إقامة العلاقات
«عسى أن تفكر إحدانا في الأخرى …»
لديَّ مبدأ أتبعه. في الواقع إنني أتبع عدة مبادئ، لكن أحد المبادئ الذي أظل أردده مرارًا وتكرارًا على أسماع المعلمين الجدد هو: «إذا عاديتهم فستكون أنت الخاسر.» اعتبرت بعض الطلاب أعدائي خلال أول عامين لي في التدريس وكنت أنا الخاسرة. خسرت احترام زملائي، وجافاني النوم، وفقدت الثقة في قدرتي على التدريس. خسرت بكل ما تحمل الكلمة من معنًى.
عندما بدأ أول عام دراسي لي بطريقة حديث وقحة من جانب أحد الطلاب، مما شجَّع غيره من الطلاب على الانضمام إليه، كان رد فعلي الفوري اتخاذ موقف معادٍ لهم، وأصبحت علاقتنا «أنا ضدهم». وقضيت العام بأكمله في محاولة للتغلُّب على هذا الشعور. وفي عامي الدراسي الثاني لم أتحسَّن كثيرًا. إذ إن الطالب الذي سخر مني عندما أخطأت في نطق كلمة وصاح قائلًا: «انطقيها بصورة صحيحة!» انطبعت صورته في عقلي ولم تفارقني قط.
وفي عامي الدراسي الثالث، بدأ يحدث تدريجيًّا شيء ما. ما كان في البداية لحظة إدراك خاطفة بدأ يزداد ويتنامى بداخلي، على نحو يشبه بعض الشيء ما حدث لقلب جرينتش في قصة الأطفال المعروفة. فقد بدأت أدرك أن طلابي الذين يعانون مشكلات تقدير الذات عادة ما يتصرفون في المدرسة من هذا المنطلق، بغرض جذب الاهتمام، «أي» اهتمام، وإن كان سلبيًّا. اكتشفت أن التماهي مع هؤلاء الطلاب، وربما رؤية جزء من نفسي فيهم، كان وسيلة لإخماد المعركة المشتعلة في فصلي. وأصبح شعوري نحوهم «نحن معًا في هذا الأمر» بدلًا من «أنا ضدهم». وفوق كل ذلك أدركت في ذلك العام أنه لا مانع من أن «أهتم» بشأن طلابي.
البدء من جديد
ذلك العام انتظرت أول يوم في الدراسة بفارغ الصبر. إذ كنت سأدرِّس مادتَي الدراما والرقص الاختياريتَين، وأسعدني أنني لم أنزعج من كون فصلي مقطورة خربة تقبع بجوار موقف سيارات هيئة التدريس. كنت أعرف أنني سأحظى هذه المرة بفصلي الخاص منذ أول يوم في العام الدراسي، وأن ذلك الأمر سيكون بالتأكيد مختلفًا. فلن تكون هناك معلمات بديلات قبلي هناك، بل سأكون وحدي ومعي توقعاتي عن أول يوم في الدراسة. عندما كان جرس الحصة الأولى على وشك الانطلاق صعدت درجات تلك المقطورة المتداعية. تدلى درابزين المدخل بمسمار واحد صدئ، وكنت أحاول تثبيته عندما رأيت أولى تلاميذي يقتربون. شاهدت فتاتَين تركضان نحوي وهما تتجادلان بصوت عالٍ. توقَّفتا آخر الأمر أمام المقطورة، وقالت إحداهما: «سيدتي، وصفتني لاشون لتوها بأنني عذراء!»
حاولت في ذهول استجماع أفكاري لإخبارها أن أحدًا لا يمكنه جرحها بكلامه، لكنني وجدت نفسي أقول: «أنتِ في الصف الثامن. ما العيب في وصفك بأنك عذراء؟»
حدقت فيَّ الفتاة كأنها لا تصدق ما قلته للتو. وصرخت قائلة: «لأنها ليست الحقيقة!»، وركضت باتجاه الموقف. فأرسلت الفتاة الأخرى — التي علَتْ وجهها أكثر ابتسامة بلهاء رأيتها في حياتي — لإعادة الآنسة «أنا لست عذراء». بعد عودتهما تحدثت مع لاشون، ونصحتها بعدم الإساءة إلى أحد. وطوال الوقت الذي كنت أحدثها فيه كانت تبتسم ابتسامة عريضة إليَّ. حتى إن الابتسامة تحولت في بعض الأحيان إلى ضحك، وسرعان ما وجدت نفسي غير قادرة على مقاومة الضحك أنا الأخرى.
ثم اتضح لي أن هذا هو المتوقع من لاشون. إذ اعتادت «القفز» إلى المقطورة كل يوم، ولم أرها يومًا تسير. كانت تثب فوق درجات المقطورة الثلاث وتقفز في الحجرة وتردد نفس الشيء يوميًّا: «أيمكنني الذهاب للمتجر؟»، تقصد متجر البقالة في الجهة المقابلة من الشارع. وكنت أجيبها كل يوم نفس الإجابة بأنها لا يمكنها «بالطبع» مغادرة حرم المدرسة وعبور الشارع. حينئذٍ كانت لاشون تتراجع خطوتَين وهي تضرب الأرض بقوة بقدمَيها. وفور أن تتوقَّف المقطورة عن الصرير كانت ترفع لاشون ذراعها — بأسلوب يحاكي شكل تمثال الحرية — وتقول: «كل يوم أسألك هل يمكنني، أنا لاشون ويليامسون، أن أذهب إلى المتجر، وكل يوم تقولين لا!» ثم كانت تجلس وتنظر أمامها وعلامات الاستياء ترتسم على وجهها. ودائمًا ما كنت أكتم ضحكي وأحاول التصرف باحتراف، بالرغم من صعوبة ذلك. ثم أقول لها في النهاية: «حسنًا، دعينا نبدأ العمل يا لاشون.»
مع الوقت أدركت أنني أحب تلك الفتاة. منذ لحظة دخولها المقطورة قفزًا وحتى انتهاء الحصة وقفزها خارج المقطورة، كنت أدرك أن التدريس يمكن أن يكون أمرًا ممتعًا بالفعل. ثم بدأت تلك العاطفة تنتقل إلى غيرها من الطلاب في الفصل، الذين كانوا يضحكون من تصرفات لاشون مثلما أضحك، وإلى غيرهم من طلابي في الفصول الأخرى. فكنا نعمل بجد بعض الوقت، ونضحك بعض الوقت، ثم نعاود العمل. حتى إنني بدأت أجد أنه لا غضاضة في لمس الطلاب؛ فلم أحاول مطلقًا في بداية عملي أن أربت تربيتة خفيفة على كتف طالب. وسرعان ما امتلأت فصولي بالروح العائلية، وصرت أتشوَّق لرؤية طلابي كل يوم.
في نفس العام الذي كانت تردِّد فيه لاشون وصلتها الصباحية اليومية في المقطورة، كانت لديَّ طالبة أخرى تدعى ويندي، وهي فتاة هزيلة بشرتها شاحبة بشدة. أخبرتني ويندي في شهر نوفمبر أنها حبلى. لم أصدق في البداية أن ذلك ممكن، أنني أدرِّس لطالبةٍ تنتظر مولودًا. فأطفالي كانوا لا يزالون صغار السن. لكن بعد انتهاء إجازة الشتاء ظهرت على ويندي أمارات الحمل بالفعل، ومع مرور الوقت لم يكن بمقدورها الشعور بالراحة وهي جالسة في مقعدها المعتاد. لهذا أحضرت لها كرسيًّا قماشيًّا محشوًّا، وسرعان ما أصبحتُ مضطرة إلى مساعدتها في النهوض من عليه في نهاية الحصة.
أحيانًا كنت أدعها تجلس معي قليلًا نتحدث بعد انطلاق جرس انتهاء الحصة. واستمعت إليها وهي تحدثني عن أهمية ذلك الطفل لها، وعن مدى حبها لوالد الطفل، وعن حياتهما المستقبلية. وبعد مدة ليست بالطويلة احتضنتُ طالبتي في الصف الثامن وهي تنتحب وفاة طفلها الذي نزل قبل موعده. وبعدها بوقت قصير تركها والد الطفل ورحل. أخبرتني أنها لم تكن ستحضر إلى المدرسة ثانية، لولا رغبتها في الحضور إلى فصلي. إذ كان المكان الوحيد الذي تشعر فيه أنها على طبيعتها ولا يزعجها فيه أحد. حينئذٍ فقط أدركت أنني أقدِّم ما هو أكثر بكثيرٍ من منهج الرقص والدراما.
لنأخذ حالة كيرتس كمثال. إنه فتًى ضخم ولاعب كرة قدم أمريكية، كان يتميز بابتسامة رقيقة تعلو وجهه دائمًا وهو يدخل فصلي في الحصة الأولى. ذات يوم وعلى خلاف العادة حضر غاضبًا وهاجم كل من حوله — وأنا من بينهم — بعبارات جارحة. ولأنني أعلم تمامًا أنه طالب مهذب بطبعه فقد تحدثت إليه، وقررت عدم إرساله لمكتب المدير. لكنه للأسف تصرف بوقاحة مع معلمة الحصة التالية، ثم حدثت مشادة ثانية بيننا في مطعم المدرسة، بسبب مشكلة تافهة تتعلق بمكان جلوسه في صف تناول الغداء. في النهاية أخبرته أنني مضطرة لتحويله إلى التأديب، وأمرته بالتوجه مباشرة إلى مكتب المدير.
فصاح في وجهي: «أنت لا تبالين بوفاة والدي ليلة أمس!» صدمني الرد. وأول ما فكرت فيه هو سؤاله عن سبب حضوره إلى المدرسة، ثم أدركت أنني تلقيت درسًا بالغ الأهمية. فلا بد باعتباري معلمة أن أضع في حسباني المتغيرات الكثيرة التي تؤثر في سلوك طلابي. ظننت بالتأكيد أنني فطنة بالقدر الكافي بحيث ألاحظ وجود مشكلة، لكن ما حدث مع كيرتس ذلك اليوم ذكَّرني كيف عاملَت السيدة وورنكي كل طالبٍ في فصلها بدرجةٍ عاليةٍ من الفطنة، كنت لا أزال أحاول الوصول إليها.
وهذا ينقلنا إلى الحديث عن كينتون.
صور الأشخاص البرتقاليين
كان كينتون أحد طلاب الفصل الذي أشرف عليه، وقد درست له لمدة عام الحصة الأولى عندما كنت أدرس المهارات اللغوية لطلاب الصف السابع، وسعدت برؤيته كل يوم في الحصة الأولى. لطالما ربطتني علاقة وثيقة بطلاب الفصل الذي أشرف عليه لأننا نقضي وقتًا طويلًا جدًّا معًا. وفي يوم التقاط صورة الفصل، أصطحب الطلاب إلى قاعة الاستماع وأحثهم على الابتسام، وفي أيام الاختبارات أحضر البسكويت ليفطر الجميع، ثم أحرك أصابعي كالساحرات وكأنني ألقي عليهم «تعويذة» الإجابات الصحيحة. إنهم الطلاب الذين أوزع عليهم بطاقات تقييم الأداء، وأعد ملفاتهم الخاصة بتقدمهم التعليمي. ومن الطبيعي أن أرتبط بهم. لكن كينتون لم يسمح لأحد بأن يكون قريبًا منه. مبدئيًّا، كان يحضر تقريبًا كل يوم إلى المدرسة غاضبًا. فيدخل الفصل وهو يتذمر من سائق حافلته.
كان يقول بصوت مسموع: «سيدة ريجزبي، تعرضت للطرد من الحافلة مرة أخرى.» بالطبع كنت أسأله على الفور عما حدث هذه المرة.
وكان كينتون يجيبني: «لقد كذب عليَّ مرة أخرى!» ثم يمسك بمقعد ويدفعه بقوة، ويراقبه وهو ينزلق على الأرض مصدرًا صريرًا عاليًا. تكمن مشكلة المدرسة الإعدادية في أنها مليئة بالكذابين. وبالسارقين أيضًا على ما يبدو. فلم يكن بحوزة كينتون مطلقًا قلم رصاص. ولا في أي يوم. لذا كان يطلب مني قلم رصاص كل يوم.
فأسأله: «كينتون. أين القلم الذي أعطيته لك بالأمس؟»
فيجيب: «لقد سُرق.»
«أين كنت تضعه؟» (كنت أشعر لسبب ما برغبة في إيقاف الدرس لاستكمال المحادثة.)
«في خزانتي.»
«ألم تضع قفلًا على خزانتك؟» (لماذا كنت أتابع الحديث وأشتِّت انتباه تسعة وعشرين طالبًا؟!)
فتأتي إجابته بلا مبالاة: «بلى وضعت. لكن أحدًا عرف أرقام القفل.»
فأقرر مجاراته في الحديث. فأسأله: «هل أعطيت أرقام القفل لأحد أصدقائك؟»
«لا. لكنهم استرقوا النظر وأنا أفتح القفل.»
كانت تدور بيني أنا وكينتون محادثات مشابهة كل يوم، وفي أحد الأيام كنت قد سئمت من هذا. يومئذٍ بدأ كينتون النهار كعادته متذمرًا من سائق الحافلة. أعلن اعتراضه أمام الفصل كله ثم جلس وطلب قلم رصاص. فقلت له: «كينتون، ليس لديَّ قلم رصاص. وأتعرف ماذا أيضًا؟ لا توجد أقلام رصاص في الإدارة. بل لا توجد أقلام رصاص في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تعُد هناك أشجار لصنع الأقلام الرصاص!»
ودونما اهتمام مد كينتون يده إلى مائدة الأدوات والتقط قلم تلوين برتقالي اللون. فقلت في نفسي: «لا بأس. لا يهمني ما يفعل. فليكتب بقلم تلوين برتقالي ما دام سيؤدي واجبه.» وهكذا أكملت الشرح، وكنت أنظر إلى كينتون بين الحين والآخر فأجده يكتب. لكنني لم أنظر إلى ورقته عن كثب في البداية. لكن كان بإمكاني ذلك؛ فمنذ أول يوم في الدراسة، كان مقعد كينتون يوجد في «صف المُعرَّضين للضرب».
(بالطبع أنا لا أضرب طلابي. لكنني في ذلك الوقت أطلقت بمودة على الصف الأول من المقاعد «صف المعرضين للضرب» لأنني — كما أخبرت الطلاب — قريبة من هذه المقاعد وأستطيع الوصول إليها من الأمام. قلت لهم: «من الأفضل أن يؤدي الجالسون في هذا الصف واجبهم لأنهم في متناول يدي.» وفي المقابل أطلقت على المقاعد في آخر الفصل اسم «صف الذراع الخارقة»، إشارة إلى الشخصية الكرتونية المفتش جادجيت الذي تمتع بأطراف آلية، كان بمقدوره مدُّها إلى مسافات طويلة. وقد أطلقت اسم «صف المعرضين للضرب» من باب المزاح والفكاهة مع الطلاب الذين وقع عليهم الاختيار للجلوس في المقدمة. أما بعد ذلك فقد أصبحت أكثر حرصًا في تسمية الصفوف، وأصبح اسم الصف الأول «صف الجالسين في متناول اليد». لكن حينما درَّست لكينتون كان الاسم ما يزال «صف المعرضين للضرب».)
أخيرًا اتجهت نحو كينتون وأنا أشرح الدرس؛ لألقي نظرة على ما يكتبه بالقلم البرتقالي. وفور أن رأيت الورقة أصابني الذعر. فلم يكن كينتون يؤدي واجبه. بل كان يرسم أشخاصًا برتقاليين على هيئة خطوط ودوائر.
لا أعتقد أن بإمكاني أن أجد الكلمات المناسبة لوصف الشعور الذي انتابني في تلك اللحظة. كل ما يمكنني قوله أنه بدأ من أخمص قدمي وتصاعد إلى أعلى جسمي. وعندما وصل إلى فمي، صرخت وأنا متكئة على مكتبه: «كينتون!» لم يرفع كينتون رأسه بل رفع بصره لينظر إليَّ.
في تلك اللحظة تحتَّم عليَّ اتخاذ قرار. فكرت في كل العبارات التي يمكنني توجيهها إليه وأنا واقفة فوق رأسه. كان بمقدوري إهانته. كان بمقدوري تقريعه بشأن حضوره إلى الفصل كل يوم غاضبًا، وفقدانه قلمه الرصاص دائمًا وعدم تأديته الواجب. لكنني رأيت في تلك اللحظة صورة سيندي الصغيرة في الصف الأول، وسمعت صوتًا يهمس في أذني قائلًا: «ماذا كانت السيدة وورنكي ستفعل في هذا الموقف؟»
وفجأةً عرفت ما يجب عليَّ فعله. أخذت نفسًا عميقًا ثم تحدثت إليه بهدوء قائلة: «كينتون، [نَفَس طويل] إنهم أجمل أشخاص برتقاليين رأيتهم في حياتي.» وأطلق جميع الطلاب في الفصل زفرات الارتياح. ابتسم كينتون في وجهي، ثم تغير كل شيء منذ تلك اللحظة. إذ ظللت أتلقَّى ما أطلق عليه صور الأشخاص البرتقاليين طوال العام. وبدأ كينتون يؤدي واجبه بالقلم البرتقالي، وكنت أستلم الواجب منه كل يوم وأثني عليه، وأمنحه درجة على الورقة كما أفعل مع باقي الطلاب. وقرب انتهاء العام الدراسي كانت واجبات كينتون — التي جميعها في صورة صور لأشخاص برتقاليين — تُزيِّن حيطان الفصل.
وبعد آخر رحلةٍ ميدانية لنا ذلك العام، توقفنا عند أحد مراكز التسوق المحلي ليتناول الطلاب الغداء في قاعة الطعام. كان كينتون في مجموعتي، وقد تجوَّل بعضنا في المركز ريثما يفرغ الباقون من تناول الطعام. كنت أول من لاحظ وجود معرض فني بمنتصف المركز، وبعد تدقيق النظر اكتشفت أنه معرض فني لمدارس المنطقة التعليمية، حيث شارك معلمو الرسم في كل مدرسة بمنطقتنا بأعمال طلابهم الفنية. لم أصدق عينيَّ عندما شاهدت رسمًا لأشخاص برتقاليين بعرض ١٨ بوصة وطول ٢٤ بوصة!
انعقد لساني. وارتجف ذقني. ثم قلت: «كينتون. كينتون. إنها لوحتك.»
فأجابني: «هذا صحيح. فمعلمة الرسم أحبتها أيضًا.»
وتذكرت اليوم الذي اتخذت فيه ذلك القرار المهم بتقبُّل كينتون دون قيدٍ أو شرط، من خلال الإطراء على رَسْمه؛ إنها نفس المعاملة التي تلقيتها منذ أعوامٍ طويلة وأنا في الصف الأول أحاول نظم الشعر. وفكرت كيف أن تعليقًا واحدًا حوَّله من طالبٍ غاضبٍ في الصف السابع إلى طالب مُجدٍّ يريد إرضاء معلمته. وتأكدت حينئذٍ أنني اتخذت القرار الصائب.
السيدة فينيت والسيدة هيلفاند
أيتها السيدة فينيت والسيدة هيلفاند: لن أنسى الأثر الذي تركتماه في نفسي وأنتما تدرِّسان لي في حصص الرسم. فكلتاكما أشعلت الحماسة في صدري لأترك بصمتي بوصفي فنانًا، وفي النهاية بوصفي معلم رسم. انبهرت وأنا صغير بمهارتكما في الرسم. وحلمت أن أكون في مثل براعتكما. وعندما لاحظَت إحداكما اهتمامي المبكر بالرسم، أهدتني كتابًا مليئًا بصور الديناصورات بالأبيض والأسود (للأسف نسيت أيتكما أهدتني الكتاب، لعلكما تذكران). وقد رسمت بسعادة كل صورة في هذا الكتاب.
حدث ذلك عام ١٩٦٧/١٩٦٦ عندما كانت المدرسة الإعدادية تضم الصفَّين السابع والثامن، وأعتقد أن كلتَيكما درَّست لي ذلك العام الدراسي. ما فعلتماه من أجلي كان مذهلًا. سيدة فينيت: كانت لديكِ القدرة على كتابة اسمك بكلتا يدَيك في آنٍ واحد؛ إذ كتبت اليد اليمنى الاسم في الاتجاه الطبيعي، من اليسار إلى اليمين، وكتبَت اليد اليسرى الاسم بالاتجاه العكسي، من اليمين إلى اليسار. وحتى يومنا هذا لم أكتشف كيف تمكَّنت من فعل ذلك.
سيدة هيلفاند: لقد علمتني كيف أرسم شخصًا بتقسيم كل جزء من جسمه إلى أشكال هندسية أساسية، تمامًا كما يستخدم طلاب الفنون دُمى العرض لدراسة أجزاء الجسم. ثم أوكلت أمهر الرسامين في الفصل مهمة تنفيذ رسمٍ جداري، أضفى جمالًا على الممرات المؤدية للرواق الموجودة فيه خزانات الجوائز التي حصلَت عليها المدرسة. وكان دوري رَسْم مشهدٍ من مباراة كرة سلة وتلوينه، أتتذكرين ذلك؟
ظلَّت هاتان التجربتان عالقتَين في ذهني حتى اليوم، وأشكركما لأنكما كنتما معلمتَي رسم لا يمكن نسيانهما في مدرسة فان وايك الإعدادية، في ٢١٧ حي كوينز بمدينة نيويورك (دفعة عام ١٩٦٧). أشكركما على تلك الخبرات التعليمية الإيجابية التي رافقَتني طوال حياتي.
رؤية جديدة
وهكذا بدءًا من عامي الثالث في التدريس، أدركت أهمية إقامة علاقات مع طلابي. لكنني لم أستوعب بشكل كامل تأثير تلك العلاقات عليهم إلا بعد مرور بضعة أعوام. ثم بدأت الخطابات تردني في عامي الخامس من التدريس تقريبًا. كان تقاطرها بطيئًا في البداية لكنها بدأت تصل بانتظام بعد ذلك.
ونتيجة لحدوث دمج بين مدارس المقاطعة والمدينة، كنت أعمل في مدرسة أخرى عندما ذات يوم رأيت كيشيا — وهي طالبة درست لها منذ أعوام — تقف أمامي في الفصل محدِّقة فيَّ. كنت قد عملت جاهدة على إقامة علاقة مع تلك الفتاة التي عانت بعض المشكلات مع أي شخص في موضع سلطة، حتى بعد أن واجهتني يومًا في حمام الفتيات، ووصفتني بأنني «ملكة جمال أمريكا الحقيرة». لم أفهم المقصود بملكة جمال أمريكا، لكنني فهمت الباقي بالتأكيد. حضرت كيشيا لتخبرني أن معلمتها في المدرسة الثانوية طلبت من كل طلاب الفصل كتابة خطاب لمعلمة «تركت أثرًا في حياتها». وبعد قراءة الخطاب شعرت بالذهول. فحتى تلك اللحظة لم أكن أتصور أن طلابي السابقين حتى يتذكرونني.
أنت علمتني أن أستخدم عقلي بدلًا من قبضة يدي. وساعدتني على اجتياز صعاب المدرسة وصعاب الحياة بوجه عام. لو كانت عندي طالبة مثلي لا أعتقد أنني كنت سأمنحها كل الوقت الذي منحتني إياه. … أعتذر لكِ عن كل الألم الذي سبَّبته لك. لكن لم يعُد الناس ينظرون إليَّ الآن ويعبسون. بل باتوا أحيانًا يبتسمون. أنا مدينة لكِ بالفضل في جانبٍ كبير من ذلك. ولن أنسى ما حييت كل ما فعلته من أجلي.
ما زلت أتذكَّر أين كنت أقف في الفصل وفمي مشدوه وأنا أقرأ تلك الكلمات.
وبعد يومَين، وصلني خطاب من طالبة أخرى في نفس الفصل بالمدرسة الثانوية، تقول فيه: «طلبت منا معلمتنا إرسال خطاب للمعلمة التي تركت في نفوسنا أكبر الأثر، وعلى الفور تذكرتك. … أنت تهتمين بشئون الآخرين وتحترمين مشاعرهم.»
غير أن إقامة هذه العلاقات كانت تتطلب مجهودًا إضافيًّا في بعض الأحيان. ففي أحد الأعوام درست المهارات اللغوية لفصل في الصف السابع، كان من الصعب للغاية على طلابه التركيز فيما يتلقَّونه من تعليم. لم يكن الفصل كبيرًا، بل ضم أربعة عشر طالبًا مفعمًا بشدة بالحيوية وطالبة واحدة تدعى تينيشا. حاولت تينيشا أن تصمد في هذا الفصل، لكن بالرغم من كل جهودها، كانت الغلبة للفتيان. اعتاد ديماريو وإمحوتب الجلوس في مقعدَيهما والرسم، وكانا بارعَين فيما يفعلان. أما سيرون فقد ظل يدندن نفس الأغنية الصغيرة مرارًا وتكرارًا. كانت الأغنية تقول: «دو دو دودو دودو …» كلما سادت لحظة صمت — كأن أتوقف عن الشرح لحظة لألتقط أنفاسي — انطلق سيرون يغني «دو دو دودو دودو …» أما جوناثان، أضخم طالب في الصف السابع أدرس له في حياتي، فكان لاعب كرة قدم أمريكية، يطلق عليه رفاقه في الفريق اسم «الزلزال». اتسم الفتى بالخجل والهدوء الشديدَين، واستمتع باقي الطلبة بالاصطدام به، الاصطدام بالمعنى الحرفي. إذ كانوا يلقون أنفسهم عليه ثم يرتدون كالكرة! وكان هذا هو أهم أحداث الحصة، فهم يفعلون ذلك مع دخولهم وخروجهم من الفصل، يصطدمون ﺑ «الزلزال».
لذا لم يكن من المستغرب أن أجد صعوبةً في السيطرة على ذلك الفصل النشط للغاية، ونحن نسير باتجاه قاعة الطعام. اعتدنا السير بمحاذاة مبنى المدرسة للوصول إلى باب المطعم، وبالطبع كان يقطع الفتيان هذه المسافة وهم يركضون ويقفزون ويتدافعون ويتعثرون ويلعبون، في حين كنت أسير أنا وتينيشا خلفهم. كثيرًا ما وجَّه سيرون صفعة لإمحوتب وجرى بأقصى سرعة في مطاردة مع الفتيان الآخرين. وذات يوم خطرت لي فكرة. استأذنت المديرة في وضع برنامج تحفيزي لهذا الفصل، ووافقت على طلبي. ينص البرنامج الجديد على أن الطلاب إذا أحضروا جميع الأدوات إلى الفصل، وأدوا واجبهم، وساروا بنظام في رحلتَي الذهاب إلى المطعم والعودة منه كل أسبوع من يوم الإثنين إلى يوم الخميس، فسأصطحبهم يوم الجمعة إلى قاعة الطعام في مركز التسوُّق المحلي لتناول الغداء.
ثم وضعت جدولًا معقدًا لأنماط سلوك الطلاب داخل الفصل، وبالرغم من صعوبة تسجيل أداء كل طالب يوميًّا، فقد نجحت الفكرة. لقد حدث تغير تام في سلوك الطلاب وارتفع معدل إنجازهم. فقد أحبوا الذهاب إلى مركز التسوق المحلي أيام الجمعة، ربما حتى بقدر ما أحببته! فكنت أصطحبهم في شاحنة النشاط الخاصة بالمدرسة، ثم نعود بانتهاء وقت الغداء.
توطدت علاقتي بطلاب هذا الفصل لأنهم أصبحوا بالنسبة لي «جماعة الغداء». وسرعان ما شرعنا نخرج في عطلات نهاية الأسبوع أيضًا لمشاهدة الأفلام أو مباريات ألعاب الكرة. مرة أخرى أدركت الأثر المهم لإقامة تلك العلاقات الوثيقة مع الطلاب. لقد أحببت هؤلاء الأطفال، والأهم أنني أحببت التدريس لأن فصلي لم يَعُد ساحة قتال.
إعلان مفاجئ
شعرت أن ذلك العام، والذي كان عامي السابع في التدريس، كان عامًا مهمًّا بالنسبة لي لعدة أسباب. فبالإضافة إلى نجاح برنامجي التحفيزي غير التقليدي، اندهشت لترشيحي معلم العام عن مدرستي.
حالما سمعت الخبر، اتجهت إلى فصل زميلتي لأتأكد منها أن ما سمعته في إعلانات ما بعد الظهر كان اسمي بالفعل. ضحكَت زميلتي وأخبرَتني أنها رشَّحتني أيضًا؛ بسبب علاقتي الطيبة بالتلاميذ واجتهادي الشديد في العمل. بالطبع ملأني إحساس بالفخر والسعادة لأن العاملين في مدرستي شعروا أنني أقدِّم لعملي ولطلابي الكثير، لكنني قلقت قليلًا عندما علمت ما ينتظرني. فهذا الترشيح المشرِّف يعني أن أتلقَّى زيارةً من لجنة اختيار معلم العام بالمنطقة التعليمية التي أتبعها. ولن يكتفيَ أعضاء اللجنة بمراقبتي وأنا أدرِّس للتلاميذ، بل سيبقون في المدرسة طوال اليوم، ليتحدَّثوا مع العاملين والطلاب حول شخصيتي وطريقتي في التدريس.
عندما أخبرت زملائي المعلمين بهذا، جاء رد الجميع: «سيلتقون بطلاب فصل الحصة الرابعة الخاص بك!» ثم عرض بعضهم أخذ عدد من تلاميذ «جماعة الغداء» خارج الحصة، غير أنني أردت التجربة أن تكون حقيقية. وأكدت للجميع أنني سأُبقي على جميع الطلاب، ونتصرف كما نفعل في أي يوم دراسي عادي.
بالطبع انزعج طلاب فصل الحصة الرابعة أكثر من الجميع. وصاحوا: «لكننا لا نحسن التصرف!»
وأضاف سيرون: «ولا يمكننا حتى أن نظل صامتين»، ثم أضاف: «دو دو دودو دودو.»
فطمأنتهم أن كل شيء سيكون على ما يرام، وواجهت السبورة لأكتب عليها. لكن ثمة أمرًا غريبًا حدث؛ كان الفصل هادئًا تمامًا. لم يكن هناك من يتحدث، أو يرسم بالقلم الرصاص رسمًا إبداعيًّا على ورقة بيضاء، أو يغني. حتى إنني خشيت أن أستدير.
ثم استدرت ببطء ونظرت إليهم. فاحتشدت الدموع في عينيَّ. إذ كان كل طلابي قد أغلقوا أفواههم بشريط لاصق. (علمت فيما بعد أن سيرون أخذ الشريط اللاصق من فوق مكتبي واستخدمه الجميع.) فطلبت منهم نزع الشريط. ولم ينفذ أمري سوى سيرون.
وقال: «نحن نتدرَّب على محاولة البقاء صامتين يا سيدة ريجزبي. ويمكننا أن نفعل ذلك والمحكِّمون في الفصل أيضًا!»
فسألته: «ماذا سيظن المحكِّمون إذا دخلوا ووجدوا كل الطلاب مكممين؟»
أنشد سيرون أغنيته القصيرة المعهودة ثانيةً.
وأنا أحضِّر درس اليوم المشهود، جمعت عدة صورٍ من إحدى المجلات. وفي اليوم المحدد جلس الزوار في الفصل، وطلبت من الطلاب النظر إلى الصور والوصول إلى أفكارٍ جماعية لكتابة عبارات وصفية. رفعت صورة تلو الأخرى وطلبت من الطلاب وصفها.
عندما حان دور جوناثان عرضت صورة منطاد هواء ساخن غني بالألوان، وتمنيت لحظتها لو عرضت صورة أخرى تكون مناسبة له أكثر؛ مثل صورة لحدث رياضي أو أي أمر يهم الذكور؛ إذ لم أشأ أن أجعله يشعر بعدم الراحة. لكنني كنت قد عرضت الصورة بالفعل أمام الفصل وأعضاء اللجنة، فطلبت منه وصفها.
سألته: «كيف ستصف هذه الصورة يا جوناثان؟»
اضطرب جوناثان وتنحنح وسعل ثم نظر إلى قدميه. وانتظر الجميع. نظر الطلاب إليه ثم إلى الزوار ثم إليَّ، ولسان حالهم يقول: «أَجِب. قُل أي شيء!»
وببطء شديد رفع جوناثان «الزلزال» بصره إليَّ، وقال بصوتٍ سُمع بالكاد: «إنه … إنه … مثل قوس قزح كمثريِّ الشكل.»
ساد الصمت في الغرفة. وتنهدت تينيشا. ثم همس باقي الطلاب: «أحسنت! أحسنت!» فقلت له والدموع تملأ عينيَّ: «يا له من وصف رائع يا جوناثان!»
لن أنسى مطلقًا تلك اللحظة ما حييت. وسأظل أتذكر مجموعة المشاكسين الذين وضعوا شريطًا لاصقًا على أفواههم من أجلي، والصبي الضخم الهادئ الذي جاء بأحد أفضل التشبيهات التي سمعتها في حياتي.
بعد ذلك عندما أخبرت طلابي أنني حصلت على لقب معلم العام على مستوى المنطقة التعليمية، سمعت صوتًا بين الصيحات والتهليل يغني «دو دو دودو دودو»، وهو اللحن الذي يتردد في ذهني حتى يومنا الحاضر.
التعرف على الطلاب
بدءًا من العام الذي درست فيه لفصل جماعة الغداء، تعهدت أمام نفسي أن أتعرف على طلابي جيدًا. فأنا أبدأ كل عام دراسي جديد بإعطاء الطلاب الواجب نفسه: «اكتب إدخالًا في دفتر يومياتك يبدأ بعبارة: «إن أسوأ تجربة مررت بها هي …»» فهذا الواجب ينبئني بالكثير عن طلابي مقارنة بأي نشاط آخر نقوم به طوال العام. في أحد الأعوام، جاءتني إدخالات من فصل كامل تقول أغلبها ما مضمونه: «إن أسوأ تجربة مررت بها هي مشاهدة أخي يتلقى رصاصة.» فأدركت من البداية أنه سيكون عامًا صعبًا. فعملت جاهدة لإرساء الشعور بالثقة بيننا، فطلابي كانوا غاضبين ويائسين بشدة، ومرت عليَّ أيام شككت فيها في جدوى ما أقوم به.
وفي العام التالي جاءتني مجموعة مختلفة تمامًا من الطلاب. كانت إدخالاتهم تقول ما مضمونه: «إن أسوأ تجربة مررت بها هي عندما أخرجت أمي التلفزيون من غرفتي.» صدقوا أو لا تصدقوا، لم يكن من السهل التعامل مع هؤلاء الطلاب أيضًا. لأن أغلبهم لم يشعر بضرورة إقامة علاقة وثيقة مع المعلمة؛ إذ أشبع المنزل جميع احتياجاتهم، وغدت المدرسة مجرد مكان لقضاء الوقت مع الأصدقاء. لكنني تمكنت في النهاية من الوصول إلى المجموعتين، باستخدام بعض الأساليب القديمة: الفكاهة، وبعض الجنون، والقليل من «السحر».