الفصل السابع

البحث عن السيدة وورنكي

«بالطبع أتذكرك …»

باربرا وورنكي، ٥ سبتمبر ٢٠٠٨

على مدار السنين، كثيرًا ما فكرت في معلمتي في الصف الأول، وسألت نفسي: هل ستذكر فتاة صغيرة نحيفة الساقين كانت تدرسها في فصل رطب في القبو؟ وأنا طالبة اعتدت مقارنة كل معلماتي الأخريات بها؛ إن كن طيبات وملهمات تذكرت صفاتها المماثلة، وإن كن نزاعات للانتقاد ونافدات الصبر، تمنيت في صمت لو أنهن مثلها.

وفور أن عزمت على التخصص في مجال التدريس، تخيلت أنني أتحدث مع «السيدة المعلمة» حديثًا وديًّا، تمنحني فيه خلاصة تجاربها التي أحتاجها للنجاح في فصولي المستقبلية. عندما تعثرت في بداية عملي في التدريس كثيرًا ما كنت أعود بذاكرتي إلى الصف الأول، وأسأل نفسي عما يجب فعله لأضمن أن طالبًا — أي طالب — سيذكرني بعد أعوام طويلة كما أذكر السيدة وورنكي.

ثم حدث لي شيء رائع عام ٢٠٠٨؛ إذ حصلت على لقب معلم العام في ولاية كارولينا الشمالية. شعرت أنني لا أستحق اللقب عندما فكرت في بدايتي المتعثرة ومسيرتي في التدريس، لكنني شرفت بالحصول عليه. في الواقع بدأت ذلك العام التفكير في حياتي الدراسية ثم التدريسية، وأردت أن تعلم السيدة وورنكي أنني سعيت لأكثر من عشرين عامًا لأصبح مثلها.

لا عجب أن تراودني مثل هذه الأفكار في ذلك الوقت. فمع حصولي على لقب معلم العام، جاءت مهام جديدة بوصفي «سفيرة المعلمين» عن ولايتي أخرجتني من الفصل، واضطرتني أن أسافر بسيارتي آلاف الأميال لأتحدث باسم المعلمين والتعليم، وأشجع طلاب المدارس الثانوية والجامعات على امتهان مهنة التدريس، وأحاول إلهام معلمين جدد على استمرار العمل من أجل تغيير حياة الطلاب. وأينما ذهبت وُجهت لي نفس الأسئلة من قبيل: من الذي شجعك على العمل في التدريس؟ لماذا في اعتقادك وقع عليك اختيار الولاية لتنالي لقب معلم العام؟ ووجدت أغلب إجاباتي تدور حول أساليب السيدة وورنكي التدريسية وطيبتها اللامتناهية؛ لهذا ظلَّت في بالي بشدةٍ طوال تلك الفترة.

برنامج «جود مورنينج أمريكا»

اعتدت تشغيل التلفزيون وأنا أستعد للذهاب إلى العمل، فأستمع إلى نشرة الأخبار المحلية الصباحية، التي تذاع مباشرة قبل برنامج «جود مورنينج أمريكا» على شبكة إيه بي سي، وقد أتابع جزءًا من البرنامج أيضًا. وأنا من أشد المعجبين بهذا البرنامج، وخاصة منذ أن زار المذيعان تشارلز جيبسون وديان سوير حرم جامعة كارولينا الشمالية قبل أعوام. وقتها كانت ابنتي كيلي مشجعة في فريق جامعة كارولينا الشمالية، وكنت قد ابتكرت هتافًا لفريقها يضم أسماء مذيعي هذا البرنامج. ذهبت إلى الحرم الجامعي ذلك اليوم، وظللت ألتقط الصور كأي والدة متحمسة، وأنا أشاهد كيلي وهي تحقق حلمي في أن أكون مشجعة في الجامعة. وشاهدت السيد تشارلز والآنسة ديان وهما يمازحان جموع الطلاب الجامعيين، ويضحكان من كلمات الهتاف الذي ألفته، ويداعبون رمسيس — تميمة حظ الفريق — وهو كبش له قرنان أزرقان.

بعد بضع سنوات، أرسلتُ إلى المذيعة روبين روبرتس بطاقة لأحييها على شجاعتها في إعلان إصابتها بسرطان الثدي على الهواء. فوالدتي تعافت من إصابتها بسرطان الثدي، ووالدي توفي لإصابته بسرطان نخاع العظام في نفس العام الذي توفي فيه والد الآنسة روبين. وفرحت — ولكنني لم أتفاجأ — عندما تلقيت ردًّا على بطاقتي. إن جميع المذيعين والعاملين في برنامج «جود مورنينج أمريكا» هم أهلنا وجيراننا الذين يسكنون على بُعد آلاف الكيلومترات، ويزوروننا كل صباح ليتحدثوا إلينا.

لقد بدأ اليوم الذي كنت أستعد للتحدث فيه إلى طلاب جامعة ديوك الذين يتدربون كي يعملوا في مجال التدريس كأي يوم عادي؛ كنت أضع المكياج بينما كان يتحدث أصدقائي في نيويورك عن الأحداث الجارية، رغم أنني لم أكن أنتبه للبرنامج لأنني كنت أفكر فيما سأقوله. ثم أدركت أن فقرة مميزة تُعرض في البرنامج. فألقيت نظرة على التلفزيون ورأيت شابة من نبراسكا تحكي قصة نجاتها بأعجوبة من الغرق وهي طفلة. وفي الفقرة تمكنت المرأة لأول مرة أن توجه الشكر وجهًا لوجه إلى الرجل الذي أنقذها من البحيرة عصر أحد الأيام قبل ثلاثين عامًا.

راقبتُ المرأة — بافتتان — وهي تسرد أحداث قصتها، ثم تشكر الرجل الذي أنقذ حياتها. وقدمت له دفتر قصاصات يؤرخ الأعوام التي عاشتها بفضل مساعدته لها. تسمرت أمام التلفزيون والدموع المنهمرة تفسد المكياج الذي وضعته منذ لحظات، واستمعت إلى مذيع الفترة الصباحية كريس كومو وهو يختتم الفقرة بعبارة: «إذا أردت أن تشكر شخصًا غيَّر حياتك، فزُر موقع برنامجنا «جود مورنينج أمريكا» على الويب.»

وقفت في غرفة نومي أتابع كريس كومو في التلفزيون، وتمتمت وأنا أبكي: «أريد أن أشكر السيدة وورنكي.» بعدها غسلت وجهي وأعدت وضع المكياج، وذهبت إلى العمل أحمل هدفًا جديدًا، وهو التأكد أن معلمي المستقبل يدركون أهمية عملهم.

انشغلت بشدة عدة أسابيع بالتدريس وبمهام «سفيرة المعلمين»، حتى نسيت أن أراسل برنامج «جود مورنينج أمريكا» لأعبر عن رغبتي في شكر السيدة وورنكي. وفي إحدى الليالي كنت أشاهد أنا وزوجي ديفيد التلفزيون، فأمسك ديفيد جهاز التحكم عن بُعد وأخذ ينتقل من قناة إلى أخرى، وكلما بدأتُ متابعة برنامج، انتقل إلى قناةٍ أخرى سريعًا. فعل ذلك مرات عديدة. وفي النهاية نظرت إليه وصرخت فيه «توقف!» فأمسك جهاز التحكم ووجَّهه نحوي، ثم ضغط زر كاتم الصوت.

واحتجاجًا مني على ذلك، نهضت وذهبت إلى غرفة الطعام لإحضار الكمبيوتر المحمول الخاص بي، وقضاء الوقت في تصفح المواقع التعليمية بدلًا من العراك مع زوجي بشأن التلفزيون. وبعد أن شغلت الكمبيوتر المحمول تذكرت برنامج «جود مورنينج أمريكا»، فدخلت على الفور على موقعه. ظهر أمامي مربع صغير بسيط يدعوني أن أخبر العالم بأسرار طفولتي. بدأت أكتب، ولم أتوقف حتى سردت كل شيء: قصة السيدة رايلي، وشيلا، وساقيَّ النحيفتَين وشعري المجعد، والقبو، والسيدة وورنكي، وأبيات الشعر التي كتبتها لها؛ كل شيء. ثم ضغطت زر الإرسال، ولم أفكِّر في الأمر بعدها.

رحلة إلى الماضي

بعد مرور شهر وفي وقت متأخر من المساء، تلقيت رسالة إلكترونية من براين أوكيف أحد منتجي برنامج «جود مورنينج أمريكا»، يقول فيها: «مرحبًا يا سيندي، أنا أحد منتجي برنامج «جود مورنينج أمريكا»، وقد أعجبتنا قصتك عن معلمتك باربرا. أيمكنني الاتصال بك؟»

وكان أول شيء خطر ببالي: «باربرا مَن؟!»؛ فأنا أعرفها — وسأظل أعرفها — باسم «السيدة وورنكي» أو «السيدة المعلمة» وليس باربرا. أما ثاني شيء خطر ببالي، فكان: «هل اخترق أحد موقع البرنامج، وسرق البيانات التي أرسلتها؟!» لم أتصور أن أحدًا سيهتم بقصتي. لكنني أرسلت له رقم هاتفي المحمول، وليس هاتف المنزل خشية أن يكون شخصًا منحرفًا أو مجرمًا، ثم انتظرت. فرن جرس الهاتف بعد دقيقة واحدة، في تمام الحادية عشرة والنصف ليلًا.

قال المتصل: «معك براين يا سيندي. أعتذر عن الاتصال في وقت متأخر، فهناك فرق في التوقيت. أحدثك من لوس أنجلوس.» أخذ قلبي يخفق بقوة. لوس أنجلوس؟ إنه يحدثني من لوس أنجلوس!

أخبرني براين أنه أعجب بقصتي عن معلمتي التي لم أرها منذ زمن طويل، هو والمنتجون الآخرون للبرنامج. ثم أبلغني أن العاملين في البرنامج حاولوا البحث عن السيدة وورنكي لكنهم لم يتمكنوا من العثور عليها. وطلب مني أي معلومات إضافية عنها، كآخر عنوان لها أو اسم زوجها. حاولت مساعدته قدر استطاعتي، لكنني لم أعرف الكثير عنها. فنحن نتحدث عن شخص آخر تواصل معه كان خطابًا تلقيته منه عام ١٩٧٠. في الواقع فاجأني براين عندما قال: «لم نعثر عليها، لكننا تأكدنا أنها ما زالت على قيد الحياة. فقد تفقدنا سجلات الوفيات التي يسهل الحصول عليها. هذا معناه أنها حية.»

ومع أن هذا الخبر أراحني، فقد شعرت بالاضطراب حينما أخبرني براين أنه سيواصل البحث عن السيدة وورنكي، وطلب مني أن أسافر إلى نيويورك للظهور في البرنامج. ثم وعدني أن يظل على اتصال بي، وخلدت إلى فراشي تلك الليلة وأنا أحاول تصور شكل معلمتي في الصف الأول بعد كل هذه السنين.

لطالما كانت السيدة وورنكي كائنًا أسطوريًّا في نظري؛ فأنا أتذكرها معلمة مثالية وشابة مبتسمة مراعية لطلابها دائمًا. حاولت تخيلها في هيئة امرأة عجوز لأنها على الأرجح في الثمانينيات من عمرها مثل والدتي. وحلمت باللقاء الذي سيجمعنا في برنامج «جود مورنينج أمريكا»، وسألت نفسي هل ستدخل متكئة على عصًا أو مستندة على مشاية. ثم تصورتها جالسةً في مقعد متحرك تتنفس بمساعدة أنبوب أكسجين. ماذا لو كانت بالفعل عجوزًا ضعيفة؟ هل ستطغى هذه الصورة على تلك، وتمحو صورة البطلة من خيالي؟ ماذا لو لم أعثر عليها مطلقًا؟ ماذا لو ظهرتُ في التلفزيون الوطني وسعيت للبحث عن شخص لا يريد أحدًا أن يعثر عليه؟ لا شك أن السيدة وورنكي تحيا حياة سعيدة هادئة منعزلة في مكان ما، ولا تريد أن يعكر صفوها طالبة من الماضي قد لا تتذكرها.

بعد بضعة أيام اتصل براين مرة أخرى، ليبلغني أنني سأظهر في البرنامج في حلقةٍ خاصةٍ عن العودة إلى المدارس. وسأقصُّ على العالم قصتي في الحلقة المقرر إذاعتها يوم ٥ سبتمبر ٢٠٠٨ بعد يوم من بلوغي عامي الحادي والخمسين. كنا نأمل جميعًا أن تكون السيدة وورنكي أو أحد من معارفها يشاهد البرنامج. هُرعت إلى المكتبة لشراء نسخةٍ من كتاب «اقرأ لي وسأقرأ لك» الذي أهدتني إياه السيدة وورنكي قبل أربعين عامًا. أردت أن يكون الكتاب معي في اللقاء، لعل معجزة تحدث ويتمكن براين من العثور عليها. كتبت إهداءً عليه، أشكر فيه «السيدة المعلمة» لأنها غيرت حياتي، واحتفظتُ به لعلي أقابلها.

قبل موعد سفري إلى نيويورك بأسبوع حضر براين وطاقمه إلى منزلي، للحديث معي ومع والدتي وأختي وابنتي عن السيدة وورنكي وعن عملي في التدريس. وحينما كان طاقم البرنامج ينزل المعدات ويثبت الأضواء والكاميرات والشاشات، حضرت جارتي وسألتني: «ماذا تفعلين؟ هل تصوِّرين فيلمًا؟» بالفعل شعرت للحظةٍ أنني نجمة سينمائية عندما بدأ التصوير. لكن حديثي المطول عن السيدة وورنكي أعادني الفتاة الصغيرة سيندي التي تشعر بعدم الأمان في الصف الأول الابتدائي. وسرعان ما انهالت الدموع من عينَيَّ أثناء الحوار. فسألني براين عما إذا كان العثور على السيدة وورنكي يثير مشاعري، وأراد أن يعرف ما سأقوله لها إذا أتيحَت لي الفرصة.

أجبته ودمعة تسيل على خدي: «سأسعد كثيرًا. أريدها أن تعلم أنه فيما مضى كانت هناك فتاة نحيفة صغيرة لم تثق بنفسها. ثم تغير كل شيء في ليلة وضحاها. بفضلها تغيرت حياتي بأكملها، وأصبحت قادرة — كما آمل — على التأثير في حياة طلاب كثيرين وقد تغيرت حياتهم أيضًا.»

استمرت رحلتي إلى الماضي لما بعد ظهيرة ذلك اليوم، عندما قدت السيارة عدة أميال بصحبة براين لأريه مكان مدرستي الابتدائية. كان مبنى مدرسة براجتاون — الذي عشت فيه تجربتي المهمة في الصف الأول الابتدائي — قد دُمر بالكامل بفعل حريق عام ١٩٩١. حينئذٍ كنت أدرِّس في مدرسة إعدادية تبعد بضعة أميال عنه، فوقفت في ملعب كرة القدم أراقب سحب الدخان ترتفع فوق الأشجار، وبكيت مثلي مثل كثيرٍ من زملائي ونحن نشاهد احتراق جزءٍ من ماضينا؛ إذ كان قد درس هناك العديد منهم في العام السابق. افترشت أرضيات المبنى العتيق الذي شُيِّد عام ١٩٢٧ بألواح خشبية لامعة، لهذا لم يكن ثمة مفرٌّ من تدميره بالكامل بسبب الحريق. وفي أقل من ساعةٍ اختفت المدرسة وتلاشت فرصتي في رؤية فصلي في القبو مرة أخرى.

اصطحبت براين في ذلك اليوم في جولة حول المنطقة، وأريته مكان الملعب وقاعة الألعاب الرياضية. اشتقت لرؤية مدرستي القديمة، ولمس جدرانها، والجلوس في مطعمها، وتناول حساء الخضراوات المنزلي الصنع ولفائف الخميرة. لكن حلمي كان مستحيلًا. تكفيني ذكرياتي؛ التي كان بعضها قريبًا وواضحًا والبعض الآخر بعيدًا ومشوشًا. جعل هذا الإدراك رحلتي إلى مكان المدرسة أكثر إثارة لشجوني.

السيدة برنيت

سألني صوت عبر الهاتف: «هل أنت صغيرتي سوزي؟»

فأجبت: «نعم يا سيدتي.»

كانت المتصلة السيدة برنيت، معلمة المهارات اللغوية والتاريخ في الصف السادس. إنها المعلمة التي تركت أثرًا في حياتي. وبثَّت في نفسي حب التدريس.

كانت السيدة برنيت ترتدي ملابس أنيقة، وأحذية غالية تشتريها من أفضل متجر في المدينة: ليونز. ومع أنها كانت امرأة صغيرة الجسم، فقد ارتعد الطلاب في كل مرة رمقتهم بنظرتها الحادة من فوق نظارتها. في حصتها اعتدنا كتابة موضوعات عن الأساطير، والمواقع الأثرية المهمة، وعجائب الدنيا السبع. بدأتْ علاقتي بالأبحاث مع تعاملي مع موسوعة الكتاب العالمي. فقد كان مطلوبًا مني كتابة بحث عن القلعة اليونانية أكروبوليس. بدأت البحث على نحو خاطئ حتى وصلت في النهاية إلى كلمة أكروبوليس. فالمعرفة من أجل المعرفة متعة.

كانت السيدة برنيت تخضعنا أسبوعيًّا لاختبارات تراكمية متعلقة بالحصيلة اللغوية، ولم تكن الأسئلة سهلة كأسئلة صواب وخطأ أو توصيل، ومع بلوغنا الاختبار الأخير الذي ضم أربعمائة كلمة كنت قد أغرمت بالكلمات. وبعدما منحتني جريدة «ذا واشنطن بوست» جائزة آجنس ماير للمعلم المتميز، أرسلت خطابًا للسيدة برنيت. أخبرتها فيه أنني اقتديت بها وأحسنت التصرف. فردت بخطاب تخبرني فيه عن مدى فخرها بي. وكان لهذا كبير أثر في نفسي.

مضت تقريبًا عشرة أعوام على آخر مرة تبادلنا فيها الخطابات، وسعدت — رغم دهشتي قليلًا — أن السيدة برنيت البالغة من العمر ثمانية وتسعين عامًا ستكون ضيفة الشرف في الحفل الأربعين لاجتماع فصلنا. لم أتمكن من الذهاب إلى تكساس لحضور الحفل، فراسلتها ثانية وأنا أستعيد ذكريات الشعر الذي تعلمناه، والكلمات التي حفظناها، ودفتر التاريخ الذي جعلتنا نحتفظ به. أردت أن أخبرها مرة أخرى أنها أثرت فيَّ، وأنني كتبت عنها، وأنني اقتديت بها؛ فهي معلمة علمت طلابها ألَّا يعرفوا المعلومات فقط، بل أن يفكِّروا فيها أيضًا.

وفجأة — بعد ما يقرب من خمسين عامًا — أسمع صوتها عبر الهاتف تقول: «أصبحت تؤلفين الكتب! لطالما عرفت أنك تتمتعين بمواهب عظيمة يا سوزي. تدركين طبعًا أن المعلم يجب ألَّا يشعر بأن بعض طلابه قريبون إليه أكثر من غيرهم، لكنكِ معلمة وتدركين أننا مهما حاولنا أن نكون محايدين، فهذا يحدث رغمًا عنا. وقد كنتِ دائمًا طالبتي المفضلة.»

أجبتها: «وأنت أيضًا كنت معلمتي المفضلة يا سيدة برنيت. لقد علمتني كيف أكون معلمة.»

تُرى هل سأتصل يومًا ما بأحد طلابي لأجري حديثًا مماثلًا!

سوزان جراهام، معلمة مادة الأسرة وعلوم الاستهلاك، بمدرسة جايل الإعدادية، فريدريكسبيرج، فرجينيا، الحاصلة على لقب معلم العام في المنطقة الثالثة بولاية فرجينيا لعام ٢٠٠٠

تحت الأضواء

في الأسبوع التالي طرت أنا وزوجي إلى نيويورك. ولم يسبق أن كنت قلقة إلى هذا الحد طوال حياتي. لم أنم إلا قليلًا الليلة السابقة لظهوري في البرنامج، لأنني كنت أحاول ترتيب الكلمات التي سأقولها في التلفزيون الوطني حتى تكون ذات معنًى. كثيرون قبلي تحدَّثوا عن المعلم الذي غيَّر حياتهم. فكيف يمكن أن أشرح للعالم الأثر الذي تركته السيدة وورنكي فيَّ؟ كيف أصف شعوري بعدم الثقة وأنا في الصف الأول الابتدائي، وكيف تغيرت حياتي كلها في يوم واحد، هو يوم نقلي إلى فصل آخر؟

في صباح يوم ٥ سبتمبر، وصلت أنا وديفيد مبكرًا — قبل السادسة والنصف صباحًا — إلى استوديوهات برنامج «جود مورنينج أمريكا». واستقبلتنا إحدى منتجات البرنامج وتُدعى كايتي، واصطحبتنا إلى غرفة تغيير الملابس. ظلت كايتي وغيرها من العاملين في البرنامج يتحسرون على عدم العثور على السيدة وورنكي، ويقولون إن ظهورها في البرنامج سيكون أمرًا رائعًا، بدلًا من ظهوري وحدي في التلفزيون الوطني ورجاء كل من يعرفها أن يتصل بنا. كرر الكثيرون هذه العبارات أمامي طوال الطريق إلى غرفة تغيير الملابس، حتى إنني تأكدت أنها لن تدخل علينا فجأةً كما تمنيت. وبالرغم من ذلك، قررت استغلال اللحظة الحالية لأنني علمت أن طلابي سيتابعون البرنامج في المدرسة، وسيرغبون حتمًا بعد عودتي في مشاهدة الصور التي التقطتها وسماع القصص التي سأرويها. لهذا التقط ديفيد صورًا لكل شيء، بدءًا من لحظة جلوسي بين يدي متخصص وضع المكياج، وانتهاءً بلحظة وقوفي مرعوبة في الاستوديو في انتظار ظهوري على الشاشة.

بعد الانتهاء من تصفيف شعري ووضع مكياجي، جلست في غرفة تغيير الملابس أحاول تهدئة نفسي والتخفيف من حدة قلقي. فكرت في السيدة وورنكي، وفي شعوري في المستقبل إذا فتحت التلفزيون ذات يومٍ لأرى أحد طلابي السابقين يتحدث عني. ثم جلسَت كايتي معي وأخبرتني عن معلماتها اللاتي تتذكرهن. وبعد أن خرجت كايتي لتسأل باقي المنتجين عن الوقت المتبقي حتى موعد ظهوري، حاولت الاستماع إلى بعض الموسيقى لكنني كنت متوترة للغاية. وانتفضت واقفة عندما عادت كايتي لتخبرني أن الوقت قد حان للذهاب إلى الاستوديو.

مررنا أمام غرفة تغيير ملابس روبين روبرتس، ورأيت على الباب لافتة كُتب عليها على نحوٍ ملائم «عش روبين». كانت روبين وديان سوير تغطيان المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري ذلك اليوم؛ لهذا لم تُتح لي فرصة مقابلتهما. لكنني لم أشغل بالي بذلك لأنني كنت قلقة بدرجة لا تجعلني أفكر في الفرصة التي ضاعت مني. أخيرًا وصلنا الاستوديو بعد الصعود في مصعد ضخم يتسع لشاحنة. ومع أنني تابعت البرنامج لسنوات، فقد بدا الاستوديو مختلفًا تمامًا من حيث وقفت. فأول شيء لاحظته أنه كان مزدحمًا جدًّا؛ إذ كان يكتظ بجمهور الاستوديو، والعشرات من العاملين الذين يشغلون الكاميرات ويحملون الأسلاك. لم يسبق أن لاحظت هذه الفوضى المنظمة وأنا أشاهد التلفزيون. وفور أن استجمعت قواي رأيت الوجه الباسم لمذيع فقرة الأحوال الجوية سام تشامبيون، الذي مد يده وصافحني بحرارة كما لو كنا صديقَين قديمَين. ثم رأيت طاهية التلفزيون الشهيرة سارة مولتون التي أعدت وجباتٍ خفيفةً بمناسبة العودة إلى المدارس، مراعاة منها لموضوع برنامج اليوم.

fig7
في انتظار ظهوري على التلفزيون لأول مرة. مع أن أسناني كانت تصطك من الرهبة، فقد كنت أحاول الابتسام.

طلبت مني كايتي الانتظار خلف إحدى الكاميرات، فتسمرت في مكاني في رعب. ولم يتوقف ديفيد عن التقاط صور لي مع أنني لم أتمكن من الابتسام من فرط القلق، وأطبقت أسناني مخافة أن يظهر للجميع أنها تصطك من الخوف. كان جزء من خوفي راجعًا إلى ظني أن البرنامج عثر «بالفعل» على معلمتي لكنها لا تتذكرني. وفكرت فيما يجب أن أقول لأنعش ذاكرتها. وإذا تذكرت طالبتها الصغيرة التعيسة في الصف الأول، فكيف سأجد الكلمات المناسبة لأصف لها المكانة الأسطورية التي احتلَّتها في عقلي، على مدار ما يزيد عن أربعين عامًا؟

لكن لم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير مليًّا في تلك الأمور. فقد سمعت صوت كريس كومو يعلن الانتقال إلى فاصل إعلاني، وسرعان ما وجدت كايتي تقتادني إلى مقعدي. جلست بعد أن حياني السيد كريس بحرارة، ثم سمعت العد التنازلي للعودة على الهواء: ٥، ٤، ٣، ٢ …

«وفجأة عدت بذاكرتي إلى المدرسة الابتدائية، ورأيتني أجلس بين جميع الطلبة على الأرض، أمام جهاز تلفزيون أُحضر خِصِّيصى ذلك اليوم. نحن نشاهد أحد صواريخ أبولو وهو على وَشْك أن ينطلق في الفضاء، ونعد في صوتٍ واحد: ٥، ٤، ٣، ٢ ….»

ثم سمعت صوت كريس كومو يقول: «موضوعنا هذا الصباح هو العودة إلى المدرسة، ومعنا سيدة تبحث عن معلمتها في الصف الأول لأنها غيرت حياتها …» حاولت أن أتنفس بانتظام، وشاهدت الفيديو الذي يُعرض على الشاشة أمامي. رأيت مدرسة براجتاون في كامل مجدها. كان تصويرًا بالأبيض والأسود لمبنى مدرستي القديمة. فتذكرت رائحة الأرضية الملمعة بالشمع، وقاعة الألعاب الرياضية العتيقة، وصوت أمينة المكتبة السيدة تشاندلر وهي تقص علينا قصص الأرنب برير، وصوت السيدة فيسي سائقة الحافلة رقم ٥٨ وهي تطلب منا أن نجلس في أماكننا. وتذكرت الملمس الصلب لغلاف كتاب «ديك وجين» الخاص بالقراءة، بينما كانت تقرأ لنا منه السيدة وورنكي.

ثم عدت إلى الحاضر عندما ظهرت أختي على الشاشة، وتحدثت عن شعوري بعدم الثقة في صغري، وشككت لحظةً في صحة القرار الذي اتخذته بسرد وقائع حياتي أمام العالم كله. بعد ذلك ظهرت والدتي البالغة من العمر ثمانين عامًا لتتحدث عن السيدة وورنكي وعني، وكانت في تلك اللحظة تبعد خمسة أميال في ولاية كارولينا الشمالية. نظرت إلى السيد كريس وتمتمت: «هذه أمي …»، وشعرت أنني قد أنفجر في البكاء في أي لحظة.

ثم ظهرت صورتي على الشاشة، وأنا أبكي أثناء إجابتي عن الأسئلة المتعلقة بتأثير معلمتي في حياتي. في هذه الأثناء وأنا جالسة في الاستوديو كنت أحاول تنظيم أنفاسي، وخاطبت نفسي بعصبية (في صمت) قائلة: «تماسكي. فالأمة كلها رأت بالفعل صورك وأنت في الصف الأول والثاني الابتدائي. فلا داعي لإحراج نفسك أكثر من ذلك بالبكاء أمام الكاميرا!»

وأخيرًا انتهى الفيديو القصير الذي تناول مدرستي وطفولتي. سألني بعدئذٍ السيد كريس عن سبب إصراري على العثور على معلمتي. ولحسن الحظ كان هذا هو السؤال الذي ظللت أحضر إجابته منذ الساعة الثالثة صباحًا. فأجبته أن كل شخص في حياته معلمة مثل السيدة وورنكي؛ كل شخص لديه معلم ترك أثرًا في حياته، لكن المعلمين في كثير من الأحيان لا يعرفون أنهم غيروا حياتنا. وأضفت أنني أريد السيدة وورنكي أن تعلم أنها «الشخص الذي غيَّر حياتي».

فأبلغني كريس كومو أن برنامج «جود مورنينج أمريكا» بحث عن معلمتي، ووجد شخصًا يمكنه مساعدتي في العثور عليها. ففكرت لحظةً وقلت في نفسي: «إن كنتم قد وجدتم شخصًا يمكنه المساعدة في العثور عليها، فلماذا لم تسألوه عن مكانها، وتستضيفوها اليوم؟!» ثم أفقت على صوت تصفيق وتشجيع حادَّين؛ ونظرت إلى كريس وسألته وأنا أبكي: «هل عثرتم عليها؟»

أخيرًا عثرنا عليها

ثم رأيتها. السيدة وورنكي. معلمتي السيدة وورنكي. إنها كسابق عهدها لم تتغير! لم تكن سيدة عجوزًا تتكئ على عصًا، بل حتى لم يبدُ عليها الكبر (بدَتْ في مثل سنِّي في الواقع). إنه نفس الوجه ونفس الابتسامة ونفس الشخصية المحبة الحنونة. وضعت يديَّ على فمي. وظللت أردد: «يا إلهي … يا إلهي …»، ثم احتضنتها وظللت أبكي.

أول شيء سألتها عنه هل يزعجها ظهورها في التلفزيون الوطني بسببي. وأجابتني بأن ذلك يشرفها. ثم سألتها هل تتذكرني.

فقالت: «بالطبع أتذكرك!»، واتجهنا معًا نحو كريس كومو للجلوس في مقاعد الضيوف.

لم أصدق على الإطلاق أنني أجلس بجوار السيدة وورنكي. ومددت ذراعي مرتَين لأتحسَّس ذراعها؛ كأنني أردت أن أتأكَّد أنها تجلس إلى جواري بالفعل، وأنني لا أحلم بها كما اعتدت طوال حياتي.

علمت خلال اللقاء أن المنتج براين اتصل بالسيدة وورنكي، وأخبرها أن إحدى طالباتها السابقات تبحث عنها، وعلى الفور سألته: «أهي سيندي؟» تُرى هل تذكرتني بسبب العلاقة الوثيقة التي ظننت أننا تمتَّعنا بها، أم لأنني كنت طالبةً مزعجة إلى حدٍّ بعيد! قالت السيدة وورنكي للسيد كريس كومو: «كانت بيننا علاقة آنذاك»، وأضحكت الحضور في الاستوديو بإحدى دعاباتها حينما قالت: «يسعدني أن البرنامج لا يدور حول السجناء الذين أُفرِج عنهم، ويبحثون عن المعلمين الذين دمَّروا حياتهم.»

سُمع صوت ضحك كل مَن كان في موقع تصوير البرنامج، وهو ما خفف من حدة التوتر ومسح أثر الدموع التي انهمرت منذ لحظات. لم أتمكن من مراقبة ما يحدث في الاستوديو إلا بعد قطع البرنامج بفاصل إعلاني، فرأيت وجوهًا ملطخة بالدموع في كل مكان؛ بين الحضور وطاقم البرنامج، ورأيت الدموع تنهمر على وجنتَي زوجي الضخم الذي عمل في السابق محققًا في الشرطة ورجل إطفاء.

fig8
أنا والسيدة وورنكي نحتفل بلمِّ شملنا، ومعنا كريس كومو مذيع برنامج «جود مورنينج أمريكا». السيدة وورنكي تمسك بنسخة كتاب «اقرأ لي وسأقرأ لك» التي اشترتها لها.

بعد انتهاء فقرتنا وخروجنا لإحضار أغراضنا، اجتمع الناس حولنا من جميع الغرف الجانبية والمكاتب، محررون وغيرهم، وأراد كل شخص منهم أن يخبرني بنفس الشيء؛ قصة المعلمة التي ألهمته. فقد أرادوا جميعًا أن يسردوا لي قصة المعلمة التي غيرت حياتهم.

وفي وقت لاحق ذلك اليوم، ظهرت تعليقات على موقع برنامج «جود مورنينج أمريكا»:

«استمتعت كثيرًا بقصة المعلمة التي عُرضت هذا الصباح. ولديَّ طلب بسيط. أيمكنكم عرض تلك الفقرات قبل الساعة ٨:٣٠ لأنه الوقت الذي أضع فيه مكياجي قبل الذهاب إلى العمل؟ إذ إنني، في موعد البرنامج الحالي، إما أن أتأخر على عملي أو أذهب ووجهي ملطَّخ من أثر الدموع.»

«إن قصة المرأة التي تأثرت بمعلمتها في الصف الأول جعلتني أبكي من السعادة. فما زلت أندهش عندما أسمع قصصًا عن كيف يمكن لشخص أن يغيِّر حياة شخصٍ آخر. كانت القصة مثيرة للعواطف وملهِمة وجميلة. تأثرت وسعدت لسماع قصتهما.»

الآن بعد مرور عدة أشهر، سمعت آلاف القصص لمعلماتٍ غيَّرن حياة طلابهن. وكلما سردت قصة معلمتي التي غيرت حياتي — أو شاهد أحدهم مقطع الفيديو الذي ظهرت فيه في ذلك البرنامج — سمعت قصصًا لا تنتهي عن معلمات أخريات. لقد أثبتت الإجابة التي قلتها لكريس كومو صحتها: «كل شخصٍ لديه سيدة وورنكي في حياته. كلنا نذكر المعلمين المميزين الذين تركوا أثرًا كبيرًا في نفوسنا.»

بالطبع ليس الكل محظوظًا مثلي بالعثور على ذلك المعلم المميز. عندما افترقت أنا والسيدة وورنكي ذلك اليوم لتعود كلٌّ منا إلى منزلها وحياتها قبل لقاء يوم ٥ سبتمبر ٢٠٠٨، كنت متأكدة أن شيئًا قد تغيَّر على نحو ما؛ وأن المرأة التي غيَّرت حياتي عام ١٩٦٣ على وَشْك أن تغيِّر حياتي مرة أخرى. لم أعلم كيف سيحدث ذلك بالضبط، ولم أعلم ما الدور الذي ستلعبه في حياتي القادمة؛ فنحن لسنا إلا غريبتَين جمعتهما لحظة قصيرة منذ زمن طويل. ولكنني عندما نظرت من شباك نافذة طائرتي المتجهة إلى كارولينا الشمالية، تيقَّنت أنني لن أكون أبدًا نفس الشخص بعد ذلك اللقاء؛ فقد عثرت أخيرًا على السيدة وورنكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤