الفصل الخامس عشر
عزاء بيلبو
القضاء والقدر وحرية الإرادة في الأرض الوسطى
جرانت ستيرلنج
حين كنت طفلًا، كان لديَّ رِجْلُ أرنبٍ كان من المفترض أن تجلب لي حسن الحظ، ولكنها
لم تُجْدِ نفعًا إلى حدٍّ كبيرٍ، وهو ما لا ينبغي أن يكون مفاجئًا؛ لأن من الواضح أنها
لم تجلب للأرنب أيضًا حظًّا طيبًا للغاية. ولكن حتى رِجْل الأرنب الجالبة للحظ بحقٍّ
لن
تكون مُجدية مثل تمتُّع الفرد بحظٍّ سعيدٍ منذ مولده.
ثمة شيء واحد يتفق عليه الجميع بشأن بيلبو؛ ألا وهو أنه محظوظ. ويتكرر ذكر حظه في
«الهوبيت». فلا يشير تولكين إلى الحظ العظيم الذي يُحالفه في دوره بوصفه راويًا فحسب،
بل إن الكثير من الشخصيات تفعل ذلك أيضًا؛ فتجد ثورين يعتقد أن بيلبو «يملك من حسن
الطالع ما يجاوز النصيب المعتاد منه بكثير»، ويقول جاندالف للهوبيت إنه «بدأ في التساؤل
إن كان حظك سيدعمك حتى في أوقات الصعاب.» وحتى بيلبو ذاته يتحدَّث عن ثقته بحظه أكثر
مما اعتاد، مُطلِقًا على نفسه «مُرْتَدي الحظ» في حديثه الحَذِر مع سموج (يُقال إن تلك
هي الطريقة المُثلَى للتحدُّث إلى التنانين).
1
بالإضافة إلى ذلك، تتخذ الكثيرُ من مغامرات بيلبو مَناحِيَ محظوظةً للغاية؛ فيَصِل
إلى ريفيندل أثناء المرحلة المناسبة تمامًا من مراحل القمر لقراءة الحروف القمرية على
الخريطة. وعندما يهرب بيلبو ورفاقه من جوبلن الجبال الضبابية يكتمل القمر مانحًا إياهم
الضوء من أجل الرؤية. كذلك يختار بيلبو مُساعَدة الأقزام على الهرب من سجون ملك الجن
عن
طريق النهر، الذي كان الطريق الوحيد المناسب للمرور من ميركوود إلى إيزجاروث، على الرغم
من أنه لم يكن يعرفه. ويصل عند باب التنين قبيل يوم دورين، وهو اليوم الذي يمكن فيه أن
ينكشف ثقب مفتاح الباب السري، والذي يأتي مرة واحدة كل عدة سنوات. ومرارًا وتكرارًا
تتخذ الأمور المنحى المناسب بما يتيح لأعضاء المجموعة النجاة والاستمرار في البحث عن
نهاية ناجعة. وفي الكثير من هذه الحالات يُحالف الحظُّ مغامراته الباسلة.
(١) ماذا كان في جيبه؟
اللحظة المحورية للقصة بأكملها هي عندما كان بيلبو تائهًا في ظلمات أنفاق الجوبلن
أسفل الجبال الضبابية، و«أخذ يزحف بحثًا عن طريقٍ جيِّدٍ إلى أن وقَعَتْ يَدُه على
ما بدا أنه خاتم صغير من معدن بارد مُلقًى على أرضية النفق. كانت تلك نقطة تحوُّل
في مشواره، ولكنه لم يدرك ذلك».
2 في هذا الحدث، يتبدَّل كل شيء آخر؛ فبدون الخاتم لا يستطيع بيلبو الهرب
من الجوبلن أو العناكب، ولا يستطيع إنقاذ رفاقه من الجن، ولا يستطيع التسلل بهدوء
نحو سموج ليكتشف الرقعة المكشوفة أسفل بطنه. لقد كانت هذه بحقٍّ نقطة تحوُّل في
حياته! بالطبع نكتشف في «سيد الخواتم» أن هذا الخاتم ليس سوى «الخاتم الأوحد»؛ لذا
يُعدُّ هذا الحدث بالغ الأهمية بالقدر نفسه بالنسبة للحبكة الكلية لهذا العمل
العظيم (يمكننا القول بأن اكتشاف الخاتم كان نقطة تحوُّل في حياة تولكين كذلك).
ولكن حتى هنا، في «الهوبيت»، حيث تقتصر وظيفة الخاتم على السماح لبيلبو بأن يختفي
حينما يشاء، كانت الرحلة ستنتهي بكارثة مريعة لولا عثور بيلبو على هذا
الخاتم.
يبدأ الأقزام في احترامه بعد ذلك مباشرة، حين يجدون أنَّ «لديه قَدْرًا من الفطنة
إلى جانب الحظ، وخاتمًا سحريًّا، والأشياء الثلاثة جميعًا تُعدُّ مقتنيات في غاية
النفع».
3 وفيما يبدو أن الحظ ليس الشيء الوحيد المؤثر، وهي نقطة يُشدِّد عليها
جاندالف أيضًا؛ فمع حلول الوقت الذي تُدرَك فيه طبيعةُ الخاتم الحقيقية، قُرْبَ
بداية «سيد الخواتم»، يقول: «لا أستطيع التعبير بأبسط من القول بأن عثور بيلبو على
الخاتم كان «مقصودًا»، و«ليس» من قبل صانعه.»
4 ولو أنه كان «مقصودًا» أن يعثر بيلبو على الخاتم، لو كانت هناك قوة ما
تعمل خلف الكواليس للترتيب لهذه النتيجة؛ إذن فأعظم وقائع «الحظ» في حياة بيلبو
يتبين أنها ليست حظًّا على الإطلاق.
لو كان جاندالف محقًّا، فقد كان مقصودًا أن يجد بيلبو الخاتم الأوحد، ولكن مَن
الذي قصد ورتَّب لهذه النتيجة؟ لقد عَلِمْنَا أنه ليس صانع الخاتم — سورون سيد
الظلام — ولكن إذا لم يكن سورون، فمَن إذن؟ بالتأكيد لم يكن بيلبو ذاته أو جاندالف.
لا يمكن أن يكون سوى شخص يملك القوة التي تُمكِّنه من إحداث تلك المصادفة الظاهرية
باعتبارها جزءًا من مخطط أكبر للأمور.
والإجابة البديهية على هذا السؤال هي: أن اكتشاف بيلبو للخاتم الأوحد هو أحد
تجليات يد الله؛ الذي يُدْعَى إرو إيلوفاتار في أرض تولكين الوسطى. في الواقع يتحدث
تولكين بوضوح عن ذلك في رسائله.
5 لقد كان إرو هو مَنْ قَدَّرَ لبيلبو أن يَجِد الخاتم، وأراد للخاتم
لاحقًا أن ينتقل إلى فرودو من أجل رحلة البحث العظيم في «سيد الخواتم».
ولكننا الآن نواجه مشكلة. لقد رتَّب إرو فيما يبدو لأن ينزلق الخاتم من إصبع
جولوم بينما كان يخنق أحد عفاريت الجوبلن. لقد حدث هذا من أجل السماح لبيلبو
بالعثور على الخاتم، كما كان «مقصودًا» أن يفعل، ولكن هذه الخطة الإلهية يمكن أن
تنجح فقط لو أن إرو يستطيع التنبؤ بأن بيلبو سيكون بالفعل في ذلك النفق في ذلك
اليوم.
إذن فالمشيئة الإلهية تتطلَّب معرفة مسبقة إلهية. فلا بد أن يكون لدى إرو القدرة
على رؤية أحداث المستقبل بشكلٍ موثوقٍ بطريقة تتيح له التلاعب بالحاضر للحصول على
النتائج التي يعتزم إحداثها.
ولكن كيف يكون ذلك ممكنًا؟ لقد كان
وجود بيلبو في ذلك النفق في ذلك اليوم نتيجة لاختيارات فردية عدة قام بها الكثير من
الأشخاص. حتى مع تنحية تلك الاختيارات التي اتخذت منذ وقت طويل جانبًا (مثل موافقة
الأقزام على السماح للص رفيق جاندالف بمرافقتهم من الأساس)، فقد كان على بيلبو
اختيار اتِّباع جاندالف بعيدًا عن مخبأ الجوبلن الأعظم. واضطر جاندالف لتولِّي مهمة
الإنقاذ، واضطر دوري للموافقة على حمل بيلبو على ظهره، واضطر جولوم لأن يختار ليَّ
عُنق «الحقير الصغير البغيض». لقد اضطر ثورين والأقزام الآخرون والجوبلن جميعًا
لاتخاذ قرارات مُعَيَّنة، في أوقات مُعَيَّنة، من أجل وضع بيلبو في هذه
البقعة.
ولكن لو كان إرو يعلم مقدمًا بأن كل هذه الاختيارات سوف تُتَّخذ، لبدا إذن أن
الاختيارات قد أُمليتْ مسبقًا. وهذا يعني أنها لا يمكن أن تكون اختيارات حرة. فلو
أن إرو كان يعلم أن بيلبو سوف يكون في تلك البقعة تحديدًا في ذلك النفق قبل أن
يتوجه حتى في هذا الاتجاه بفترة طويلة (والتي لا بد أنه كان يعرفها؛ إذ إنه قد
رتَّب لأن ينزلق الخاتم من إصبع جولوم قبلها بساعات)، فمن البديهي أن جولوم لم يكن
حرًّا لكي يختار أن يقتل عفريت الجوبلن، ولم يكن بيلبو حرًّا لكي يختار الهرب، ولم
يكن جاندالف حرًّا ليختار إنقاذ أصدقائه بإغراق الجوبلن بالشَّرَر الناريِّ، وما
إلى ذلك.
6
(٢) مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة
يرى الفلاسفة أن الصراع البادي بين معرفة الله (أو إرو) المسبقة بما سيحدث وحرية
المخلوقات في الاختيار؛ يُطلَق عليه «مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة». تتلخص
المشكلة في التالي:
-
(١)
يعرف اللهُ كلَّ شيء. إنه «يعلم» ما سوف يحدث؛ فهو لا يضع مجرد تقييم
لما قد يحدث مثلما قد تفعل أنت أو قد أفعل أنا.
-
(٢)
إذا كان الله يعلم كلَّ شيء؛ فلا بد أنه يعلم ما سوف أفعله غدًا (أو
في أي وقت في المستقبل).
-
(٣)
إذا كان الله يعلم ما سوف أفعله غدًا؛ فإن تصرفاتي إذن محددة سلفًا،
ولا يمكنني أن أتصرَّف بأيِّ شكلٍ آخَرَ سوى ما يتنبأ به الله (فلو
فعلتُ لكان الله مخطئًا. وهو الأمر المستحيل، وفقًا للعبارة
الأولى).
-
(٤)
إذا كانت أفعالي محددة سلفًا؛ فأنا إذن لا أملك إرادة حرة.
-
(٥)
إذا لم تكن لدي إرادة حرة؛ فلا يمكن أن أكون مسئولًا عن أي شيء
أفعله؛ بما أنني لم أستطع أن أفعل العكس.
دخل الفلاسفة في صراع مع هذه المشكلة منذ ظهور فكرة الإله العليم
بكل شيء. ويبدو أن أولئك الذين يؤمنون بالله يُضطرون للتخلِّي عن فكرة أنه يعلم
المستقبل، وإلا تخلَّوا عن فكرة أن لدينا إرادة حرة؛ مما يعني أن عليهم التخلي عن
فكرة المسئولية الأخلاقية.
قام بعض الفلاسفة بتجربة الاستراتيجية الأولى مُحاولين حلَّ هذه المشكلة بإنكار
إحاطة الله بكلِّ شيءٍ؛ فذهب «علماء اللاهوت الصيروي»؛ أمثال: ألفريد نورث وايتهيد
(١٨٦١–١٩٤٧)، وتشارلز هارتشورن (١٨٩٧–٢٠٠٠)، و«علماء التوحيد المنفتح»؛ أمثال:
كلارك بينوك (١٩٣٧–٢٠١٠)، إلى أنه بما أن المستقبل لم يحدث بعدُ، فلا يوجد شيء
بشأنه كي يعرفه الله.
7 فلا يمكن أن تُحيط علمًا بشيء إلا إذا كان حقيقيًّا، ولا توجد حقائق
بشأن المستقبل بما أن المستقبل لا يزال مفتوحًا. غير أن الله يظل عليمًا بكل شيء؛
لأن الإحاطة بكل شيء علمًا تعني أنك تعلم «كل» الحقائق، وفي هذا الإطار لا يستلزم
ذلك معرفةً بالمستقبل؛ وبذلك يظل مفهوم حرية الإرادة مَصونًا.
ليس واضحًا إن كانت مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن تصلح للاهوتيين المعاصرين
الآخرين الذين يواجهون مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة. لا شكَّ أنها تخلق مشكلات
عديدة. على سبيل المثال، يَقْبَل المؤمنون المتدينون وجود معرفة مسبقة حقيقية في
حالة النبوءات، وليس واضحًا كيف لنبوءة حقيقية (بوصفها مضادًّا للتقدير الترجيحي)
أن تتواجد في ظل مخطط التوحيد الانفتاحي. يبدو أيضًا أنها تتضارب مع الصفات التي
يؤمن الكثير من علماء اللاهوت بأن الله يمتلكها؛ مثل: الثبات، وعدم القابلية
للتبدُّل. فمعرفة الله ستتغيَّر حين يصير المستقبل حاضرًا، ولكن صفة الثبات توحي
بأن الله لا يتغيَّر أبدًا.
وأيًّا كان الحال في ذلك السياق اللاهوتي، فلن تصلح هذه الاستراتيجية للاهوتيي
الأرض الوسطى؛ لأن معرفة إرو تمتدُّ للمستقبل. في واحدة من قصصه الأخيرة التي لم
تَحْظَ بالكثير من القراء؛ وهي «بحث في التعبير عن الأفكار»، يقارن تولكين معرفة
إرو المسبقة الحقيقية بالقوى التنبؤية لهؤلاء الذين لا يستطيعون رؤية المستقبل. إن
عقلًا سوى عقل إرو «يمكنه معرفة المستقبل فقط من عقل آخر. آه! ولكن هذا يعني أنه لا
يعرفه إلا من عقل إرو في النهاية، أو من عقلٍ وسيطٍ رأى لدى إرو جزءًا من
هدفه.»
8 وبذلك لم يترك تولكين خيار إنكار المعرفة الإلهية المسبقة
مفتوحًا.
وعلى أي حال، يبدو أن التوحيد الانفتاحي يقوِّض أساس المشيئة الإلهية، وكان
تدخُّل إرو الإلهي هو ما سبَّب لنا هذا الصداع من الأساس. فإذا كان لا يمكن أن يكون
لدى إرو معرفة مسبقة لأن المستقبل مفتوح؛ إذن فلا يمكنه أن يُرتِّب الأمور لبيلبو
كي يجد الخاتم، ولا يمكن لتَكشُّف المخطط الإلهي أن يَسِير بالشكل الذي يبدو أنه
يسير به.
إذن سيكون علينا البحث عن حلٍّ آخَرَ. حاوَلَ بعض الفلاسفة حلَّ المشكلة بإنكار
فكرة عدم امتلاكنا إرادةً حُرَّةً ما دامَتْ أفعالنا مُقدَّرة سلفًا؛ فقد زعموا
أنَّ حرية الإرادة تتوافق مع كون أفعالنا مُقدَّرة سلفًا (وهي نظرية أطلق عليها
ببراعة: «التوافقية»). أنكر آخرون أنَّ غياب حرية الإرادة مِنْ شأنه أن يُحرِّرنا
من المسئولية الأخلاقية، مؤمنين بأنه حتى إذا لم يكن لدينا إرادة حرة فلا يهم؛ لأن
المسئولية الأخلاقية لا تزال ممكنة. وقد دافع فلاسفة مثل ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) عن
مثل هذه الآراء إلى جانب العديد من المفكرين المعاصرين؛ مثل: هاري فرانكفورت،
ودانيال دينيت.
9
تُحِيط شكوكٌ جمَّةٌ بما إذا كان أيٌّ من الاستراتيجيتين يمكن أن تنجح؛ فيذهب
النقاد إلى أنه لا شيء مما يمكن أن يُطلَق عليه بشكل عقلاني حرية الإرادة يمكن أن
ينطبق على كائنات تُقدَّر أفعالها سلفًا بشكلٍ راسخٍ لا تغيير فيه حتى قبل قرون من
مجيئها إلى هذه الحياة.
10 وليس واضحًا أيضًا كيف يمكن أن نكون مسئولين أخلاقيًّا عن أفعال
محدَّدة سلفًا بشكلٍ كاملٍ.
(٣) الحرية والموسيقى
أيًّا كان ما قد يدَّعِيه الفلاسفة بشأن العالم الواقعي، فلن يحاول تولكين حل
مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة بإنكار وجود نوعٍ من حرية الإرادة يحوي خيارات
واقعية للتصرُّف في «الهوبيت»، بل يقول تولكين إنَّ البشر يملكون «هبة الحرية»،
التي تُعَدُّ «فضيلة تُشكِّل حياتهم وسط القوى والفُرَص الكائنة في العالم، بعيدًا
عن «موسيقى الآينور» التي تُعَدُّ بمنزلة القَدَر لكل الأشياء الأخرى».
11
ولكن ما هي تحديدًا «موسيقى الآينور التي تُعَدُّ بمنزلة القَدَر لكلِّ الأشياء
الأخرى»؟ يُشِير تولكين هنا إلى نسخته الأدبية من قصة الخلق، التي يمكن أن نَجِدها
في «أينوليندليه: موسيقى الآينور» في روايته «السليمارية». في هذه القصة يؤدِّي
الآينور (وهم كائناتٌ ملائكيةٌ) سيمفونيةً كونيةً تَحْوي بداخلها قصة العالم
المستقبلية، التي يخلقها إرو فيما بعد. ونتيجةً لهذا، جرى التنبؤ بالأحداث
التاريخية بهذا الانسجام والتوافق الإلهي، بحيث تعمل اختيارات الآينور في كيفية
عزفهم لسيمفونيتهم باعتبارها نوعًا من القَدَر أو المصير للعالم؛ فيما عدا البشر،
الذين يملكون إرادة حرة تتيح لهم التصرف بطريقة غير مُثقَلة بما تُمليه القطعة
الموسيقى.
12
ولا يتم إخبارنا بأن البشر (والهوبيت) لديهم إرادة حرة عمومًا فحسب، بل يتم
إخبارنا أيضًا أن بيلبو بالذات يملك إرادةً حرةً؛ فقد استطاع، على سبيل المثال، أن
يختار البقاء بالمنزل وعدم مرافقة الأقزام مطلقًا. وفي قصة تولكين بعنوان «البحث عن
إربور»، يروي فرودو محادثة خاضَها مع جاندالف بعد سنوات عديدة من عثور بيلبو على
الخاتم.
في هذه المحادثة، يردِّد جاندالف تعليقاته الواردة في «سيد الخواتم» قائلًا: «في
ذلك الزمن البعيد قلتُ لهوبيت ضئيل ويملؤه الخوف: «لقد كان «مقصودًا» أن يعثر بيلبو
على الخاتم، و«ليس» مِنْ قِبَل صانعه؛ ولذلك كان «مقصودًا» أن تكون أنت مَن يحمله.»
وربما أكون قد أضفْتُ: «وكان «مقصودًا» أن أرشدك لكلتا هاتين النقطتين».» فيجيب
فرودو: «صرتُ أفهمك الآن بشكل أفضل قليلًا من ذي قبل يا جاندالف، على الرغم من أنني
أعتقد أن بيلبو، سواء كان «مقصودًا» أم لا، ربما رفض أن يترك الوطن، وكذلك أنا. لم
يكن يُمكِنك أن تُجبِرنا.»
13
إذن، من الواضح، بالنسبة لتولكين، أن إرو يستطيع حقًّا أن يرى المستقبل، وأن يضع
خططًا وفقًا لمعرفته المسبقة، وفي نفس الوقت يملك بيلبو (مثل الأشخاص الآخرين الذين
يُمثِّلون جزءًا من تلك الخطط) حرية اختيار السلوك الذي ينتهجه. وهكذا نعود مجددًا
لمواجهة مشكلة قُدرة إرو على معرفة المستقبل كاملًا، حتى عندما يملك الناس إرادة
حرة. كيف يكون ذلك ممكنًا؟
(٤) حل تولكين البوثي
ثمة بذور لحلٍّ آخَرَ محتملٍ لمشكلة المعرفة الإلهية المسبقة غرسها الفيلسوف
الروماني بوثيوس (حوالي ٤٨٠–٥٢٤م) في عمله الكلاسيكي «عزاء الفلسفة»، الذي ألَّفَه
بينما كان في السجن في انتظار الإعدام بتهمةٍ جائرةٍ.
14 ذهب بوثيوس إلى أنَّ البشر لا يملكون سوى ذرَّة صغيرة من وجودهم، في أي
زمن؛ إذ إن ماضيهم قد ولَّى بالفعل، ومستقبلهم لم يأتِ بعدُ. وفي اعتقاده أنه لا بد
أن ذلك لا ينطبق على الله؛ فالله له الوجود المطلق. لذا فلا بد أن يكون لديه كل
واقعه دفعة واحدة، وليس مُجزَّأً على مدار الزمن.
ولكن لا بد أن ذلك يعني أن الله خارج إطار الزمن، وغير خاضع للتغيير، فنحن البشر
نعيش لسنوات، ويتقدم بنا العمر، ونتغير كل يوم، ولنا ماضٍ وحاضر ومستقبل. أما الله،
بحسب اعتقاد بوثيوس، فليس كأحَدٍ منَّا، والفارق ليس مجرد مسألة طول الزمن؛ فالزمن
لا يسري على الله من الأساس؛ فليس له «ماضٍ وحاضر ومستقبل»، بل فقط «حاضر آنيٌّ»
مخلد لا يتغيَّر.
15
كيف يساعد ادِّعاء بوثيوس بأنَّ الله خارج إطار الزمن في حلِّ مشكلة المعرفة
الإلهية المسبقة؟ هَبْ أنَّ بيلبو يعلم أنَّ بارد الرامي يتناول عشاءه لأنه يشاهده
يفعل ذلك. إن معرفته بأفعال بارد وتصرفاته لا تضع إرادة بارد الحرة محل شكٍّ البتة؛
فالمعرفة بحدث يقع في «الحاضر» لا تثير أي إشكاليات فلسفية بشأن الحرية، ولكن إذا
كان الله خارج إطار الزمن، كما يعتقد بوثيوس، إذن فبإمكان الله أن يرى المستقبل؛
فهو، من منظور الله فقط، ليس في المستقبل، ولكنه يحدث «الآن»؛ ومن ثَمَّ فالله لم
تكن لديه معرفة «مسبقة» بالمعنى الحرفي تمامًا.
تخيَّلْ أنَّ لديك نسخة فيلمية من فيلم بيتر جاكسون «الهوبيت» تُعرَض أمامك.
بإمكانك أن تنظر إلى المشاهد في بداية الفيلم ونهايته في آنٍ واحد. تلك هي الكيفية،
بشكل عام، التي استوعب بها بوثيوس رؤية الله للكون. فلما كان الله خالدًا ويوجد
خارج إطار الزمن؛ فبوسعه أن يرى في لمحةٍ واحدةٍ أبديةً لا زمن لها، أحداثًا تقع
على بعد آلاف السنين، مشاهدًا إياها وكأنها جميعًا تقع في اللحظة نفسها.
لعلَّك تقول إنَّ كل ذلك جيِّدٌ وعظيمٌ بالنسبة لبوثيوس، ولكن ما علاقته بتولكين؟
في الواقع، هناك مؤشرات واضحة على أن هذا كان الحل الذي توصَّل إليه تولكين لمشكلة
المعرفة الإلهية المسبقة، في كلٍّ من عالم اليوم الواقعي وفي الأرض الوسطى الخيالية
في «الهوبيت».
ثمة إشارات إلى أنَّ تولكين قد تبنَّى الحلَّ البوثيَّ في مواضع كثيرة مختلفة.
لنَعُدْ، على سبيل المثال، إلى موسيقى الآينور. إن هذه القطعة، مثلما يُقال لنا،
تعزف في ردهات لا زمنية. حين يختار بعضٌ من الآينور (من بينهم الفالار، ملائكة
الطبقة العليا؛ مثل إلبيريث التي يُغَنِّي لها الجن) دخولَ العالم الجديد الذي
خَلَقه إرو يُقال إنهم «دخلوا في بداية الزمن».
16
لعلَّ المناقشة الأكثر مباشرة لهذا الموضع توجد في قصة «بحث في التعبير عن
الأفكار». تركز هذه القصة على مسألة كيفية نقل الأفكار في الأرض الوسطى؛ حيث يستخدم
تولكين أحد سادة المعرفة والعلم من الجن؛ هو بنجولودا من جوندولين، باعتباره المؤلف
المفترض. بحسب سيد المعرفة، «دخل الفالار إلى الكون المادي وزمن حرية الإرادة، وهم
الآن داخل الزمن، طالما أنه مستمر، ولا يستطيعون أن يدركوا شيئًا خارج نطاق الزمن
إلا عن طريق ذاكرة وجودهم قبل بدايته؛ فبإمكانهم أن يسترجعوا الأنشودة والرؤية. وهم
بالطبع منفتحون على إرو، ولكنهم لا يستطيعون أن «يروا» أي جزء من عقله كلما
شاءوا.»
17
لاحِظْ أنه من الواضح أن هناك أشياء خارج إطار الزمن، وأن الكائنات — مثل الفالار
الموجودين داخل الزمن — لا يستطيعون رؤية تلك الأشياء. وعقل إرو، بشكلٍ ضمنيٍّ،
واحدٌ من تلك الأشياء.
في موضعٍ لاحِقٍ من تلك القصة، يعرض تولكين التعليق التالي عن النقطة التي يثيرها
سيد المعرفة بشأن قدرة الفالار على معرفة المستقبل:
يستفيض بنجولودا هنا … في هذه المسألة المتعلِّقة ﺑ «الإدراك المتأخر»؛
فيؤكد أنه ما مِن عقلٍ يعلم ما لا يوجد بداخله … فلا يوجد جزء من
«المستقبل» هناك؛ لأن العقل لا يستطيع أن يراه ولا سبق له أن رآه؛ بمعنى أن
أيَّ عقل كائن داخل الزمن. ومثل هذا العقل لا يمكنه معرفة شيء عن المستقبل
إلا من خلال عقل آخر كان قد رآه، ولكن هذا يعني المعرفة من إرو فقط في
النهاية، أو من عقلٍ وسيطٍ يكون قد رأى لدى إرو جزءًا من هدفه (مثل الآينور
الذين هم الفالار الآن في الكون المادي). وهكذا لا يمكن لمخلوقٍ مُجسَّد أن
يعرف شيئًا عن المستقبل إلا بتوجيه مستمدٍّ من الفالار، أو عن طريق وحيٍ
قادمٍ مباشرةً من إرو.
18
إنَّ أسلوب تولكين
المباشر والسلس في الكتابة، المُستخدَم في رواياته، نادرًا ما يتجلَّى في كتاباته
الفلسفية، وليست حالتنا هذه استثناء من القاعدة. لكن بينما قد يُلتمَس العذر للقارئ
لاعتقاده بأن تفاصيل هذه الفقرة غامضة إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أنَّ هذه الفقرة تبدو
واضحةً بشكلٍ كبيرٍ على أقل تقدير؛ فقد كان تولكين يرى أنه ما من عقل يوجد داخل
الزمن يستطيع أن يرى المستقبل. وهذا يعني أن الوسيلة الوحيدة لمعرفة المستقبل هي
التعرُّف عليه من عقلٍ رآه (ومن ثم لا بد أن يكون خارج الزمن). وهذا يعني أن كلَّ
المعرفة الخاصة بالمستقبل تأتي في النهاية من إرو.
ربما تكون العقول الكائنة داخل الزمن (سواء عقول الفالار الأقوياء، أو الهوبيت
العاديين؛ مثل: بيلبو، أو المثقفين المحليين) قادرة على التكهن
بالمستقبل — بشكلٍ دقيقٍ بدرجةٍ ما —
باستقرائه من أدلتها واستنتاجاتها، ولكن تلك ليست معرفة مسبقة إطلاقًا. وحده عقل
إرو اللازمني هو الذي يستطيع رؤية المستقبل مباشرة. وقدرة إرو على رؤية المستقبل
بينما يحدث بشكل لا زمني قد تمنحنا وسيلة للهروب من مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة.
ولمَّا كان إرو يرى كل الأشياء في حاضر لا زمني، استطاع الكشف عن خطته الإلهية في
حياة سكان الأرض الوسطى.
هل يحل النهج البوثي المشكلة حقًّا؟ تلك مسألة جدلية مثل كل شيء آخر في الفلسفة.
فالبعض يتساءل إن كانت الفكرةُ منطقيةً أو متوافقةً مع الصفات الأخرى التي يُعتقَد
أن الله يحوزها. ويعتقد آخرون أن المعرفة اللازمنية تثير مشكلات مماثلة لمشكلة
المعرفة المسبقة؛ إذ تبدو «ثابتة» بالقدر نفسه،
19 ولكن بعض النقاد يُقرُّون بأنه حتى مفهوم اللازمنية غريب للغاية عن
أسلوب تفكيرنا العادي، لدرجة أنَّ من الصعب التأكُّدَ من أن مثل هذه الاعتراضات لا
يمكن حلُّها.
20 وعلى أي حال، يبدو واضحًا أن تولكين كان يظن أن الحل البوثي قد نجح،
وأن هذا قد انطبق على الأرض الوسطى.
وهكذا نعود لنقطة البداية. إن «مغامرات ومهارب» بيلبو، كما نرى، لم تحدُث «بمحض
الحظ» من أجل «مصلحة بيلبو وحده»، ولكنها كانت مُرتَّبة مِنْ قِبَل إرو من أجل
مصلحة الجميع. إن النبوءات الحقيقية تأتي من عقولٍ ألْهَمَها هذا الإله اللازمني
الذي يُحيط علمًا بما هو قادم، ولكن لعل بيلبو محظوظ حقًّا برغم كل شيء؛ محظوظ
باختياره ليلعب مثل هذا الدور العظيم في خطة إلهية، فيُقال لنا إنه «ظلَّ في غاية
السعادة حتى نهاية حياته، التي كانت طويلة بشكلٍ غير عاديٍّ.»
21 وما من رِجْلِ أرنبٍ يُمكِنها أن تمنَح أي شخص حظًّا أكبر من
ذلك.
هوامش