البحث عن الحافز للاستمرار
«قفي لحظة والتقطي أنفاسك …»
التدريس مهنة شاقة. فالمتغيرات في حياة المعلم اليومية أكثر بكثير منها في أي مهنة أخرى. فسماع إعلان على نظام الاتصال الداخلي، أو رؤية طالبٍ الثلجَ يتساقط، قد يقلب الفصل كله رأسًا على عقب. وإن حاول المعلم تغيير الجدول اليومي للأنشطة لحضور اجتماع مثلًا، يُصاب الطلاب الهادئون بالضيق ويصعب التعامل معهم. كما أن المعلمين يغادرون المدرسة كل يوم وهم في قمة الإرهاق، وعلى الأرجح ينتظرهم مزيد من العمل في المنزل؛ مثل تصحيح الاختبارات وتحضير الدروس. فكيف تواتينا القوة لنواصل كل يوم، لنكمل المسيرة ونعود كل يوم إلى المدرسة؟
عندما توفي والدي تلقيت من طلابي باقة زهور وطبقًا كبيرًا مملوءًا بالطعام. وعلمت فيما بعد أن طالبتي تيريس جابت مبنى المدرسة بأكمله لتجمع النقود اللازمة في برطمان مخلل. وفي الوقت نفسه رسم أنطونيو — رسام الفصل — لوحة بالألوان المائية أسماها «وداعًا للأحزان». وحضرت كِيا إلى دار الجنازات يوم عيد ميلادها الثالث عشر لتواسي أسرتي، وتدعوني إلى حفل عيد ميلادها في مطعم دينيز. هذه بعض الأمثلة على المكافآت التي قد لا تتوفر في مهنة أخرى، وهي أشياء تعادل بالتأكيد الإرهاق والتعب اللذين أشعر بهما في ليالٍ كثيرة وأنا عائدة إلى منزلي.
مهما تطلب الأمر
يؤمن بعض المعلمين بضرورة ترك العمل في مكان العمل وعدم اصطحابه إلى المنزل، لكنني لا أوافقهم الرأي. أذكر أنه قد دنت مني زميلة لها هذا الرأي، وأنا متجهة إلى سيارتي ذات يوم بعد انتهاء اليوم الدراسي. نظرت إلى حقيبتي المليئة بالأوراق وقالت: «اعتدت أن أفعل ذلك أيضًا، لكنني توقفت.» أنا أعتبر فصلي وطلابي جزءًا مني. فأشعر برابط قوي مع طلابي يوم الإثنين، بعدما أكون قد وضعت مقالاتهم أمامي عصر يوم الأحد وقرأتها. وكثيرًا ما أخبرهم أنني أشعر كأنما قضيت عطلة نهاية الأسبوع معهم! بالطبع تجدني — ككثير من المعلمين — مستلقية ليلًا على الفراش أفكر في وسيلة لمساعدة طالب معين في أمر ما، وكم من مرة تقلبت في الفراش قلقًا على طالب يمر بظروف صعبة. قد يكون قلقي زائدًا أحيانًا، لكنه قد لا يكون كافيًا في أحيان أخرى.
انضم جوي — وهو طالب في الصف السابع — إلى فصلي في منتصف العام الدراسي. عندما دخل الفصل ذلك اليوم لم تفضح ابتسامته المشرقة الصعاب التي عاناها في حياته. ثم علمت أن مسئولي الشئون الاجتماعية أبعدوه عن والدته، وتركوه في رعاية خالته التي تعيش بالقرب من مدرستنا.
بعد مرور أسبوع تغيب عن المدرسة عدة أيام؛ قضاها في المستشفى. ونظرًا لقلقي الشديد اتصلت لأطمئن عليه، فعلمت أن معدته لم تتحمل الوجبات المتوازنة من اللحم والخضراوات التي قدمتها له خالته؛ نتيجة لعدم تناوله أي طعام في السابق بخلاف رقائق البطاطس.
بعد عودة جوي إلى الفصل حاولت أن أجعله يشعر بالانتماء إلى شيء جديد، ويدرك أهمية التعليم في مستقبله. عملت أيضًا جاهدة على أن يلحق جوي بزملائه ويتعلم ما فاته في الفصل الدراسي الأول. وقد عمل الطفل بجد فعلًا، لكن المجهود كان كبيرًا على كلينا؛ إذ لم يكن جوي قد تعلم الأساسيات التي تؤهله للنجاح في الصف السابع. عملنا معًا صباحًا في وقت تحضيري للدروس، وعملنا بعد انتهاء اليوم الدراسي كلما أتيحت له وسيلة لعودة آمنة للمنزل.
وسرعان ما تكيَّف جوي مع تغير المدرسة وحظي بأصدقاء عدة. ما زلت أذكره وهو واقف في ملعب كرة القدم، حيث قضينا أحيانًا وقت الراحة، كانت الابتسامة لا تفارقه وهو يركض بحُريةٍ لم يستمتع بها من قبل. أما في أوقاتٍ أخرى، فكان من الواضح أن تفكيره كان منصبًّا على أمرٍ واحد، هو العودة إلى المنزل لرؤية والدته. كان يتحدَّث عنها دائمًا، وحاولت أن أوضح له أن الابتعاد عنها قليلًا قد يكون أفضل، حتى تتحسَّن أحوالها وأحواله.
اعتدت أن أدرِّس لجوي الحصة الأولى، وذات يومٍ في الحصة الأخيرة وجدته يدقُّ على باب فصلي. وأول شيء خطر ببالي أنه يود سؤالي عن الواجب. ولما كان الطلاب يخضعون لاختبار توجهت نحو الباب بهدوء.
قال لي بعبارة حاسمة: «حضرت لأبلغك أنني لن أحضر إلى المدرسة بعد اليوم.»
فسألته وأنا أحاول إخفاء قلقي: «هل ستعود للإقامة مع والدتك يا جوي؟»
فأجابني: «لا.» وأضاف بصوتٍ خالٍ من أي إحساس: «بل سأقتل نفسي عندما أعود اليوم إلى المنزل.»
فاجتاحني على الفور شعور مفاجئ بالذعر، وتسارعت دقات قلبي. كنت قد قرأت في السابق أن الأطفال الذين يتحدَّثون عن الانتحار بشكل درامي إنما يحاولون جذب الانتباه إليهم، ومع أنهم يستحقون بلا شكٍّ كل الاهتمام والرعاية الممكنَين، فإن أولئك الذين يتحدثون عن الانتحار بجديةٍ تامةٍ ودون أي انفعال، على الأرجح ينفِّذون تهديدهم وينتحرون بالفعل. الواقع أن هذا الصبي لم يكن يمزح مطلقًا. إذ تحدث عن الانتحار كأنه الحل الوحيد المتاح أمامه. ألقيت نظرةً على الطلاب في فصلي فوجدتهم يعملون في هدوء، ثم نظرت إلى جوي وأنا أفكر كيف أتصرف. لم تكن الفصول مزودةً بهواتف في ذلك الحين، لكن مكتب الأخصائية الاجتماعية كان في آخر الرواق؛ لذا أمسكت بذراع جوي وذهبت به إلى هناك.
شرحت لها الموقف وتركت جوي بصحبتها، ثم عدت إلى فصلي وجسدي كله ينتفض.
وفور انطلاق جرس انتهاء الحصة كانت الأخصائية تقف عند باب فصلي، وأخبرتني أن مسئول إنفاذ القانون بالمدرسة سيصطحب جوي إلى المستشفى. ودون تردُّد قلت فورًا: «سأذهب معه»، وهُرعت إلى بوابة المدرسة الرئيسية في اللحظة التي انطلقت فيها سيارة المسئول تاركة موقف السيارات. فقفزت في سيارتي وتبعتهما إلى قسم الطوارئ، وكنت أول شخص يراه جوي عند نزوله من السيارة. وأعلمت المسئول أنني سأبقى مع جوي حتى حضور خالته.
سرت مع جوي حتى وصلنا إلى ممرضة الاستقبال التي بدأت تطرح عليه الأسئلة المعتادة: «هل تشكو من الحساسية؟ هل أنت مصاب بداء السكري؟»
ثم سألته: «هل لديك نزعة انتحارية؟»
فنظر إليَّ جوي بتساؤل. فأدركت أنه لا يدرك معنى السؤال.
فقلت له بهدوء: «إنها تسألك هل تريد قتل نفسك يا جوي؟»
فنظر إليها وأجاب: «أوه. نعم»، وكأنما كانت إجابته عادية.
هبَّت الممرضة واقفة واصطحبتنا على عجل إلى «غرفة مطاطية». كنت قد سمعت عن تلك الغرف من قبل، لكنني لم أعلم أنها موجودة بالفعل. اكتست أرضية الغرفة بنسيجٍ مطاطي مبطن فاتح اللون، وكانت الحيطان ناعمة الملمس ومطاطية أيضًا، وبالطبع كانت المائدة والمقاعد مصنوعةً من المطاط ومثبتة في الأرض. جلسنا هناك صامتين عدة دقائق. ثم تحدَّث جوي. وسألني: «ماذا سيفعلون معي؟»
فأجبته بصوت مرتعش: «سيساعدونك يا جوي.»
عند حضور خالة جوي خرجت بضع لحظات لإجراء الترتيبات اللازمة لإعادة أبنائي من المدرسة إلى المنزل. ولدى عودتي طلب مني العاملون بالمستشفى الذهاب مع جوي وخالته إلى عنبر الحالات النفسية. وعلمت في الطريق أنه سيبقى في العنبر عشرة أيام مع منع الزيارات عنه، ولن أتمكن أنا أو أفراد أسرته من التحدث إليه حتى انتهاء كل التقييمات النفسية. كانت واحدة من أسوأ التجارب التي خضتها في حياتي أن أسيرَ في ذلك الممر المظلم الذي بدا أنه لا ينتهي، وأمرَّ عبر عددٍ من الأبواب المفتوحة التي أغلقت بقوة بعد مرورنا، تاركًا جوي وحده في ذلك المكان الذي يستحيل الوصول إليه. ظللت أبكي طوال الطريق إلى المنزل.
بعد عشرة أيام، سعدت سعادةً غامرةً عندما رأيت جوي يتقاذف الكرة مع بعض رفاقه في الفصل قبل موعد بَدْء المدرسة. وسألته عما إذا كان يشعر بتحسن. فقال: «قليلًا»، وأخبرني عن مضادات الاكتئاب التي من شأنها أن تساعده على التكيف مع المتغيرات العديدة في حياته. وابتسم لي ابتسامته العريضة التي تكشف كل أسنانه، ثم ألقى الكرة إلى أصدقائه، وتنفست الصُّعَداء لأول مرةٍ بعد أسبوعَين من القلق.
عاد جوي للإقامة مع والدته قبل انتهاء العام الدراسي، وانقطعت علاقتنا، لكنني لم أنسَ قطُّ ما حدث. ومع مرور السنين حكيت قصته للكثيرين، وأخبرني بعضهم أن ذهابي إلى المستشفى معه أكثر بكثير مما هو مطلوب مني بوصفي معلمته. أما أنا فأعتبرها تجربة غيرت حياتي؛ إذ أصبحت معلمة أفضل بعد ذهابي معه. وبالرغم من أنني لا أستطيع التحكم فيما يحدث للطلاب في حياتهم العائلية، فقد تعهدت تلك الليلة أن أمنح طلابي كل دقيقة من وقتي أقضيها معهم؛ لأحول دون شعورهم باليأس الذي شعر به جوي. أذكر عندما كنت جالسةً في المستشفى على الأرضية الإسفنجية لتلك الغرفة، حينئذٍ فقط وُلدت عبارة «مهما تطلب الأمر». لقد قررت أن أتحلَّى بصفات «المعلم» بكل ما تحمل الكلمة من معنًى، وهذا يعني أن أبذل كل ما في طاقتي من أجل صالح الطلاب. وهذا ما أكافح كل يوم لتحقيقه.
الآنسة ديهارت
أذكر أنني كنت أجلس في فصل رياض الأطفال، أشعر بالحماس والنشاط والتشويق والرغبة في أن أصبح مثل المعلمة؛ لأنها كانت تهتم بنا. كانت هذه أول مرة تراودني فكرة العمل في التدريس. عُدت إلى المنزل ولعبت دور المعلمة بمساعدة سبورتي الصغيرة. وبدأت ألاحظ أن الطلاب الآخرين كانوا يتقنون القراءة بسرعةٍ وأنا أجاهد لتعلم أصوات الحروف.
واجهت صعوبة في تعلم القراءة في الصف الأول والثاني والثالث؛ صحيح أنني تعلمت القليل من الكلمات البسيطة لكنني لم أتمكن من القراءة. وحينما كان زملائي يقضون وقتهم في الفصل في تصفح الكتب، كنت أجلس في مكاني أبكي. إذ اعتاد المعلمون تجاهلي والعمل مع الطلاب الآخرين الذين يحرزون تقدمًا. إنه شعور مدمر أن تكون الطالب الوحيد الذي يتجاهله المعلم.
وفي الصف الرابع قابلت الآنسة ديهارت. إنها لم تكن كأي معلمة أخرى رأيتها من قبل. فقد آمنَت بقدراتي. لأول مرة في حياتي وأنا طفل صغير تثق معلمة أنني أستطيع تعلم القراءة. لقد بذلت الآنسة ديهارت معي مجهودًا أكثر مما يجب عليها. عملنا معًا لمدة شهرين في الإجازة الصيفية لهذا العام. وظلت خلالهما تشجعني وتدفعني للأمام. وأخيرًا، وبعد شهرين من العمل، تمكنت من قراءة أول كلمة لي وهي «أقحوان». وأنا أقرأ الكلمة اغرورقت عيناي بالدموع، وأيقنت أنها محقة: إذ يمكنني تعلم القراءة. أدركت حينئذٍ أنني ما دمت قادرة على قراءة كلمة «أقحوان»، فأنا قادرة على قراءة أي شيء. كم شعرت بالراحة في تلك اللحظة، والفضل كله يعود لإيمان الآنسة ديهارت بي وعملها معي.
توفير الوقت اللازم
من بين الأشياء المهمة التي أفعلها الالتزام بمنح مدرستي وفصلي وطلابي الوقت اللازم لأداء عملي على أكمل وجه. فأنا أحضر مباريات دوري الصغار وسباقات الدراجات البخارية وغيرها، في محاولةٍ لدعم طلابي وعائلاتهم. وأحيانًا أتحدَّث هاتفيًا بالساعات مع ولي أمر يمر بحالة طلاق صعبة. أضف إلى ذلك أنني أحاول دائمًا الذهاب إلى المدرسة في أبكر وقت ممكن. فالوصول إلى المدرسة قبل الموعد المحدد بعشرين إلى ثلاثين دقيقة؛ ضرورةٌ لا غنى عنها في نظري. إذ أجد الوقت لأفكر بهدوء في يومي، وأنشئ نسخًا من كل الأوراق المهمة دون الاضطرار لانتظار دوري في استخدام آلة التصوير.
بعد نسخ الأوراق وكتابة قائمةٍ بأنشطة اليوم وأهدافه على السبورة وتهيئة الفصل لاستقبال الطلاب، يتوفَّر لديَّ بعض الوقت للخوض في المحادثات الصباحية مع زملائي (فقد لا تُتاح تلك الفرصة حتى انتهاء اليوم الدراسي) وللتواصل مع طلابي الذين يبدءون في التوافد. لا شيء يضاهي تلك المحادثات في الصباح الباكر، بعد نزول الطلاب من حافلاتهم استعدادًا لبَدْء يومٍ جديد.
وحتى لا يظن أحدٌ أنني أتباهى بنفسي، دعوني أوضح أنني أدرك معنى أن يتعرَّض المرء ﻟ «ظروف صعبة». عندما كان ابني ويل في عامه الأخير بالمدرسة الثانوية، كنت أصل كل صباح إلى موقف سيارات المدرسة متأخرة. السبب أنني إذا لم أتأكَّد بنفسي من ركوب ويل حافلة مدرسته فإنه لا يذهب. ولا يرجع ذلك إلى أنه فتًى مشاغب، بل إلى أنه كان يغفو سريعًا؛ فكان يغفو في حوض الاستحمام ويغفو على مائدة الإفطار. باختصار كان يغفو على أي شيء مسطح يجده أمامه. (لقد اعترف لي منذ عهد قريب أنه كان يسهر في عامه الأخير بالمدرسة الثانوية حتى منتصف الليل يتمرن على مهارة جديدة؛ هي إرسال الرسائل النصية، وهذا جعله يغفو دائمًا في الصباح في حوض الاستحمام.) أعني أنني أدرك صعوبة الوصول إلى المدرسة مبكرًا في بعض الأحيان. لكنني اكتشفت خلال سنوات عملي في التدريس أنني كلما ذهبت إلى المدرسة مبكرًا، كان اليوم الدراسي أفضل.
وتنطبق نفس القاعدة على موعد انتهاء اليوم الدراسي. عملت ذات مرة في مدرسة بها مجموعة أطلق عليها بعضنا «مجموعة الثالثة والنصف». فكل يوم في الثالثة والنصف كانت تتوجه تلك المجموعة من المعلمات إلى موقف حافلات المدرسة (إذا كن مسئولات عن ضمان سلامة الطلاب المغادرين) وهن يحملن حقائبهن وكتبهن. لم أفهم يومًا ذلك التصرف. كنت أنظر لزميلاتي الواقفات في ساحة الانتظار وهن مستعدات للمغادرة الساعة الثالثة والنصف، وأفكر في فصلي الذي تركته للتو والفوضى التي سأجده فيها عندما أعود. كيف تستطيع هؤلاء المعلمات إنهاء عملهن وتَرْك الفصل والاستعداد لمغادرة المبنى في ذلك الوقت المبكر؟ ألسْنَ مسئولات عن فصولهن؟
أما أنا، فأفضِّل البقاء في الفصل بعد انتهاء اليوم الدراسي، أصحِّح الاختبارات وأعدُّ الدروس، وأرتِّب الفصل وأستعدُّ لليوم التالي. أضِف إلى ذلك أن البقاء بعد انتهاء اليوم الدراسي يوفِّر فرصةً رائعةً للتواصل مع الزملاء. ما أَجْمل أن يعمل المرء بين أصدقائه! وعلى المرء أن يحافظ على تلك الصداقة. في رأيي البقاء في المدرسة والتواصل مع الزملاء من أفضل أنشطة اليوم. ففي ذلك الوقت، يمكننا مناقشة الأمور الشخصية؛ إذ نكون بعيدين عن طلابنا، بحيث نستطيع التحدث عن عائلاتنا وأطفالنا واهتماماتنا خارج المدرسة. وأكثر ما يمتعني هو قضاء دقائق بجانب زملائي عند آلة تصوير الورق، أو في طابور الغداء، أستمع خلالها إلى قصص زملائي عما صادفوه خلال اليوم الدراسي، وقضاء الجزء الأكبر من اليوم في الفصول مع طلابي.
وهذه العلاقات لها أهمية أخرى كذلك. فنحن نعلِّم نفس الطلاب. ونسعى لتحقيق نفس الأهداف. فمن الضروري أن نجد الوقت لنتحدث معًا. في بداية عملي في التدريس كان الوضع المعتاد أن تجد كل معلم يغلق بابه عليه، ولا يتعاون مع غيره من المعلمين. أما الآن فقد بتنا نعرف أن التخطيط المشترك يحسِّن عملية التدريس، وأن الدعم الذي يقدمه المجتمع المهني الذي أنشأناه عامل أساسي من عوامل نجاحنا جميعًا. إن تلك المناقشاتِ العفوية غير المخطط لها، التي تبدأ بعد انتهاء اليوم الدراسي في موقف الحافلات ومكان انتظار السيارات، تجعلنا أكثر من زملاء. فهي تجعلنا أصدقاء.
أستمتع أيضًا بالتجول في المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي لأتابع ما يفعله طلابي. فلا شيء أمتع من تصحيح الاختبارات على مقاعد الملعب في يوم خريفي دافئ أثناء موسم كرة القدم. فبدلًا من تركيز طلابي مع مدربيهم، تجدهم دائمًا يلوحون لي بحماس وأنا جالسة هناك، وكأنني لم أكن بصحبتهم في الفصل قبل ثلاثين دقيقة! أُومِن أن التقاء المعلمين والطلاب خارج الفصل بين الحين والآخر؛ أمرٌ جيد للطرفين.
عدم الاستسلام
أمنح مدرستي وطلابي قدرًا كبيرًا من وقتي وجهدي، لكنني لست «المرأة الخارقة». أنا شخص عادي تمر به أحيانًا أيام سيئة كغيره من الأشخاص. في أحد الأعوام كان لديَّ طالبٌ يعرف تمامًا كيف يُثير غضبي. فكان يشكِّك في جدوى كل واجب أفرضه على الفصل، ولم ينصع لأوامري. اشتبكنا ذات مرة في جدال وبدأت أنزعج منه بشدة. ثم قلت له في النهاية: «أنت تعرف تمامًا كيف تغضبني يا كوري.» فوقف كوري بجوار مقعده، ومد ذراعه تجاهي على نحو درامي يذكر بأداء فريق «ذا سوبريمز» في أغنية «توقف باسم الحب» وقال ببطء: «تغضبني!» وكرر تلك الإشارة ست مرات. وفي كل مرة كنت أنادي اسمه بهدوء، مع أن غضبي كان يزيد أكثر فأكثر.
بعد المرة السادسة التقط كوري كتابًا كان موجودًا فوق طاولته وألقاه تجاهي. فوقع الكتاب على مسافة ثلاث أقدام تقريبًا مني وانزلق على الأرض نحوي، وكوري يقول «تغضبني»، واستمر يلقي الكتب الموجودة على مكتبه وأنا أنهره مرة بعد أخرى بصوتٍ أعلى. أما باقي الطلاب في الفصل، فقد تابعوا ما يحدث مذهولين من سلوك كوري، وأخيرًا توجهت نحوه وأمسكت ذراعه، واقتدته إلى مكتب مدير المدرسة. تركته هناك وعدت إلى فصلي — وأنا أنتفض من الغضب — لأكتب أمرًا بإحالته إلى التأديب.
يظل شعار «مهما تطلب الأمر» في ذهني دائمًا، وإن كنت على خلاف مع أحد الطلاب كما حدث هنا. ولأنني شهدت مواقف مشابهة تحدث لمعلمين آخرين، أعلم أنهم يتجاوزون الموقف. أما أنا فإن مثل هذه المواجهات تقض مضجعي، وتسلبني النوم ليلًا، فأظل أفكر فيما وجب عليَّ فعله للتعامل مع الموقف لينتهي نهاية مختلفة.
وما أكثر المحادثات التي أجريتها من هذا النوع، ويمكنني أن أعلن بصدق أنه على مدار سنوات عملي معلمة، كلما أقمت حوارًا مع طالب — حدثت بيني وبينه مشادة — توثقت علاقتي به. وآخر مرة فقدت فيها أعصابي أمام أحد الطلاب كانت منذ عامَين. وكانت في موقفٍ مشابه لموقف كوري: إذ اعتاد براد ألَّا يؤدي الواجب، وأشاع الفوضى دائمًا في الفصل. وبعد التوسل إليه ورجائه ومعاملته بكل اللطف الممكن، نفد ببساطة صبري ذات يوم، واصطحبته خارج الفصل لأتحدث معه.
انفعل الطفل وتصاعد الموقف، وسرعان ما أرسلته إلى مكتب مدير المدرسة. لكنني بحثت عنه اليوم التالي — بعد أن قضيت الليل مستيقظة أعيد الموقف مرارًا وتكرارًا في عقلي — وتحدثنا وتغلبنا على خلافنا. بالطبع لم تتغير طباع براد بين ليلة وضحاها، وظل المعلمون يشتكون من تصرفاته بصورة يومية. وهكذا أُرسل بعد شهور قليلة إلى مدرسة بديلة تابعة لمنطقتنا التعليمية. وفي الربيع أعيد طلابنا المرسلون إلى تلك المدرسة للخضوع للاختبارات في مدرستنا، فأخبر براد المشرف أنه لن يخضع للاختبار أمام شخص سواي. لقد أدرك براد أنني بذلت معه جهدًا إضافيًّا، وهو ما وثق علاقتنا بقدرٍ لم يتحقق مع أي معلم آخر.
من يكون اليوم؟
عندما كنت مبتدئة في مهنة التدريس بدأت ممارسة نشاط تأملي أسميته «من يكون اليوم؟» كلما واجهت صعوبات في العمل، ولم أثق في دوري في حياة طلابي، كنت أجلس دقيقة بعد انتهاء اليوم الدراسي كل يوم، وأسأل نفسي عن أي أثر إيجابي تركته في حياة طالب واحد على الأقل على مدار ذلك اليوم.
في تلك الأيام الأولى، كانت الإجابة غالبًا تتعلَّق بأمر بسيط، كابتسام طالبة لي بعد أن أبديتُ إعجابي بحذائها الجديد. ومع ذلك فإن ذلك الأثر الضئيل ساعدني على الاستمرار، عندما كنت أشكُّ في أنني أحدث فارقًا في حياة الطلاب.
فيما بعد سمعت قصة الفتاة منقذة حيوانات نجوم البحر، المقتبسة عن مقال للمؤلف وعالم الأنثروبولوجيا لورين آيسلي، والتي تحكي لنا قصة فتاة تجمع نجوم البحر من الشاطئ وتلقيها مرة أخرى في المحيط. وذات يوم اقترب منها رجل ليخبرها أن ما تفعله لا طائل من ورائه؛ لأن عدد نجوم البحر التي يجرفها الموج إلى الشاطئ كبير جدًّا. فالتقطَت الفتاة نجم بحر وألقته في المحيط، وقالت: «واحد!»
ولسنوات اتبعت نفس الفلسفة في التدريس. فأنا واحدة من هؤلاء الذين استفادوا من الجهود المتواصلة لإحدى المعلمات، ولا شك أنني أستطيع أن أكون مثلها. أعانتني تلك الفكرة في بداية عملي، أما بعد أن أصبحت معلمة محنكة، فأرى أن مساعدة طالب «واحد» ليست كافية. لا بد أن أترك أثرًا في جميع الطلاب. لا بد أن أحرص على معاملة كل طالب كنجم بحر جرفه الموج. ولن أترك أثرًا في نفوس جميع الطلاب إلا بإبداء الاهتمام الحقيقي بهم، ومَنْحهم ساعات إضافية من وقتي.
في فصلها حلقت أذهاننا في كل أرجاء العالم. وعندما رحلت شعرنا بالحزن، غير أن نورها لم ينطفئ برحيلها. فقد تركت بَصْمتها القوية على عقولنا. أنظر لنفسي فأراني إلى حد كبير مخطوطتها التي لم تكتمل. ما أقوى تأثير هذه المعلمة!
قرأت الاقتباس بصوت عالٍ، ثم همست والدموع تنهال من عينيَّ: «السيدة وورنكي.»
أنظر لنفسي وأتمنى أن أكون مخطوطتها التي لم تكتمل، وإلى يومنا الحاضر أبذل كل جهدي وأقدم كل ما يلزم لأنجح في هذا التحدي.