الذهاب والعودة مجددًا
جو كراوس
قرأت رواية «الهوبيت» مؤخرًا بصوت مرتفع لابنيَّ، اللذين كانا آنذاك في السادسة والثامنة من العمر، إلا أنني لا أعلم إن كنا قد سمعنا نفس الكتاب. صحيح أن ثلاثتنا قد شققنا طريقنا معًا من الشاير، عبورًا بميركوود وصولًا إلى الجبل الوحيد، إلا أن تجربتي كانت مختلفة عن تجربتهما. لقد كنت أقرأ الكتاب للمرة الثامنة أو نحو ذلك، ولكنه كان جديدًا بالنسبة لهما.
حين كانا بصدد التعرُّف على أنفاق الهوبيت، كنت أنا أعلم أن بيلبو سوف يغادر من أجل مغامرته من فوره. وحين كانا يتدربان على قراءة قائمة الأسماء للأقزام الثلاثة عشر، كنت أنا أعرف أن ثورين وفيلي وكيلي لن ينجوا. وحين تهللا لعودة بيلبو في النهاية، كنت أعلم أنها مجرد نهاية مؤقتة؛ فقد كنت أعرف من «سيد الخواتم» أن خاتم بيلبو «الثمين» كان يمثل شرًّا في غاية القوة لدرجة أنه سيستنزفه، تاركًا إياه بجروح بالغة حتى إنه لم يستطع أن يجد المداواة إلا بالتراجع إلى ريفيندل، ثم بمغادرة الأرض الوسطى في النهاية.
بينما كانا يخوضان في قصة كنت قد أكدت لهم أنها تستحق الإصغاء، كنت أنا أعود لجزء سابق من أجل قصة أكبر، فصل صغير في التاريخ الطويل لأرض تولكين الوسطى. لقد أردت مشاركة الكتاب معهما؛ لأنني تمنيت أن يستمتعا به. ولم يكن هناك وسيلة أستطيع أن أخبرهما بها كيف أن الكتاب يبدو مختلفًا لشخص يعرف أنه في موضع آخر في الملحمة يعذب مورجوث أبناء هورين، أو يذبح الملك العراف أهل أرنور في بيوتهم، أو أن تدمير الخاتم الأوحد يحمل معه هلاك الجن الأخير.
بعبارة أخرى، تسير «الهوبيت» بطريقتين مختلفتين ومتضاربتين اعتمادًا على كمِّ الخبرة التي تضفيها على قراءتك لها؛ فهي تشكِّل أفضل مقدمة بالنسبة لشخص لا يعرف شيئًا عن عالم تولكين؛ إذ إنها تفترض عدم وجود إلمام أو معرفة بالأعمال الأخرى، ولما يظهر بها من أثر لصيغة مغامرة من مغامرات الجنِّيَات. أما للقراء الذين يعرفون تولكين، فهي تُقَدِّم دعوة مضادة. وعند هذه النقطة، يكمن التحدِّي في استعادة شعور البهجة البسيطة المرتبط بما يمكن أن يبدو كقصة للأطفال، وتوفيقها مع رواية «سيد الخواتم» الأكثر كآبة وقتامة وحكايات العصور الأولى للأرض الوسطى. بمعنى أنها تدعو القراء المُحنَّكين لمحاولة العودة إلى حالة من البراءة النسبية. إنها تناشدنا العودة إلى البداية بوعيٍ كاملٍ بالنهاية.
ولكن اقرأ بما يتوافق مع ما نعرفه عن بيلبو — من أن الخاتم يبدأ في استنزافه، وأن «واحدًا من الباجنز» يصير هدفًا لمطاردةٍ مُنَظَّمة في «سيد الخواتم» — وستَجِد الفاصل أكثر قتامة ومدعاة للتشاؤم، فيبدو أنه يتساءل إن كان بيلبو قد فاز بأي شيء حقًّا في النهاية. فمغامراته تُكَلِّفه براءته، وربما قادَتْه إلى حياة أكثر كآبة واضطرابًا من تلك التي كان سيعيشها لو كان قد أغلق بابه أمام أولئك الأقزام بينما كانت الفرصة لا تزال متاحة له.
إذن فوَضْع أحد الأسئلة التي تَطْرَحها «الهوبيت» في سياقٍ فلسفيٍّ هو الطريق لفهم البراءة في ضوء الخبرة المكتسبة لاحقًا. إنَّ العنوان الفرعي الذي يحمله الكتاب هو «ذهابًا وعودة»، ولكن الأمر يستحق أن نتساءل إن كان بيلبو — على الأقل ذلك الشخص الذي كان في غاية القلق من ألَّا يجد أطباقًا نظيفة في صباح ذلك التجمع غير المتوقع — يعود حقًّا من مغامراته. إن بيلبو يفعل الصواب من منظور الفطرة السليمة.
أما من منظور نفسه، فنجد أن قرار بيلبو بخوض المجازفة يُكلِّفه الكثير من السعادة التي كان يعرفها؛ فهو يتخذ اختيارًا في الصباح بالانطلاق مع الأقزام، وعلى كل الخير اللاحق الذي يجلبه اختياره لجيرانه الأبرياء والمكروهين أحيانًا، فإنه يجلب عليه كارثة شخصية تكفي لأن تُحَتِّم علينا التساؤل عما إذا كانت قصصه وكنزه يكفيان كتعويض. بعبارة أخرى، إن بيلبو يقايض على براءته مقابل كل خبراته اللاحقة، ولكنها صفقة أحادية الاتجاه؛ فليس بوسعه معرفة البنود التي يوافق عليها قبل أن يتمِّم المبادلة، ولا يمكنه الرجوع فيها طالما قد بدأ.
(١) الذهاب ولكن دون عودة مطلقة
كان شعراء الرومانسية الإنجليز في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر يعتقدون أننا لا يمكننا أن نفهم بشكل صحيح ما عاصرناه من خبرات إلى أن نُمعِن التفكير فيه في ضوء البراءة التي كلَّفنا إياها: فذهب ويليام وردزوورث (١٧٧٠–١٨٥٠) إلى أن الشعر الحقيقي هو نتاج «المشاعر المسترجعة وسط الهدوء.» مثلما كتب في تمهيد «القصائد الغنائية»؛ التي تُعَدُّ بشكلٍ أساسيٍّ أيقونة الحركة الرومانسية؛ إذ كانت مصدر العديد من «أعظم الأعمال الناجحة» في هذا العصر؛ فالشعر ليس تجربة بقدر ما هو استرجاع لتجربة. يمكن أن يكون هذا الاسترجاع تجديديًّا — إذ يمكن أن يُعِيدنا إلى التجربة الأصلية — أو قد يؤدي بنا إلى شعور بابتعادنا عن ماهيتنا التي كنا عليها.
قد يستغرق الأمر قليلًا من الوقت لكشف غموض كل هذا، ولكن الخلاصة أن وردزوورث ومعاصريه من شعراء الرومانسية كانوا مهتمين بمدى ما طرأ عليهم من تغيير باعتباره نتيجة لما مروا به. بعضٌ من أشعارهم أخذهم إلى الماضي؛ مما أتاح لهم الشعور مجددًا بما كانوا يشعرون به في شبابهم، غير أن الكثير منها كانت تقيس حجم الخسارة التي شعروا بها خلال تحوُّلهم مما كانوا عليه من صبًا إلى ما صاروا عليه من رجولة. وفي أغلب الأحيان كان الحزن يتفوَّق على الاحتفاء، وفشلوا في تحقيق أمنية العودة إلى حالة من البراءة النسبية. بعبارة أخرى، كانوا غالبًا ما يتساءلون إذا ما كان النضج ليس نوعًا من الجرح لم يستطيعوا أن يبرءوا منه.
تأمَّلْ، على سبيل المثال، «أبيات كُتِبَتْ في مطلع الربيع»، إحدى قصائد مجلد «قصائد غنائية» التي يتذكَّر فيها وردزوورث جدولًا صغيرًا يقع خارج قرية ألفورد. من خلال التأمل في مدى التغير الذي حدث للمكان خلال العقود منذ كان يعيش هناك في طفولته، قارن الشاعر تجربته مع الطبيعة بالأشياء التي تعلَّمَها:
بمعنى أن البهجة التي كان يستشعرها على ضفاف الجدول كانت شيئًا نقيًّا، شيئًا جعلته الطبيعة جليًّا واضحًا أمامه بينما كان طفلًا. في ذات الوقت، أدرك أنه قد سمح لنفسه خلال مجرى حياته بنسيان يقين الطفولة. وفي سياق تحوُّله إلى رجل ناضج، صنع من نفسه شيئًا مختلفًا، شيئًا أثار ذهوله لكونه أقل مما كان عليه. لقد دفع ثمنًا للنضج والكبر، وبينما قد يكون قد فات الأوان للقيام بأي شيء حيال ذلك، إلا أنه على الأقل قد كتب القصيدة باعتبارها وسيلة لاستعادة بعضٍ مما فقده.
إذا كان مثل هذا الشعر الرومانسي يبدو بعيدًا بعض الشيء عن الشاير، فيجدر بنا أن نشير إلى أن العديد من النقاد يعتبرون تولكين نفسه أقرب للرومانسية. فعلى غرار وردزوورث، يميل تولكين إلى فكرة أننا نكتشف ذواتنا الحقيقية وسط الطبيعة وليس وسط الآخرين؛ وتتجلَّى هذه الفكرة على وجه الخصوص في الطريقة التي يعثر بها بيلبو على جانبه التوكي المغامر الكامن بداخله فقط بعد أن يلج إلى البرية.
كذلك مثل الرومانسيين، يملك تولكين اهتمامًا خاصًّا بالثقافة «الشعبية»؛ أي الأغنيات وحكايات الجنِّيَّات والأساطير التي تحتفظ بها المجتمعات غير المتعلِّمة، بل إنه يزعم في بعض المناسبات أنه قد بدأ مشروع الأرض الوسطى برمته من أجل خلق عالمٍ يستطيع أن يقدِّم فيه لغاته المتعددة المبتكرة، ويصنع ثقافة شعبية خيالية يمكنها أن تعمل بمثابة الوطن للمخلوقات التي حلم بها. إذن فمشروعه ككل، بطُرقٍ ما، يُعَدُّ محاولة لاسترداد شعور مفقود، أكثر براءة، بالقدرة على الإعجاز.
حتى بيلبو ذاته يثبت أنه شخصية رومانسية إلى حدٍّ ما؛ فعلى مدار أحداث «الهوبيت»، بينما يجازف ويغامر من مكان لآخر، يُكِنُّ بداخله تقديرًا للروائع العظيمة التي يشاهدها، ويجد وسيلة للاستماع إلى صوته الداخلي. وقرب النهاية، حين يدرك أن طمع ثورين لم يُعَرِّضه هو فقط للخطر، بل عرَّضَ شبكة الجن والبشر والأقزام بأكملها للخطر، يعقد العزم على التحرك في الوقت الذي يُصاب فيه الآخرون بالشلل، فيسأل نفسه، وليس الآخرين، عن الشيء الصائب الذي يجب القيام به، ثم يفعله.
على الرغم من أن ثورين يقصد توجيه تلك الكلمات في صورة مجاملة واضحة، فإنها تعكس تناقضًا غريبًا؛ فالإشارة إلى بيلبو بأنه طفل إنما يؤكِّد أنه «غير» محنك، أي شخص لا يدرك القوى التي تلاعَب بها ليُحقِّق نجاحًا مبهجًا، ربما تحقق عَرضًا. وفي الإيحاء بأن بيلبو لا ينبغي أن يُقدِّر الذهب المكتنز، يعتذر ثورين عن توريط بيلبو من البداية. فقد كان الوعد بإعطائه نصيبًا من المكاسب هو الوسيلة التي استخدمها ثورين في الأساس لإقناع الهوبيت بالانضمام إلى الرفقة.
إذن في النهاية، وبعد أن فات الأوان للقيام بأي شيء سوى المدح والثناء، يرى ثورين في بيلبو استيعابًا للمباهج البسيطة الطفولية التي كبَتها بداخله. وحتى على إدراكه بالانتصار العظيم الذي حقَّقَه لعشيرته من الأقزام، يرى ثورين في بيلبو فضائل تجعله يتساءل إن كان من الأفضل لو لم يكن قد بدأ المغامرة من الأساس.
ومن خلال رؤيتها في هذا الضوء، تعمل الصفحات الاستهلالية من رواية «رفقة الخاتم»، بشكل جزئي، على إظهار مدى الشر الكامن بالخاتم. حين نلتقي بيلبو مجددًا، نجده قد سئم العالم الذي طالما أسعده كل السعادة؛ فتبدو الشاير صغيرة، ويبدو أصدقاؤه القدامى تافهين، واستقرَّ على أن لا شيء سيجلب له السعادة سوى مغامرة أخرى. بعبارة أخرى، لقد صار يُقَدِّر ما حدث له أكثر من تقديره لخبرات عالمه الحالي وتجاربه.
الأمر الأكثر رهبة ما يجده في نفسه من عجز عن التخلِّي عن الخاتم، فيتشبَّث به مفضلًا ذلك الشيء الذهبي على الحب الذي يشعر به تجاه جاندالف وفرودو، وفقط حين يدعوه عن غير عمد «خاتمي الثمين» — تلك الكلمة التي يضطر جاندالف لتذكيره بأنها كلمة جولوم في الأساس — يشعر بمدى انفصاله وابتعاده عن نفسه.
(٢) بعض من يهيمون على وجوههم يضيعون، أو النضج أمر صعب
كان ويليام بليك (١٧٥٧–١٨٢٧)، أحد الشعراء المعاصرين لوردزوورث، أقرب من أيٍّ من الشعراء الرومانسيين الآخرين لوصف فلسفة الخبرة؛ فكان يرى أن هناك حالتين أساسيتين: براءة الطفل وخبرة الكبير. وعلى الرغم من أنَّ تلك المقارنة قد تبدو عادية، فكر في أنها تربط بين نقيضين آخرين أكثر شيوعًا: الطفولة بالرشد، والبراءة بالإثم.
لم يكن بليك يقول إنَّ جميع البالغين آثمون — وبوصفي أبًا، أستطيع أن أؤكد لك أن ليس جميع الأطفال أبرياء — ولكنه دمج الاثنين من أجل إبراز الثمن الذي ندفعه مقابل خبراتنا وتجاربنا. ليس بالضرورة أن يكون الأمر أننا نزداد سوءًا كلما نضجنا وتقدَّم بنا العمر، ولكن النضج يُكلِّفنا حالة منحتنا علاقة أكثر طبيعية بالعالم؛ أي إن البراءة لها النوع الخاص بها من الحكمة، ولا يمكن أن نعي قوتها إلى أن يفوت الأوان؛ إلى أن نمتلك ما يكفي من الخبرة للنظر إلى حالة أصبحت مغلقة أمامنا.
لا يكمن الفارق الأهم بين ديوانَيْ «أغاني البراءة» و«أغاني الخبرة» في موضوعهما، ولكن في منظورهما؛ فالديوان الأول يتألَّف من قصائد عن طفل يكتشف العالم ويحاول تسميته. أما الديوان الثاني فيتألَّف من تأملات فيلسوف؛ تلك التساؤلات المزعجة التي خطَرَتْ للشاعر بينما كان ينضج ويرى المزيد من العالم.
نشر بليك الديوانين معًا في النهاية باعتبارهما مجموعة واحدة. وجزء من خبرة قراءة القصائد يكمن في اكتساب إحساس بالكيفية التي تتناقض بها كل مجموعة مع الأخرى وتُكْمِلها في نفس الوقت؛ فديوان «أغاني البراءة» يحوي بداخله بساطة جميلة، إلا أنه لا يكتسب قُوَّته الأهم والأوقع إلا في ضوء المنظور الأكثر كآبة لديوان «أغاني الخبرة». وتحوي القصائدُ الأولى حكمةً خالدةً لا تتجلَّى إلا بالخبرة والتجربة؛ وهي أن هناك بهجة في العالم من حولنا، بهجة نفقدها بوصفها ثمنًا لاستكشاف ما يكمن وراء ما يمكننا اكتشافه بشكلٍ مباشرٍ.
قرر بليك التوقف عن اختراع لغاته الخاصة، ولكن مجال مشروعه — ناهيك عن معانيه الدينية الضمنية الإضافية — جعله يبدو لبعض القراء مصدرَ إلهامٍ لمشروع تولكين الذي أفنى فيه عمره. لا أقول إن قصيدة «النمر» كانت النموذج الملهم لسموج، ولكن هناك عناصر كثيرة مشتركة بينهما؛ فكلاهما مخلوق يهدِّد الأبرياء، ووجوده في حد ذاته يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن للشر أن يتواجد جنبًا إلى جنب مع الخير؟ أيُّ عينٍ أو يدٍ خالدة أمكنها أن تمنحنا خيرات الفردوس (أو الشاير) ونِعَمَه، وفظائع الحرب العالمية الثانية (أو سورون)؟
وتكمن معضلة تولكين في وصف الظهور الأول لإلروند في السرد؛ فمن مؤلفات تولكين الأخرى، نعلم أن إلروند يجاوز الستمائة وخمسين عامًا، وأن جدته الكبرى كانت مليان، وهي كائنٌ إلهيٌّ من جنس المايار، وأن أباه، إرينديل، هو ما نعرفه الآن بكوكب الزهرة. ولا يمكننا أن نُقدِّر ماهية هذا الكائن الاستثنائي دون اكتساب حسٍّ بمجال «حكايات العصور الأولى للأرض الوسطى»، ولكن لا يمكننا أن ندخل «حكايات العصور الأولى» دون أن نختبر سحر «الهوبيت» أولًا، وننمي الاهتمام اللازم لمواصلة القراءة.
بعبارة أخرى، لا يمكننا أن نتصور إلروند في أول لقاء لنا به، غير أنه بمجرد أن تتوافر لدينا الخبرة اللازمة لاكتساب إحساس بأهميته لقصة الأرض الوسطى الأوسع نطاقًا، نكون قد فقدنا المنظور البريء — بريء في إطار معنى بليك للكلمة — الذي خاطبه الوصف؛ فلا يمكننا أن «نذهب» و«نعود» في نفس الوقت.
(٣) الكفاح من أجل الحداثة مرارًا ومرارًا
لم يكن لدى إيمرسون صبرٌ لتحمُّل الحزن الذي أحيانًا ما كان يحل بالشعراء الرومانسيين الإنجليز؛ فدعا الناس لنسيان ما كانوا يعتقدون أنهم يعرفونه، والوثوق بقدرة الخبرة الجديدة على تشكيلهم وتحويلهم لشيء جديد؛ شيء ذي قيمة على المستوى الفني والفكري للحرية السياسية التي فازت بها الثورة الأمريكية قبل جيلين.
في إطار البراءة النسبية لسنواته الأولى باعتباره الفيلسوف والشاعر الأمريكي الأبرز، غالبًا ما كان يبدو إيمرسون على استعداد للمجازفة بكل شيء عرَفه في تجربة فكرية تلو الأخرى. كانت مقالاته معروفة بصعوبتها، إلا أن معظمها يتبع نهجًا واحدًا؛ ألا وهو معالجة موضوع معاصر بعينه ثم التدرج وصولًا إلى فكرته المعتادة. من السهل أن تتوه في جُمَلٍ فرديَّةٍ من أعمال إيمرسون، ولكنها جميعًا تشير إلى نفس الادعاء المُلِحِّ، وهو أن النفس قابعة في منتصف الكون، وأن لدينا القدرة على اكتشاف نفس جديدة فقط لو وهبنا أنفسنا الحرية.
يحاول إيمرسون، على أحد المستويات على الأقل، أن يصف معنًى للبراءة يختلف عن معنى بليك؛ فبدلًا من إدراكها باعتبارها شيئًا نفقده بالضرورة مع تقدُّمنا في العمر، يراها شيئًا يمكننا الاجتهاد من أجل امتلاكه حتى ونحن كبار راشدون. ومع ذلك، فنحن ندفع ثمنًا لهذا الامتلاك. وهذا الثمن هو اليقين الذي تمنحه الخبرة لغالبيتنا؛ فنحن نرغم أنفسنا، في بعد واحد على الأقل، على أن نصير أبرياء من جديد؛ فننحي جانبًا، طواعيةً، ما نظن أننا نعرفه من أجل شيء جديد بشكلٍ مثيرٍ. إن الصورة رائعة ومزعجة؛ فهي لا تحلل نفسها بسهولة إلى ادعاء واضح، إلا أنها تظل وصفًا مشهورًا، وكثيرًا ما يُستشهَد به. إذا كنت تريد الأصالة والجدة؛ فها هي.
إن العين الشفافة بوصفها صورةً تحرريةً لها معانٍ ضمنية بالنسبة لبيلبو، بالطبع؛ إذ إن ذلك هو ما يصير عليه بدرجة ما كلما ارتدى الخاتم في إصبعه، وبمجرد أن يكون شخصًا يستطيع رؤية الآخرين فيما لا يمكن رؤيته هو شخصيًّا، يكتشف أجزاء من العالم لم يكن قد رآها مِنْ قَبْل قط. ففي أول مرة يرتدي فيها الخاتم، يجد أن لديه الفرصة لطعن جولوم في ظهره، ولكن في واحدة من لحظات الرحمة والعفو العظيمة في أعمال تولكين، يقاوم هذا الإغراء.
في هذا الإطار، يكون من المزعج أن نفكر في أن صورة العين الشفافة، في «سيد الخواتم»، لا تخص هوبيت، بل تخص سورون نفسه؛ فتلك العين البشعة التي لا تطرف، والعقل المبتكر الذي استخدم الخاتم لخلق نَفْسٍ جديدةٍ أكثر قوة وقادرة على أن تحكم الأرض الوسطى بأسرها، هي كائن مجسد شرير، ولكنها أيضًا رمز للخبرة، لليقين الذي يتأتى من دهور من التخطيط للوصول إلى هدف واحد.
إن سورون يتباهى بقدرته على رؤية الجميع في جميع الأوقات، وهذا يثير الرعب على مستويين؛ الأول: أنه يزعم معرفته بما تفعل. الثاني: أنه يزعم معرفة مَن أنت. ومعرفته بك، أو قدرته على تخمين متى تكون أكثر عرضة للتأثر بإيحاء الخاتم أو إغراء القوة، إنما تهدِّد بوضعك في إطار معين. إن سورون يعتمد على قدرته على إذكاء رغبتك في الثروة والقوة والسيطرة، وأسهل الأشخاص الذين يخضعون لسيطرة وإيعاز خاتمه هم أولئك الذين يشاركونه رغباته. ويستغرق الأمر بالنسبة للآخرين فترة أطول، ولكن السم يكون أكثر خبثًا؛ فهو يلتهم إحساس النفس بالبراءة لدى مَن هم على شاكلة فرودو أو بيلبو، مستبدلًا بتلك الفضيلة الطفولية رغبةَ سورون. وكما نرى بعد ذلك، فإن الفاجعة الكبرى التي يتحمَّلها فرودو هي الفاجعة الداخلية التي تضع براءته في مواجهة مع إصرار الخاتم على إيقاظ المستبدِّ الذي بداخله.
في «الهوبيت»، لا يعي بيلبو تمامًا القدرةَ الكامنةَ داخل الخاتم على الشر، غير أننا حين نعاود قراءة الكتاب بعد قراءة «سيد الخواتم»، يكون من الصعب ألا نراها. إن بيلبو الذي يستدرج العناكب بعيدًا هو شخص كوميدي ومرح، ولكن مع اكتساب مزيد من الخبرة ﺑ «تولكين» — مع معرفة أن بيلبو سوف يشعر يومًا ما بالارتباك والانزعاج بينما يدخل العالم المعتم — من الصعب ألا نراه كما قد نرى ماري كوري؛ فعلى كل جسارته، وعلى كل قدرتها الرائعة على الابتكار، إلا أنهما يعبثان بشيءٍ مشعٍّ؛ شيء يكلفهما ثمنًا أعمق وأكثر كآبة مما يمكن أن تتحمَّله براءتهما.
(٤) العودة مجددًا إلى البداية
إن بيلبو الذي يقضي أيامه في الكتابة في منزل إلروند يغلبه الحنين، حتى إنه — وللمفارقة — لا يستطيع أن يرى، ولو بطريقة واحدة حاسمة، أنه لم يَعُدْ إلى الوطن الذي غادَرَه. لقد غيَّرَتْه خبراته، التي أبرزها عبء حمل الخاتم في العقود التي تلَتْ مغامراته مع الأقزام. لقد جرَّدَتْه من الحكمة الطفولية البريئة التي أدركها فيه ثورين، البراءة التي جعلته، على الأقل خلال فترة أحداث «الهوبيت»، يتخيَّل أنه قد استطاع العودة.
بعد أن فرغت من قراءة «الهوبيت» مع وَلَدَيَّ مباشرة، بدا ابني الأكبر ريتشي يطالب بأن ننتقل إلى «سيد الخواتم». كنت سعيدًا بخوض المحاولة، وتمكنَّا من اجتياز الطريق حتى موريا دون أن نتجاوز مشهد سقوط جاندالف ولقاء الرفقة بجالادريل، ولكن عند هذه النقطة قال ماكس — ابني الأصغر — إنه قد اكتفى، ولما ألححنا عليه لمعرفة الأسباب، قدَّم أسبابًا متباينة، مِنْ قَبِيل أن القصة كانت مملة، وأنه فَقَدَ أثر الشخصيات المختلفة، وأنه خائف ممَّا قد يَعْنِيه موت جاندالف، وأنه أحس أنه لا يزال هناك المزيد من الأشياء المخيفة قادمة. حاولت أنا وريتشي أن نبقي على شغفه مُستدرجين إياه عَبْرَ فصل أو اثنين، إلا أنه رفض الاستمرار معنا في الرحلة في النهاية.
أحبَّ الاعتقاد بأن ماكس قد أدرك جزءًا مما تخبرنا به رواية «الهوبيت». ثمة مكافآت لترك المرء وطنه ثم العودة إليه، ولكن هناك ثمنًا باهظًا لذلك أيضًا، وأحب الاعتقاد بأن ماكس قد أحس، على أثر حزنه لموت ثورين وفيلي وكيلي في نهاية الجزء، أن قراءة «سيد الخواتم» سوف تقتضي منه مواجهة المزيد من الموتى، والمزيد من الهلع، وشعورًا أكبر بالشر العميق الذي يُمَثِّله الخاتم.
لا أدَّعي أن طفلي ذا الستة أعوام كان لديه الوعي لإدراك واحدة من أعقد رؤى تولكين، بل أقصد أن تولكين يبدو، ولو بشكل جزئي، أنه قد استوعب واحدة من الحقائق التي يعلمها معظمنا عندما كنَّا في سن السادسة، ثم دخلَتْ طيَّ النسيان بشكلٍ ما. إن منازلنا الأولى تُحقِّق لنا الرضا والإشباع لأنها تحافظ علينا بكل مشاعرنا وأحاسيسنا الطفولية البريئة. وحين نغادرها نخاطر ببراءتنا؛ فنحن نقايض شيئًا لا يمكننا استعادته قط بعدم اليقين.