّمَ «نيرفا» أيضًا وأتاح الإمكانية للسفر إلى المريخ بحلول عام ١٩٨٣. قدَّمَتِ الخطة ثلاثةَ خيارات، أكثرها طموحًا كان يقتضي رفع ميزانية ناسا إلى ٨ مليارات دولار أمريكي بحلول عام ١٩٧٦.
سعت ناسا إلى الحصول على دُفعة مقدمة، فأرسلت إلى مكتب الإدارة والموازنة طلبًا بمبلغ ٤٫٥ مليارات دولار أمريكي خلال العام المالي ١٩٧١. اعتادت الوكالة على معامَلة التفويض المطلق وحرية التصرُّف خلال سنوات «أبولُّو»، بَيْدَ أن مسئوليها خُذِلوا وصُدِموا بالواقع؛ إذ رفَضَ مكتب الإدارة والموازنة الطلبَ بلا تمحيص، مُستقطِعًا نحوَ مليار دولار أمريكي من هذه الميزانية المقترحة، ثم حدثت استقطاعات أخرى خلال الأشهر التي أعقبت ذلك، وانتهى المطاف بناسا بالحصول على ٣٫٤ مليارات دولار أمريكي فقط في ذلك العام. مع أخذ معدل التضخم في الاعتبار، كان هذا المبلغ يمثِّل انخفاضًا بنسبة ٥٤ في المائة من أقصى تمويل حصلت عليه الوكالة في عام ١٩٦٦.
مع تقدُّم الخريف والشتاء وانتهاء عقد الستينيات من القرن العشرين، بدأت ناسا في خفض آفاق تطلُّعاتها. في رأي إدارة نيكسون، كانت مشروعات مثل القاعدة الفضائية والمحطات القمرية وبعثة المريخ مكلِّفة أكثر ممَّا ينبغي. تلاشَتِ الآمال في مشروع «نيرفا»، الذي لم يكن يتضمَّن أيَّ توقُّعات لإطلاق بعثة فضائية؛ ومن ثَمَّ لم يتبقَّ إلا المحطة الفضائية والمكوك الفضائي. مع ذلك، ظلت ناسا متمسكةً بالأمل في ظل هذه المشروعات التي مثَّلَتْ محورَ ارتكازِ الخطط المستقبلية.
أشار مسئولو الوكالة إلى المكوك الفضائي والمحطة بوصفهما مشروعًا واحدًا معتمدًا بعضه على بعض. اقترحوا تطوير المكوك الفضائي بالتزامن مع المحطة، بتكلفة ٥ مليارات دولار أمريكي تقريبًا لكل مشروع. اقترحت ناسا استخدامات أخرى للمكوك الفضائي، مثل إطلاق أقمار صناعية غير مأهولة وصيانتها، وإجراء دراسات بيئية من مدارٍ ما، وإجراء عمليات استطلاع عسكري وعمليات إنقاذ في الفضاء. لكن، كان واضحًا أن هذه الاستخدامات تأتي في مرتبة ثانوية بالنسبة إلى دورها في دعم المركبة الفضائية وبوصفها نقطةَ انطلاقِ رحلات مأهولة جديدة.
كانت محاولات الترويج لمشروعَي «المكوك الفضائي/المحطة الفضائية» والإقناع بها كافيةً تمامًا، لكنها كادت تقضي على كلا المشروعين. زعم عضو الكونجرس جوزيف كارث (ديمقراطي عن ولاية مينسوتا) — عضو لجنة العلوم والفضائيات في مجلس النواب، التي عادةً ما كانت مناصِرًا قويًّا لبرنامج الفضاء — أن ناسا كانت تسعى إلى أن تنتزع من الكونجرس التزامًا جزئيًّا بما سمَّاه «هدفها الأسمى» لإرسال روَّاد فضاء إلى المريخ. في أبريل ١٩٧٠، اقترح كارث تعديلًا في الاعتمادات المالية الكلية لبرنامج المكوك الفضائي/المحطة الفضائية. لم يفلح تمرير التعديل بأقل هامش ممكن؛ حيث تعادَلَتِ الأصوات بواقع ٥٣ صوتًا إلى ٥٣ صوتًا. في يوليو، اقترح السيناتور والتر مونديل تعديلًا مشابهًا، لم يفلح تمريره أيضًا حيث بلغت نسبة الأصوات ٣٢ إلى ٢٨ فقط.
مع ذلك، كان العمل آنذاك يسير في «أبولُّو» بعزيمة وهمَّة. وضعت ناسا برنامجًا لإجراء عشر عملياتِ هبوطٍ على سطح القمر فضلًا عن «سكايلاب»؛ لأنها كانت تدرك جيدًا أن هذا البرنامج القمري قد يلقى اهتمامًا هائلًا من الرأي العام، وهو ما اتضح تمامًا في شهر أبريل من ذلك العام، عندما واجَهَ روَّاد الفضاء في «أبولُّو ١٣» كارثةً وشيكةً. تعرَّضَتْ مركبتهم، التي كانت تحمل المركبة القمرية، لانفجار مدمِّر بينما كانت في طريقها إلى القمر؛ وهو ما أدَّى إلى حدوث عطب مصدر الطاقة الرئيسي. لم يستطع روَّاد الفضاء تشغيل محركهم الرئيسي في ظل غياب الكهرباء. إذا كان هذا قد حدث بعدها بيوم، فبعدَ ولوجِهم مدارًا قمريًّا وإفلاتِ المركبة القمرية، كانوا جميعًا سيعلَقون دون سبيل للعودة إلى الأرض.
لحُسْن الحظ، كانت لا تزال لديهم المركبة القمرية، التي كانت بمنزلة قارب نجاةٍ بالنسبة إليهم. كانت المركبة تحتوي على محركٍ جيد، قادرٍ على تنفيذ عمليات الاحتراق الكفيلة بأن تضعهم في مسار آمِن حول القمر والعودة إلى الأرض. لكن، لم تكن بطارية المركبة القمرية تكفي للبقاء سوى يومين فقط على سطح القمر، واضطرَّ الطاقم إلى مدِّ هذه الفترة إلى أربعة أيام، وهو الوقت المستغرق للعودة إلى الأرض؛ ممَّا كان يعني إغلاق جميع الأجهزة الممكنة، بما في ذلك الكمبيوتر. كان الأمر يعني أن تتحوَّل القمرة إلى كهفٍ رطب وشديد البرودة، في ظل درجات الحرارة التي في نطاق الأربعينيات، والرطوبة التي تتكثَّف مكوِّنةً كرات وشرائح مياه على النوافذ وألواح المعدات.
كانت لدى الطاقم كميةٌ وافرة من الأكسجين، لكن المركبة القمرية لم يكن لديها ما يكفي من عبوات هيدروكسيد الليثيوم للتخلُّص من ثاني أكسيد الكربون الذي كان أفراد الطاقم يزفرونه. كانت ثمة عبوات إضافية في المركبة الفضائية، لكنَّ المركبتين بَنَتْهما شركتان متعاقدتان مختلفتان، ولم تكن أيُّ عبوة من المركبة الفضائية ستصلح في المركبة القمرية. كان الشكل مختلفًا؛ حيث كان أشبه حرفيًّا بمسمار مربع في ثقب مستدير. كان المراقبون الأرضيون في هيوستن على دراية بمكونات المعدات الموجودة على متن المركبة، وأخبروا الطاقمَ بكيفية تجهيزِ مأوًى جديد من الأجزاء المتبقية، التي تمثَّلَتْ في ورق مقوى من غلافَيْ كتاب حول خطط الطيران، وأكياس تخزين بلاستيكية، وشريط لحام رمادي. في عالم التكنولوجيا المتقدمة، كانت هذه البدائل ضمانًا لتحقيق الحد الأدنى من البقاء على الحياة؛ حيث نجحوا في تقليل تركيز ثاني أكسيد الكربون إلى مستوًى آمِن. نجح روَّاد الفضاء الثلاثة في «أبولُّو ١٣» — وهم جيم لوفيل، قائد البعثة، فضلًا عن رائدَي الفضاء المبتدِئَين جون سويجرت وفِريد هيز — في تخطِّي الأزمة والعودة.
شعر مئاتُ الملايين من البشر حول العالم بالقلق والترقُّب أثناء متابعتهم للأنباء؛ صلَّى كثيرون، وأدَّى البابا صلاةً خاصة، وفي واجهات العرض بمتاجر بيع التليفزيونات، احتشد المارة في أعدادٍ غفيرة. كان نيكسون قد خطَّطَ لإلقاء خطابٍ مهم حول تقليل أعداد القوات في فيتنام، لكنه أجَّلَ الخطاب حتى وقت لاحق في ذلك الشهر. ربما تابَعَ البثَّ المباشِرَ لهبوطِ المركبة الناجحِ على سطح الماء أكبرُ عددٍ في التاريخ من جماهير المشاهدة التليفزيونية على مستوى العالم، وعندما اتضح أن روَّاد الفضاء سالمون، أجهشَتِ النساء في البكاء بينما هلَّلَ الرجال وتعالَتْ صيحاتهم.
كانت ناسا أيضًا بصدد تطوير معدات بعثة «أبولُّو»؛ حيث كانت تعمل على توفير إمدادات إضافية تسمح لروَّاد الفضاء بالمكوث على القمر لمدةٍ تصل إلى ثلاثة أيام. كان هاريسون شميت، أحد علماء الجيولوجيا، مُدرَجًا على القائمة كأحد أفراد الطاقم في رحلة قادمة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح لدى روَّاد الفضاء المستقبليين حوَّامة قمرية، وهي عبارة عن مركبة تعمل باستخدام البطارية، ذات مقاعد فردية وتوجيه كهربي. استطاعت الحوَّامة التجوُّل لمسافة عشرين ميلًا بعيدًا عن المركبة القمرية، على الرغم من أن ناسا قلَّلَتْ هذه المسافة إلى ستة أميال بحيث يتمكَّن أفرادُ الطاقم من العودة سيرًا على الأقدام في حال تعطُّل العربة.
مع ذلك، بلغت تكلفة كل بعثة من بعثات «أبولُّو» ٤٠٠ مليون دولار أمريكي؛ كان هذا المبلغ المالي، في حال منحه لجامعة واستثماره بنسبة ٦ في المائة، سيغطي رواتب ثلاثمائة أستاذ جامعي موفِّرًا في الوقت نفسه أكثر من ١٠ ملايين دولار أمريكي سنويًّا لصالح صندوق استثمار عقاري؛ كل ذلك دون الانتقاص من رأس المال الأصلي. على النقيض من ذلك، كان مجال العلوم القمرية في «أبولُّو» منحصرًا غالبًا في النطاق الضيق للجيولوجيا الميدانية. دعمت الصخور التي جلبتها بعثةُ «أبولُّو» من القمر عملَ مجموعة صغيرة فقط من مراكز البحوث المتخصِّصة — لا سيَّما مختبر الاستقبال القمري في هيوستن — مختبر «لوناتيك أسايلوم» البحثي الذي كان يديره جيرالد وازربرج في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. ولم تكن النتائج العلمية لهذه المراكز مبهرة؛ حيث لم تكن أكثر من وصف مادي للصخور نفسها. لم تُلْقِ هذه النتائج إلا قليلًا من الضوء على مسائل مشوِّقة ومهمة مثل أصل الأرض، أو النظام الشمسي.
أجبرت عمليات خفض الميزانية في عام ١٩٦٩ مدير ناسا توم بِين على إلغاء إحدى بعثات «أبولُّو» ومدِّ الجدول الزمني للرحلة بالنسبة إلى بقية البعثات. شهد صيف عام ١٩٧٠ مزيدًا من عمليات خفض التمويل؛ في سبتمبر، مع تأثُّر الوكالة بهذه الاستقطاعات الجديدة، ألغى بِين بعثتين أخريَيْن، وهو ما كان يعني أن «أبولُّو ١٧» ستصبح البعثةَ الأخيرة. حاوَلَ بِين التعامُلَ مع الأمر على أفضل وجه بالإشارة إلى أن هذا القرار سيصبُّ في صالح صاروخَيْ «ساتورن ٥»؛ ومن ثَمَّ سيقدِّم فرصًا جديدة من شأنها أن تمنح ناسا مرونةً في تخطيطها المستقبلي، لكنه لم يكن مُدرِكًا لتبعات ذلك القرار؛ إذ لم يتلقَّ أيٌّ من صاروخَي التعزيز مهمةً جديدة. انتهى المطاف بكلا الصاروخين بأن عُرضا في مراكز ناسا في هيوستن وكيب كانافيرال أمام الجمهور.
كان ثمة اهتمامٌ داخل ناسا بإطلاق «سكايلاب» ثانيةً. كانت التصوُّرات الموضوعة لهذا المشروع تقضي بإمكانية استخدام أحد صاروخَي التعزيز «ساتورن ٥» كمركبة إطلاق لمحطة الفضاء الجديدة، وكانت لا تزال توجد أعداد قليلة من صواريخ «ساتورن ١-بي» لنقل روَّاد الفضاء إلى المحطة؛ لكن هذا الأمر كان سيتكلَّف ١٫٥ مليار دولار أمريكي، في حين أنه لم يكن يقدِّم ما هو أكثر من مجرد تكرار لمحطة «سكايلاب» الفضائية المعتمَدة، ولم تكن الأموال متوافرة أساسًا في الميزانية. كان من المقرَّر أن يتضمن البرنامج بناءَ محطة «سكايلاب» ثانية جاهزة للاستخدام كمحطة احتياطية، بَيْدَ أنها لم تنطلق قطُّ؛ ففي عام ١٩٧٦، أهدت ناسا المحطةَ إلى متحف الطيران والفضاء الوطني، حيث لا تزال معروضةً هناك إلى يومنا هذا.
لكن، كانت لدى بِين وزملائه ورقةٌ أخرى يلعبون بها؛ لم يكن من الممكن لمحطتهم الفضائية التي تحمل على متنها اثني عشر شخصًا أن تعمل دون المكوك الفضائي، لكن كان من الممكن استخدام المكوك الفضائي بمفرده، بوصفه مركبة إطلاق متعددة الأغراض. مع تكلفة الإطلاق المنخفضة، التي تقل بكثير عن أي صاروخ تعزيز قابل للاستهلاك، كان من المتوقَّع أن المكوك الفضائي سيجعل هذه الصواريخ القابلة للاستهلاك مهجورةً وغير مستخدَمة، فضلًا عن أنه كان سيستمر ليحمل جميع الحمولات المستقبلية؛ وهو ما كان سيحقِّقه من خلال إدخال أسلوب إعادة الاستخدام المماثل لما في الطائرات؛ ومن ثَمَّ يصبح مركبةً تفي بكل الأغراض للجميع. مع ذلك، كان هذا الاحتمال سيسمح لناسا بالمُضِيِّ قُدمًا في برنامج المكوك الفضائي ليكون برنامجها المأهول الكبير القادم، والحفاظ على كيانها بوصفها الوكالة التي صارت إلى ما صارت إليه، والتي لديها رغبة قوية في البقاء والاستمرارية.
كان الطرح مبتكرًا وبسيطًا. كان ذكيًّا؛ لأنه افترض مسبقًا أن المكوك الفضائي، الذي كان مجرد فكرة على الورق، يستطيع الاعتماد على خبرة «أبولُّو» لتقديم إمكاناتٍ لم يقدِّمها أيُّ صاروخ من قبلُ. كان كلُّ مكوك فضائي سيمرُّ بمرحلة التعديل الخاصة به والإعداد لمرحلة جديدة في غضون أسبوعين فقط، وكان من المقرَّر أن يحقِّق أسطولٌ من هذه المركبات وفورات حجم من خلال الاستخدام المتكرر، الذي سيطلق خلاله جميع البعثات الفضائية للبلاد.
بالإضافة إلى ذلك، كان هذا الأسلوب يصلح أيضًا لتطبيق تحليل التكلفة/الفائدة الاقتصادي الرسمي. وضع خبراء الاقتصاد فرضيات ملائمة — مثل تقديرات تكلفة التطوير، وتكلفة كل رحلة، وعدد الرحلات سنويًّا، ومعدل الفائدة الفعلي على الأموال التي أُنفِقت مقدمًا لأغراض التطوير — مكَّنَتْهم من التأكيد على أن المكوك الفضائي لم يكن سيوفر المال فحسب عند تشغيله، لكنه كان سيوفر أيضًا ما يكفي لسداد كل تلك التكاليف المدفوعة مقدمًا. بالإضافة إلى ذلك، كانت لدى ناسا والقوات الجوية قوائمُ مطوَّلة من الرغبات المتعلِّقة بالحمولات التي كان الناس يأملون في بنائها وإطلاقها ذات يوم. بافتراض تحقيق كل هذه الرغبات، كانت ناسا ستتمكَّن من الظفر بالدعم السياسي من الجهات الراعية لتلك الحمولات، بينما ستضع قائمة مبهرة بالبعثات والمركبات الفضائية المحددة التي سيحملها المكوك الفضائي.
لكن، كان الطرح بسيطًا أيضًا؛ حيث لم تكن له صلة بالموضوع في حقيقة الأمر. كان الطرح يتبنَّى وجهةَ النظر القائلة بأن التكلفة المرتفعة لمركبات الإطلاق ترجع إلى كون تلك المركبات تُستخدَم لمرة واحدة فقط، فيما كان المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام سيوفِّر أموالًا ضخمة. لكن، على حد تعبير أدلبرت تشلر؛ اختصاصيُّ دفْعٍ له ثقله وأحد زملاء إيب سيلفرشتين: «التكلفة هي البشر.» كان الأمر يتطلَّب ٢٠ ألف موظف لفحص الصاروخ «ساتورن ٥» وإطلاقه مع مركبة «أبولُّو» القمرية الملحقة به، ونظرًا لأن المكوك الفضائي كان سيعتمد اعتمادًا مباشرًا على خلفية برنامج «أبولُّو»، كان بمنزلة تمرين على تسريح الأفراد، للإشارة إلى أن هذه المركبة الجديدة تتطلَّب عددًا أقل جدًّا من الأفراد.
ربما كان مكوكٌ فضائي غير مأهول، يجري توجيهه نحوَ ممرِّ إقلاعٍ في ظل تحكُّم أرضي، سيتطلَّب بالفعل أعدادًا أقل من هذا الطاقم المقدَّر بالآلاف. لكن، لم تكن هذه الأفكار مقبولةً على الإطلاق. في نهاية الأمر، وجدت ناسا في بعثاتها المأهولة مصدرَ فخرٍ لها؛ كان العاملون في الوكالة مولعين بالقول: «لا دولارات بلا باك رودجرز.» وكحقيقة واقعة، كان على كل مشروع من المشروعات الجديدة الكبيرة أن يتلاءم مع الاحتياجات المؤسسية في مركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن؛ حيث كان روَّاد الفضاء يُعامَلون كملوكٍ.
أثارت الحمولات مزيدًا من التساؤلات. كانت قوائم الرغبات تلك تتطلَّب أموالًا كي تصير حقيقة، وفي ظل اتخاذ ميزانية ناسا منحنًى هبوطيًّا حادًّا، لم تكن مصادر التمويل التي سيجري الاعتماد عليها واضحة. لتفادي هذا الأمر المعرقِل، كان مؤيدو برنامج المكوك الفضائي يرون أن تكلفته المنخفضة سوف تستجلب عددًا هائلًا من أوجه الاستخدام الجديدة. كانت هذه الآمال تعتمد على واقع الخبرة والتجربة؛ إذ كانت شركات الطيران قد حرَّضَتْ على إطلاق مشروعات جديدة بلجوئها إلى تخفيض الرسوم؛ لكن خطة ناسا التالية كانت تتضمَّن وضْعَ تصوُّر لأسطول من مكوكات الفضاء تحلِّق ستين مرة سنويًّا، حاملةً ما يصل إلى أربعة ملايين رطل إلى مدار فضائي. في عام ١٩٦٩؛ العام الأفضل حتى يومنا هذا، بلَغَ إجمالي الحمولات المدنية والعسكرية معًا ٤٤٢٣٦٠ رطلًا، جاء معظمها عبر أربع رحلات لمركبة «أبولُّو».
لكن، بينما كان مستقبل ناسا يعتمد على نجاح نقاشاتها، كانت إحدى المهام الأوَّلية تتمثل في ضم القوات الجوية إلى صفها، بوصفها عميلًا رئيسيًّا لديه برنامج فضائي قوي خاص به. منذ البداية، جعل ذلك الأمر مسئولي القوات الجوية يشعرون أن ناسا كانت بمنزلة «سانتا كلوز». كان حماس الوكالة الجامح يتناقض على نحوٍ صارخ مع خبرة القوات الجوية في العقد المنصرم، عندما جاهدَتْ عبثًا في وضْعِ برنامج فضائي مأهول خاص بها.
بدأت هذه الجهود عقب إطلاق «سبوتنيك» وتمحورت حول مركبة فضائية قابلة لإعادة الاستخدام زنة ستة أطنان، وهي «إكس-٢٠». ظفرت شركة بوينج بعقد بناء تلك المركبة الفضائية في عام ١٩٥٩، وأحرزت تقدمًا جيدًا في تطويرها لصالح القوات الجوية وصولًا إلى اختيار ستة من طياري الاختبار للتحليق بها. كان من المقرر أن تُوضَع على الصاروخ «تايتان ٣» ليحلق بها إلى مدار فضائي، مارًّا مرورًا سريعًا فوق هدفٍ به معدَّاتُ استطلاعٍ. وبعد إطلاق صاروخ ارتكاسي كابح، كان من المقرَّر أن تُستخدَم أجنحة دلتا شديدة الانحناء للخلف حتى تتمكَّن من الانحدار بانسيابيةٍ وبسرعةٍ تفوق سرعةَ الصوت في طبقات الجو العليا، وهي مناوَرةٌ معروفة باسم الارتفاع التحريكي.
لذا، أطلق الناسُ عليها اسم «داينا-سور»، واتضح أن الاسم كان ملائمًا حيث انقرضت هذه المركبة شأنها شأن الديناصورات وصارت غير مُستخدَمة. في عام ١٩٦٣، أدرك وزير الدفاع ماكنمارا أنه سيكون من الأفضل تنفيذ البعثات العسكرية لهذه المركبة باستخدام محطة فضائية صغيرة، وهي المختبر المداري المأهول؛ ألغى مركباتِ «إكس-٢٠»، بَيْدَ أنه صرَّحَ للقوات الجوية بالمُضِيِّ قُدمًا في تطوير المختبر المداري المأهول بدلًا من ذلك.
بعدها بعامين، ظفرت «دوجلاس إيركرافت» بعقد بناء هذه المركبة الفضائية. كان التصميم يتطلَّب أسطوانةً، بطول واحدة وأربعين قدمًا وقطر عشرة أقدام، للتحليق على متن الصاروخ «تايتان ٣». كان من المقرر أن تنطلق المركبة «جيميني» للالتقاء بالمركبة والالتحام معها، حاملةً على متنها رائدَيْ فضاء يستخدمان هذه المحطة في الاستطلاع. ثم في عام ١٩٦٩، مع استمرار تحسُّن قدرة الأقمار الصناعية غير المأهولة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، أصدرَتْ وزارةُ الدفاع قرارًا أيضًا بإلغاء المختبر المداري المأهول. بالنسبة إلى القوات الجوية، كان ذلك بمنزلة إهانة أُضِيفت إلى ما لحق بها من ضرر؛ لم تكن القوات الجوية ستفقد مختبرها الفضائي فحسب، بل زاد إلغاء المختبر من مخاوف الكونجرس من أن يكون المختبر المداري المأهول تكرارًا هادرًا للوقت والجهد لبعض مكونات «سكايلاب»، كما ساهَمَ في ضمان مُضي مشروع ناسا المنافس هذا إلى الأمام وبقوة.
في تلك الأثناء، بينما كان مكوك ناسا الفضائي يواجه صعوبات، وجد سيمانز — قائد القوات الجوية — نفسَه في موقفٍ مُوفَّق للغاية لم يعتَدْه من قبلُ. كانت ناسا في حاجة إلى مشروعه أكثر من حاجته هو إلى مركبة إطلاق جديدة. أدلى بشهادته في جلسة استماع أمام الكونجرس في عام ١٩٧١ قائلًا: «لا أستطيع الجلوس هنا اليومَ والقول إن نظام النقل الفضائي مطلب عسكري ضروري.» وضعه هذا في موضع تطلَّبَ منه إدارة عملية تفاوُض غاية في الصعوبة.
وفقًا للاتفاق النهائي، كانت القوات الجوية ستسهم بدعمها السياسي وستوافق على استخدام المكوك الفضائي لإطلاق حمولاتها، لكنها لم تكن ستقدِّم أيَّ أموال لتطوير المكوك. لم تكن ناسا ستدفع تكلفة التطوير بأكملها فحسب، بل كانت ستدفع أيضًا كلَّ تكاليف بناء المركبة الجاهزة للعمل، على الرغم من القوات الجوية كانت ستستخدم كلًّا من المكوك والمركبة استخدامًا كاملًا. بالإضافة إلى ذلك، كانت ناسا ستصمِّم المكوك الفضائي لتلبية المتطلبات الخاصة للقوات الجوية.
كانت دراسات ناسا في التصميم قد ركَّزَتْ على بناء مركبة مدارية، أو مرحلة عليا، ذات جناح مستقيم، بسيطة وخفيفة الوزن. كان الجناح يفتقد إلى «المناورة»، وهي القدرة على التحليق لمسافات طويلة يمينًا أو يسارًا خلال معاوَدة ولوجِ الغلاف الجوي. كانت القوات الجوية تحتاج إلى قدر كافٍ من القدرة على المناوَرةٍ لإطلاق المكوك الفضائي في مدار فضائي واحد بغرض الاستطلاع، ثم إعادته إلى موقع إطلاقه لإفساح المجال لتنفيذ عمليات من قاعدة آمنة واحدة؛ وهو ما كان يعني تركيبَ جناح دلتا في المركبة المدارية؛ ممَّا كان سيشكِّل وزنًا إضافيًّا ويتطلَّب مزيدًا من الحماية الحرارية.
كانت ثمة مجموعة أخرى من الطلبات تتضمن وزنَ الحمولة وحجمَ غرفة البضائع. قدَّرَتْ ناسا سعةَ حمولة منخفضة وصلت إلى ٢٥ ألف رطل، وهو ما كان يتطلَّب غرفةَ بضائع ربما يصل عرضها إلى ١٤ قدمًا، وطولها إلى ٤٥ قدمًا. لكن، أصرَّتِ القوات الجوية على حمولة ٦٥ ألف رطل، وغرفة بضائع بمساحة ١٥ قدمًا × ٦٠ قدمًا؛ وهو ما كان سيزيد كثيرًا من حجم المكوك النهائي ووزنه وتكلفته. لم تتزحزح القوات الجوية قيد أنملة عن موقفها؛ ربما لم تكن تستطيع إجراءَ عملياتِ استطلاعٍ من المختبر المداري المأهول، لكنها كانت مسئولة عن إطلاق الأقمار الصناعية لوكالة الاستخبارات المركزية، وكان مصمِّموها قد توقَّعوا أن تتطلَّب النماذج المستقبلية هذا الحيز والوزن الكبيرين.
في اجتماعٍ عُقِدَ في ويليامزبرج بولاية فرجينيا في يناير ١٩٧١، اتفق مسئولو ناسا على منح القوات الجوية معظمَ هامش المناورة الذي كانت تحتاج إليه، وسعة الحمولة الكاملة؛ كذلك، «فصَلَتْ» ناسا بين المكوك الفضائي والمحطة الفضائية. تراجع برنامج المحطة الفضائية إلى الظل داخل الوكالة، بينما استحوذ برنامج المكوك الفضائي على اهتمام مكتب المشروعات الخاصة في الوكالة. ولم يكن أحدٌ يجرؤ حتى على مجرد التفكير في رحلة مأهولة إلى المريخ؛ ففي إحدى جلسات إعداد الميزانية في عام ١٩٧١، قال جورج لُو، حالًّا محلَّ توم بين: «لا يتضمَّن برنامجنا حاليًّا أيَّ خطط لإجراء عملية هبوط مأهولة على سطح المريخ.» ثم أضاف، مشدِّدًا على دور المركبة غير المأهولة في استكشاف ذلك الكوكب، قائلًا: «أكرِّر، لا توجد لدينا أيُّ خطط حاليًّا لتنفيذ بعثة هبوط مأهولة على سطح المريخ.»
استحوذ برنامج المكوك الفضائي بمفرده على الساحة؛ إذ كان له ما يبرره اقتصاديًّا من خلال الأموال التي كان سيوفرها فيما يتعلَّق بإطلاق الأقمار الصناعية في برنامج فضائي «غير مأهول»، وهو ما كان يمثِّل تحولًا كاملًا في موقف ناسا قبل بضعة أشهر فقط، واقتنع الكونجرس بالمسألة. تلاشَتِ المعارضة في مجلس النواب عندما انضمَّ عضو الكونجرس كارث إلى الفريق المؤيد لبرنامج المكوك الفضائي، مُعلِنًا أنه «متحمِّس» الآن للبرنامج.
مع اكتمال الدعم السياسي، استطاعت ناسا والشركات المتعاقدة المُضِيَّ قُدمًا في تصميماتهما. كان أسلوب ماكس فاجت لصاروخ المرحلتين القابل لإعادة الاستخدام بالكامل متصدرًا للساحة، ظلت أهم نماذج التصميم لفترة تأتي من شركة «نورث أمريكان أفياشن» — التي اندمجت مع شركة تصنيع هي «روكويل ستاندرد» لتشكِّلان معًا شركة «روكويل إنترناشونال» الجديدة — ومن «ماكدونل دوجلاس»، نِتاجَ عمليةِ دمجٍ جرت في عام ١٩٦٧ بين شركتَي الفضاء والطيران الرائدتين. كانت الشركتان الأم قد حصلتا على معظم العقود الرئيسية لبرامج «ميركوري» و«جيميني» و«أبولُّو» و«ساتورن ٥»، وكان لمسئوليهما التنفيذيين خبرةٌ طويلة في منح ناسا ما تريده.
كانت ناسا تريد مركبةً غاية في الضخامة، وكان يبدو أنها ستحصل على ما تريد. كان كلا التصميمين يتطلبان مركبةً في حجم ووزن وتعقيد مركبة «أبولُّو»، مزوَّدة بأكملها بالوقود، كما كان كلاهما يتضمَّن صاروخَ مرحلة أولى مجنَّحًا يتجاوز طوله ٢٥٠ قدمًا؛ ممَّا يجعله أكبر إلى حدٍّ ما من طائرة طراز «بوينج ٧٤٧». كان هذا الصاروخ سيعزز من سرعة المركبة لتصل إلى ٧٤٠٠ ميل في الساعة، ثم يرتد عائدًا إلى موقع الإطلاق؛ ثم تواصل المركبة المدارية، التي يبلغ طولها ٢٠٠ قدمٍ تقريبًا، طريقَها. بلغَ وزن المركبة الكاملة، مُحمَّلة بالوقود، ٢٥٠٠ طن عند الإقلاع، أو خمسة ملايين رطل.
كان النموذج مبهرًا بما يكفي، لا سيَّما لمَنْ هو مهندس في مجال الطيران والفضاء الجوي. في هذه المهنة، كان معروفًا أن مجرد مضاعَفة وزنِ طائرةٍ موجودة يمثِّل طفرةً هائلة؛ وهذا ما حدث مع «بوينج» عند الانتقال من ٧٠٧ إلى ٧٤٧، وقد مرت بمشكلات كبيرة للغاية في أثناء ذلك، وسجَّلَتْ رقمًا قياسيًّا جديدًا في مديونية الشركات من خلال الاستعانة بمصارفها لاقتراض ١٫٢ مليار دولار أمريكي. كانت «بوينج» قد عملت أيضًا في مجال النقل الفائق الصوت، في طائرة بسرعة ٣ ماخ، زنة ٦٧٥ ألف رطل. اعتمدت «بوينج» على خبرتها في المشروعات العسكرية، بما في ذلك القاذفة «إكس بي-٧٠»؛ لكن المشروع كان محفوفًا بكثيرٍ من المخاطر، وبقبولها إياه، أصرَّتْ «بوينج» على أن تسهم الحكومة الفيدرالية بنسبة تسعين في المائة من تكلفة التطوير.
كان صاروخا مرحلتَي المكوك الفضائي لا يزالان يشكِّلان خطرًا أكبر. وعلى الرغم من أن المرحلة الأولى كانت أثقل بمقدار خمس وسبعين مرة عن «إكس-١٥»، كان من المقرَّر أن تبلغ سرعتها ١١ ماخ، في حين كانت سرعة هذه الطائرة التجريبية قد بلغت ٦٫٧ ماخ فقط. كانت المركبة المدارية ستنفذ بعثة «إكس-٢٠» نفسها، التي لم تكن قد انطلقت قطُّ، لكنها كانت ستصبح أثقل بمقدار خمس وسبعين مرة. لكن إذا سارت الأمور على ما يرام، كان المكوك الفضائي سيحلِّق مقابل ٤٫٦ ملايين دولار أمريكي لكل رحلة، محقِّقًا تكلفة إطلاق منخفضة للغاية بواقع ٧٠ دولارًا أمريكيًّا لكل رطل. كذلك، كان السعر المعلن شيئًا لا يُذكَر، وهو ٩٫٩٢ مليارات دولار أمريكي مقابل التطوير.
في تلك الأثناء، كان من الملائم أن يُوضَع في الاعتبار أن ما كانت ناسا تحاوِل فعله ربما هو بناء مركبة إطلاق جديدة تكون بمنزلة تطوير للنماذج غير المأهولة الموجودة بالفعل، التي كانت قد تطوَّرَتِ ابتداءً من «ثور» و«أطلس» و«تايتان»، والتي كان يجري إطلاقها كلَّ أسبوع تقريبًا. الأشخاص الذين وضعوا هذا الأمر في حسبانهم كانوا من مكتب الإدارة والموازنة، الذي كان يدقِّق في طلباتٍ مثل طلباتِ ناسا قبل إرسالها إلى الرئيس لإدراجها في الميزانيات المُقدَّمة إلى الكونجرس.
كان مكتب الإدارة والموازنة قد أشار على ناسا بتعزيز مبرراتها الاقتصادية لبناء المركبة الفضائية من خلال التعاقُد مع اقتصاديين محترفين لإجراء تحليلات التكلفة والفائدة. أُرسِي العقد على شركة «ماثمتيكا» المتحدة في برنستون بولاية نيو جيرسي، وكان أوسكار مورجنسترن — رئيس مجلس إدارة الشركة — قد اشتهر بكونه أحد مساعدي جون فون نيومان، وكانت الأنباء الواردة من ماثمتيكا تدعو إلى القلق؛ فمن الناحية الظاهرية، أجمعت التوقعات على أن ناسا تستطيع حقًّا تحقيقَ أهدافها من خلال التصميم القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكوَّن من مرحلتين. في حقيقة الأمر، كانت تقاريرهم بمنزلة تحذير قوي منها؛ كان من المؤكَّد تقريبًا أن التحديات الفنية في المكوك الفضائي ستؤدي إلى تجاوز التكلفة بفارق كبير، وهو ما سيطمس الميزات المتوقَّعة.
جاء هذا موافِقًا لرأي مكتب الإدارة والموازنة القائل بأن ناسا لا تستطيع تحمُّل التكلفة. كانت ميزانية الوكالة ثابتة عند ٣٫٣ مليارات دولار أمريكي سنويًّا، وكان مكتب الإدارة والموازنة يتوقَّع أن تستمر الميزانية عند هذا الحد، وأنها يجب أن تغطي كل أنشطة ناسا. كان المكوك الفضائي الذي يراود أحلام ناسا يتطلَّب ما يصل إلى مليارَيْ دولار أمريكي عند ذروة التمويل، وكان مكتب الإدارة والموازنة يرغب في تخفيض ذلك إلى مليار دولار أمريكي، من خلال اقتطاع التكلفة الكلية للتطوير بمقدار النصف. كذلك، لم يكن مكتب الإدارة والموازنة منبهرًا بالرأي القائل بأن المكوك الفضائي يمكنه التوفير في التكلفة بإطلاق عدد كبير جدًّا من الحمولات. نعَتَ ويليام نيسكانن — رئيس قسم التقييم في مكتب الإدارة والموازنة — قائمةَ رغبات مسئولي ناسا بأنها «غير واقعية»؛ فهم «يبدءون برقمٍ يجاوز المصداقية ثم يزيدون عليه».
رأى نيسكانن — في ضوء تحليل وارد من «ماثمتيكا» — أن الحل يكمن في مكوك أبسط يشبه مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة لماكس هانتر، على أن يتضمن هذا المكوك صاروخ مرحلة أولى ربما يشتمل على صاروخَيْ وقود صلب كبيرين موثَقين به، مثلما في «تايتان ٣». كان هذا المكوك الفضائي يتطلَّب تكلفةً أكبر لتشغيله، ولم يكن سيصل إلى تكلفة ٧٠ دولارًا أمريكيًّا لكل رطل، بَيْدَ أن ذلك لم يكن مهمًّا، في ظل الثقة المحدودة لمكتب الإدارة والموازنة في تلك التكلفة المتوقَّعة في المقام الأول. كان السبب في انجذاب مكتب الإدارة والموازنة إلى هذا الأسلوب هو تخفيضه لتكلفة التطوير المهمة تمامًا، وهو بند الميزانية المتجدد سنويًّا الذي كان يتطلَّب اعتمادات من الكونجرس. كان أسلوب ناسا يتضمَّن تحمُّل تكاليف هائلة مقدمًا في مقابل الأمل الواهي في تحقيق وفورات كبيرة بعد أن تقاعد الجميع. كان مكتب الإدارة والموازنة يريد تكاليف أقل في المدى القريب في مقابل تكاليف إطلاقٍ أكبر نسبيًّا بعد خمسة عشر عامًا، وكان في يده معظم الأوراق.
في تلك الأثناء، كان توم بين، مدير ناسا، بصدد تقديم استقالته احتجاجًا على تخفيضات الميزانية. في مارس ١٩٧١، استقبلت ناسا رئيسًا جديدًا، وهو جيمس فلتشر؛ كان من بين خبراته العمل مع رامو وولدريدج، وعلى الرغم من قضائه السنوات الست الأخيرة رئيسًا لجامعة يوتا، منحه هذا استقلاليةً في الرأي والتفكير؛ ممَّا أتاح له إلقاء نظرة جديدة على المكوك الفضائي. سرعان ما أدرك فلتشر أنه إذا واصَلَ الإصرار على التصميم المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكوَّن من مرحلتين، فربما ينتهي به المطاف إلى لا شيء على الإطلاق؛ فقد كان مكتب الإدارة والموازنة على هذا القدر من القوة لإلغاء البرنامج؛ لذا، شرع فلتشر في إبرام عقدِ صلحٍ مع مكتب الإدارة والموازنة من خلال تحقيق طلباته، وإذا كان هذا الأمر يعني مخالَفةَ الآراء الأخرى في وكالته، فإنه كان سيفعل. تصدَّى مرارًا وتكرارًا لآراء مسئولي ناسا الآخَرين بقوله: «لستُ مقتنعًا بافتراضاتكم حيال هذا الموضوع.»
في غضون أشهر، كان من الواضح أن المكوك الفضائي كان سيمر بعمليةِ إعادةِ تصميمٍ كبرى تركِّز على تخفيض تكاليف التطوير. مثلما أشار أحد المسئولين التنفيذيين في مجال الطيران وصناعة الفضاء: «كان البعضُ يدرك أن البرنامج في طريقه إلى التنفيذ، في حين لم يكن البعض الآخَر يدركون ذلك. لكن على أية حال، بحلول شهر يوليو، عَلِمنا جميعًا أن هذا النظام اللعين برُمته قد أصبح غايةً ينشدُها الجميع.»
علمت الشركات المتعاقدة مع ناسا أنَّ كثيرًا من المسئولين كانوا يرغبون إلى حدٍّ ما في التمسُّك بصاروخ العودة التعزيزي؛ ومن ثَمَّ حاولَتْ بكل قوة أن تقترح تصميمات تتضمَّن ذلك ولا تتجاوز في الوقت نفسه سقفَ تكلفة التطوير المحدد بمليار دولار أمريكي سنويًّا من قِبَل مكتب الإدارة والموازنة. برزت الخزانات القابلة للاستخدام مرةً واحدة بوصفها أسلوبًا واعدًا؛ نظرًا لأن حجمَ المركبة المدارية للمكوك الفضائي وتكلفتَها كانا سيتقلَّصان إذا لم تحتَجْ إلى حملِ الوقود داخليًّا. أجرت بوينج محاوَلةً شجاعةً في تحويل صاروخ المرحلة الأولى في الصاروخ «ساتورن ٥» إلى صاروخ تعزيزي لعملية العودة، عن طريق اقتراح تصميم يتضمَّن أجنحة وجهازَ هبوط ومقصورةَ طيَّار وعشرة محركاتٍ توربينية نفاثة. لكن، بينما كان احتمال قبول إطلاق المكوك الفضائي واردًا، لم يَلْقَ المقترح قبولًا.
تحت وطأة الإصرار المتواصِل على خفض تكاليف التطوير، أظهرت شركات التصميم المتعاقدة براعةً متزايدة في تقديم تصميمات مبتكرة، وهو ما شجَّعَ ناسا وغذَّى شكوك مكتب الإدارة والموازنة. نصَّ أحد التقارير الصادرة عن مكتب الإدارة والموازنة في أواخر نوفمبر على أنه: «إذا أمكن لنا الاسترشاد بمهارة ناسا وسعة حيلتها في تغيير تصميم المكوك الفضائي حتى الآن، فإننا لم نشرع بعدُ في معرفة ما يمكن أن تقدِّمه ناسا إذا هي حاولت فعلًا تحسين أداء نظامٍ مقابل مبلغ يتراوح بين ٣ و٤ مليارات دولار أمريكي.» كان فلتشر يحاول بلوغ ٥ مليارات دولار أمريكي، ولكي يصل إلى ما دون ٤ مليارات دولار أمريكي، كان عليه أن يقسِّم غرفة الحمولة إلى نصفين، إلى عشرة أقدام × ثلاثين قدمًا وبسعة ٣٠ ألف رطل.
دفعه هذا الأمر إلى تقديم مزيدٍ من التنازلات. بنهاية العام، استجاب فلتشر إلى مطلب مكتب الإدارة والموازنة باقتراح حل وسط، وهو أن تكون غرفة الحمولة ١٤ قدمًا × ٤٥ قدمًا وبسعة ٤٥ ألف رطل، وهو ما لم يكن يناسب القوات الجوية، لكن كان الأمل معقودًا بأن المكوك الفضائي قد يسهم في بناء محطة فضائية ذات يوم. وبينما كان الأمل في هذه المحطة واهيًا آنذاك، فإنه كان أبعد ما يكون عن الأفول.
لكن، كان فلتشر على وشك الفوز بدعم الرجل صاحب النفوذ الأكبر، وهو الرئيس نيكسون. كانت رؤية الرئيس للفضاء تضاهي رؤية كينيدي وجونسون؛ إذ كان يرى أن الفضاء يمثِّل اختبارًا لقدرة أمريكا على القيادة. كان شديد الإعجاب بروَّاد الفضاء، حتى إنه رحَّبَ بنفسه بطاقم «أبولُّو ١١» فور عودته، ولم يكن ذلك في واشنطن، بل كان على متن حاملة طائرات كانت قد استرجعتهم توًّا في المحيط الهادئ. عندما علم بأمر المكوك الفضائي، انبهَرَ بالموضوع، وعندما التقى به فلتشر وأحضر معه نموذجًا للمكوك الفضائي، أمسَكَ نيكسون بالنموذج وأحكَمَ قبضته عليه كما لو أنه لن يُعيده.
في وقت مبكر من شهر يناير ١٩٧٢، التقى فلتشر بجورج شولتس، رئيس مكتب الإدارة والموازنة. كان فلتشر مستعِدًّا للدفاع عن غرفة الحمولات بمساحة ١٤ قدمًا × ٤٥ قدمًا؛ حيث وصفها بأنها «أقل خيار مقبول». أسعده كثيرًا ما فُوجِئ به من شولتز حين أخبره أن نيكسون وافَقَ فعليًّا على تطوير المكوك الفضائي باستغلال غرفة الحمولات بأبعادها الكاملة (١٥ قدمًا × ٦٠ قدمًا). عندما بلغَتِ الأنباءُ مسمعَ ديل مايرز، مدير برنامج المركبة، اعترته الدهشة.
في النهاية، في وقت مبكر من عام ١٩٧٢، استقرت ناسا على تصميم المركبة الذي نعرفه اليوم، الذي يشتمل على خزان خارجي كبير للوقود وصاروخَيْ وقود صلب ملحقَين به قطرهما ١٤٦ بوصة. تضمَّنَتِ المركبة أيضًا محركًا صاروخيًّا جديدًا، كان بمنزلة المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي. كان من المقرَّر أن يستخدم المحرك الهيدروجين والأكسجين كوقود، بينما يوفر عملًا لكلٍّ من «روكيت داين» بوصفها الشركة المتعاقدة، ومركزِ مارشال لرحلات الفضاء الذي كان مسئولًا عن مباشَرة تطويرها.
توقَّعَتْ ناسا أن تكون تكلفة التطوير ٥٫١٥ مليارات دولار أمريكي، نصف السعر المعلَن لتصميمات نماذج المركبات القابلة لإعادة الاستخدام بالكامل المكوَّنة من مرحلتين في عام ١٩٧١، والبالغ ١٠ مليارات دولار أمريكي. ارتفعت التكلفة المتوقَّعة لكل رحلة من ٤٫٦ ملايين دولار أمريكي إلى ١٠٫٤ ملايين دولار أمريكي. في ظل ثبات سعة الحمولات عند ٦٥ ألف رطل، زعمت ناسا أن التصميم الجديد سيتكلَّف ١٦٠ دولارًا أمريكيًّا لكل رطل. كانت هذه الأرقام لا تزال تتسم بالتفاؤل الشديد، وكان فلتشر يعلم ذلك، لكنه كان يضع الكونجرس نصب عينيه. صرَّحَ لاحقًا مسئول آخَر لمجلة «ساينس» قائلًا: «لكننا كنا نحصل على أصوات كثيرة جدًّا …»
بهذا التصديق، استطاعت ناسا أن تمضي قُدمًا في الشأن المهم المتعلِّق بإرساء العقد الرئيسي لتطوير المكوك الفضائي. فازت «روكويل إنترناشونال» بالعقد، وكان أحد الأسباب المهمة في ذلك أن قسم الفضاء في هذه الشركة كان قد تعلَّمَ من الدروس الصعبة التي مرَّ بها برنامج «أبولُّو». كان مقترح «روكويل» قويًّا، خاصةً في مجالات الإدارة ونُظُم الطاقة الكهربائية، وهو ما كان يعكس الدروس المستفادة من المشكلات التي تسبَّبَتْ في حريق عام ١٩٦٧، وقضت على سُمعة ستورمي ستورمز كثيرًا. بلغت قيمة العقد ٢٫٦ مليار دولار أمريكي، ليكون بذلك أكبر عقد لناسا خلال عقدٍ من الزمان.
لم تكن ناسا لتعود إلى مجد «أبولُّو» في ظل ميزانيةٍ قوامها ٣٫٣ مليارات دولار أمريكي سنويًّا؛ كان عليها أن تمضي قُدمًا دون فون براون، الذي رأى أن هذه الوكالة لم تقدِّم مجالات جديدة لاكتشافها وتركها في منتصف عام ١٩٧٢ للعمل في القطاع الخاص. لكن، اجتمعت المجموعة القديمة من أيام «أبولُّو» مرةً أخرى، ممثَّلةً في «روكيت داين» و«روكويل»، في هانتسفيل وهيوستن؛ وبتعديلات طفيفة، تقرَّرَ أن تتولَّى مرافق الصاروخ «ساتورن ٥» الهائلة في كيب كانافيرال إطلاقَ المكوك الفضائي أيضًا.
في هذا الوقت كان الاتحاد السوفييتي يمضي قُدمًا في جيله الجديد من مركبات الإطلاق والمركبات الفضائية. في أعقاب رحلتَيْ «زوند» شبه الناجحتين للدوران حول القمر في عام ١٩٦٨، فشلت عملية إطلاق في يناير ١٩٦٩ عندما حدث خلل وظيفي في صاروخَي المرحلتين الثانية والثالثة. كانت هذه هي المحاوَلة الثالثة ضمن المحاولات الست الأخيرة التي تمر بهذه المشكلات في صواريخ المرحلة العليا، وتوقَّف البرنامج لمدة ستة أشهر، بينما عكف طاقم العمل على تطوير كفاءة الصاروخ «بروتون» المكوَّن من أربع مراحل. في هذه الأشهر نفسها كان برنامج «أبولُّو» يمضي حثيثًا، من خلال مجموعة من المهام التي توَّجَتْها بعثةُ الهبوط على سطح القمر في يوليو. وحينما كان السوفييت على استعدادٍ للمحاولة مجددًا، كان الوقت قد تأخَّرَ أكثرَ ممَّا ينبغي.
حقَّقت رحلة «زوند ٧»، التي أعقبت ذلك، نجاحًا بطعم العَلقم. كانت ناجحة تمامًا، بل اتضح أنها كانت في حقيقة الأمر الرحلة الوحيدة الناجحة في برنامج «زوند» بأسره. على غرار «زوند ٥» في شهر سبتمبر الماضي، طافت المركبة حول القمر مارةً خلال ٧٦٥ ميلًا من جانبه المظلم، بينما لم تصبها أي أضرار خلال رحلتها بالكامل التي استغرقت ستة أيام. وعلى غرار «زوند ٦»، نفَّذَتِ المركبة عملية معاوَدة الولوج الصعبة كما ينبغي. في حقيقة الأمر، نُفِّذَتْ عمليةُ معاوَدة الولوج على نحوٍ دقيق تمامًا، حتى إنها هبطت في محيط ثلاثين ميلًا من هدفها. لكن، انطلقت «زوند ٧» في أغسطس ١٩٦٩، بعد شهر من اتخاذ نيل أرمسترونج خطوته الصغيرة؛ لذا، لم تحمل الرحلة أيَّ قيمة دعائية؛ فلم تُسفِر عن كثيرٍ وجاءت بعد أن كان الوقت قد تأخَّرَ كثيرًا.
كانت الرحلة مقياسًا لقدرة أمريكا على القيادة، قيادة كانت تستند إلى الصاروخ «ساتورن ٥» الفعَّال، وهي قيادة حاولت موسكو مرارًا أن تحوزها لكنها فشلت في تحقيق ما بلغته «أبولُّو» بمحض المصادفة. كان هدف برنامج «زوند»، على أية حال، نقل رائدَيْ فضاءٍ إلى مدار حول القمر وإعادتهما بسلام. على مدى عمليات الإطلاق التسع، لم ينجح السوفييت قطُّ في تأهيل مركبتهم لهذه المهمة؛ في حقيقة الأمر، لم يتمكَّنوا حتى من تكرار إنجاز «زوند ٧»؛ فلم تكن عملية الإطلاق الأخيرة — التي أُجرِيت في أكتوبر ١٩٧٠ ضمن سلسلة عمليات الإطلاق الأخرى — سوى تكرار للمحاولة شبه الناجحة لمركبة «زوند ٥»، بما في ذلك عملية معاوَدة الولوج الشديدة الانحدار فوق المحيط الهندي. على النقيض من ذلك، عندما حملت «أبولُّو ١٣» روَّادها الثلاثة في رحلة مماثلة تمامًا للدوران حول القمر، كانت تتضمَّن مركبة معطوبة نفَّذَتْ عمليةَ الدوران فقط كإجراء طارئ، للعودة الآمِنة من فضاء القمر.
لكن، مثلما كانت ناسا قد تقدَّمَتْ من «ساتورن ١-بي» إلى «ساتورن ٥»، كانت روسيا أيضًا تتقدَّم من الصاروخ «بروتون» التعزيزي إلى الصاروخ «إن-١» النهائي الضخم لكوروليف. كانت محركات صاروخ المرحلة الأولى في هذا الصاروخ القمري، وعددها ثلاثون محركًا، مركَّبة في مجموعات ثنائية. كان من المفترض أن ثمة نظامَ تحكُّمٍ في تشغيل المحركات (يُدعَى «كورد» بالروسية) على متن المركبة يستشعر أيَّ عطب؛ ومن ثَمَّ، كان النظام سيوقف أيَّ محركٍ معطوب فضلًا عن المحرك الآخَر المقترن به في مجموعته الثنائية، على الوجهة المقابلة، للحفاظ على توازُنٍ في قوة الدفع.
أُجرِيت عمليةُ الإطلاق الأولى في فبراير ١٩٦٩. خلال الدقيقة الأولى في عُمر الرحلة، قلَّلَتْ محركات صاروخ المرحلة الأولى من سرعتها لتخفيف الأحمال على المركبة، ثم عند الثانية ٦٦ من وقت الإطلاق، عادت هذه المحركات للعمل بكامل طاقتها بسرعة أكبر ممَّا كان مخطَّطًا لها؛ فأدَّى الإجهاد الناشئ إلى حدوث تصدُّع في أنبوب أكسجين سائل واندلاع حريق. فشل نظامُ «كورد» في وقف المحرك الذي كانت المشكلة متمركزة فيه، وبدلًا من ذلك، بالَغَ النظام في استجابته تجاه المشكلة وتعامُله معها، فأوقَفَ محركات الصاروخ الثلاثين كلها. سقطَ الصاروخ «إن-١» على مسافة ثلاثين ميلًا تقريبًا من نقطة الانطلاق.
قال فاسيلي ميشن، خليفة كوروليف، مُطَمْئِنًا: «هذا أمرٌ طبيعي بالنسبة إلى عملية الإطلاق الأولى.» عقدَ ميشن آمالَه على الصاروخ «إن-١» الثاني، الذي أُجرِيت محاولةُ إطلاقه الأولى في يوليو، قبل أسبوعين من «أبولُّو ١١». كان ميشن يرغب في استخدام هذا الصاروخ لتسجيل أرقام قياسية، ونجحَ في ذلك، وإن لم يكن على النحو الذي يجعل أحدًا فخورًا بما تَمَّ. صار «إن-١» أكبر مركبة إطلاق تنفجر على المنصة على الإطلاق.
انطلق الصاروخ من المنصة وارتفعَ إلى بضع مئات من الأقدام، ثم نفَذَتْ قطعةٌ معدنية شاردة إلى مضخة الأكسجين السائل التوربينية للمحرك رقم ٨؛ مما تسبَّبَ في انفجارها؛ وهو ما أدَّى بدوره إلى قطع الكابلات الموجودة على متن الصاروخ في مجموعة الدوائر الكهربائية، وأتلفَ المحركات المجاورة، وتسبَّبَ في اندلاع حريق هائل. مرةً أخرى، أوقَفَ نظام «كورد» جميع محركات الدفع. سقط هذا الصاروخ القمري — الذي كان مزوَّدًا بالوقود عن آخِره، وكان يماثل في وزنه وزنَ مدمِّرةٍ بحرية — على مجمع الإطلاق وانفجَرَ في شكل كرة هائلة من النيران.
كان ميشن يتوقَّع أن يواجه عثراتٍ وأن يتعلَّم منها، وصار لديه آنذاك ما يكفي من الدروس لينال درجة الدكتوراه. أُعِيد تصميم نظام «كورد» بالكامل، بينما زُوِّد صاروخ المرحلة الأولى في «إن-١» بنظامٍ لمكافحة الحريق باستخدام غاز الفريون. وضعَ نيكولاي كوزنتسوف، مصمِّم المحركات، برنامجًا كبيرًا لتحسين كفاءتها، يتضمَّن تركيبَ مرشحات بسيطة يمكنها غربلة القطعة المعدنية التي تسبَّبَتْ في تدمير الصاروخ ومنصة الإطلاق. تقرَّرَت إعادة بناء المنصة، بينما استُكمِل بناء مجمع إطلاق ثانٍ، كان قيد الإنشاء بالفعل. مع ذلك، لم ينطلق الصاروخ «إن-١» لمدة عامين آخَرين.
مع ذلك، لم يكن ميشن في حيرة من أمره؛ كان لا يزال لديه الصاروخ «آر-٧» التعزيزي مع مركبته الفضائية «سويوز»، بينما كان «بروتون» قد أظهَرَ قدرًا من الكفاءة منذ مدة غير بعيدة في برنامج «زوند»، من خلال أربع محاولاتِ إطلاقٍ ناجحة من واقع خمس محاولات. أصدَرَ ديمتري أوستينوف، الذي كان لا يزال يمثِّل ثِقلًا في الكرملين، تعليماته إلى ميشن باستخدام الصاروخين «آر-٧» «وبروتون» لتنفيذ برنامجه المُناظِر لبرنامج «سكايلاب». كان البرنامج يتمحور حول بناء محطة فضائية صغيرة، هي محطة «ساليوت» (أيْ تحية) إلى يوري جاجارين. لكن لسوء الحظ، لم يكن جاجارين موجودًا حتى يتلقَّى التحية؛ فقد لقي حتفه في عام ١٩٦٨، عندما حلَّقَ بطائرته المقاتِلة النفَّاثة نحو دوامات طرف الجناح القوية التي سحبت طائرة مقاتلة أخرى لمسافة كبيرة وراءها. خرجت طائرة جاجارين عن نطاق السيطرة، ولقي حتفه في حادث الاصطدام.
كإشارة ثناءٍ رائعة، كانت «ساليوت» تزن أكثر من ٤٠ ألف رطلٍ، وبالتحام «سويوز» معها، كان الحيز الداخلي في المركبتين معًا يساوي ٣٥٠٠ قدمٍ مكعبٍ، وهو ما يزيد بمقدار الثُّلث عن حيز «سكايلاب». كانت «ساليوت»، مثل نظيرتها الأمريكية، تركِّز على الرحلات الطويلة. كنوعٍ من الإحماء، استعادَتْ موسكو الرقمَ القياسي لزمن المكوث في المدار؛ حيث حملت «سويوز ٩» ثلاثةً من روَّاد الفضاء لمدة ثمانية عشر يومًا في عام ١٩٧٠. ثم في أبريل ١٩٧١، بعد عشر سنوات من رحلة جاجارين، انطلقت «ساليوت ١» إلى الفضاء، ثم انطلقت «سويوز ١٠» والتحمت بها، وإنْ كان عطلٌ في فتحة خروج قد أبقى أفراد الطاقم في مركبتهم. بعدها بستة أسابيع، انضمَّتْ إليهما «سويوز ١١»، حامِلةً جورجي دوبروفولسكي، وفلاديسلاف فولكوف، وفيكتور باتساييف. دخلوا جميعًا هذه المحطة الفضائية ومكثوا فيها أكثر من ثلاثة أسابيع.
بانتهاء مهمتهم، أطلقوا مجموعة من القطع المعدنية القابلة للانفجار لفصل كبسولة مسئولة عن معاوَدة ولوجِ الغلاف الجوي عن بقية أجزاء «سويوز». كانوا لا يزالون على ارتفاع أكثر من مائة ميل عندما تسبَّبَت الانفجارات في فتح صمام مسئول عن معادلة ضغط القمرة مع الضغط خارج المركبة الفضائية. لم يكن روَّاد الفضاء يرتدون بزَّات ضغط؛ إذ لم تكن لدى أيٍّ منهم بزَّة ضغطٍ على متن المركبة. كان من الممكن غلق الصمام يدويًّا، وربما فقد باتساييف اتزانه بينما كان يحاول جاهدًا إغلاق الصمام في حيز انعدام الوزن؛ حيث تلقَّى كدمةً شديدة في وجهه. لكن، تسرَّبَ الهواء الموجود في القمرة قبل أن يتسنَّى لأحدٍ إغلاق الصمام، ولقي أفراد الطاقم حتفهم. على الرغم من وفاة روَّاد فضاءٍ من قبلُ، كان أفراد هذا الطاقم هم أول مَنْ يلقون حتفهم في الفضاء فيما وراء الغلاف الجوي.
قال ميشن لاحقًا: «أُخضِع هذا الصمام للفحص مئات المرات في وحدات الاختبار، واستُخدِم في جميع مركباتنا السابقة. كان يُبلي بلاءً حسنًا دائمًا. لم يجُلْ بخاطر أحدهم على الإطلاق أن أداةً بسيطة كهذه قد تتعطل.» أُعِيد تصميم مركبة «سويوز» على غرار ما حدث مع «إن-١»، وصارت البزَّات الفضائية لروَّاد الفضاء فيما بعدُ ضرورةً لا مراءَ فيها، ولكي يُفسَح المجال لها ولأنابيب الأكسجين الخاصة بها، جرى تعديل «سويوز» من مركبة تُقِلُّ ثلاثةً من روَّاد الفضاء، إلى مركبةٍ تحمل رائدَيْ فضاءٍ فقط، وهو ما كان على النقيض من التعديلات التي أجراها فيوكتستوف على «فوسخود» في عام ١٩٦٤، التي أدت إلى ظهور أول مركبة فضائية في العالم تُقِلُّ ثلاثة روَّاد فضاء. مرَّ عقد من الزمان قبل أن ينطلق السوفييت مرةً أخرى بمركبة على متنها طاقم من ثلاثة أفراد.
خلال الأسبوع نفسه الذي قضى فيه روَّاد الفضاء نحبهم، أجرت «إن-١» محاولة أخرى. مع خروجها من البرج، تسبَّبَتْ قوًى ديناميكية هوائية غير مُتوقَّعة في دورانها بسرعة حول محورها؛ ممَّا أدى إلى تحطُّم الهيكل الداعم بين صاروخَي المرحلتين الثانية والثالثة؛ انفصل صاروخ المرحلة الثالثة، وهو صاروخ ضروري في حد ذاته كان يحمل نموذجًا محاكيًا لمركبة الفضاء القمرية. تحطَّمَ الصاروخ وانفجَرَ قُرْبَ منصة الإطلاق. واصَلَ «إن-١» طريقه بما تبقَّى من أجزائه، دون إدراك انفصال رأسه آنذاك. استمرت حركة الدوران؛ إذ تعطَّلَ نظام التوجيه — الذي أُجهِد أيما إجهادٍ — بينما كان يحاول وقف حركة الدوران. كانت محركات صاروخ المرحلة الأولى تبلي بلاءً حسنًا، بَيْدَ أن نظام «كورد» أوقفها جميعًا. انحنى الصاروخ القمري المقصوم خلال السماء مثل قذيفة مدفعية هائلة، وعندما اصطدم بالأرض، على مسافة اثني عشر ميلًا من موقع الإطلاق، انفجَرَ أيضًا، وخلَّفَ فوهة عرضها مائة قدم.
مضى عامٍ ونصف عامٍ آخر، ثم في نوفمبر ١٩٧٢ — بعد خمسة عشر عامًا من رحلتَيْ «سبوتنيك» الأُوليين — كان «إن-١» جاهزًا لإجراء محاولة أخرى. كاد الصاروخ ينجح في الانطلاق هذه المرة؛ حيث حلَّقَ على نحوٍ عادي خلال الثواني التسعين الأولى. في تلك اللحظة، توقَّفَ ستة محركاتٍ في مركز صاروخ المرحلة الأولى مثلما كان مخطَّطًا له، للحد من تسارُع المركبة، بينما واصَلَتْ محركات الصاروخ الأربعة والعشرون الأخرى توفيرَ قوة الدفع. لسوء الحظ، كان توقُّف المحركات فجائيًّا أكثر ممَّا ينبغي، وأدَّى تأثير ظاهرة الطَّرق المائي إلى تصدُّع بعض أنابيب الوقود، فاندلع حريق. لم يعمل نظام مكافحة الحرائق باستخدام غاز الفريون، فبدأت المحركات في الانفجار عند الثانية ١٠٥ من وقت الإطلاق، وبعدها بثانيتين، أوقَفَ نظام «كورد» ما تبقى من محركات. عندئذٍ، كان الأوان قد فاتَ؛ إذ انفجر الصاروخ بأسره. سقَطَ صاروخ المرحلة الأولى خلال عشر ثوانٍ من لحظة الانفصال العادية، بينما كان صاروخ المرحلة الثانية سيبدأ في العمل.
كان هذا السجل الحافل من الفشل الذريع يتناقض على نحوٍ مرير مع سجل فون براون من النجاح الكامل. خلال أكثر من ثلاثين عملية إطلاق لصواريخ طراز «ساتورن» بين عامَيْ ١٩٦١ و١٩٧٥، بما في ذلك ثلاثون صاروخًا من طراز «ساتورن ٥»، بلغتْ جميع الصواريخ مداراتها أو حقَّقَتْ أهدافها دون المدارية. مع أخذ الاستثناء المهم للصاروخ «ساتورن ٥» الثاني في الاعتبار، كانت جميع صواريخ المراحل العليا في أبريل ١٩٦٨ تعمل كما يجب؛ ويمكن تلخيص السبب في كلمة واحدة، وهي الاختبار.
كان «أبولُّو»، بالنسبة إلى مَنْ عملوا في البرنامج، تدريبًا على الاختبار في المقام الأول. بدأ البرنامج حرفيًّا عند مستوى الصواميل والمسامير. أخبرَ تشارلي فيلتز — أحد الأفراد البارزين في قوات ستورم — ذات مرة لجنةَ الفضاء في مجلس النواب، أن خام الحديد المصنوعة منه أدوات التثبيت والربط هذه جاءَ من قطاع معين في منجم مفتوح في سلسلة جبال مسابي، قُرْبَ دولوث، بولاية مينيسوتا. ثم مرَّتِ المسامير في تصنيعها بإحدى عشرة خطوة، وكان يجب التصديق على المنتج واعتماده في كل خطوة، من خلال اختباراتٍ دقيقة. جرى هذا التصديق على السبيكة المصهورة من الخام، والقضيب الحديدي المُشكَّل من السبيكة، وقضيب الفولاذ المُستخلَص من القضيب الحديدي، فضلًا عن المسامير نفسها المُفرزة من قضيب الفولاذ. كانت تكلفة أدوات التثبيت والربط الناتجة أعلى خمسين مرة من المسامير التي ربما كان فيلتز يشتريها من محلٍّ لبيع الأدوات المعدنية، بَيْدَ أن الأمر كان يتطلَّب ذلك لإرسال روَّاد فضاء إلى القمر.
لم يتعامل الروس مع الأمر على هذا النحو. على وجه التحديد، لم يكن للبرنامج السوفييتي للهبوط على سطح القمر منصةُ إطلاقٍ كبيرة يمكنها أن تستوعب صاروخَ المرحلة الأولى من «إن-١»، بمحركاته الثلاثين، على الرغم من أن كوزنيتسوف قد أجرى اختباراتٍ على محركات صواريخه. على النقيض من ذلك، كانت تُجرِي عمليات تشغيل استاتيكية في منشأة اختبارات المسيسيبي حتى لأكبر الصواريخ المرحلية الكاملة في الصاروخ «ساتورن ٥». على حدِّ تعبير ميشن «كنا نُجرِي اختبارات على الأجزاء المنفصلة، ولم نجرؤ حتى على التفكير في تشغيل المحركات الثلاثين جميعًا في صاروخ المرحلة الأولى كنموذج مُجمَّعٍ كامل. ثم جرى تجميع الأجزاء، دون ضمانات، بالطبع، على سلامة عملها كمجموعة.»
كان الرئيس كينيدي قد أدرك الأمر جيدًا في عام ١٩٦١: ما بقيت هذه المنافسة عند مستوى الصواريخ والأجهزة الأخرى التي كانت متوافرة في ذلك الوقت، ففي مقدور موسكو الفوز. استطاع الصاروخ «تايتان ٢» مضاهاة الصاروخ «آر-٧» لكوروليف، وكان من المتوقَّع أن يتفوق «جيميني» في أدائه على «فوسخود»، لكن ليس بفارق كبير. بالمثل، ربما صارت المنافسة بين «بروتون» و«ساتورن ١-بي»، التي كانت عملية الدوران حول القمر هي الجائزة فيها، منافَسةً احترافيةً حامية الوطيس حقًّا. لكن، عند مستوى «ساتورن ٥» و«أبولُّو» و«إن-١»، اختبرت المنافسة حقًّا قدرات القوتين العُظميين في جمع المبالغ المالية الطائلة اللازمة لتنفيذ مشروع مهم. قارنت مجلة «نيوزويك»، في وقت مبكر من عام ١٩٦١، سباقَ الفضاء باحتفال بوتلاتش لقبيلة كاواكيوتل في شمال غرب المحيط الهادئ، الذين يتنافسون على الإلقاء بأعلى الأشياء قيمةً في النيران. كان احتفال بوتلاتش القمري هذا ما تريده البلاد، وما حصلتْ عليه.
بالإضافة إلى ذلك، بينما كان الاتحاد السوفييتي يركِّز على رحلات محطات «ساليوت» الفضائية التابعة له، كانت الولايات المتحدة متأهِّبةً للريادة في هذا المجال أيضًا. كانت «سكايلاب»، التي كانت أثقل من «ساليوت» بمقدار أربع مرات، تتضمن كل وسائل الراحة فعلًا، من خلال حيزها الرحب الذي كان يبلغ في اتساعه اتساع منزل مكوَّن من ثلاث غرف، كما أن طولها البالغ ١١٨ قدمًا، فضلًا عن مركبة «أبولُّو» المتصلة بها، قد جعلها أكثر طولًا من «تايتان ٢»، وهو ما جعلها نموذجًا مبكرًا لمركبةٍ مدارية أكبر كثيرًا من مركبة إطلاق متوسطة الحجم. كان أفراد طواقمها يستمتعون بالنوم في أكياس نومٍ في مقصوراتٍ خاصة، فضلًا عن غرفة طعام بها مائدة، ودُشٍّ للاستخدام مرةً واحدة أسبوعيًّا، ومرحاضٍ معدوم الجاذبية يعتمد على الشفط الهوائي. كان في مقدور روَّاد الفضاء الحلاقة، وكان طعامهم يشمل الكركند وشرائح اللحم المَخلية، وبودينج مُحلى بحلوى الزبد والسكر الأسمر. فكرت ناسا في إضافة نبيذ إلى قائمة الطعام، لكنها قرَّرَتْ ألَّا تفعل خشيةَ اعتراض الاتحاد المسيحي النسائي للاعتدال في معاقَرة الخمر أو الامتناع التام عنها.
حلَّقَتِ المحطةُ الفضائية في مدار فضائي في مايو ١٩٧٣، وسط متاعب جمَّة. في طريقها إلى أعلى، تمزَّقَ درعٌ حراري منفصلًا عن المركبة؛ ممَّا أدَّى إلى سَحْبِ لوحٍ شمسي رئيسي معه وعرقلة لوح شمسي آخَر بما يحول دون فتحه. عرَّضَ الدرع الحراري المفقود «سكايلاب» لخطر الحرارة المفرطة؛ ومن ثَمَّ إفساد الطعام المُخزَّن والإمدادات الطبية، وإتلاف الأفلام الفوتوغرافية، وتحلُّل مادة البولي يوريثان العازلة، وإطلاق غازات مميتة. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن حامل منظار أبولُّو كان يحمل مجموعة منفصلة من الألواح الشمسية، كان فقدان ألواح «سكايلاب» من شأنه أن يتسبَّب في خفض مصدر الطاقة بمقدار النصف.
كان الأمر تكرارًا لرحلة «أبولُّو ١٣» مجددًا؛ حيث حاوَلَ المهندسون في القاعدة الأرضية جاهدين التوصُّلَ إلى إصلاحاتٍ سريعة يمكن من خلالها إنقاذ هذا البرنامج الذي بلغت تكلفته ٢٫٥ مليار دولار أمريكي. كان توفير مظلة شمسية يمثِّل ضرورةً قصوى ومُلِحَّة. اتخذت المظلة شكلَ مستطيل كبير من البلاستيك الرقيق قابل للنشر، وهو ما يشبه مظلة يدوية. عند طيِّها، كان رائد الفضاء يستطيع إخراجها عبر فتحة الخروج على جانب «سكايلاب» وفتحها وإلصاقها بالحائط الخارجي. وعندما بدأت بطاريات التخزين على متن المركبة في النفاد، ازدادت مشكلةُ توفيرِ مصدرِ طاقةٍ حِدَّةً. سار رائدا الفضاء بيت كونراد وجوزيف كروين أربعَ ساعات في الفضاء، وكانت هذه هي أطول فترة حتى ذلك الحين، وحرَّروا اللوح الشمسي المُعلَّق.
استقرَّ الطاقم بعد ذلك على البقاء لمدة ٢٨ يومًا، وهي الفترة التي أجرَوا خلالها فحوصات طبية. كان كروين طبيبًا، بينما كان رائد الفضاء الثالث بين أفراد الطاقم، وهو بول وايتز، يستطيع إجراء جراحة صغيرة أو اقتلاع سنٍّ. كانت الأنشطة الأخرى تتمحور حول علم الفلك الشمسي، والأرصاد الأرضية، والتجارب التي كانت تدرس سلوكَ المعادن السائلة في حالة انعدام الجاذبية. لاحقًا في عام ١٩٧٣، مكثت مجموعة ثانية من الزائرين تسعة وخمسين يومًا، وسارت هذه البعثة على نحو جيد تمامًا، حتى إنه على الرغم من ترشيح طاقم ثالث للبقاء لفترةٍ مماثلة، مدَّ مديرو ناسا فترةَ البقاء إلى أربعة وثمانين يومًا. كانت الرحلتان الأخيرتان تُقِلَّان اختصاصيَين في علم الفلك الشمسي، وهما أوين جاريوت ثم إد جيبسون، وقدَّمَ كلاهما أرصادًا مفصَّلة بالانبعاثات الفجائية للطاقة المعروفة باسم الانفجارات الشمسية، التي تابَعَ جيبسون أحدَها منذ لحظة تولُّده.
كان للحياة في حالة انعدام الوزن غرائبها؛ كان مذاق الطعام غير حَريف، ودأَبَ أفرادُ الطاقم على غمس الطعام المقدَّم إليهم في تتبيلات البصل والملح. شكَّلَتْ فقاعات الهواء في الطعام والماء مشكلةً أخرى، أشار إليها بيل بوج — رائد فضاءٍ في البعثة الثالثة قائلًا: «كنَّا نعاني من كثرة خروج غازاتٍ من البطن. أعتقد أن خروج غازاتٍ من البطن بمعدل خمسمائة مرة يوميًّا ليس بالأمر الجيد الذي يمكن التكيُّف معه؛ كان الشيء الوحيد الذي يعوِّض ذلك أن الجميع كانوا يطلقون الكميةَ نفسها.» لكن الجميع صاروا يتمتعون بقوام جيد؛ وهو ما كان يشير إلى عدم وجود أي قيود على طول الفترة التي يمكن أن يحياها المرءُ في حالة انعدام الوزن. من خلال ممارسة التمرينات بدأب، ظلَّ جميع روَّاد الفضاء يتمتعون بصحة طيبة.
ثم كانت هناك الأرصاد الأرضية، التي تضمَّنَتْ صورًا للأرض التُقِطت عند عدد من الأطوال الموجية، بما في ذلك الأشعة تحت الحمراء الحسَّاسة للحرارة. أظهرت الصور المأخوذة بالأشعة تحت الحمراء المصادرَ المُحتمَلة للطاقة الحرارية الأرضية في غرب الولايات المتحدة، فضلًا عن الينابيع المتفجرة للماء البارد في منطقة الكاريبي التي قد تؤثِّر على تكوُّن العواصف وتطوُّرها. استعان أحد العلماء في منطقة متأثِّرة بالجفاف في أفريقيا بصور «سكايلاب» للبحث عن مياه، بينما عثرَ جيولوجيون على أماكن محتمَلة لاحتياطي النفط والنحاس.
مع ذلك، على الرغم من أن هذا العمل كان ينطوي على قيمة أكيدة، لم تخرج مركبة في بعثة متابعة لمركبة «سكايلاب». تضاءلت فائدة الدراسات الطبية الطويلة الأمد في ظل غياب الاحتمال في إرسال أي بعثة إلى المريخ. كان من المنتظر إطلاق مراصد مدارية أخرى في المستقبل لإجراء عمليات رصدٍ للأرض ومحيطاتها فضلًا عن الشمس، لكنْ كان من المقرَّر أن تكون غير مأهولة وأقل تكلفةً بكثير ويستمر عملها لسنوات. ساهَمَتْ «سكايلاب» في سدِّ الفجوة التي واجهَتْها ناسا في الفترة ما بين برنامج «أبولُّو» وبرنامج المكوك الفضائي؛ حيث استفادت من اختصاصيين كانوا سيُسرَّحون، ومن معدات كانت ستُوارى بين جنبات المتاحف. لكن تكلفتها كانت ستوفر ميزانيةَ أربع سنواتٍ لمؤسسة العلوم الوطنية، التي كانت تموِّل معظمَ البحوث الأساسية للبلاد في مجال الفضاء. على الرغم من أن «سكايلاب» حقَّقَتْ ثمارًا علمية كبيرة، كانت تكلفتها المرتفعة تتناقض بشدة مع التكلفة المتواضعة لمشروعاتٍ قائمة وقتَها مثل دراسة القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، واستكشاف أعماق البحار. كانت تكلفة المحطة تفوق ميزاتها، أو أكثر من أن تبرر إرسال رحلات أخرى إلى هذا المختبر الفضائي.
حظيت «أبولُّو» بلحظة انتصار أخيرة في منتصف عام ١٩٧٥، عندما أقَلَّتْ عملية الإطلاق الأخيرة للصاروخ «ساتورن ١-بي» مركبتها للالتحام بهدف غير معتاد على الإطلاق، وهو نظيرتها السوفييتية «سويوز ١٩». انبثقت هذه البعثة المشتركة من اتفاقية في عام ١٩٧٢ بين نيكسون ورئيس الوزراء أليكسي كوسيجين، وكانت ترمز إلى فكرة مخادعة يجري تصويرها عبر الفضاء؛ فها هي المؤسسات والمعدات الصاروخية التي طالما تنافست قبل سنواتٍ قليلة في الصعود إلى القمر، وسَعت إلى إظهار التفوق القومي، تلتقي حاليًّا في الفضاء وتلتحم معًا لتُظهِر كيف يمكن لهاتين القوتين العُظميين أن تتعاوَنَا.
من الصائب أن موسكو وواشنطن لم تَعُد كلٌّ منهما في وضع تناحُر وصراع مع الأخرى، لكن كانت صداقتهما غريبة، إذا كانت تستحق فعلًا أن تُنعَت بهذا الاسم. في عام ١٩٧٢، نجحَ الروس في الصفقة المعروفة باسم «سرقة الحبوب الكبرى»؛ حيث استغلوا معرفتهم بأسواق السلع في إجراء عمليات شراء بكمياتٍ ضخمة زادت كثيرًا من سعر القمح، ومن ثَمَّ ساهمَتْ على نحوٍ ملحوظ في التضخُّم. بعدها بسنواتٍ، غزا الروس أفغانستان لإقامة نظام شيوعي، وهو ما جدَّدَ أزمةَ الحرب الباردة؛ لكنهم، مع ذلك، لم يضعوا صواريخَ في كوبا أو يهدِّدوا بالحرب للاستيلاء على برلين، وهو ما كان يُعَدُّ قطعًا تقدُّمًا إلى الأمام. لكن، على الرغم من أن المركبتيْن التحمتا في مدارٍ ومكثتا معًا قرابة يومين، لم يحدث أي التقاءٍ بين برامج كلتا الدولتين. على غرار مركبة «فوستوك» في أوائل الستينيات من القرن العشرين، تقارَبَتْ روسيا وأمريكا لفترة مؤقتة في الفضاء قبل أن تنفصلا لتواصِل كلٌّ منهما مسارَها وبرامجها.
في موسكو، كان السوفييت يضعون اتجاهًا جديدًا وسط حالةٍ من التغيير الجذري الشامل في قيادة البلاد. كان الرجل المسئول عن وضع ذلك الاتجاه هو ديمتري أوستينوف، الذي اكتشفَ موهبة كوروليف قبل ثلاثين عامًا. ظلَّ أوستينوف صاحب نفوذ في موسكو؛ كان سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وكان في طريقه إلى شغل منصب وزير الدفاع لفترةٍ جديدة. فَتَرَ اهتمامُ أوستينوف بالقمر في أعقاب نجاحات «أبولُّو»؛ كان ينظر حينئذٍ نظرةً إيجابية إلى فالنتين جلشكو، مصمِّم المحركات المخضرم الذي كان قد انفصل عن برنامج كوروليف للهبوط على سطح القمر.
في الوقت نفسه، كان أوستينوف قد ضاقَ ذرعًا بفاسيلي ميشن، الذي تسبَّبَتْ محاولته الطويلة لبناء صاروخ كوروليف القمري «إن-١» في تكوُّن فوهات على الكوكب الخطأ. استمر البرنامج حتى بعد فشل محاولات الإطلاق الأربع من عام ١٩٦٩ إلى عام ١٩٧٢، لكن في مايو ١٩٧٤، قرَّر أوستينوف ضرورة إقصاء ميشن، مدير البرنامج. حصل أوستينوف على موافقة رئيس ميشن وعلى موافقة رئيس الدولة ليونيد برجنيف، ثم أتى بجلشكو، غريم ميشن القديم، ليحلَّ محلَّه رئيسًا للبرنامج.
في تلك اللحظة، كانت مركبتا إطلاقٍ كاملتين طراز «إن-١» قد بلغتا تيوراتام، وهو ما كان يمثِّل عرضًا مبهرًا لإمكانية الصعود إلى القمر التي طالما تمتَّعَ بها السوفييت. كانت المركبتان جاهزتين للانطلاق في غضون الأشهر القليلة القادمة. استطاع جلشكو، بدعمٍ من الكرملين، إلغاءَ عمليات الإطلاق التي كان مخطَّطًا لها، وإيقاف البرنامج إيقافًا مؤقتًا؛ وفي عام ١٩٧٦، أنهى البرنامج تمامًا. كما أنه لم يسمح بعرض مركبتَيْ «إن-١»، بل أمَرَ بتدميرهما.
استُغِل بعض مكونات «إن-١» في استخداماتٍ جديدة؛ صارت الصواريخ المرحلية، التي قُطِعَت أطوالها إلى النصف، مَرائِبَ أو مباني تخزين، وأُعِيدَ استخدام خزانات الوقود على نحو جديد كمركز ترفيهي، وكظُلَّة صيفية للاسترخاء، وكجزءٍ من شبكة توزيع المياه للوحدات السكنية القريبة. كذلك، تحوَّلَتْ قُبَّة على هيئة طبق هوائي إلى غرفة شمسية للحصول على بشرة داكنة. بالتخلص إذن من «إن-١»، استطاع جلشكو تركيزَ جُلِّ اهتمامه في موضوعه المُفضَّل بخصوص الوقود المتطوِّر. كان جلشكو هو مَنْ قادَ تشلومي إلى عالم الوقود القابل للتخزين، إزاء اعتراضات كوروليف الحادة. انتقل جلشكو إلى الهيدروجين السائل، حيث صمَّم فئة جديدة من مركبات الإطلاق ذات الحمولات الثقيلة التي استخدمت هذا الوقود ونافست المكوك الفضائي لأمريكا. بعد فترة من العمل دامت عشر سنوات، كانت المحصلة هي الصاروخ «إنرجيا» التعزيزي ومركبة «بوران» الفضائية.
في تلك الأثناء، كانت محطات «ساليوت» المدارية تبرز كعناصر أساسية ومهمة في برنامج الفضاء. كانت ثمة نماذج عسكرية تُجرِي استطلاعاتٍ وكانت نماذج مناظِرة للمختبر المداري المأهول، حيث كانت ذات سعة داخلية مشابهة. كانت تلك النماذج التي كانت موسكو ستتحدث عنها، بالطبع، مخصَّصةً للأغراض المدنية، كما أنها كانت تشبه «سكايلاب» عمومًا وكانت ستستضيف على متنها أنشطة مشابهة، مثل الدراسات الطبية للرحلات الطويلة، والأرصاد الأرضية، والدراسات الشمسية. (على النقيض من الدراسات الفلكية ذات الطابع الأكثر تعميمًا، قدَّمَ علم الفلك الشمسي ميزةَ التقاطِ صور فوتوغرافية خلال فترات قصيرة للغاية. كان هذا مهمًّا لأن تحركات أفراد الطاقم — على متن مختبراتهم المدارية — كانت ستَحُول دون توجيه المناظير بدقة نحو النجوم والمجرَّات البعيدة في حال استخدام التصوير الفوتوغرافي الطويل الأمد.)
مع ذلك، كانت المركبة الفضائية السوفييتية المأهولة أبسط بكثيرٍ من نظيراتها الأمريكية؛ على سبيل المثال: كانت «سويوز» تفتقر إلى وجود أجهزة كمبيوتر على متنها، ونظم توجيه متطورة باستخدام القصور الذاتي، ونظم احتياطية للتدفئة والتبريد. كان روَّاد الفضاء الروس يتخذون قراراتٍ قليلة على متن المركبة؛ إذ كانت كل الأنشطة تقريبًا يجري التحكم فيها من القاعدة الأرضية، بما في ذلك إطفاء الأنوار عند النوم. بالإضافة إلى ذلك، حلَّقَ عدد من مركبات «ساليوت» الأولى في مدارات منخفضة؛ ممَّا أدى إلى تلفها سريعًا إلى حدٍّ ما، وتطلَّبَ الأمر إطلاقَ مركبات جديدة بوتيرة أسرع نوعًا ما.
أسفرت بعثة «ساليوت ١»، في عام ١٩٧١، عن الحادث المأساوي الذي فُقِدَ على إثره طاقمُ «سويوز ١١». لكن، كان موت أفراد الطاقم يرجع إلى مشكلة في «سويوز»، لا في «ساليوت»، وكانت «ساليوت» جاهزة لأنشطة أخرى. حلَّقَتِ المركبة التالية، «ساليوت ٢»، في مدار في أبريل ١٩٧٣. على الرغم من اشتراكها في اسم «ساليوت» مع مركبة ميشن، كانت مركبة فضائية مختلفة تمامًا تُسمَّى «ألمظ» (أي الماس)، بناها تشلومي غريم ميشن. كانت عبارة عن مركبة فضائية عسكرية، ذات منظار كبير كان يشغل الحيز من الأرضية إلى السقف. كانت المركبة ترصد أهدافها من خلال منظار بصري كان يتحرك لتعويض حركة سطح الأرض، معطيًا صورًا غاية في الوضوح.
كان على الطاقم التقاط الصور باستخدام هذه الآلة وتحميضها على متن المركبة، ونقل بعض منها عبر التليفزيون. استطاع أيضًا روَّاد الفضاء الروسيون هؤلاء إرجاعَ الفيلم نفسه عن طريق استخدام كبسولات قابلة للاسترجاع، كلٌّ منها يتضمَّن صاروخًا ارتكاسيًّا كابحًا، ودرعًا حراريًّا، ومظلة، وجهاز بيكون لاسلكيًّا. كانت مهاجع الطاقم تشمل نوافذ فضلًا عن مكان للنوم، ومائدة طعام، ومقعد وثير. وخوفًا من طائراتٍ فضائية اعتراضية تابعة لأمريكا، خطَّطَ المصمِّمون أيضًا لتجهيز المركبة بمدفعٍ سريع الطلقات مضاد للطائرات.
لم يحدث أنْ حظي أحدٌ من قبلُ بهذه الميزات. كانت المركبة تتضمن صاروخَ مناورات انفجَرَ قبل وصول الطاقم؛ ممَّا أدَّى إلى إغراق الفضاء القريب بقطعٍ من الحطام والشظايا المتناثرة، فضلًا عن إحداث ثُقْبٍ في هيكل المحطة الرئيسي. بعدها بشهر، أرسلت بعثة إطلاق متابِعة مركبة «ساليوت» مَدنيَّة إلى مدار فضائي، بَيْدَ أنها سرعان ما عجزت عن بلوغه. أصرَّ السوفييت بشدة، وفي يونيو ١٩٧٤ بلغت مركبة «ساليوت ٣» — وهي مركبة عسكرية أخرى — الفضاء وأبلت بلاءً حسنًا. كان رائدا الفضاء الروسيان اللذان مكثا لمدة أسبوعين في يوليو، وهما بافل بوبوفيتش ويوري أرتيوخين، أولَ مَنْ عاش على متن مركبة «ساليوت» وعادَا لقصِّ ما جرى. ساعَدَ في ذلك أن بوبوفيتش كان أحد أكثر روَّاد الفضاء خبرةً في بلاده؛ فقد قادَ «فوستوك ٤» خلال البعثة الثنائية في عام ١٩٦٢.
ثم حان دور المركبة المدنية «ساليوت ٤» التي انطلقت إلى الفضاء بعد أعياد الكريسماس مباشَرةً. أطلقت هذه البعثة برنامجًا من الرحلات الطويلة التي كانت تهدف إلى مواصلة ما كانت «سكايلاب» قد انتهت إليه. اطَّلَعَ الأطباء السوفييت على النتائج الطبية التي توصَّلَتْ إليها «سكايلاب»، كجزءٍ من عمليات التبادُل التي سبقت التحام «أبولُّو» و«سويوز» بعدها بستة أشهر، بَيْدَ أنهم كانوا يريدون إجراء فحوصاتهم الخاصة. كرَّرَ أول طاقم وصَلَ إلى هذه المحطة، مُمثَّلًا في ألكسي جوباريف وجورجي جريشكو، بعثة «سكايلاب» الأولى المكوث لمدة تسعة وعشرين يومًا، مع تنفيذ جدول زمني مكثَّف من الدراسات الطبية والشمسية؛ كما أنهما حظيا بتلك الميزة التي في مركبة «ساليوت» هذه التي قدَّرَها روَّاد الفضاء أيما تقدير، وهي حديقة صغيرة على متن المركبة، باسم «الواحة»، حيث حاولا زراعة نبات البازلاء. لم يتجاوز حجم الحديقة حجم حقيبة سفر، وذَبُلت البازلاء في غضون أسابيع، لكنها بدت في الرحلات الطويلة طريقةً واعدة لإبقاء معنوياتهم مرتفعة.
أكَّدت هذه البعثة نتائجَ «سكايلاب» بإثبات أن رحلةً تستغرق ثلاثين يومًا لم تكن بالفكرة الصائبة؛ فكل ما تفعله هذه الرحلة أنها تجعل روَّاد الفضاء يتكيَّفون جزئيًّا مع حالة انعدام الجاذبية، بينما تعرِّضهم إلى جميع المتاعب عند ولوجهم مجددًا إلى مجال الجاذبية الأرضية. كان من الواضح أن ثمة رحلات أطول جاهزةً للإطلاق، وفي أبريل ١٩٧٥، صعدَ رائدا الفضاء فاسيلي لازاريف وأولَجَ ماراكروف إلى متن مركبة «سويوز» لإجراء المحاولة. أُصِيبَ صاروخ المرحلة الثالثة بخلل وظيفي؛ فاعتقد المراقبون الأرضيون أن المشكلة كانت في معداتهم، وثارت ثائرة لازاريف حتى إنه لعنهم لعنًا قبل أن يدركا أن البعثة في مأزق. أُخضِعت المركبة لعملية هبوطٍ اضطراري، وصار رائدا الفضاء هذان أول رائدَيْ فضاءٍ يهبطان اضطراريًّا بينما كانا في طريقهما إلى الفضاء. وبالفعل، هبطا على مسافة ألف ميل من منطقة الإطلاق.
كان مصدر قلقهما الأول أنهما قد يهبطان في الصين، وهو ما قد يضعهما رهن الاعتقال. أثناء تتبعهما لمسارهما، سأل أحدهما بحزن: «لدينا معاهدة مع الصين، أليس كذلك؟» ثم حانت لحظة معاوَدة الولوج إلى الغلاف الجوي؛ حيث حدثَ اختراق حادٍّ للغلاف الجوي على نحوٍ لا يشبه بأية حال الهبوط الخفيف والسلس الذي كان موضوعًا ضمن خطة الرحلة. تخطَّتْ قوى التسارُع ١٨ عندما تجاوَزَ عدَّادٌ على متن المركبة المقياسَ، وعلى الرغم من إصابة رائدَي الفضاء، فقد نجَيَا. فُتِحَت المظلات، وهبطت المركبة الفضائية في جبال ألتاي، على منحدر ثلجي، ثم تدحرجت الكبسولة المستديرة على المنحدر الجبلي، متجهةً صوب جُرفٍ. في الوقت المناسب، عَلُقَت حبال المظلات ببعض الأشجار القصيرة وأنقذتهما. وصلَ رجال الإنقاذ، وأدرك رائدا الفضاء حينها أنهما أصبحا في مأمن حقًّا؛ حيث كان رجال الإنقاذ روسيين.
بعدها بستة أسابيع حاوَلَ الطاقم الاحتياطي، ممثَّلًا في بايوتر كليموك وفيتالي سيفاستينوف، مجددًا. كان كلاهما مخضرمًا؛ فقد شارَكَ سيفاستينوف على وجه التحديد في بعثة «سويوز ٩» التي استغرقت ثمانية عشر يومًا في عام ١٩٧٠. بلغا «ساليوت ٤» التي كانت النُّظم على متنها في سبيلها إلى التدهور. كانت الحياة في محطة فضائية تستوجب التحكُّم في الرطوبة؛ حيث كانت الرطوبة في نَفَس المرء تصل إجمالًا إلى عدة أرطال يوميًّا، وهو ما كان يجب إزالته من الهواء. لم يكن يتطلَّب ذلك أكثر من ألواح باردة لتكثيف الرطوبة، بَيْدَ أن هذا الأمر لم يفلح على متن «ساليوت ٤».
يشير المحلِّل جيم أوبرج إلى أنَّه بعد مضي شهر في الفضاء، كان لدى رائدَي الفضاء كثير ممَّا يشكوان منه؛ أشار أحدهما قائلًا: «كانت النوافذ لا تزال مُضبَّبة. بلغَ الفطر الأخضر الآن منتصفَ الجدار. ألن نتمكَّن من العودة إلى الديار؟» كانت الإجابة: «ليس بعدُ.» إذ كان عليهما — شأنهما شأن جنود في الحرب الوطنية الكبرى — البقاء في مواقعهما وأداء مهامهما من أجل الوطن. واصَلَ الفطر الأخضر الانتشار وواصَلَ رائدا الفضاء السؤالَ عمَّا إذا كان في مقدورهما الهبوط. أخيرًا، في نهاية يوليو، تلقَّيَا الأمر الذي كانا ينتظرانه. تداخلت رحلتهما مع رحلة أبولُّو؛ «سويوز»؛ ممَّا استوجبَ من محطة التحكم الأرضي التعامُل مع كلتا المهمتين المنفصلتين في آنٍ واحد. أكَّدت الأيام الثلاثة والستون التي قضياها في الفضاء التزامَ موسكو بالرحلات الطويلة في مركبة «ساليوت» المَدنيَّة.
بعد عام ١٩٧٥، كانت كلتا الدولتين تسيران بثبات على مسارَيْهما الجديدين. تخلَّتْ كلتاهما عن فكرة الهبوط على سطح القمر؛ حيث غضتا الطرفَ عن الصاروخين «ساتورن ٥» و«إن-١» الهائلين اللذين كانت برامجهما القمرية قد أسفرت عنهما. لكن، كانت لديهما مركبات إطلاق قوية، مثل «تايتان ٣» و«بروتون»، اللتين كان في مقدورهما إطلاق مركبة فضائية ثقيلة، متخطيتين بمراحل الصواريخَ الباليستية العابرة للقارات المُعدَّلة التي كانت تشمل «آر-٧» و«تايتان ٢». كانت ناسا ملتزمة تمامًا ببرنامج المكوك الفضائي باعتباره مسعاها الرئيسي الجديد، على الرغم من أن مسئوليها كانت لا تزال لديهم خطط لإطلاق مركبة فضائية، وكانوا ينتظرون الوقت الملائم. أما نظراؤهم السوفييت، فكانت لهم مبادرتهم الخاصة، حيث قدَّموا محطات «ساليوت» الفضائية، على الرغم من أن فالنتين جلشكو كان بصدد الإعداد لبناء مكوكه الفضائي. وبينما ظلت الرحلات المأهولة تحظى بالاهتمام الأكبر، كانت المركبة الفضائية غير المأهولة تؤدِّي البعثات الفعلية في الفضاء، وتسهم بنصيبٍ جيد في هذا الحدث المثير.