«الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد»
مايكل سي برانيجان
كُنْ تجسيدًا تامًّا لكلِّ ما ليس له نهاية، وتجوَّلْ حيث لا يوجد درب. تشبَّثْ بكل ما وهبَتْه لك السماءُ، ولكن لا تظن أنك تملك شيئًا. «كُنْ خاويًا، هذا كل ما في الأمر.»
على مدار رحلته، ثمة صوت بداخل بيلبو يَتُوق للوطن، ولسلوى وأمان المألوف. يكتشف بيلبو أيضًا أن المرء يَجِد الوطنَ عندما يغادره. وبالمثل، يذكِّرنا الحكماء الطاويون أيضًا أننا نجد مستقرنا الحقيقي في الرحلة نفسها. أَلَا تتردَّد في رسالة «سيد الخواتم» فكرةُ أن «ليس كل هؤلاء الذين يتنقلون ويجولون يضلون الطريق»؟!
تَجِد نزعاتُ الحنينِ المتضاربةُ للأمان والمغامرة صدًى واضحًا لدى القراء الغربيين ومرتادي دور السينما. والصراع من أجل التوفيق بين مِثْل هذه النزعات الازدواجية بداخلنا ساعَدَ على إطلاق وفرة من الصناعات المرتبطة بعلم النفس العام والمساعدة الذاتية. ولكن قدماء الطاويين الصينيين القدماء سبقونا بألفَيْ عام في هذه النزعة. ووفقًا لهؤلاء الفلاسفة الشرقيين الأوائل، فإن مِثْل هذه النزعات المتباينة لا تحتاج للتوفيق بينها؛ فهي حتى غير متناقضة.
(١) رفقة الطاو
الطاو هو المبدأ الأساسي للواقع، وأصل الكون، وطريقةُ الطبيعةِ والحياةِ والموتِ المستعصيةُ على الوصف التي يخفق نبضها على مدى الوجود. فالتغيير والاستقرار يتعايشان معًا على امتداد الواقع. ولعلَّنا نرى التجسيد العملي للطاو في شخص بيلبو المغامر الذي يرحب بالتغيير ويعتنقه، وفي بيلبو المُحِبِّ لدفء المنزل وراحته الذي يتوق للأمان.
تكشف مغامرةُ بيلبو بشكلٍ خاصٍّ هذه المعانيَ الحرفيَّةَ؛ فبينما ينطلق مسافرونا في رحلتهم في اتجاه الجبل الوحيد، ثم يصعدونه حتى ينطلقوا في النهاية داخل أحشائه، تتضافر قوتا الظلام والنور معًا بشكلٍ مستديمٍ نوعًا ما مثل العمالقة الذين يتألَّفون من ظلام الجبل ويعودون مرة أخرى إلى أصلهم بمجرد مواجهة النور. وبينما يتحوَّل الجانب المظلم، آجلًا أو عاجلًا، ليصبح الجانب المضيء، تتحوَّل الين في النهاية إلى يانج. وتمثِّل الطاويةُ هذه الرقصةَ الكونيةَ للنور والظلام.
لكن للأسف، نحن نَمِيل لتجاهل الطاوية الموجودة داخلنا ونعتزُّ بأشياء أخرى بدلًا من ذلك. وفي قيامنا بذلك إنما نبتعد عن طبيعتنا الحقيقية، التي تتمثَّل في التناغُم مع الطاوية. فيميل الهوبيت لتقدير السمعة والعُرف؛ أما الجوبلن فلديهم هَوَس بالآلات والماكينات، لا سيما تقنيات الحرب، بينما ينصبُّ تركيزُ الأقزام على اقتناء الذهب والفضة والمجوهرات، وسموج يكتنز لغرض الاكتناز ذاته، وجولوم (بل وحتى بيلبو بشكلٍ لحظيٍّ) لا يسحره الخاتم وحده وحسب، وإنما تسحره «فكرة» اقتناء الخاتم.
إن رواية «الهوبيت» هي في النهاية حكاية رمزية حول تيقُّظ بيلبو لطبيعته الحقيقية بوصفه مُنْتَمِيًا لعشيرة توك الذين يتميَّزون بحب المغامرة والإقبال على المخاطر، وكذلك بوصفه أحد أفراد عائلة باجنز الذين يحبون الراحة والألفة.
ومثل حكماء الطاوية، يعيش «القوم الصغار» حياةً تخلو من التعقيد، وتربطهم بالطبيعة صلةٌ وطيدةٌ. وحياتهم المنظمة جيدًا ذات الطابع الريفي، والتي تجسِّد بساطةً طبيعية؛ تتيح مجالًا للعفوية والتلقائية. والعفوية تمكن اﻟ «تي»، وهي قوة الطاو، من الظهور على السطح بينهم؛ حتى يتمكَّنوا من الإخلاص لطبيعتهم والتوافق معها. ويتناقض ذلك مع «القوم الكبار» الذين تتسم حياتهم بكونها أكثر ثقلًا وإرهاقًا؛ ومن ثَمَّ يُعَدُّون أقلَّ بساطةً وعفويةً بكثير، وضخامتهم تجسِّد التعقيد والإفراط والطموح الزائد. يمثِّل القومُ الكبارُ الوقوعَ في الخطيئة الذي ينتقده تولكين، وانحرافنا عن مسارنا الطبيعي.
إذن فالمبدأ الأسمى للطاوية هو طبيعتنا الحقيقية والأصيلة. وتعلِّمنا الطاويةُ أن علينا أن نتَّبِع الطاو خاصتنا، أن نتَّبِع رحلتنا، على نحوٍ يتسق مع هذا المبدأ الأسمى. وتكشف رواية «الهوبيت» عن شخصيات تسلك سبلًا شاقة وضارة بشكلٍ بَحْتٍ؛ فحين يُصِرُّ ثورين في عنادٍ على الاحتفاظ بالذهب والفضة والجواهر بالكامل، ما الذي يجعل طريقه محلَّ شكٍّ؟ إنَّ طمعه ليس طريق الطاو بشكل واضح، وهو ما يمنعه من التوافق مع طبيعته.
لنتأمل سموج؛ إذا كانت نزعة سموج هي امتلاك الكنز والاستمتاع بامتلاكه، فهل بذلك يثري الطاو وينمِّيها؟ بالطبع لا؛ لأن نزعته شيء وطبيعته الحقيقية شيءٌ آخَر، فنزعته من النوع الذي يطمس اﻟ «تي»، أيْ قوة الطاو، بينما الطبيعة الحقيقية لكل الأشياء الحقيقية هي التصرُّف بما يتوافق مع الطاوية.
نحن بحاجةٍ هنا للاستقصاء والتحرِّي بمزيدٍ من العمق. ما المقصود حقًّا بالتصرف على نحوٍ متناغمٍ مع الطاو؟ لماذا تُعتبَر طرقٌ معينة مثل طريقة ثورين، ونزعاتٌ معينة مثل نزعة سموج، مزيفةً ولا تستحق اتباعها؟
(٢) طريقة أخرى للتفكير في الطريق: أساتذة الطاوية السبعة
لنتأمَّل رواية «الهوبيت» في ضوء واحدة من قصصي المفضَّلة عن الطاوية؛ وهي قصة «أساتذة الطاوية السبعة». كُتِبت هذه القصة حوالي عام ١٥٠٠ إبَّان حكم أسرة مينج (١٣٦٨–١٦٤٤)، وتلقي الضوء على رحلات الحكيم الطاوي وانج شوانج يانج ومُرِيديه السبعة في سعيهم لاكتشاف الذات وغرس الطاوية وتنميتها.
(٣) جولد إز هيفي
لم يتوقَّع بيلبو مثل هذه المخاوف العملية؛ فلم يفكر هو ورفاقه إلا في الاستيلاء على الكنز، وليس في نقله. وهكذا وعلى مستوًى حِرَفيٍّ بَحْتٍ، يصبح الذهب فور اقتنائه عبئًا ثقيلًا.
ليس ثورين الشخصيةَ الوحيدة في «الهوبيت» التي تسيطر عليها الرغبة في الذهب؛ فعلى الرغم من أن جان الغابة هم في الأساس أناس طيبون، فإن لمليكهم — الذي لطالما تملَّكَه الطمع لامتلاك المزيد من الفضة والجواهر البيضاء — نقطةَ ضعفٍ خاصة تجاه الكنز. وحين يُذبَح حارسُ الكنز في الجبل الوحيد، يزداد البشر والجن والأقزام افتتانًا بالاستيلاء على الكنز؛ ليصل الأمر إلى ذروته في معركة الجيوش الخمسة الرهيبة.
حتى الهوبيت ليسوا أحرارًا من سيطرة الرغبة في امتلاك الذهب؛ فمع انتشار شائعة وفاة بيلبو، يتلهف الهوبيت — خاصة عائلة ساكفيل باجنز — لعرض أملاكه في مزادٍ. فالطمع له طريقته في تلويث حتى الأرواح الطيبة. وفي الفصل الافتتاحي من «رفقة الخاتم»، تستحوذ الشائعات حول كنز بيلبو الخفي على قلوب الهوبيت.
إنَّ الجوبلن يصنعون آلاتهم ولدَيْهم عبيد للقيام بالعمل من أجلهم، غير أنهم مُستعبَدون مِنْ قِبَل اختراعاتهم، مثلما تستعبدنا الرغبةُ في الذهب.
لا تكمن المشكلة الحقيقية بالنسبة للطاويين في الآلات والماكينات في حدِّ ذاتها، ولكن في نفوذها المغري علينا، في ظلِّ استعدادنا للاستسلام للكفاءة حتى لو كانت تعني التضحية بالطبيعة والإنسانية.
لذا يُعتبَر الذهب عبئًا ثقيلًا حقًّا؛ فالرغبة في الثروة والقوة مثبطة، وحين تنحني ظهورنا تحت وطأة ثِقَل رغباتنا، نفقد القدرة على رؤية طبيعتنا الأصيلة، أو الطاو. غير أنه يمكننا من وجهةِ نظرٍ طاويةٍ، تحريرُ أنفسنا من هذا الثِّقَل. إن التعلُّق بالذهب يفضي إلى الهوس به، والهوس يفضي إلى الاستعباد؛ ولذلك يكمن السبيل في التحرُّر من هذا التعلُّق. فالسر يكمن في الانفصال.
(٤) إمبتي مايند
يمثِّل إمبتي مايند، الحكيم رفيق جولد إز هيفي، الانفصالَ والعزوفَ. ومعنى الانفصال، بحسب صهري كارل ويلهيلم، في غاية البساطة حقًّا: «إنه يعني عدم التعلق بشيء.»
لنتأمل الأقزام. إنهم مقيَّدون بطموحاتهم، التي على الرغم من كونها نبيلةً من حيث المبدأ (إذ تتمثَّل في استعادة العدالة)، فإنها تسيطر عليهم تمامًا؛ إذ يصيبهم هوس شديد بالهدف إلى حدِّ أنهم يصبحون بدورهم متعلِّقين به ومن ثَمَّ عبيدًا له. ولعل التعلُّق بفكرةٍ ما هو أسوأ أشكال التعلُّق؛ فالفكرة لا تتنفَّس، ولكن المخلوقات الحيَّة تفعل. غير أن الطاويين (إلى جانب البوذيين، والهندوس، والشعراء، والفنانين، والزهاد، وعدد هائل من الفلاسفة)، يحذِّروننا من أن نضفي على فكرة، أو صورة ذهنية، أو رمزٍ واقعيةً أكبر مما نضفيها على الواقع ذاته. ويُحذِّرنا شاعر الزن من «إدراك الإصبع الذي يشير إلى القمر خطأ على أنه القمر ذاته».
يعمد بيورن إلى تقديم واحة من السلوى، وإعداد مأدبة صاخبة، واستراحة للمسافرين قبل أن ينطلقوا لأصعب جزء من رحلتهم. يمثِّل هذا الكائن القادر على تغيير جِلْده إمبتي مايند، وهو يعيش في انسجام ووفاق مع جميع الأشياء الحيَّة، من منطلق طبيعته الازدواجية التي تَجْمع ما بين الإنسان والدب. وهو يقتات على العسل، ولا ينشغل تمامًا بالذهب والجواهر وغير ذلك مما يُسمَّى كنوزًا، فيقدِّم لضيوفه بعضَ النصائح البالغة الأهمية قبل أن ينطلقوا عَبْرَ غابة ميركوود، محذِّرًا إياهم — مثلما فَعَلَ جاندالف — من الانحراف عن الطريق.
لكلمة «طريق» معنًى حرفي ومجازي. فلا ينبغي أن ينحرفوا عن الطريق عَبْرَ الغابة المظلمة، ولكن عليهم أيضًا ألَّا يَشْردوا عن طبيعتهم الأصيلة؛ عن مساراتهم الشخصية؛ فنهر النسيان المسحور بإمكانه أن يغشي ذكرى طريقهم الصحيح في عقولهم. وكل هذه نصائح سديدة من شخص نجح في الالتزام بطريقه بالحفاظ على عقله خاويًا وصافيًا كمرآة.
وتُعَدُّ حقيقةُ قدرة بيورن على تغيير جِلْده مشوقة بشكل خاص؛ فحين نكتسب ميولًا وطبائع (كعبودية ثورين للانتقام، واستسلام بيورن من آنٍ لآخَر لطباعه الحادة، وهوس سموج بامتلاك الأشياء والاستحواذ عليها)، نخمد طبيعتنا الحقيقية المتوافقة مع الطاوية. فنحن نغيِّر جِلْدنا بشكلٍ ما، فنُظهِر وجهنا الزائف للآخَرين ولأنفسنا، ولكننا ندفع ثمنًا لذلك أيضًا، أَلَا وهو إخفاء جلدنا الحقيقي وقمعه، أو كما يطلق عليه البوذيون المؤمنون بفلسفة الزن «وجهنا الأصلي قبل أن نُولَد».
يظل بيلبو طوال القصة مثالًا للهوبيت النقي القلب، وهو تجسيد للعقل الخاوي؛ ليس فقط لبساطته الطبيعية وبراءته التي تشبه براءة الأطفال، ولكن أيضًا لأنه يختار عن عمدٍ أن يظلَّ عازفًا عن الرغبة في الذهب. وعلى الرغم من أن شرارةَ رغبةٍ تُومَض في صدره حين يعثرون على الكنز، وتساوره لحظةُ افتتانٍ تُسَوِّلُ له الاحتفاظَ بالأركنستون، فإنه يتخلَّى عن رغبته في الكنز، انطلاقًا من روح الوو وي، ويتجنَّب الافتتان الذي اختبره الأقزام، بل إنه مستعدٌّ أن يقايض كلَّ ذلك بكأسٍ من الجعة المزبدة في حانة جرين دراجون!
تنتهي قصتنا الطاوية حيث بدأت؛ على طريق، على امتداد طريق لا ينتهي أبدًا مثلما يُغَنِّي بيلبو لنفسه:
ما من حكيمٍ طاويٍّ استطاع الإتيان بكلمات أفضل من تلك، على الرغم من أن الكلمات — وَلْتنتبه لذلك — لا تكفي مطلقًا.