يُعتبَر الهوبيت مشاةً جيِّدين؛ فبنيتهم ملائمة لذلك، حقًّا.
لقد خُلِقَتْ مثل هذه الأقدام للمشي، وكان بيلبو يهوى، على وجه الخصوص، الخروجَ في
نزهة طويلة جيِّدة على الأقدام في القرية. وكان هناك في الردهة بالقرب من عصي المشي
الخاصة به خريطة كبيرة معلَّقة «للقرية بأكملها موضَّح عليها كل مواضع التمشية
المفضَّلة لديه بحبر أحمر».
2 إن بيلبو شخصية واثقة بنفسها؛ فعلى مدى مغامراته، لا ينسى مطلقًا مَنْ هو،
ومن أين جاء. ولعلَّ ذلك أحد الأسباب التي جعلت الهوبيت الصغار يحملون مثل هذه الجاذبية
في أنظارنا نحن البشر اليوم.
إن فكرته تتلخص في أننا أصبحنا في العصر الحديث نُتْقِن ببراعةٍ شقَّ طريقنا بالتفاوض
عَبْرَ «الأنظمة المجردة»؛ فنشتري الملابس ببطاقات الائتمان، ونتواصل مع الأصدقاء الذين
تَفْصِلنا عنهم مسافاتٌ بعيدةٌ عَبْرَ فيسبوك، ونستأجر السيارات بيُسْر وسهولة للخروج
في رحلات طويلة بالسيارة عَبْرَ طرق سريعة غير مألوفة، واثقين من أن النُّظُم المؤسسية
سوف تدعمنا دون أية مشاكل. ولكن كما يوضِّح جيدنز: «مع تطوُّر الأنظمة المجردة، تصبح
الثقة في المبادئ المحايدة غير الشخصية، وكذا في المبادئ المجهولة، أمرًا لا غنى عنه
للوجود الاجتماعي.»
4 ودائمًا ما يضيع شيء ويُكتسَب شيء مع كل تقدُّم تكنولوجيٍّ يحدث. ففي
اللحظة التي يمنحك فيها نظام جي بي إس الذي تعتبره صديقًا لك وتُطلِق عليه اسم
«توم-توم» اتجاهاتٍ خاطئةً، تدرك أنه لم يكن صديقًا حقًّا من الأساس، بغضِّ النظر عن
اللكنة التي اخترتَها له كي يحدِّثك بها.
وقد أشار الفلاسفة الغربيون بداية من
الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي إلى هذه الازدواجية في المكان التي تواجه الإنسان
الحديث. وطرح مفكِّرون معروفون حلولًا مختلفة لهذه المعضلة الحديثة؛ فوجد فريدريك نيتشه
(١٨٤٤–١٩٠٠) الأملَ في الفن، وحدَّدَت سيمون دي بوفوار (١٩٠٨–١٩٨٦) أخلاقياتٍ للغموض،
بينما نادى الفيلسوف المعاصر يورجن هابرماس بالتواصل الصادق مع الآخَرين.
(١) «ليس بهذه السرعة»
في كتاب «تعويذة الحسي»، يناقش الفيلسوف، وعالم الأنثروبولوجيا، والساحر الخفيف
اليد ديفيد أبرام الثقافاتِ الشفهية وعلاقتها التكافلية ببيئتها الطبيعية؛ فيذهب
إلى أن العالم الطبيعي ينادينا، ولكننا غالبًا ما نكون في عجلةٍ من أمرنا لدرجةٍ لا
تجعلنا نلاحظ نداءه. وتكتسب التمشية مزيدًا من الأهمية كلما فقدنا اتصالنا
بالأرض.
في عام ١٩٨١، كان شاعر الزن جاري سنايدر يستقلُّ شاحنةَ نقلٍ خفيفٍ عَبْرَ
المناطق النائية الأسترالية. كان رفيقه، وهو عجوز بنتوبي، يروي قصةً عن مخلوقات
خرافية في أحد الجبال التي كانوا يمرون بها. وسرعان ما خاض العجوز في قصة أخرى؛ مما
تسبَّبَ في إرباك سنايدر الذي اعترف قائلًا: «لم أستطع المتابعة، وأدركتُ بعد مضيِّ
نصف ساعة من هذا أنها كانت حكاياتٍ الغرضُ منها أن تُسرَد أثناء «التمشية»، وأنني
كنتُ أمام نسخة مسرعة مما قد يُروَى على مهلٍ على مدى عدة أيام من السفر سيرًا على
الأقدام.»
7
إن الأماكن والأشخاص بينهما رباط حميم، مثلما أدرك تولكين على نحوٍ متعمق حين قال
في معرض حديثه عن «سيد الخواتم»:
8 «لقد بدأتُ بخريطة من منطلق الحكمة، وجعلت القصةَ تتناسب معها.»
والأشخاص الذين يتفهمون ارتباطهم بمكانهم غالبًا ما يكونون أكثر عقلانيةً وإدراكًا
وأقل شعورًا بالانفصال والعزلة. ولكن الروابط التي تجمع المرء ببيئته المباشرة
نادرًا ما تُؤسَّس في لحظة؛ فمثل هذه العلاقات تستغرق وقتًا، وغالبًا ما تتطلَّب
سنواتٍ من المشي عَبْرَ الحي الذي يقطنه المرء.
في «سيد الخواتم»، كان تري بيرد المنتمي إلى الإنتس هو من يعلِّم بيبين وميري أن
يبطآ من سرعتهما ولا يتعجَّلَا: «الأسماء الحقيقية تروي قصص الأشياء.» كان تري بيرد
يوجِّه الهوبيتَيْنِ الشابَّيْنِ، مدركًا أنهما لم يستوعبا لغته الإنتية القديمة:
«إنها لغة جميلة، ولكن الأمر يستغرق وقتًا طويلًا للغاية لقول أي شيء بها؛ لأننا لا
نقول أيَّ شيء بها، ما لم يكن هذا الشيء يستحق أن نستغرق وقتًا لقوله ونستمع له.»
ولا يبدأ تري بيرد حتى في الإنصات إلى قصة الهوبيتَيْنِ إلا بعد أن يسيرا سبعين ألف
خطوة إنتية ويتجرعا «رشفة طويلة وبطيئة» من شيء يشبه ماء نهر إنتووش.
9
والمحادثة الجيدة، مثل التمشية الجيدة، تستغرق وقتًا. فمَن يتعجَّلون في السير
ومَن يسرعون في الحديث ترتبك أفكارهم كثيرًا جدًّا. كان تولكين نفسه يُفَضِّل السير
البطيء، وأحيانًا ما كان يثير انفعالَ رفاقه الأكثر سرعةً بالتوقُّف لمشاهدة
الأزهار والأشجار. وعن تولكين، قال سي إس لويس، مؤلف «سجلات نارنيا» ذات مرة: «إنه
رجل عظيم، ولكنه لا يتبع نمط مشيتنا. فلا يبدو قادرًا على السير والحديث في آنٍ
واحد؛ فهو يسير ببطء ثم يتوقَّف تمامًا حين يكون لديه شيء مثير يرغب في قوله.» كان
خطأ لويس أنه كان يسير أسرع مما ينبغي؛ فقد كان واحدًا ممَّن «لا تأخذهم هوادة في
السير» مثلما كان تولكين يُطلِق عليهم.
10 لقد كان تري بيرد أكثر مَن كانوا يتبرَّمون من ذلك.
يمكن للتمشية أن تفضي إلى التغيُّر بمجرد أن يتعلَّم المرء كيف يسير ببطء. في
سبتمبر عام ١٩٣١، بينما كانت رواية «الهوبيت» لا تزال في شكلها المبدئي كمسودة، ذهب
تولكين في تمشية أخرى مع لويس وصديق له يُدعَى هوجو دايسون، الباحث في تراث
شكسبير.
11 مضى الثلاثة يجوبون ممشى أكسفورد أديسون عَبْرَ ضفاف نهر تشيرويل
بالقرب من كلية ماجدالان، واستمرت بينهم مناقشات حول العلاقة بين الخرافات والحقائق
حتى الثالثة صباحًا. بعد أن غادَرَ تولكين عائدًا إلى منزله، واصَلَ لويس السير مع
دايسون حتى الرابعة صباحًا، وبعد ذلك بفترة وجيزة، مَرَّ بتحوُّلٍ دينيٍّ غيَّرَ
حياته.
12 لعلَّه أيضًا قد تعلَّمَ شيئًا مهمًّا بشأن الإبطاء من مشيته.
تُعَدُّ التحوُّلات الدينية أمرًا شائعًا في تاريخ التمشيات الرائعة. فسواء كان
صعود موسى إلى جبل الطور في سيناء، أو طواف مسلمي العصر الحالي في دوائر بطيئة حول
الكعبة في مكة، فإن معظم الأديان الكبرى في العالم، إن لم يكن كلها، تبرز أشكالًا
من السير يتخلَّلها قدرٌ كبيرٌ من التأمُّل والتدبُّر. ومثلما يقول جيف نيكلسون،
مؤلِّف كتاب «فن المشي المفقود» بامتعاضٍ: «لا أعرف كثيرًا عن الآلهة، ولكن يبدو
أنها تحب أن يمارِس المؤمنون بها الكثيرَ من المشي.»
13
(٢) السير من أجل الشفاء
يمكن أن يساهم المشي في إنقاذِ حياةٍ مثلما قِيلَ لنا. فكلنا تقريبًا، في وقتٍ
ما، إما مارسنا المشي من أجل قضيةٍ ما، وإما ساندنا أصدقاء أو زملاء لنا فعلوا ذلك
من أَجْلِ إحداث فارقٍ في العالم. وحده الجوبلن الذي يعيش بدون ضوء الشمس هو مَن
كان سيعارض بشدة أن يَهَبَ المرءُ وقتَه أو مالَه لقضية نبيلة. ولكن نيكلسون يثير
نقطةً مهمةً هنا؛ إن العلاقة بين عمل الخير والمشي متوترةٌ قليلًا حين تفكِّر
بشأنها بشكلٍ جادٍّ؛ «إنها توحي بأن المشي نشاط غريب وخارج عن نطاق المألوف، وغاية
في الندرة، حتى إن الناس لا يمارسونه إلا من أَجْل المال، حتى لو كان هذا المال قد
ذهب إلى قضية نبيلة.»
14
غير أن المشي ينقذ الأرواح بالفعل؛ فقد أنقذ حياة ثورين حين قام سموج لأول مرة
بمهاجمة الجبل الذي كان زاخرًا بجواهر الأقزام المنقوشة يدويًّا وألعابهم. ولم تفر
سوى قلة مختارة من سعير سموج عن طريق التسلل من الباب الجانبي السري. ولكن كانت
هناك مجموعة أخرى من الأقزام لم يكونوا بحاجةٍ لخريطة سحرية لإخراجهم من مخبأ
الكنز؛ فقد كان الأقزام المرافقون لثورين قد ابتعدوا بالفعل عن الذهب والفضة حين
بدأ هجوم التنين.
وكما يوضح ثورين: «لقد كنتُ مغامرًا ممتازًا في تلك الأيام، دائمَ التجوال، وكان
ذلك سببًا في إنقاذ حياتي في ذلك اليوم.»
15 لم يكن ما أنقذ حياة ثورين هو المشي في حدِّ ذاته، بل الكيفية التي
قاده بها للخروج من نفس شِراك الطمع التي أوقعَتْ معظم أصدقائه الصغار الأكثر
أنانيةً (وأوقعت ثورين فيما بعدُ حين اختارَ الجلوسَ على ذهبه في الجبل الوحيد
بدلًا من الخروج مثل بيلبو).
الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (١٥٣٣–١٥٩٢) اختار أيضًا الانصراف عن الذهب
والفضة. وقد كتب مونتين على جدار حجرة مكتبه ما يلي:
في عام ١٥٧١، في سن الثامنة والثلاثين، وفي آخِر يوم من أيام شهر فبراير،
يوم عيد ميلاده، انزوى ميشيل دي مونتين — الذي لطالما أضنته عبودية المحاكم
والوظائف الحكومية — وهو لا يزال في كامل لياقته، إلى كنف الأنقياء
المطلعين، حيث سيمضي الوقت القليل المتبقي من حياته التي انقضى أكثر من
نصفها؛ في هدوء وتحرر من كل الهموم.
16
بالطبع، لا يستدعي الانزواء إلى كنف الأنقياء المطلعين
(القديسين) إلى العقل تحديدًا القديس فرانسيس الأسيزي؛ الذي عزم في حماسٍ على أن
يحيا حياة الفقر، ولكنَّ هناك شيئًا تحوُّليًّا بشأن قرار الانصراف عن سباق الجرذان
المرهِق الذي نحياه. ففي قلب هذا التغيير يكمن الاعتقاد بأن الحياة اليومية الزاخرة
بالمسئوليات المنزلية غالبًا ما تكون غير مشبعة عاطفيًّا، وأحيانًا ما تكون مفلسة
أخلاقيًّا. فبدلًا من العمل بالبلاط، اختار مونتين الابتعاد والتأمُّل في
برجه.
ولكن لا يكفي أن تنصرف عن وظيفتك غير الملهِمة إذا كان كلُّ ما يمكنك أن تفعله هو
الاضطجاع على أريكتك تشاهد إعادة حلقات مسلسل «رجلان ونصف». فعلى الرغم من ادِّعَاء
مونتين أن «مشيتي سريعة وقوية»، فإن أفكاره ظلَّتْ تعود من آنٍ لآخر إلى نفس
المشكلات التافهة التي كان عالقًا بها قبل التغيُّر الذي لحق به.
17 وكما يعلم أي فيلسوف، يحتاج العقل إلى تمرين وتدريب قَدْرَ ما يحتاج
الجسم، وهو ما فَهِمَهُ مونتين في النهاية:
حين أرقص، أرقص؛ حين أنام، أنام؛ أجل، وحين أسير بمفردي وسط بستان بديع،
وتنشغل أفكاري بأحداث دخيلة لجزء من الوقت، أقودها لجزء آخر من الوقت
للعودة مجددًا إلى المشي، وإلى البستان؛ إلى عذوبة هذه الخلوة، وإلى
نفسي.
18
(٣) سِرْ على هذا النحو
كان هنري ديفيد ثورو (١٨١٧–١٨٦٢) واحدًا آخَر ممَّن كانوا سينزلقون في دائرة
التبرُّم والنَّزَق وأنقذه المشي في النهاية. فنفس الرجل الذي أغلق على نفسه «كي
يحيا الحياةَ بتأنٍّ وتروٍّ» كان يؤمن بشدة بأن صحته الجسدية والذهنية ستتدهور
سريعًا إذا لم «يُمْضِ يومًا واحدًا على الأقل — وعادة ما يكون أكثر من ذلك — في
السير بتُؤَدة بين الغابات وفوق التلال وفي الحقول متحرِّرًا تمامًا من كل
الارتباطات والالتزامات الدنيوية». ولكن مثل مونتين من قَبْله، كان ثورو يعلم أيضًا
مدى أهمية البقاء يَقِظًا ذهنيًّا أثناء المشي.
وقد كتب يقول: «أنزعج حين يتفق أن أسير ميلًا داخل الغابة بجسدي، دون التواجد
هناك بروحي. أثناء تمشية ما بعد الظهيرة، أتناسَى في سرور وبهجة كل انشغالاتي
الصباحية والتزاماتي تجاه المجتمع، ولكن يصادف في بعض الأحيان أني لا أستطيع
بسهولةٍ أن أنفُضَ عن عقلي التفكيرَ في القرية.» إنها مشكلة الشيخوخة. إن المشي
يمكنه أن يساعدك على ترك أمورك الأكثر بساطةً ومسئولياتك الأقل إلحاحًا وراء ظهرك،
ولكن المعضلة الأكثر فلسفية هي الشيء الذي دائمًا ما تصطحبه معك في رأسك. ويتساءل
ثورو: «ما الذي ينتظرني في الغابة لأقوم به، إذا كنتُ أفكِّر في شيء خارج نطاق
الغابة؟»
19
تكمن الفكرة في ربط أفكارك ببيئتك المباشرة. لقد تعرَّفَ الناقد الإنجليزي ويليام
هازليت (١٧٧٨–١٨٣٠) بالشعر الرومانسي من خلال سَيْره مع صامويل كولريدج (١٧٧٢–١٨٣٤)
وويليام وردزوورث (١٧٧٠–١٨٥٠)، واكتشف أن طُرُق السير التي يفضِّلها كل شاعر تؤثِّر
تأثيرًا مباشرًا على أساليبه في النَّظْم؛ فقد كان وردزوورث أكثر ميلًا للشعر
الغنائي، بينما كان كولريدج أكثر ميلًا للدراما. وليس مصادَفةً أن أسلوبيهما في
المشي كانا على نفس الشاكلة أيضًا.
كتب هازليت يقول: «أخبرني كولريدج أنه هو نفسه كان يحب التأليف أثناء السير على
أرضٍ غير مستوية، أو أثناء شقِّ طريقه عَبْر أغصان أيكةٍ متناثرة أشجارُها هنا
وهناك؛ فيما كان وردزوورث دائمًا ما يكتب (إذا استطاع) وهو يسير جيئة وذهابًا عَبْر
ممشًى مستقيم مغطًّى بالحصى، أو في بقعةٍ ما حيث لا تُقابَل استمرارية نَظْمه بأية
مقاطعة جانبية.»
20
حين يُؤخَذ المشي على هذا المحمل، لا يصبح مجردَ مهرب من تفكير ضار، بل يمكن
أيضًا أن يكون البدايةَ لإعادة التواصُل مع نفسك. في «سيد الخواتم»، ليس من قبيل
المصادفة أن يكون الجوَّال الخبير، سترايدر — وهو اسمٌ على مسمًّى — هو ملك البشر
في المستقبل أيضًا. يخبر فرودو باجنز قائلًا:
21 «ولكن يمكن أن أقول إنني أعرف كل الأراضي الواقعة ما بين شاير والجبال
الضبابية؛ لأني تجولت فيها لسنوات عديدة. فأنا أكبر مما أبدو.» ومثل هذا التجوال
يساعد سترايدر على بناء قوته قبل أن يحيا في النهاية وفقًا لهويته الحقيقية.
ولكن مثل هذا التجوال لا بد أن يأتي مصاحبًا لأفعال متروية، مثلما يوضِّح سترايدر
بصرامة لبيبين: «سيستغرق الأمر أكثر من مجرد بضعة أيام، أو أسابيع، أو سنوات من
التجوال في البرية كي تبدو مثل سترايدر … وستموت أولًا، ما لم تكن مخلوقًا من مادة
أكثر صلابةً من تلك التي تبدو مخلوقًا منها.»
22
في «الهوبيت»، كان أكثر شخصيات تولكين حكمةً هم السائرين الذين يرفضون الأشياء
المملة بشكل غير طبيعي في العالم. تأمَّلْ بيورن الذي يحب القصص الجيِّدة، ولكن
يغالبه النعاس حين يمضي الأقزام في الحديث عن كنوزهم. «كان أغلب حديثهم عن الذهب
والفضة والجواهر وصياغة الأشياء بواسطة الحدادة، ولم يَبْدُ على بيورن أنه يُعِير
أدنى اهتمام لمثل هذه الأشياء؛ فلم تكن هناك أشياء من ذهب أو فضة في ردهته، وعدا
السكاكين كانت قلة من الأشياء مصنوعة من المعدن من الأساس.»
23 وبينما كان الأقزام (والهوبيت) نائمين، كان بيورن يُغَيِّر شكله إلى
هيئة الدب (التي كانت ممتازة للمشي بأي مقياس من المقاييس)، ويسير فوق النهر ثم
يعود بعد قليل صاعدًا الجبال، وهو ما يمكنك أن تُخَمِّن منه أنه كان يستطيع
التنقُّل سريعًا وهو في هيئة الدب على أية حال.
24
غير أن جاندالف — من وجهة نَظَر
معظم الجماهير المحبة لرواية «الهوبيت» — كان دائمًا ما يمثِّل الصورة الأكثر
حِدَّةً للفيلسوف السائر؛ فجاندالف لا يستمد شخصيته إلا من عصا المشي خاصته. وكما
ينوِّه توم شيبي، كان تولكين يعتقد أن التعريف الأيسلندي لكلمة
gandr هو في الحقيقة عصًا أو هراوة.
25 وقد كان جاندالف مرارًا يجد الحلولَ لأعتى المشكلات من خلال المشي
اليَقِظ. كيف يسير المرء بيقظة؟ يعبِّر الساحر عن ذلك على نحوٍ أفضل حتى من مونتين
أو ثورو بقوله:
«إلى أين ذهبتَ، إذا كان لي أن أسأل؟» هكذا قال ثورين لجاندالف بينما كانا يتجولان
معًا.
قال: «ذهبت للنظر إلى الأمام.»
«وما الذي أعادك في اللحظة الأخيرة هكذا؟»
قال: «النظر للوراء.»
قال ثورين: «بالضبط! ولكن هل يمكنك أن تكون أكثر وضوحًا؟»
26
يتميَّز الهوبيت ببعض المميزات عن البشر والأقزام، من ضمنها
الجعة الممتازة وأوراق التبغ، ولكن ثمة مهارة أكثر نفعًا لديهم هي القدرة على
التحرك في صمت. فيخبرنا تولكين أن «الهوبيت يمكنهم التحرك بهدوء في الغابة، بل
بهدوء شديد.»
27 ويتباهى بيلبو بصمته وهدوئه بشكل خاص، وله الحق في ذلك؛ فصمته فوق
الأرض وإحساسه بالاتجاه تحت الأرض أنقذاه وأصدقاءه من أكثر من مأزق. ويُعَدُّ هذا
نوعًا عاديًّا من السحر، مثلما يشير تولكين، ولكن مثل هذا المشي الصامت في السجلات
التاريخية للفلسفة الشرقية نادرٌ للغاية، ويمكن أن يشير إلى وصول المرء إلى أعلى
مستويات السعادة.
28
(٤) انتبه لخطواتك
نطالع في النص القديم «تاو تي تشينج»
29 عبارةً تقول: «المسافرون الماهرون لا يتركون وراءهم أثرًا.» حين يتحدث
الطاويون عن الترحال عَبْرَ الطريق (الطاو)، عادةً ما يكون هناك شيء يحدث أكثر من
مجرد المشي بمعناه الحرفي. على سبيل المثال، كثيرًا ما كتب الفيلسوف الطاوي المعروف
جوانج زي (٣٦٩–٢٨٦ق.م) عن الحياة المتنقلة، ولكن تنقُّله كان يستلزم تنميةَ فضائل
مثل: «الخواء، والسكينة، والليونة، والهدوء، وعدم اتخاذ أي تحرُّك».
30
إن هذه الفضائل الغرض منها توجيهُ
الناس وحكمهم، وليس الانصراف عن التزامات المرء الدنيوية. «حين يتقاعَد شخصٌ ما،
ممارسًا تلك الفضائل والجولات على مهل وبروية، فسوف ينال إعجابَ كلِّ الباحثين
والخبراء في الأنهار والبحار والمرتفعات والغابات. وإذا تولَّى منصبًا معهم بهدف
إحلال السلام في العالم، فستكون إنجازاته عظيمة وسوف يلمع نجمه، وستصبح
الإمبراطورية موحَّدة.»
31
يؤمن الطاويون عمومًا بأن الأمر يستغرق عدة أعوام لتعلُّم مثل هذه الفضائل
وممارستها، ولكن الهوبيت يمتلكونها بشكلٍ فطريٍّ. وعلى الرغم من أن معرفة تولكين
الشخصية بالطاوية كانت متواضعةً، فإن الهوبيت كان لديهم شيء من روحها. فقد يَصِف
تولكين أي عدد من الحكماء الطاويين حين يلاحظ أن «السيد باجنز لم يكن مملًّا للغاية
مثلما يحب أن يعتقد، وأيضًا … كان مغرمًا للغاية بالأزهار.»
32
ويُعتبَر السير وسط الغابات، مثلما يفعل بيلبو، من الأفكار التي طَرَقَتْ كثيرًا
في العديد من الفلسفات الشرقية بخلاف الطاوية؛ ففي الميثولوجيا الهندوسية، كان على
الفيلسوف الملك راما، الذي طُرِد من مملكة أبيه، أن يقايض ملابسه الفاخرة بورقةٍ
ولحاءِ شجرةٍ قبل أن يمضي عَبْرَ الغابات. وكانت إحساسات الواجب، والعدالة،
والشجاعة مجرد عدد قليل من الفضائل الأساسية التي ينميها بينما يَسِيرُ عَبْرَ
غابات الهند المسحورة.
على نحوٍ مماثلٍ، ترَكَ سيدهارثا جوتاما (٥٦٠–٤٨٠ق.م) قَصْرَ أبيه كي يرتحل مع
مجموعة من الزاهدين الرحَّالة قبل أن يخلو بنفسه للتأمُّل أسفل إحدى الأشجار،
ويَصِل إلى التنوير ويصبح بوذا. وعندما بدأ الرهبان الأوائل في نَشْر الأمر، كان
بوذا يسمح لهم على مضضٍ فقط بالاختباء واللجوء إلى ملاذ للاحتماء به أثناء الموسم
المطير. أما في جميع الأوقات الأخرى، فكان يتوقَّع منهم الانطلاق في رحلتهم سيرًا
على الأقدام.
لا يزال الكثير من المدارس البوذية اليوم تعظ بالأهمية الفلسفية للسير على
الأقدام. وبعضٌ من البوذيين التبتيين الأكثر تطرُّفًا، على سبيل المثال، يسافرون
لآلاف الأميال أحيانًا على أقدامهم، ممارسين الاستلقاء (أي الانبطاح على الأرض
والتمدُّد للخارج) مع كلِّ خطوة يخطونها. وغالبًا ما تَصِل مثل هذه الحركات الصعبة
الهائلة المعبِّرة عن القوة والصبر إلى ذروتها مع إقامة مهرجانٍ دينيٍّ.
33 وتُعَدُّ حركات الاستلقاء والتمدُّد وسائلَ لتذكير نفسك بعد كلِّ خطوة
بأن تفعل شيئًا مهمًّا. فمن المفيد أن تتخلَّص من الأفكار التافهة قبل أن تبدأ في
الاستحواذ على عقلك المطمئنِّ غير المرتاب.
في جنوب شرق آسيا، تركِّز مدارس الثيرافادا البوذية أيضًا على الجانب الأكثر
فلسفية للمشي. فالتأملات سيرًا على الأقدام تُعَدُّ طرقًا للتعمُّق في أفكارك
الداخلية وتعظيم قوى التركيز في الحياة اليومية بشكل جذريٍّ. في النصوص القديمة
المكتوبة بلغة البالي، تُترجَم إحدى القصائد المنسوبة لبوذا على النحو
التالي:
الهواء الطلق يمنح حياة
تسانِد كفاحَ الراهب الشريد،
حياة يسهل بلوغها، وتترك عقلَه
يَقِظًا كعقل ظبي، حتى يجد
الجمود والفتور قد وصَلَا إلى نهاية.
تحت السماء المرصَّعة بالنجوم
يفرش القمر والشمس نورهما،
وينشر التركيز بهجته.
والبهجة التي تمنحها لذة الاعتزال،
سوف يكتشفها عمَّا قريبٍ مَن يعيش
في الهواء الطلق؛ ولهذا
يفضِّل الحكماءُ السماءَ المفتوحة.
34
كثيرٌ من بوذيي الزن الرائدين يؤيدون التأملات خلال المشي. والفكرة هي أن تُعِيرَ
انتباهًا لكلِّ خطوة تخطوها للأمام، وكل ثنية للركبة، والصوت الذي تُصدِره قدَمَا
الشخص.
ثيت نات هانه هو راهبٌ بوذيٌّ فيتناميٌّ أسَّس ديرَ قرية ببلوم في جنوب فرنسا،
خلال حرب فيتنام، رشَّحَ مارتن لوثر كينج الابنُ هانه لنيل جائزة نوبل للسلام،
زاعمًا بجرأة: «إن أفكاره عن السلام إذا طُبِّقت، فسوف تبني نصبًا لوحدوية الأديان،
لأخوة العالم، للإنسانية». تتضمن أفكار هانه للسلام استخدامَ أساليب التأمُّل
البوذية للانخراط في العالم من خلال مساعدة المعدمين.
لا شك أن العالم أكثر تعقيدًا من ذلك بكثيرٍ، مثلما يقرُّ هانه؛ ولذلك يذهب إلى
أنه على المرء أن يبدأ بخطواتٍ بسيطة بمعنى الكلمة. وفي كتابه «السلام هو كل خطوة»،
يناقش هانه أهميةَ التأمُّل أثناء المشي، فكتب يقول: «بينما نمارس التأمُّل أثناء
المشي، لا نحاول الوصول إلى أي مكان، نحن فقط نتخذ خطوات سعيدة هادئة. أما إذا
ظللنا نفكِّر في المستقبل وما نرغب في إدراكه، فسوف نفقد أنفسنا.»
35
إنَّ فقدان أنفسنا، مثلما رأينا، لَهو واحدٌ من المخاطر الكبرى للحياة في العالم
الحديث. وقد رأى ثورو الأخطارَ وساوَرَه القلقُ إزاء ما إذا كانت الأجيال
المستقبلية من سكان المدينة سيكونون بالقوة الكافية ذهنيًّا لمواجهتها. وقد كتب
يقول: «لم أقابل على مدى حياتي سوى شخصٍ أو اثنين هما مَنْ فَهِمَا فنَّ المشي، أي
التنزُّه سيرًا على الأقدام.»
36
وكما يشير تولكين، كانت هناك طُرُقٌ عِدَّةٌ عَبْرَ الجبال الضبابية، «لكنَّ معظم
الطُّرُق كانت وهميةً وخادعةً، ولم تؤدِّ إلى أيِّ مكان أو إلى نهايات سيئة، ومعظم
الممرات كانت موبوءةً بشرور وخبائث»، ولكن بفضل جاندالف، تمكَّنَ بيلبو والأقزام من
«اتخاذ الطريق الصحيح إلى الممر الصحيح».
37
إنَّ قول ذلك أسهل مِنْ فِعْله بالطبع؛ فالأمر يتطلب تركيزًا وشجاعة وانضباطًا
لمعرفة الطرق الصحيحة التي يجب أن نسلكها في الحياة، ولسوف نفعل خيرًا إذا انتبهنا
لنداء تولكين وأبطأنا من سرعتنا. وكما يذكِّرنا الفيلسوف الكوميدي ستيفن رايت: «أي
مكان يسهل السير إليه إذا توافر لديك الوقت.»