الفصل الثاني

تحسس الطريق

«شعرت أنني ضائعة وغير مستعدة.»

باربرا وورنكي، ١٢ نوفمبر ٢٠٠٨

لم يخطر ببالي قط أثناء نشأتي أنني سأصبح يومًا معلمة. وفي الوقت الذي صفَّت فيه أختي عرائسها أمام سبورة تخيلية لتلعب دور السيدة كيلباتريك، معلمتها المحبوبة في الصف الأول، كنت أقضي ساعات خارج المنزل أقفز وأدور وألعب. لم أطمح أن أكون معلمة. بل تمنيت أن أكون مشجعة لفريق دالاس كاوبويز لكرة القدم الأمريكية.

أذكر أول يوم شاهدت فيه مشجعات مدرستنا وأنا في المدرسة الإعدادية. راقبتهن وهن يدخلْنَ برشاقة صالة الألعاب الرياضية، مرتديات تنانير مخططة بالبرتقالي والأبيض وممسكات بكرات تشجيع برتقالية فاتحة، ويعبرْنَ أمام المقاعد الخشبية، لحظتها أدركت أنني أريد أن أكون واحدة من هؤلاء الفتيات المحبوبات. نحيت جانبًا شعوري بعدم الثقة، وبذلت جهدًا كبيرًا في اختبارات الأداء في الصفَّين السابع والثامن، لكنني لم أوفَّق في المرتَين. وشاهدت الاختيار يقع على فتيات أجمل مني، تصادف انتساب أغلبهن إلى فصل المدرب، وكان من بينهن شيلا.

وفي طريقي للمنزل — بعد إعلان أسماء المشاركات في الفرق — بكيت بحسرة لأنني لم أُقبل. حاولت أمي تهدئتي، وأخبرتني أنني إذا بذلت أقصى طاقتي، فسأحقِّق أي شيء أريده. وشجعتني ألَّا أتخلَّى عن حلمي. فبدأت العمل من جديد.

كان أبي قد شيد غرفة لأدواته في الساحة الخلفية، بها نافذة كبيرة خلفية تتكون من عشرين لوحًا زجاجيًّا محاطة بطلاء أبيض متقشر. تدربت هناك بلا كلل مستخدمة النافذة مرآة لي. وقضيت كل لياليَّ بالخارج أقفز أمام تلك الغرفة حتى يحل الظلام التام. وادخرت كل بنس في صندوق حذاء كتبت عليه «نقود دروس الرقص»، وتمكنت أخيرًا من إقناع أمي بادخار مبلغ شهري قدره ١٢ دولارًا، لدَفْع تكاليف دروس الجمباز. وعندما حان وقت اختبارات الأداء في المدرسة الثانوية، وقع الاختيار عليَّ أخيرًا للانضمام إلى الفريق. بكيت تلك المرة أيضًا لكن من السعادة، وظللت أضحك وأبكي في طريق عودتي إلى المنزل. وبحلول عامي الأخير في المدرسة الثانوية، كنت قد أصبحت قائدة فريق مشجعات المدرسة، وحصلت على المركز الثاني كأفضل مشجعة بين ٣٥٠ مشجعةً شاركَت في مخيم مشجعات الساحل الشرقي. زادت ثقتي بنفسي مع خوضي هذه التجارب. ومع أنني كنت لا أزال أصارع في صمت بعض جوانب مشكلة عدم تقديري لذاتي التي عانيت منها في المدرسة الابتدائية، فإنني سرعان ما كنت أبدو سعيدة ومبتسمة فور ارتدائي تنورتي المخططة، وحذاء التشجيع الخاص بي؛ الحذاء الأبيض والأسود!

لكنني أدركت أن الأحلام لا تتحقق دائمًا، عندما خضعت لاختبار الانضمام لفريق المشجعات في كليتي. كنت في السنة الأولى واحدة من مائتي فتاة شابة دخلت قاعة الألعاب الرياضية في حرم الكلية للخضوع للاختبار. وبالرغم من قلقي تمكنت من التأهل لتصفيات المائة، ثم الخمسين، ثم الاثنتَي عشرة. وكان من المقرر اختيار ست مشجعات فقط.

وليلة إعلان النتيجة، علمتُ أنني حصلت على المرتبة السابعة. ومن المفارقات القاسية لفتاة قضت حياتها كلها تسمع كم هي نحيفة للغاية، أن تخبرها لجنة التحكيم أن سبب رفضها أن وزنها زائد! كيف يعقل ذلك؟ اتضح أن التشجيع في المدرسة الثانوية يختلف عنه في الجامعة. إذ تضمنت حركات التشجيع في الجامعة أن يرفعني شباب — بعضهم لا يزيد وزنه عن وزني كثيرًا. ولم يكن وزني خفيفًا بالقدر المطلوب.

حطمني هذا. وشعرت لدى عودتي لسكني أنني أسير بخطًى متثاقلة على الرصيف. فقد قضيت كل سنوات دراستي الثانوية في فريق التشجيع، وأغلب وقت فراغي في التمرين على التشجيع. ماذا سأفعل الآن؟ والسؤال الأهم: ماذا سأكون الآن؟

السيدة كلارك

فور أن رأيت مادة الخطابة مذكورة في جدولي الدراسي، أخبرت أمي أنني سأترك المدرسة الثانوية، مع أن كلتينا تعلم أنه تهديد أجوف. فلطالما حلمت أن أكون معلمة، منذ أن كنت في الصف الأول ألعب لعبة المدرِّسة مع أخي الصغير، ومحوت كل محتويات أوراق العمل المدرسية الخاصة بي. لهذا عدت إلى المدرسة في اليوم التالي والخوف يملؤني لأشرع في مهمة تعلم الخطابة. في البداية أرعبتني المعلمة التي دخلت الفصل، لكنها أصبحت في النهاية واحدة من أهم الذين تركوا أثرًا في حياتي؛ إنها السيدة كلارك. اعتادت التحدث بصوت مرتفع كله حماس وقد كانت تتوقَّع منا الكثير جدًّا، وأجبرت جميع طلابها على احترامها وخشيتها. في تلك المرحلة من حياتي اعتقدت بشدة أن السيدة كلارك تجسيد للشر. كان أول واجب منزلي في مادة الخطابة كتابة بحث من ثمان صفحات، وإعداد خطبة تثقيفية مدتها من ثمان إلى عشر دقائق. ومن أهم الشروط التي لن أنساها أبدًا إلقاء الخطبة من الذاكرة مع إمكانية استخدام بطاقة تذكير واحدة فقط. بطاقة واحدة! فاضطررت لكتابة بحثي بأكمله في تلك البطاقة، وقد حاولت نحو خمس أو ست محاولات قبل أن أنجح في هذا. وكتبته بخطٍّ صغير في جميع الاتجاهات، بحيث إذا أجبرَتْني تلك المرأة على الحديث لن أنسى ما عليَّ قوله. عندما وقفت لأخطب، ألقيت بحثي المكون من ثمان صفحات في ثلاث دقائق كاملة، ولدهشتي حافظت على تماسكي ونجحت. لقد نجحت في إلقاء الخطبة واجتياز المادة، بمساعدة بعض الحيل الذكية التي علمتها لي السيدة كلارك. إنها لم تدعني أستسلم لخجلي، بل ظلت تتيح لي الفرص لأكتشف موهبة التمثيل بداخلي.

أليس كينج، معلمة اللغة الإنجليزية والخطابة للصفوف من العاشر وحتى الثاني عشر، بمدرسة مقاطعة كامبيل الثانوية بمدينة جيليت في وايومنج، الحاصلة على لقب معلم العام بولاية وايومنج لعام ٢٠٠٩

تغيير حلمي

في تلك الليلة نظرت إلى حياتي، وفكرت في البدائل المتاحة أمامي وفيما أهتم به. وأدركت أنني مهتمة بأمر واحد فقط بنفس قدر اهتمامي بالتشجيع؛ إنه اللغة الإنجليزية. لطالما أحببت الكلمات والعبارات الساحرة بكل أشكالها؛ الشعر والمقال والقصص القصيرة والمسرحيات. اتضح لي أن اهتمامي بالأدب لازمني طوال حياتي وسنوات دراستي، وبدأ في فصل السيدة وورنكي في الصف الأول وقصائد الشعر التي تشاركنا إياها. هذا ما أردت فعله، أن أشارك هذا الحب، أن أقتبس عبارات شكسبير أمام طلاب مبهورين باستخدامات اللغة. حينئذٍ عزمت على اتباع خطوات معلمتي المفضلة، والتأثير في حياة آخرين كما أثَّرت السيدة وورنكي في حياتي.

حتى تلك اللحظة لم أكن قد فكرت في تخصصي في الجامعة؛ إذ انتقلت للسكن في سكن الطالبات في الخريف وأنا أحلم بالتشجيع في مباريات كرة القدم الأمريكية. ولكن على حين غرة فاجأني سؤال: كيف لم أفكر في تخصصي من قبل؟ بالطبع سأصبح معلمة! وبدأت أتخيل شكل فصلي، ورأيتني أقف فيه أحبِّب الأطفال في المدرسة كما حدث معي في الصف الأول. سألعب مع أطفال آخرين الدور الذي لعبته معي السيدة وورنكي. وأسعدتني تلك الفكرة كثيرًا.

قضيت السنوات الأربع التالية أهيئ نفسي لتغيير العالم، وأتدرَّب على إعداد الدروس، وأتعلم النظريات التربوية. ومع أنني شعرت في بعض الأوقات بالحزن، عندما كنت أشاهد مباريات ألعاب الكرة في الجامعة وأرى المشجعات، فإنني تيقَّنت أن لحياتي هدفًا أسمى. يرى البعض أن التدريس يختار المعلمات وليس العكس. وقد شعرت أن التدريس اختارني ذلك العام، وحينئذٍ وجدت الصفاء النفسي. كان مستقبلي مخططًا مسبقًا، وأدركت لأول مرة الدور الذي سأقوم به.

في سنتي الجامعية الأخيرة، كُلِّفت بمهمة التدريس لبعض الطلاب في مدرستي الإعدادية. فتزاحمت الذكريات في رأسي؛ ذكريات حفل كوجر كلاب ورفضي في اختبارات فرق التشجيع، ومسألة إنهاء التمييز العنصري. لكن رغبتي في البدء سريعًا كانت كبيرة، وشعرت بالسعادة عندما علمت أن المعلمة التي ستشرف عليَّ ستكون السيدة بيتي ويتفيلد، إحدى أقدر المعلمات في المدرسة. كانت في فصل مدرسة الأحد الذي ارتادته أمي، وهي شخصية عرفتها طوال حياتي تقريبًا.

أمسكت السيدة ويتفيلد بزمام الأمور في فصلها؛ لذا وجدت نفسي في بيئة مثالية. حتى عندما غادرَت الفصل وتركَت الطلاب معي وحدي، تصرَّفوا جميعًا بأدب جم. إذ علموا أن السيدة ويتفيلد ما زالت في المبنى! درَّست لطلاب الصف التاسع مسرحية «روميو وجولييت»، ومارسنا نشاط «كلمة اليوم لشكسبير». أيقنت حينئذٍ أنني اخترت مهنة رائعة؛ فلم تكن سهلة فحسب بل أتاحت لي فرصة الحديث عن المؤلفين والكتب طوال اليوم (وأمكنني تدريب المشجعات أيضًا). لقد لاءمني التدريس تمامًا.

العودة إلى أرض الواقع

على الأقل بدا التدريس للطلاب رائعًا. لقد بدا رائعًا للغاية في واقع الأمر، حتى إنني تخرَّجت في الجامعة وبداخلي شعور زائف بالثقة. أذكر كيف دخلت بجرأة المكتب المركزي لإحدى المناطق التعليمية ذلك العام في يونيو، وطلبت مقابلة مسئول شئون العاملين. فأجابتني موظفة الاستقبال: «املئي هذا الطلب ثم أرسليه بالبريد.» فأخذت الطلب وخرجت إلى ساحة السيارات حتى وصلت إلى سيارتي، وفجأة وقفت في مكاني.

وصرخت دون أن أوجه كلامي لأحدٍ بالتحديد: «لا! لن أغادر دون الحصول على وظيفة.» وعدت إلى موظفة الاستقبال نفسها داخل المبنى، وطلبت منها منحي قائمة بأسماء مديري المدارس الثانوية. رسمت الموظفة على وجهها ابتسامة متكلفة، وأخبرتني أنني لن أتمكن من الوصول لأيٍّ منهم؛ لأنهم جميعًا مجتمعون في غرفة اجتماعات خلفي. شكرتها واتجهت نحو الباب المؤدي لتلك الغرفة، وانتظرت. انفتح الباب بعد مرور ساعة، فقفزت في وجه أول شخص أراه.

قلت لذلك المدير المتفاجئ وكل من حوله ممن كان بإمكانهم سماعي: «أنا أبحث عن وظيفة!» وبحلول أغسطس، كنت أعمل تحت إدارة هذا المدير.

اكتشفت أن العثور على وظيفة كان أسهل ما في العملية. فسرعان ما بدأت تتلاشى ثقتي بنفسي المكتسبة حديثًا، وسألت نفسي أين كان عقلي عندما عدت للمبنى مرة أخرى ذلك اليوم. أذكر أول لقاء لي مع زملائي المعلمين. إذ نظرتُ إلى عدد منهم ونحن نركب حافلة المدرسة لحضور مؤتمر على مستوى المنطقة التعليمية، وتساءلت هل هناك قاسم مشترك بيني وبين هؤلاء التربويين المخضرمين. شاء الحظ أن يكون أول مقعد متاح بجوار معلمة لغة إنجليزية مثلي. وعندما جلست وبدأت أعرِّفها بنفسي، نظرت إليَّ وسألتني بصوتٍ عميقٍ رنان: «في أيِّ مكانٍ يعمل زوجك؟» أظن أنني جلست فاغرة فمي لمدة دقيقة كاملة. اعتدت على سماع اللغة العامية والأخطاء اللغوية التي كانت شائعة في حيي. لهذا شعرت فجأة بأنني في مكان غريب، وتأكدت أنني غير مؤهلة للتدريس لطلاب يتوقعون مني الحديث بمثل هذه اللغة الرصينة.

بعد انتهاء المؤتمر والعودة إلى المدرسة، لم أصدق أنني استغرقت خمسة أيام عمل كاملة للانتهاء من عمل بسيط، هو إعداد لوحات إعلان المدرسة لأول يوم في الدراسة. في ذلك الوقت لم تكن هناك أحرف أو حواف جاهزة؛ لذا جلست وحدي أقصُّ الأحرف خمسة أيام طويلة لا تنتهي. فكرت أن أقسم إحدى اللوحات إلى قسمَين؛ قسم «الأدب» وقسم «النحو». لكن المشكلة أنني كتبت «الأدب» و«النوح». في اليوم الخامس مرت معلمة لم أرَها من قبل بجوار باب غرفتي، وقالت لي: «أخطأتِ الهجاء»، ثم أكملت طريقها إلى آخر الرواق. أصبت بالانهيار. فأنا معلمة لغة إنجليزية بالمدرسة الثانوية، وها أنا أخطئ في هجاء كلمة. الغريب في الأمر أنني لا أجيد شيئًا في حياتي مثلما أجيد الهجاء. أعترف أن علاقتي بالحساب انتهت بانتهاء مقرر الجبر في الصف العاشر عندما حصلت على ٣ درجات في الاختبار. لكن لطالما كان الهجاء نقطة قوة لديَّ. ربما أصابني الإرهاق بسبب القص الكثير، لكنني اعتبرت ذلك الخطأ نذير سوء. وخشيت أن أكرر نفس الخطأ وأنا معلمة.

صفعة عنيفة

مع وصول الطلاب للمدرسة، تيقَّنت حقًّا أنني غير مستعدة للتدريس. فعندما أخذت أنادي الأسماء في اليوم الأول، وقف طالب في سنته الأخيرة وذراعاه ممدودتان، ثم نظر إلى زملائه في الفصل وقال: «من الواضح أنها لا تعرف من أكون.»

فقلت بثقة في محاولة لإثبات سلطتي: «لا يهم من تكون. اجلس!» ثم بدأت الأمور تتدهور بسرعة منذ تلك اللحظة.

لقد عُقدت صفقات مخدرات في الفصل في حضوري دون أن أعلم. وذات مرة رأيت مبالغ مالية ضخمة يُجرى تبادلها في الفصل، وعندما سألت جاءتني الإجابة: «نحن نجمع النقود من أجل رحلة ميدانية». بعدها استُدعيت إلى مكتب مدير المدرسة، وعلمت أن المدرسة فصلت هؤلاء الطلاب لأنهم يتاجرون في المخدرات داخل المدرسة.

وسألني المدير: «ألم تلاحظي شيئًا؟»

فأجبته وأنا مطأطئة الرأس: «نعم. رأيتهم فقط وهم يجمعون النقود من أجل رحلة ميدانية.»

كان السؤال التالي الذي سأله: «لماذا يجمع الطلاب النقود وليس أحد المعلمين؟»، وبالطبع لم أجد ما أقوله.

لم تكن هذه المفاجأة الوحيدة. إذ تعرضت في تلك السنة للشتم لأول مرة، وأدركت للمرة الأولى أن بعض الطلاب يتعمدون عدم إتمام واجباتهم ليرسبوا. وكم أفزعني ذلك!

ومع أنني حاولت تحفيزهم على النجاح، فقد اكتشفت أن طلابي نوعان: نوع يحب المجادلة والمواجهة، ونوع يحب «مصادقة» المعلمين اليافعين الجدد. أتذكر سماعي اعتراضات تقريبًا على كل مهمة كلفتهم بها: «هذا صعب جدًّا» أو «هذا سهل جدًّا؛ فقد فعلناه العام الماضي». في هذه الأثناء كنت أتلقى دعوات باستمرار لكل حفلات المدرسة الثانوية وحتى حفل التخرج. وبالرغم من أهمية هذه الوظيفة بالنسبة لي، فلم يأخذني أحد على محمل الجد.

لأكون صريحة أثق أنني لم أتصرف كمعلمة تريد أن تُؤخذ على محمل الجد. فقد شعرت بالتأكيد وأنا أجلس في قاعة المعلمات — وأبلغ اثنين وعشرين عامًا — أنني لا أنتمي إلى ذلك المكان. فقد بدا لي أن العديد من زميلاتي كن بعمر أمي، وكان يدور حديثهن بصورة رئيسية حول وصفات الطعام والحفلات الدعائية لأوعية حفظ الطعام. في الوقت نفسه، كنت أسمع مصادفةً زميلاتي الأكبر سنًّا يتحدَّثْن عن الحفلات «الحقيقية»، وأنا خريجة جديدة لا أعلم شيئًا. لهذا لا عجب أنني وجدت صعوبة في أن أبدو قائدةً تربوية. فلم أشعر أنني قائدة من هذا النوع بأي حال.

فيما يتعلق بالتدريس، فقد أخفقت تمامًا. والوسائل التي استخدمتها في المدرسة الإعدادية لم تكن مناسبة للتدريس في المدرسة الثانوية. آنذاك لم يكن هناك مرشد للمعلمين الجدد؛ لذا توجهت إلى غرفة زميلة لأطلب منها المساعدة. فاعترفت لها قائلة: «لا أعلم ماذا أدرِّس.» فأعطَتْني الكتاب المدرسي وأشارت إلى بعض الصفحات، ثم أغلقت باب غرفتها.

أحد الأيام كنت أجلس على مكتبي في الفصل أقرأ بصوت مرتفع للطلاب. مرت معلمة أخرى أمام الباب، وأطلَّت برأسها وقالت: «ستتعلمين ألَّا تفعلي ذلك»، ثم غادرت مسرعة. سألت نفسي: ألَّا أفعل ماذا؟ ألَّا أقرأ؟ كانت تلك النصيحة الوحيدة التي تلقيتها من إحدى زميلاتي ذلك العام.

كلما تذكرت الآن تلك الممارسات التعليمية اعتصرني الندم. كانت هناك تدريبات نحو وواجبات قراءة وأوراق عمل يومية، وكلها أمور غير مفيدة — قليلة الفائدة — لطلابي. كان لديَّ فصلان من الطلاب الموهوبين وفق تصنيف المدرسة، وأذكر أنني عندما تصفحت أبحاثهم لم أكن أعلم كيف أمنحهم الدرجات. فالمحتوى أصعب من أن أفهمه! كتب أحد الطلاب بحثه عن الفيزياء النووية، ولم يكن بمقدوري سوى البحث عن أخطاء في علامات الترقيم. كثيرًا ما شعرت بضرورة أن أقدم لطلابي «المزيد»، لكنني لم أعرف من أين أبدأ.

ومع ذلك كنت أقضي وقتًا طويلًا في عملي. إذ درَّست خمسة مستويات من اللغة الإنجليزية، ومادة الدراما. أضف إلى ذلك أنني كنت مدربة فريق التشجيع، وراعية نادي بيب، ومدربة نادي الدراما. وأخرجت حفل الربيع لاكتشاف المواهب، وساعدت في إتمام حفل الربيع الموسيقي. في أغلب الأيام كنت أصل إلى المدرسة الساعة السابعة والنصف صباحًا، ولم أكن أغادر إلا ليلًا بعد انتهاء كل التدريبات والمباريات. وبانتهاء العام الدراسي في يونيو ١٩٨٠، شعرت بالإنهاك الشديد.

fig4
صورتي في الكتاب السنوي وأنا مدربة فريق التشجيع عام ١٩٧٩، وهو عامي الأول في التدريس.

بعدها بوقت قصير تلقيت خطابًا يخطرني بوقف التعيينات في مدرستي، ونظرًا لأنني آخر شخص عُين فقد نُقلت إلى مدرسة في الجهة الأخرى من المدينة. لم أحتمل فكرة قضاء عام أول مرة أخرى في مدرسة جديدة مع مدرسين وإدارة وطلاب جدد.

فاستقلت من وظيفتي.

ولم تطأ قدمي فصلًا دراسيًّا لسبع سنوات. خلال تلك المدة انتقلت إلى مدينة أخرى، وعملت في استوديو للرقص (استمرارًا لحلمي في التشجيع)، وأنجبت، ومررت بتجربة الطلاق المريرة، وفكرت كثيرًا في المهنة التي تخليت عنها.

لكنني تعلمت درسًا ليلة استبعادي من فريق التشجيع قبل سنوات. على المرء أن يعمل باجتهاد ويبذل أقصى طاقته، وإذا أخفق فعليه أن يجمع شتات نفسه، ويستعد للجولة التالية، ثم يبدأ من جديد.

وهذا ما فعلته بالضبط.

الفصل الذي فقدته

بحلول خريف عام ١٩٨٧ كنت أمًّا تعول أطفالها وحدها، وتحتاج إلى عمل يقدم لها مزايا. اتصلت بالمكتب المركزي للمنطقة التعليمية، وأدرجت اسمي ضمن الراغبين في العمل معلمات بديلات. وجب على كل المعلمات البديلات حضور تدريب مدته ثلاثة أيام، يعرض إرشادات لإدارة الفصل ووضع خطط الدروس. واندهشت من فيض الذكريات التي عاودتني في ورشة العمل هذه من أيام عملي معلمة، ووجدتني متحمسة للبدء.

بعدها مباشرة تلقيت اتصالًا للحلول محل معلمة تدرس للصف السابع. ذهبت إلى المدرسة ذلك الصباح سعيدة بعودتي للعمل في التدريس. فثمة شعور مريح بداخلي؛ شعور بأنني «أنتمي لهذا المكان». اطلعت على خطط دروس المعلمة لذلك اليوم، واندهشت عندما علمت أنني يجب أن أصطحب الطلاب إلى ساحة اللعب في الخارج، بمجرد انتهائهم من إكمال أوراق عملهم. وأدهشني أكثر انتهاء طلاب الفصل الأول من عملهم خلال خمس دقائق. فقلت لهم: «تقول معلمتكم إنكم متى انتهيتم يمكنكم …»

لم أتم عبارتي لأن الطلاب كانوا يغادرون الفصل. فجمعت بسرعة مفاتيح الفصل وخرجت لألحق بالطلاب. خرجت إلى الرواق ونظرت يمنة ويسرة. لكنهم قد اختفوا. فافترضت أنهم يعرفون النظام المتبع وذهبوا إلى ساحة اللعب مباشرة، فذهبت إلى هناك أيضًا.

لكنني لم أجد طالبًا واحدًا.

عدت إلى المبنى وشرعت أبحث حولي. بحثت في الحمامات والمطعم وأسفل الدرج. لكن دون جدوى. المشكلة أنني كنت أبحث عن أشخاص لا أعرفهم، عن غرباء كنت قد قابلتهم قبل خمس دقائق فقط. لم أعرف ماذا كانوا يرتدون أو مَن هم. لقد فقدتهم.

لن أنسى أبدًا وأنا أدخل مكتب المدير ذلك الصباح لأخبره أنني فقدت فصلي. أظن أنه ابتسم بالرغم من قلقه، وقبل أن نقرر ما يجب فعله رن جرس انتهاء الحصة. فنظر أحدنا إلى الآخر ونحن نفكر في نفس الفكرة: لا بد أن يكون الطلاب الآن في طريقهم إلى الفصل، لحضور الحصة الثانية مع معلمة حقيقية تعرف أسماءهم. فعدت إلى الفصل وغيَّرت خطط دروس اليوم. إذ ألغيت وقت ساحة اللعب لبقية اليوم، وكان لزامًا عليَّ أن أجد طريقةً مبتكرةً لاحتواء فصل من المراهقين الحانقين الذين ينهون تدريباتهم في خمس دقائق. وهكذا رقصنا وغنينا وألقينا المزحات لبعض الوقت لملء وقت الحصة. بالطبع أبدى الطلاب معارضة في البداية، وخشوا أن يشاركوا مع المعلمة البديلة. لكنهم سرعان ما استجابوا لأسلوبي التدريسي، وشعرت أن غريزتي التدريسية ربما لا تزال عاملة. حينئذٍ تأكدت أنني أريد أن يكون لي فصلي الخاص مرة أخرى؛ على الأقل سأعرف وقتها أسماء طلابي.

الفصل الذي عجزت عن التدريس له

عدت للتدريس في فبراير عام ١٩٨٨. ظهرت حاجة لمعلمة مهارات لغوية للصف الثامن، وقلت لنفسي: «لا يمكن أن يكون التدريس لطلاب المدرسة الإعدادية صعبًا للغاية.» إذ درَّست من قبل لطلاب المدرسة الثانوية. غير أن أحدًا لم ينبهني لمخاطر بدء التدريس في منتصف العام الدراسي. سارع الطلاب بإخباري أنهم تخلصوا من ثلاث معلمات قبلي، وأنهم ظلوا يُرهبون المعلمات البديلات لمدة شهر (وعاودتني ذكريات الطلاب الذين أضعتهم).

لم أواجه في حياتي مشكلات سلوكية كالتي واجهتها مع هؤلاء الطلاب. فهم لا يجلسون أبدًا. بل يظلون يتجولون في الفصل، وينظرون من النافذة، ويقرص بعضهم بعضًا، دون أدنى اعتبار لوجودي. وكأنني غير مرئية. جعلوني أرتبك بشدة حتى إنني كنت أتلفظ الكلمات خطأ، وهذا جعلهم يسخرون مني.

بدت عودتي للتدريس أشبه بالتدريس في الفصول الدراسية التي نراها أحيانًا في برامج التلفزيون وفي الأفلام؛ إنها فصول تضم طلابًا مخربين يتجولون في الفصل متجاهلين المعلمة، وفيها تتطاير الأوراق على شكل صواريخ وقذائف، وفيها طلاب يقفون في النوافذ ويصيحون في المارة. أرعبني بشدة أن أتخيل نفسي في النسخة الواقعية من هذا السيناريو.

على الفور فعلت نفس الشيء الذي فعلته عندما درَّست لأول مرة. طلبت المساعدة. جلست في مكتب مدير مدرستي، وسألته لماذا لم يخبرني أنني سأدرِّس لشياطين لأربعة أشهر. فابتسم ابتسامة عريضة، وأخبرني أنني صغيرة السن (وقال إنني جميلة، لكنني أظن أنه كان يتملقني حتى لا يخسر المعلمة الرابعة)، ويجب أن أحاول بجهد أكبر جعلهم يحترمونني. وأخبرني أيضًا أنه يعرف على وجه الدقة الوسيلة الملائمة لمساعدتي، ألا وهي وضع مراقب في الفصل. سعدت بسماع ذلك. ففي عامي الأول في التدريس لم يدخل أي شخص بالغ فصلي. أما في تلك المدرسة فسيدخل المراقب ويشاهدني وأنا أعمل، ويدون ملحوظات؛ ومن ثم يصلح كل شيء. لم أُومِن بجدوى ذلك النظام، لكنني تيقنت من أمر واحد؛ ما دام المراقب في الفصل فلن أبقى وحدي مع هؤلاء الأطفال.

ما زال بحوزتي تقييمه الأول:
  • عرض المادة العلمية: متوسط

    تُكيف العمل حسب احتياجات الطلاب. تحتاج إلى اتباع خطة الدرس المكونة من ست خطوات بحذافيرها. (لم أرَ أو أسمع من قبل عن خطة درس مكوَّنة من ست خطوات.)

  • إدارة وقت التدريس: أقل من المتوسط

    تحتاج إلى الانتباه بشدة لمدى المشاركة الفعالة للطلاب. (لم أعلم معنى «المشاركة الفعالة». بل أردتهم فقط أن يقضوا كل وقتهم في مقاعدهم.)

  • التعليقات التعليمية: متوسط

    تعليقاتها على عمل الطلاب في الفصل جيدة. (هل قاموا بأي شيء اليوم؟!)

  • التعامل مع سلوك الطلاب: أقل من المتوسط

    تحتاج باستمرار إلى فرض قواعد محددة في الفصل. (هل هذا رأيك فعلًا؟!)

  • التفاعل في البيئة التعليمية: فوق المتوسط

    تقدم أفضل ما يمكنها للطلاب. (هذا صحيح.)

دفاعي عن نفسي أنني ظللت بعيدة عن التدريس سبع سنوات، وكنت أجهل معايير تلك التقييمات. لكن بالنظر إلى أحداث ذلك العام لا يدهشني أن يكون تقييمي كمعلمة بهذا السوء. أذكر أنني توجهت إلى مكتب المدير وسألت عن عدد أيام الإجازة المرضية المتبقية لي حتى آخر العام. وقسمت الرقم على عدد الأسابيع المتبقية في العام. إذ أردت أن أجد وسيلة لأخذ يوم إجازة مرضية كل أسبوع، حتى لا أتعامل مع تلك الفصول سوى أربعة أيام في الأسبوع.

كان ذلك العام واحدًا من أكثر الأعوام الدراسية ضغطًا طوال حياتي. لكنه كان آخر عام أحصل فيه على تقدير «أقل من المتوسط» في التقييم. عندما اجتمعت أنا والسيدة وورنكي بعد أعوام عديدة سألتها كيف كانت معلمة جيدة منذ البداية. فأجابتني: «ظننت أنني لم أكن كذلك. فلم أخطط حقًّا لما فعلته ذلك العام. كنت أدرِّس مادة الدراسات الاجتماعية لطلاب المرحلة الثانوية في عامي الأول، ثم أصبحت معلمة للصف الأول يجب عليها أن تدرِّس كل شيء: رسم وموسيقى وقراءة. شعرت أنني ضائعة وغير مستعدة.»

«ضائعة» هي الوصف الملائم لحالي ذلك العام. علمت أنني يجب أن أعثر سريعًا على المعلمة بداخلي بالرغم من صعوبة ذلك. ومع أن البداية كانت صعبة فإنني ظللت عازمة على إحراز النجاح، وهكذا بدأت العام التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤