البحث عن النجوم
«كانت بيننا علاقة آنذاك.»
بدأ أخي جيمي يرتاد المدرسة عندما وُلدت، ومن أقدم ذكرياتي مشهد ذهابه إلى المدرسة كل يوم، وبقائي بمفردي أفكر في المستقبل، وفي اليوم الذي سأتمكَّن فيه من ارتياد «المدرسة الكبيرة». كنت أقضي وقت ما بعد الظهيرة جالسة بجوار النافذة العريضة في غرفة الجلوس، أحدق إلى الخارج في انتظار قدوم حافلة المدرسة الصفراء الكبيرة، وأترقب سماع صوت صرير مكابحها الهوائية عندما تقف أعلى التل، لتُنزل جيمي أمام المنزل.
وأخيرًا حان وقت ذهابي للمدرسة في أغسطس عام ١٩٦٣. ويوم أن اصطحبتني والدتي إلى متجر بيك آن باي لشراء حذاء المدرسة، شعرت بأنني فتاة كبيرة. في ذلك الوقت كان يجب على الفتيات ارتداء الفساتين، ولتساير الأحذية فساتيني، ابتاعت لي أمي حذاءً أبيض وأسود لم يعجبني، وحذاءً من الجلد الأسود اللامع أعجبني كثيرًا. وقد سمَّيت الاثنين «حذاءَيْ مدرسة الأحد». وعلى مدار أعوام، كنت كلما سمعت صوت فرقعة أحذية على أرضية خشبية، تذكرت حذاءَي مدرسة الأحد. ولما كانت والدتي حائكة ماهرة فقد حاكت معظم فساتيني. وزينتها ببراعة بالأشرطة والتطريز. وعندما تقرر أن تكون المريلة مربعة النقش الزي الرسمي للصف الأول ذلك العام، حرصت أمي أن أذهب إلى المدرسة في أفضل زيٍّ يمكنها تحمُّل نفقاته.
في ذلك الوقت، في بلدة دوريم بولاية كارولينا الشمالية — حيث نشأت — لم تكن هناك مدرسة رياض أطفال عامة؛ لذا بدأت أرتاد المدرسة في الصف الأول. ولأنني وُلدت في شهر سبتمبر كنت عادة أصغر طالبة في فصلي، وغالبًا ما كنت أبدأ عامي الدراسي وأنا أشعر أنني متأخرة عن الجميع. لكن صفي الأول كان مختلفًا. فلم أكن أعلم أنني أصغر الجميع سنًّا، وكنت أشعر بسعادةٍ غامرة. لم أكن يومًا طفلة هادئة في المنزل، وأنا على يقين أن والديَّ كانا على أتم استعداد لإرسالي إلى المدرسة بقدر استعدادي للذهاب إليها؛ إذ كنت سأستنفد بعض طاقاتي هناك بالتأكيد.
لقد بدت لي السيدة رايلي وكأنها على الأقل في التسعين من عمرها، بشعرها المجتمع في كتلة مستديرة غير منتظمة أعلى رأسها، ونظارتها العتيقة المرعبة التي تقبع على أنفها. لا أذكر أنها ابتسمت مطلقًا، إلا عندما كانت تتحدث مع طالبة واحدة؛ اسمها شيلا.
كانت شيلا طفلة جميلة، زرقاء العينين، شقراء الشعر، ملائكية الملامح. كانت تشبه الدمى، وقد حاول كل مَن في الفصل أن يصادقها. أذكر اليوم الذي أخبرتني فيه عن مكان منزلها، قائلة: «إنه خلف متجر الحلوى مباشرة.» حينئذٍ فقط أدركت أنها فتاة مسحورة.
حملت والدتي ووالدة شيلا مسئولية تنظيم كل حفلات الفصل، وضمان توفير الكعك في المناسبات المدرسية كافة. وعندما كانتا تتقابلان للتخطيط للحفلات، كانت تتاح لي الفرصة لزيارة منزل شيلا الواقع خلف متجر الحلوى مباشرة. كان المنزل بمنزلة مدينة ألعاب، بما في ذلك الدمية باربي وكل متعلقاتها. وكان هناك ركنٌ خاصٌّ بشيلا في المنزل تحتفظ فيه بمتعلقات دميتها باربي، مثل منزلها وسيارتها وحمام سباحتها، وكل شيء يخصها.
في منزلي كنت أجمع بعض أوراق الشجر وأضعها في قِدر، ثم أحركها كأنني أطبخ، أو أحضر ملابس وألبسها للقطة (التي كانت غير مريحة مثل باربي). وكنت ألعب أنا وأختي في الساحة الخالية خلف المنزل، التي كانت مكبًّا للنفايات كالأنابيب القديمة وقطع الخرسانة وألواح الخشب. واعتدنا أن ننادي أمي قائلين: «سنذهب للعب في ساحة الخردة»، ثم نخرج إلى ما اعتبرناه ساحة لعب. لهذا لاحظت اختلاف العالم الذي تعيش فيه شيلا، وأدركت ذلك سريعًا، لكنني لم أحسدها لأن الأطفال الصغار الأبرياء لا يحملون مثل هذه المشاعر. فهي صديقتي التي أحبها.
أحبتها السيدة رايلي حبًّا جمًّا ولم تحاول إخفاء ذلك عن طلاب الفصل. فكلما كانت تعلن أنها تحتاج من يذهب لقضاء حاجة لها، كنت أزحف إلى طرف مقعدي، وأرفع يدي إلى أعلى نقطة ممكنة كي تختارني. لكن الاختيار كان يقع دومًا على شيلا؛ فشيلا هي التي تذهب، وشيلا هي التي تجمع نقود الأيس كريم والحليب، وشيلا هي التي توزعهما. ولاحقًا في الصف الخامس، شيلا هي التي لعبت دور الساحرة الجميلة جليندا في مسرحية «ساحر أوز» التي قدمتها مدرسة براجتاون.
بعينيَّ البنيتَين وشعري الأسود الأشعث، كان حَرًى بي أن ألعب دور ساحرة الغرب الشريرة أمام شيلا، الساحرة الطيبة. وقد كنت نحيفة؛ فمهما تناولت من طعام، بدا أن وزني لم يكن يزيد قط بنفس معدل ازدياد طولي. كنت واثقة أنني لو كنت أجمل أو أشقر مما أنا عليه، أو لو كان منزلي مليئًا بالدمى، لأحبتني السيدة رايلي أكثر. لكنني كلما حاولت إرضاءها زاد سخطها. أذكر مدى استيائها ونحن نقرأ. فنطق أي كلمة خطأً يمكن أن يجعلها بسهولة تعبس أو تغضب. (بالطبع لم أكن الطالبة الوحيدة التي تتلقَّى تلك النظرات؛ فقد أحجمَت إحدى صديقاتي في مجموعة الطيور الزرقاء عن القراءة تمامًا، بعد أن أصابها الذعر الشديد من نظرات السيدة رايلي المخيفة.) وبعد أن كنت طالبة متحمسة للمدرسة أصابني الصف الأول بإحباط شديد.
الدخول إلى القبو والخروج من الظلمة
بعد مرور شهر على بدء العام الدراسي حضر مدير المدرسة إلى الفصل، وأخبرنا أن عدد الطلاب كبير في الفصل. عاودني الحماس مرة أخرى، عندما فكرت في إمكانية حصولي على معلمة أخرى. ثم بدأ المدير يقسمنا إلى مجموعتَين. وعندما نادى اسمي غمرتني السعادة لاختياري ضمن الطلاب الذين سينقلون إلى فصل آخر.
إليكم ما حدث كما أذكره: طلب منا المدير أن نصطف في فصل السيدة رايلي، ثم اقتادنا إلى آخر الرواق، فكنا نسير ونحن ندق بأحذيتنا الصلبة الأرضية الخشبية المشمعة التي تعود إلى أربعين عامًا مضت، ثم خرجنا من الباب الخلفي الذي يؤدي إلى صالة الألعاب الرياضية. كانت المرة الوحيدة التي دخلت فيها صالة الألعاب الرياضية العتيقة ذات السقف العالي، عندما تعلمت رقصة الهوكي بوكي التي نحرِّك فيها كل أجزاء جسمنا. كانت القاعة متربة بحيث واجهت صعوبة في التقاط أنفاسي، وأفزعني أن يكون فصلنا الجديد في ذلك المكان. ثم اتجه المدير إلى اليسار بعدما وصل إلى باب القاعة، وهو ما أراحني كثيرًا، وسار حتى آخر الممر الأسمنتي. وفجأة اتجه يسارًا مرة أخرى، وهو تصرف لا معنى له. فلم يكن هناك فصل، بل بضع درجاتٍ لأسفل تؤدي إلى القبو.
لم يسبق أن أعرنا هذا المكان الرطب أي اهتمام ونحن نركض بجواره في طريقنا إلى ملعب المدرسة، لكن المدير نزل درجات السُّلَّم ونزلنا وراءه كصغار البط. بالأسفل وجدنا غرفة تحمل بعض الشبه بالفصول الدراسية. فهي تضم مقاعد خشبية ثقيلة وسبورة سوداء. خلف باب الخزانة الذي فتحه أحدهم عنوة، رأينا عينَين صغيرتَين براقتَين تحدقان إلينا. فابتسم جون — ألطف صبي في الصف الأول — ابتسامة عريضة وأخبرنا أنه جرذ، وظل الصبيان الأكبر سنًّا طوال العام يهددون بقيتنا بفتح ذلك الباب. اعتاد الجميع في ذلك العام — المتنمرون والضحايا — تعليق معاطفهم على خطافات مثبتة بالحائط في الخلف.
جلسنا على المقاعد الكبيرة وانتظرنا. تحسست بإصبعي الحروف التي نقشها طالب سابق على المقعد منذ زمن بعيد. وللحظات ظننت أن المدير سيعود ويصطحبنا لأعلى، ليعيدنا للسيدة رايلي وشيلا. حينئذٍ دخلت السيدة وورنكي، وهي معلمة شابة شعرها مقصوص قصة بوب ومصفف للخلف، وابتسامتها أضاءت الغرفة بأكملها. بدَت سعيدةً لوجودها معنا — ومعي — ولم تبدُ خائفةً البتة من الخزانة. قدَّمها المدير لنا ونطق لنا اسمها ببطء «وورنكي»، ومع ذلك لم نتمكن من نطقه نطقًا سليمًا. وظللنا لشهور نناديها «السيدة المعلمة». ووزعت علينا كتب «ديك وجين» الخاصة بالقراءة وبدأنا العمل الجاد.
أذكر أنني كنت مشتتة أول يوم لي في فصل السيدة وورنكي. إذ شغلني التفكير في الوقت اللازم للذهاب إلى الحمام. فالفصل في «الخارج». ونحن طلاب صغار في الصف الأول. في اليوم التالي قررت إيجاد حل لهذه المشكلة. واستأذنت السيدة المعلمة في الخروج كما علمتني أمي. صعدت سلم القبو وقطعت الممر بين صالة الألعاب ونهاية رواق فصول الصف الأول، وصعدت السلم ثم دخلت المبنى. وما إن فتحت الباب المؤدي للرواق حتى ندمت على ذلك. فقد رأيت صبيًّا في الصف السادس يتجه نحوي، وشعرت بالخجل لأنني أرتدي الحذاء الأبيض والأسود الغبي في ذلك اليوم بالذات. طأطأت رأسي وحاولت المرور بجواره دون أن يلحظني، لكنه وقف أمامي مباشرة.
وسألني: «ما اسمك؟»
فأجبته دون أن أرفع رأسي: «سيندي.»
فقال لي: «يعجبني حذاؤك»، ثم أكمل طريقه لآخر الرواق.
أسرعت إلى الحمام وعدت إلى القبو ثانية، وهكذا تلاشى قلقي بشأن عدد الخطوات الواجب قطعها للوصول إلى الحمام، وقلقي بشأن حذائي. لكنني ظللت أطأطئ رأسي كلما قابلت صبيًّا في الصف السادس.
اكتشافات أخرى
بالطبع لم تحلَّ المعلمة الجديدة كل مشاكلي. إذ كان عليَّ مواجهة مشكلة قلة ثقتي بنفسي، المشكلة التي ترجعها أمي إلى ولادة أختي الصغيرة ليزا وأنا أبلغ من العمر أربعة عشر شهرًا فقط. حكت لي أمي كيف اصطحبَتني إلى متجر البقالة ذات مرة، عندما بدأت أتعلم السير، وكيف كنت منزعجةً من إبداء المتسوقين إعجابهم بالوليدة الجديدة وعدم انتباههم لي تمامًا. ربما شعرت بالحزن لتحوُّل اهتمام الجميع عني فجأة، لكنني أحببت أختي منذ ولادتها.
ذات مرة أعدَّت لنا السيدة وورنكي مفاجأة وقت تناول الأيس كريم. اعتدنا كل يوم أن ندفع لها نقود الأيس كريم، وأن نخبرها بالنوع الذي نفضل مثل شطيرة الأيس كريم، أو عصا أيس كريم الشوكولاتة، أو أكواب أيس كريم الفانيليا. ذات عصر بعد أن دفعنا النقود وحددنا طلباتنا، قالت لنا السيدة وورنكي: «أحمل لكم مفاجأة. لم أحضر لكم أنواع الأيس كريم المعتادة اليوم.» كانت قد أحضرت لنا بوبسيكل الفانيليا المغطى بطبقة سميكة من الشوكولاتة. قد لا يبدو الأمر مذهلًا، لكنه في نظر فصل مليء بأطفال الصف الأول كان رائعًا كصباح يوم الكريسماس. أخذنا نصيح ونقضم طبقة الشوكولاتة السميكة، ونتحدث عن مذاق كل قضمة. ظللت لأعوام أظن أنها خططت للأمر برمته. واعتقدت أن هذا النوع من الأيس كريم كان متاحًا طوال العام، لكنها أخفته عنا لتفاجئنا به فيما بعد. بالطبع، أغلب الظن أن هذا النوع لم يظهر سوى ذلك اليوم. المهم أن مغامرة الأيس كريم هذه منحتنا شعورًا بأننا مميزون ومحبوبون. وكان هذا هو شعور فصلنا طوال العام.
عندما كانت تزحف الديدان على حيطان غرفة القبو الرطبة، كانت تمسكها السيدة المعلمة وتحدثنا عنها، كانت تستغل الموقف لتعطينا درسًا في العلوم، كلما تسنح لها الفرصة. أتذكر أننا اعتدنا التمدد على فُرش زرقاء وحمراء كل يوم بعد الغداء. كنت قلقةً بعض الشيء من فكرة التمدُّد على أرضية القبو، وتخيَّلت كل أنواع الكائنات الحية وهي تزحف عليَّ وأنا مُمدَّدة. لكن السيدة وورنكي كانت تأخذنا كل يوم إلى الفرش، وتدور حولنا وتربت برقة على كتف كل واحد منا، كل واحد على حدة. وهذا جعلنا جميعًا، ونحن أطفال لا نزال في السادسة، ننام على تلك الأرض الخشبية آمنين مطمئنين؛ لوجود المعلمة الجديدة الحانية.
كنت جيدة في مادة العلوم، لكن عشقي كان القراءة. فقد أحببت الكلمات منذ سنٍّ صغيرة. أذهلتني قدرتي على النظر إلى أحد الكتب، وقراءة المكتوب فيه. لذا فور أن استطعت أن أكتب وأخط الكلمات بقلم رصاص سميك على سطور تبعد بوصة، الواحد عن الآخر، قررت أن أكتب أولى قصائدي. وكانت بعنوان «النجوم».
النجوم، النجوم.
سأتخصص في دراسة اللغة الإنجليزية، وأتعلم استخدام الأزمنة المختلفة، لكنني في الصف الأول أردت أن تكون قصيدتي مقفاة بشكل ما ليس إلا. أمسكت تحفتي الفنية على استحياء واتجهت إلى مكتب السيدة وورنكي، ونظرت إلى أرضية القبو الخشبية المخدوشة وهي تقرؤها. عندما أنهتها أمسكتني واحتضنتني، وقالت لي: «إنها جميلة. أريدك أن تكتبي الكثير والكثير مثلها.»
سمعت كلامها. وظللت أكتب قصائد قصيرة. وفي الصف الثاني كتبت قصيدة غنائية قصيرة عن الفصول الأربعة. وحينئذٍ حملتني ساقاي النحيفتان إلى غرفة السيدة وورنكي لأعرضها عليها. ومع أنها كان لديها فصلٌ آخر في ذلك الوقت، غرفة مليئة بالأطفال عليها أن تُدرس لهم، فقد كانت تعاملني كما لو كنت الطفلة الوحيدة في الغرفة، كلما ذهبت إليها. أتمنى أن أرد بعض جميلها بالقصيدة التي كتبتها عن المعلمين:
بعد عدة أعوام، نشرَت صحيفة المدرسة «براجتاون بيوجل» قصيدتَين من تأليفي. وهو ما أسعدني وأسعد أمي والسيدة وورنكي. غير أن سعادتي خالطها الحزن لأن السيدة وورنكي اعتزمت الرحيل. وقبل أن ترحل أعطَتني هدية. كانت بالطبع كتاب قصائد وكان بعنوان «اقرأ لي وسأقرأ لك» للمؤلف جون تشاردي. وكتبت عليه: «عسى أن تفكر إحدانا في الأخرى متى تُليت إحدى القصائد. باربرا وورنكي، يونيو ١٩٦٧.»
السيدة باريش
ما الذي دفع فتاة خجولةً في العاشرة من عمرها أن تقرِّر، وهي في هذه السن الصغيرة، أن تصبح معلمة؟ بالطبع لا شيء سوى التأثير الهائل لمعلمة عظيمة؛ فهذا وحده يكفي أن تتخذ الصغيرة هذا القرار المصيري.
غيرت حياتي معلمتي في الصف الخامس بمدرسة وايلي الابتدائية في سولزبيري بولاية كارولينا الشمالية. إنها السيدة أولي ماي باريش، وهي سيدة صهباء ضئيلة الجسم فرضت على الجميع احترامها. أدركت قرب انتهاء صفي الخامس أنني أريد أن أكون معلمة مثل السيدة باريش.
بالطبع لم تكن المدرسة الابتدائية وقتها كما هي الآن. بل كان جميع الطلاب يراعون قواعد السلوك، فيجلسون في صفوف، ويتحدثون فقط عندما يُسمح لهم بذلك. كنا نسير جميعًا في الأروقة في صفوف مستقيمة. وكانت ترتدي جميع الفتيات الفساتين، وكان يحمل جميع الطلاب غداءهم في صناديق معدنية. لكن السيدة باريش سمحت لنا أن نكون متفردين في فصلها. فحدثتنا عن زوجها هاري كأنه صديقنا. ودافعت عنا، عندما تجنَّت معلمة التربية الرياضية على فصلنا. وغضبت عندما أجبرتنا المدرسة على الحضور يوم السبت؛ لتعويض يوم الإجازة الذي سقطت فيه الثلوج بقوة، وردًّا على ذلك جعلت اليوم ممتعًا. كانت السيدة باريش من المعلمات اللاتي كن يتحدَّثْن وينصتْنَ إلى طلابهن.
ترجع أهم ذكرياتي عن فصل السيدة باريش إلى يوم دراستنا للولايات المتحدة. إذ قسمتنا إلى مجموعات — وهذا لم يكن شائعًا في تلك الأيام — وخصت كل مجموعة بجزء من البلاد لدراسته. وأصبح واجبًا علينا أن نعد لوحة بيانات خاصة بالجزء الذي سندرسه، وأن نشرح لزملائنا في الفصل ما تعلمناه. لقد أتاحت لنا الفرصة أن نكون معلمين! لم يسبق لأحد في مدرستي الابتدائية أن أتاح لي الفرصة أن أعد درسًا لفصلي. بالفعل سبقت السيدة باريش عصرها.
احتوتني السيدة باريش — كنت طفلة خجولةً جدًّا وأصغر من أقراني — وبثَّت فيَّ القوة. ومع أنني خشيت بشدة القراءة على الملأ، فإنها اعتبرتها فرصةً لتشجعني على الوقوف أمام بقية الطلاب، وشرح ما تعلمته لهم.
لم أنسَ السيدة باريش وأنا أسعى لأن أصبح معلمة. وأثناء دراستي الجامعية ذهبت لزيارتها في الفصل لأتعلم من وسائلها الساحرة. وحرصت على البقاء على اتصال بها بعدما بدأت العمل في التدريس.
أما أهم موقف جمعني بالسيدة باريش فقد وقع منذ عدة أعوام. إذ كان بعض طلابي يعرضون على عائلاتهم وأصدقائهم مشاريعهم الخاصة بأحدث التقنيات، باستخدام أجهزة كمبيوتر أبل الجديدة الخاصة بنا. كان العرض مسائيًّا وقد امتلأت الغرفة عن آخرها. وقفت لأقدم طلابي وأعطي نبذة مختصرة عما فعلناه، فرأيت وجهًا مألوفًا جدًّا يبتسم لي. لقد كانت السيدة باريش تجلس بين الحضور، فخورة بشدة بطالبتها الصغيرة الخجولة التي درَّست لها منذ أعوام عديدة في الصف الخامس.
انتقلت السيدة باريش إلى العالم الآخر الآن، وأعتقد أنها سعيدة بمشوارها المهني. أما أنا فأدرِّس للعام الثالث والثلاثين في ولاية كارولينا الشمالية. وأمنيتي الوحيدة في الحياة أن يقول أحد طلابي ذات يوم إنني تركت أثرًا باقيًا في حياته.
سنوات التغيير
إذن، بعد مرور أربع سنوات على نقلي للفصل الجديد، عادت السيدة وورنكي وزوجها الذي كان قد تخرَّج وقتها في جامعة ديوك إلى بلدتهما بافالو في نيويورك. بدت بافالو بعيدة جدًّا في نظر طفلة صغيرة، لكن لم يكن هناك بدٌّ من ذلك.
حينئذٍ كنت في العاشرة من عمري. لكنني كنت على مشارف المدرسة الإعدادية، حيث ستشتتني ملهيات سنوات المراهقة الصاخبة. هذا بالإضافة إلى الملهيات الأخرى التي ظهرت في الجنوب في أواخر الستينيات. ظلت براجتاون مدرسة ابتدائية للطلاب البيض، حتى جرى إنهاء التمييز العنصري عام ١٩٦٩. ضم الحي الذي أسكن فيه مزيجًا من البيض والسود. لهذا اعتدت طوال سنوات دراستي الابتدائية أن أستقل الحافلة المتجهة إلى مدرسة براجتاون، في حين كان يستقل جيراني السود الحافلة المتجهة إلى مدرسة ليكفيو الابتدائية.
أما العام التالي — وأنا في الصف السابع — فقد ذهبت إلى المدرسة لأول مرة مع طلاب سود. في أول يوم لي في العام الدراسي اقتربت مني ثلاث فتيات وأنا في الحمام، وسألنني عن شعوري بوصفي فتاة بيضاء. وذات يوم وقف صبي أبيض في مقدمة حافلتي قبل أن ينزل. وجذب أنظار الجميع إليه بإنشاده أبياتًا قليلة من أغنية «ديكسي»، ثم قفز من الباب. فهب عشرة صبية سود من مقاعدهم حولي ولاحقوه في الشارع.
بالرغم من خطورة ما حدث، أعتقد أن أكثر ما شغلني ضرورة توفير حراسة من رجال الشرطة في رحلتَي الذهاب إلى المدرسة والعودة منها. فقد اصطفَّ الرجال البيض المحتجون على إنهاء التمييز العنصري في الشوارع، بطول الطريق المؤدي من حيي إلى مدرستي، ورشقوا الحافلات بالحجارة. في بعض الأوقات كانت أحداث تلك الأيام العصيبة تطغى على ذكرياتي السعيدة عن المرحلة الابتدائية.
انضممت لفريق المشجعات، وتصرفت بطريقة جديدة لتلائم وضعي الجديد، وتساعدني على إخفاء شعوري الدائم بقلة ثقتي في نفسي. ظلت مشكلتي الكبرى هي مظهري، لكن ساهمت عوامل أخرى أيضًا في شعوري بعدم الثقة. فطالما كنت أدرك أنني أعيش في بيئة متواضعة، وكانت عائلتي لديها بالكاد ما يكفي للوفاء باحتياجاتها الضرورية مقارنة بالأوساط الأكثر ثراءً. لم نكن معدمين على أي حال، لكننا افتقدنا بعض الكماليات، مثل: الرحلات العائلية والتلفزيون الملون والسيارة الفارهة. لم تحظَ جدتي بحمام داخل منزلها حتى كبرتُ وتزوجت. (مع أنني أُومِن بشدة أن استخدام حمام جدتي الذي كان خارج المنزل أدَّى إلى تقوية شخصيتي.)
تحسست طريقي طوال سنوات مراهقتي كغيري من الفتيات. ومع قلة تفكيري تدريجيًّا في السيدة وورنكي، فقد ظلَّت جزءًا مني. تخلصت من كتب مرحلة الطفولة كلها واحتفظت بالكتاب الذي أهدتني إياه، وكنت أتصفحه من وقتٍ لآخر. إلا أنني لم أفكر جديًّا في البحث عنها إلا بعد مرور عدة أعوام.
أنهيت دراستي الثانوية ودخلت الجامعة، وكلي شغف للتعلم الذي زرعته فيَّ السيدة وورنكي قبل أعوام. أتذكر أنني فكرت في وقت ما في عامي الأول في الجامعة، تقريبًا في الوقت الذي تخصصت فيه في التدريس، في إبلاغ السيدة وورنكي أنني قررت العمل معلمة. لا أظنني أدركت حينئذٍ مدى تأثيرها في قراري هذا، ولم يكن بمقدوري أن أعلم وقتها أن طريقتها في التدريس ستؤثر على عملي. لكنني شعرت في وقت ما برغبة شديدة في إخبارها أنني سأسير على دربها. مع أن هذا الأمر بدا مستحيلًا في ذلك الوقت. فقد فقدَت إحدانا الاتصال بالأخرى، ولم يظهر الإنترنت إلا بعد عشرين عامًا أخرى. لذا اكتفيت بالتفكير بإعجاب في معلمتي التي درست لي في القبو بالمدرسة الابتدائية، دون أدنى أمل في رؤيتها ثانية يومًا ما.
كما أصبحت الكتابة ونظم القصائد اللذان أحببتهما بفضل السيدة وورنكي من الثوابت في حياتي، شكَّل حبها وتشجيعها اللامتناهيان لي — دون اعتبار لمظهري أو افتقادي للمكانة الاجتماعية — شخصيتي كمعلمة. لزمني الأمر عشرين عامًا من التدريس حتى أدرك تمامًا تأثيرها عليَّ. وفور أن أدركته تمنيت أن أخبرها يومًا بذلك، إن قُدر لي أن أعثر عليها. لكن العثور عليها كان أشبه بما كتبته في قصيدتي الأولى: البحث عن النجوم.