الفصل الثامن

التفكر في الأمر

«أعتقد أنه من الرائع — بالرغم من كل شيء — أن يحصل المعلمون على الدعاية والتقدير اللذين يستحقونهما.»

باربرا وورنكي، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٨

أول شيء فعلته بعد عودتي إلى منزلي في نيويورك، وانتهاء تجربتي في استوديو برنامج «جود مورنينج أمريكا»؛ هو الجلوس وكتابة خطاب للسيدة وورنكي. في الواقع استعنت بالآلة الكاتبة بدلًا من كتابة الخطاب بخط اليد، وشرحت في ديباجته كم كان لديَّ الكثير لأقوله ولأخبرها به، وأن الآلة الكاتبة ستساعدني في ذلك.

قضيت معها وقتًا قصيرًا بعد ظهورنا معًا في التلفزيون الوطني؛ إذ تناولنا إفطارًا سريعًا عقب انتهاء البرنامج، ثم اضطرَّت السيدة وورنكي وزوجها إلى المغادرة ليلحقا بطائرتهما. (كما هو معلوم سبتمبر هو موسم الأعاصير، وكانت هناك عدة عواصف بالفعل؛ لذا أراد آل وورنكي العودة إلى شيكاغو في أقرب وقت ممكن.) وبالرغم من قصر المدة التي قضيناها معًا في المطعم فقد تبادلنا الكثير من المعلومات والأخبار. جلست السيدة وورنكي تتناول الأومليت، لكنني لم أتمكَّن من تناول الوافل الموضوع أمامي من الإثارة، ونحن نستغرق في ذكريات المدرسة التي ظلَّت حيةً في ذاكرتَينا.

الممتع في الأمر أننا لم نحتَجْ أكثر من دقيقتَين لننتقل من حوار معلمةٍ وطالبةٍ إلى حوار معلمتَين. فرحت كثيرًا عندما سمعت السيدة وورنكي تحكي قصتي من وجهة نظرها؛ بما في ذلك انطباعها الأول لدى رؤية الفصل الذي في القبو. أخبرتني أنها تلقَّت عرض الوظيفة قبلها بوقت قصير؛ لذلك كانت سعيدةً بتلك الفرصة وقلقةً للغاية ألَّا تعينها خبرتها السابقة في التدريس — لمدة عام في المدرسة الثانوية — في تخطي ذلك الموقف. وهكذا عندما انفتح الباب ورأت السيدة وورنكي الفصل لأول مرة شعرت بالراحة. فقد لاحظت أن الفصل منعزل ويوفر قدرًا كبيرًا من الخصوصية بعيدًا عن باقي الفصول، وهكذا لن تخضع للمقارنة بالمعلمات الأخريات كما أخبرتني. وأضافت أنها شعرت بارتباط قوي مع القبو لأن كليهما «يبدأ مشواره من الصفر»؛ إذ شعرت أن الغرفة المظلمة في القبو صفحة خالية يمكنها كتابة أي شيء عليها، وهكذا زادت ثقتها في نجاحها.

ثم حدثتني السيدة وورنكي عن يوم اغتيال الرئيس كينيدي بعد أسابيع قليلة من انتقالنا للفصل. ومع أنني لا أذكر الكثير عن ذلك اليوم — سوى أننا غادرنا المدرسة مبكرًا — فإن ذكرياتها كانت زاخرة بالتفاصيل والأحاسيس. كانت السيدة وورنكي عام ١٩٦٣ ناخبة شابة تكنُّ الاحترام الشديد للرئيس كينيدي، وتذكرت بوضوح الرعب والكآبة اللذين خيما على الجميع وقتها. أخبرتني أننا كنا في المكتبة ذلك اليوم ننصت إلى أمينة المكتبة وهي تقرأ لنا، حين دخلت معلمة أخرى لتبلغها بما حدث. فأعادتنا السيدة وورنكي إلى الفصل على الفور، لنحضر أغراضنا ونعود إلى منازلنا. وهي تستعيد أحداث اليوم استشعرتُ الحزن في صوتها، وتخيلت نفسي مكانها؛ معلمة شابة تحاول السيطرة على مشاعرها والاهتمام بفصل مليء بطلاب الصف الأول الابتدائي. ثم عدت طالبة في الصف الأول تجلس في المكتبة تنصت إلى القصص، ثم تُجبر على العودة في الممر الطويل إلى الغرفة في القبو.

بعدئذٍ سألتني السيدة وورنكي عن طلاب آخرين كانوا في الفصل ذلك العام. وأبلغتها بأخبارهم، فعلى سبيل المثال أصبح جون الظهير الربعي لفريقنا في المدرسة الثانوية، وأصبحت سوزان معلمة علوم في المدرسة الثانوية. تطرق الحديث أيضًا إلى أخبار بعض العاملين في مدرسة براجتاون، مثل الناظر وأمينة المكتبة ومعلمين عدة. واستطاعت السيدة وورنكي أن تتذكر السيدة رايلي وأخبرتني أنها حضرت جنازتها. وعندما استمعت إلى قصتها وتخيلتها هي وزوجها في الجنازة تبدلت مشاعري. فالسيدة رايلي لم تكن معلمتي فحسب، بل كانت بمنزلة فرد من العائلة، وقد أحزنني التفكير في موت «أول» معلمة لي في الصف الأول الابتدائي. علمت أيضًا أن السيدة وورنكي عملت في التدريس عدة أعوام ثم أصبحت مصورة موهوبة. فأعربتُ لها عن رغبتي في رؤية صورها.

قبل أن يتجه آل وورنكي إلى المطار تبادلنا أرقام الهواتف والعناوين، لكن الوقت الذي قضيناه كان قصيرًا جدًّا. لهذا شعرت برغبة في كتابة خطاب؛ لأشرح فيه للسيدة وورنكي بعض الأمور التي لم يسعفني الوقت أن أشرحها لها، أمور مثل سبب شعوري بعدم الثقة في الصف الأول، وشعوري بالرعب لوضعي في فصل لا تعيرني معلمته أي اهتمام. لكنني بدأت الخطاب باعتذار:

عزيزتي السيدة وورنكي،

قرَّرت أن أكتب الخطاب بمساعدة الآلة الكاتبة؛ مخافة أن أطيل وأظل أكتب وأحذف العبارات. في البداية أود أن أشكرك على حضورك إلى نيويورك بالطائرة، بالرغم من الأعاصير والعواصف الاستوائية الوشيكة. لا شك أن أفراد أسرتك مندهشون من المرأة المجنونة البالغة من العمر خمسين عامًا التي اضطرتك لقطع كل هذه المسافة. رجاءً أخبريهم أنني لست امرأة مجنونة، بل إن عملي في التدريس … جعلني أشعر بضرورة إخبارك عن الأثر الذي تركته في نفسي.

بعد أن أرسلت الخطاب بيومَين، وجدت في صندوقي البريدي بطاقة من السيدة وورنكي. وقد ثبتت فيها صورة لزهرتَي توليب ورديتَين. وأشارت في الرسالة إلى «رحلتنا الخاطفة» إلى نيويورك، وأضافت أنها تضمنت أحداثًا أكثر مما يمكنها استيعابها. ثم شكرتني على إضفاء «معنًى» لحياتها. لم أفكر يومًا أنني أستطيع تغيير حياة المعلمة التي غيرت حياتي!

وفي رسالة إلكترونية لاحقة، أوضحت السيدة وورنكي أنها انتقت صورة زهرتَي التوليب بعناية، وأرفقتها بأول بطاقة ترسلها لي لترمز لي ولها. ثم وردتني بطاقات أخرى منها مع مرور الشهور، مرفق بها كلها صور فنية رمزية وذات مغزًى.

المدرب آربس والسيد روجرز

صادفني في حياتي معلمون كثيرون تركوا بصمةً حقيقية في شخصيتي المهنية. وبعيدًا عن تأثير والديَّ وجديَّ وأصدقائي المقرَّبين، فإن أكثر شخصَين أثَّرا في نفسي كانا المدرب سام آربس والسيد جاي روجرز.

درَّس لنا المدرب سام آربس الجغرافيا. لقد درسها لنا بشغف وبأسلوب ممتع. فتعلمنا ما هو أكثر من مواقع الأنهار وحدود البلدان. وكلما تعرفنا على ثقافات جديدة، دفعنا للتفكير المبدع. وشجعنا أن نكون ناشطين في مجال السياسة؛ فجعلنا نعمل في حملات سياسية ونتبادل الثقافات مع الآخرين في مجتمعنا. وكان مثلًا أعلى ساعد على تخفيف حدة التوترات العرقية التي سادت مجتمعنا المدرسي.

وقد أتيحت لي الفرصة أن أخبره بالدور الذي لعبه في اختياري العمل في التدريس. كنت أعمل مدرسة في مدرسة كاري الثانوية عندما اكتشفت أنه تقاعد. وذات يوم قابلته بالصدفة، وتمكنا من البقاء على اتصال لمدة وجيزة قبل وفاته.

أما جاي روجرز — الحاصل على لقب معلم العام على المستوى الوطني لعام ١٩٧٢ — فقد كان له كبير الأثر في حياتي وفي اختياري أن أصبح معلمة. كان معلمًا ممتازًا، وترجع كفاءته ليس فقط لتمكنه من مادته، بل أيضًا لفهمه الجيد لطلاب المدرسة الثانوية واحتياجاتهم.

لم يتركنا نشعر بالملل، ولم يضيِّع أي لحظة، وإذا قصَّر أي طالب فإنه كان يتحمل عواقب تقصيره لا محالة. جعلنا نتحمل المسئولية. وعاملنا معاملة الناضجين. وكان يتوقع منا تحقيق الكثير. واعتاد أن يتجادل معنا (أدرك الآن أنها كانت مناقشات)، وقد جعلني أشعر عدة مرات أنني غاضبة أو محبطة لأنه دفعني لتغيير رأيي وتحدي نفسي.

كل جُل همه أن يضمن نجاحنا بعد انتهاء المدرسة الثانوية. لذا شجعنا على الانضمام إلى الأندية، والمؤسسات الاجتماعية المختلفة في مجتمعنا. وحرص السيد روجرز على أن نقضي وقتًا ممتعًا، ونتعلم في الوقت نفسه معلومات أكثر من الحقائق والتواريخ المجردة.

أعمل الآن في رابطة معلمي كارولينا الشمالية. وفي عام ٢٠٠٥ كرَّمت الرابطة جميع المعلمين الحاصلين على لقب معلم العام على مستوى الولاية على مدار السنين. حينئذٍ تمكنت من شكر السيد روجرز أمام أقرانه من المعلمين وبعض من أقراني. واستمتعت كثيرًا بالاستغراق في الذكريات معه في ذلك اليوم.

أنجيلا فارذينج، مديرة مركز التدريس والتعلم، رابطة معلمي كارولينا الشمالية

نقل إرث السيدة وورنكي للآخرين

اتضح لي يومًا بعد يوم — بعد عثوري على السيدة وورنكي — كيف رسمت تجربتي في الصف الأول الابتدائي معالم طريقي في مهنة التدريس. أتذكر اليوم الذي رأيت فيه كينتون يرسم صور الأشخاص البرتقاليين. وعندما انحنيت على مقعده أناديه باسمه، بدا لي وكأنما سألت نفسي حينئذٍ: «ماذا كانت السيدة وورنكي ستفعل؟» وسرعان ما عرفت الإجابة. كانت السيدة وورنكي ستتقبل كينتون كما هو، وهذا ما فعلته. فوجود نموذج تلك المعلمة الحنون أمامي منذ سنٍّ مبكرةٍ ساعدني على محاكاة طباعها. وبشكل ما يمكنني القول إنني «نقلت إرث السيدة وورنكي للآخرين»، وذلك عندما عاملت طلابي بنفس الاهتمام الذي عوملت به في الصف الأول الابتدائي.

لا شيء أيسر من منح الاهتمام للطلاب المطيعين المحبَّبين، لكن السيدة وورنكي علَّمتني أن كل طفلٍ يستحقُّ الاحترام والتأييد، وقد ظلَّت تلك الفلسفة محور عملي في التدريس على مدار ثلاثين عامًا.

عندما أفكِّر في أكثر الطلاب الذين احتاجوا إلى مساعدتي — الذين احتاجوني أن أرد معروف السيدة وورنكي إليهم — أتذكر بالطبع جوي والغرفة المطاطية، لكنني أتذكر ماريان أيضًا، وهي طالبة أخرى درَّست لها لمدة قصيرة في العام نفسه. كانت ماريان غارقة في المشكلات عند وصولها الصف السابع، وقد اعتادت على عدم انتظامها في الحضور إلى الفصل؛ لأنها قضت أغلب العام الدراسي تَدرس في مدرسة متخصصة في التعامل مع المراهقين المضطربين. أما الوقت الذي قضته معي في الفصل، فكنت أعاملها باحترام وأُبدي لها الاهتمام.

وقد وردني خطابان طويلان من ماريان أرسلتهما وهي في تلك المدرسة:

أصبحت أحرز تقدير «ممتاز» و«جيد جدًّا» في اختباراتي. وبدأت أرتدي ملابس تناسبني، وتوقفت عن تعاطي المخدرات والتهرب من المدرسة. لقد غيرت نظرتي تمامًا للحياة والمدرسة والأصدقاء والعائلة ومستقبلي وعلاقاتي. … هذا ما وددت إخبارك به، بالإضافة إلى أمر آخر؛ هو أنك كنت معلمتي المفضلة وأفضل معلمة درست لي طوال حياتي. أنا لا أكذب. إنها الحقيقة.

وللأسف شاهدت ماريان بعد أعوام في نشرة أخبار المساء مكبلة اليدين ترتدي زيًّا برتقاليًّا. كانت متهمة بالاشتراك في جريمة قتل، وأدينت بالجرم فيما بعد. منذ ذلك الحين وأنا أسأل نفسي باستمرار هل كان ثمة ما بإمكاني عمله لتغيير مسار حياتها. الآن عندما أنظر بعين المعلمة المتمرسة إلى طلابي — الذين واجهوا صعوبات منهم والذين نجحوا — أكون متأكدة على الأقل أنني فعلت «مهما تطلب الأمر» لأكون معلمة تهتم بطلابها، وتلهمهم الصواب.

أنا لا أدَّعي أنني معلمة عظيمة. لكنني عندما أفكر في تاريخي المهني أجد مواقف كثيرة خالفت نهاياتها كل التوقعات. وأنا أحاول قدر الإمكان تتبع حياة الكثير من الطلاب الذين يعيشون في مجتمعي، ولاحظت أن بعض الذين بدءوا حياتهم بنظرة متشائمة للمستقبل قد وجدوا السعادة بالفعل. ومع أنني لا يمكنني مطلقًا أن أنسب الفضل في نجاحهم لنفسي، فإنني سعيدة أنني فعلت كل ما بوسعي خلال الوقت القصير الذي قضيته معهم؛ لضمان أن يكونوا مواطنين أصحاء وسعداء. أعتبر عملي في التدريس فرصة أستغلها استغلالًا جادًّا للتأثير في طلاب الفصل كل يوم. ويرجع أصل فكرتي عن التأثير في الأطفال إلى تجربتي في فصل السيدة وورنكي.

أتيحت لي الفرصة مؤخرًا لأن أسرد قصتي أمام كارولينا الشمالية عندما حزت لقب معلم العام بالولاية؛ إنها القصة التي قرأتها للتو لطالبة في الصف الأول عانت عدم الشعور بالثقة، ثم واجهت صعوبات في بداية عملها في مجال التدريس، وأخيرًا تعلمت كيف تكون مربية حقيقية. وبعد أن أسرد قصتي على الجمهور، أعرض عليهم مقطع الفيديو الخاص بلقائي بالسيدة وورنكي (والذي يمكن مشاهدته على موقع القسم الإخباري بشبكة إيه بي سي على العنوان التالي: http://abcnews.go.com/gma/story?id=5726538&page=1). ثم أقول لهم:

كلما عرضت هذا الفيديو على جمهور، وردت إليَّ قصص مشابهة. فكل شخص لديه السيدة وورنكي في حياته. كل واحد منكم يجلس الآن ويفكر في السيدة وورنكي الخاصة به. نحن نشرف كل يوم — بوصفنا معلمين — بأن نكون السيدة وورنكي لأحد الطلاب.

بعد سرد قصتي على المربين الآخرين أضيف أمرًا آخر، فنحن لا نشرف بهذا العمل فحسب، بل نحمل مسئولية كبيرة، إنه «التزام» في الواقع بأن نكون ذلك المعلم الذي يترك أثرًا.

لقد سردت قصتي على آلاف الطلاب الذين سيتخصصون في مجال التدريس، والمعلمين المتدربين والممارسين. وفي كل مرة بعد انتهاء العرض، يصطفُّ الحضور كلهم لإخباري عن المعلمين الذين غيَّروا حياتهم. فالجميع متشوِّق لسرد قصته، مع ذكر السنة الدراسية التي حدث فيها ذلك، والموقف المهم الذي حدث مع ذلك المعلم.

كثيرًا ما أتلقَّى تعليقًا من أحد الحاضرين يخبرني فيه كيف حفزته على التدريس، أو دفعته للاستمرار في مهنة التدريس، وهذا يدهشني نظرًا لأنني احتجت لسنين طويلة إلى من يحفزني أو يدفعني للاستمرار! ففي أحد أيام السبت بعد أن ألقيت عرض «البحث عن السيدة وورنكي» الخاص بي في حرم إحدى الجامعات، اقتربت مني معلمة وأنا أجمع أغراضي استعدادًا للرحيل. كنت في عجلة من أمري؛ إذ تنتظرني عطلة نهاية أسبوع مزدحمة؛ فقد اقترب عيد ميلاد حفيدتي، وأردت شراء عدة مستلزمات قبل موعد الحفل، بما في ذلك الهدية. لكنني عندما استدرت لأواجه المعلمة الشابة رأيت الدموع في عينيها.

قالت لي: «أنا أواجه صعوبات في عملي. لقد حضرت اليوم وأنا غير واثقة من قدرتي على البقاء في مهنة التدريس. لكنكِ ساعدتِني — أنت والسيدة وورنكي — على إدراك الهدف وراء عملي. سأبقى في المجال. شكرًا لك.» في تلك اللحظة اكتشفت أنني أترك أثرًا إيجابيًّا ليس فقط في نفوس طلابي، بل في نفوس المعلمين أيضًا.

لم يمضِ وقت طويل على ذلك اللقاء، حتى تلقَّيت دعوةً لتقديم عرضي أمام مجموعةٍ من طلاب المدرسة الثانوية على مسافة تبعد عني ثلاث ساعات بالسيارة. ولما كنت قد حددت مسبقًا موعد اجتماع في الليلة السابقة للعرض، فقد أدركت أنني سأضطر للسفر بالسيارة ليلًا في وقت متأخر خارج الولاية، والمبيت في فندق في مدينة غريبة عليَّ. أضف إلى ذلك أن لديَّ موعدًا ظهيرة اليوم التالي، وهذا سيضطرني إلى مغادرة العرض الصباحي سريعًا، والقفز في سيارتي، ثم العودة بأسرع وقت للولاية.

وقد طرأت أمور أخرى مهمة في اليوم نفسه؛ إذ قررت السيناتور كاي هاجان زيارتي والتجول معي في مدرستي، وفي الليلة نفسها كان فريق جامعتي، جامعة كارولينا الشمالية في تشابيل هيل، يلعب المباراة النهائية للبطولة الوطنية لكرة السلة. توقعت أن يكون هذان اليومان طويلَين ومرهقَين، وحزنت لعدم تمكني من متابعة مباراة فريقي. فكرت بجدية في إلغاء العرض نظرًا لازدحام اليوم، وبُعد المسافة، وصعوبة وضع العرض في جدولي لذلك اليوم.

وبطريقة ما تمكنت من إنجاح الأمر. فقد بدأت اليوم مبكرًا، والتقيت بالسيناتور، ثم قدت السيارة إلى مدرسة بمنطقة تعليمية مجاورة، وقدمت العرض للمعلمين الجدد، ثم قطعت المدينة لإلقاء كلمة في عشاء أقيم على شرف معلم العام، بعدئذٍ تابعت مباراة كرة السلة عبر المذياع، وأنا أقود سيارتي في وقت متأخر من الليل في الطرقات المهجورة.

في الصباح التالي ألقيت كلمتي وودعت مضيفي، وهُرعت إلى بوابة الخروج لأتمكن من الوصول إلى وجهتي التالية في الموعد. وأنا أهم بفتح الباب، مدَّ شاب يده ليصافحني.

كان شابًّا أمريكيًّا طويلًا من أصل أفريقي في عامه الأخير من الدراسة الثانوية، وقال لي: «أود أن أخبرك بمدى أهمية كلماتك بالنسبة لي. حضرتُ لقاء اليوم بهدف تفويت المدرسة والبقاء مع أصدقائي. ولم أعلم مطلقًا أن كلماتك ستغير حياتي. لقد عقدت العزم. أريد أن أصبح معلمًا.»

فكرت كيف أوشكت على التملُّص من هذا العرض بالذات، وشعرت بالسعادة لحضوري، وبعظم المسئولية الملقاة على عاتقي، والالتزام بأن أكون شخصًا يترك بصمته في مهنة التدريس. وبالطبع هذه وسيلة أخرى لنقل إرث باربرا وورنكي للآخرين.

اكتمال الحلقة

في الفصل الدراسي السابق، أوكلت جامعة من جامعات كارولينا الشمالية مجموعة من الطلاب الذين سيتخصصون في مجال التدريس؛ مهمة إجراء حوار مع المعلمين الذين غيروا حياتهم. ولأن هؤلاء الطلاب كانوا شبابًا فلم تواجههم صعوبة بالغة في العثور على معلِّميهم السابقين، ولكن أسعدني أن تكون قصة اجتماع شملي بالسيدة وورنكي أول خطوة في طريق نشر تلك العادة واستمرارها، مثلما تظهر حلقة صغيرة في النهر بعد إلقاء حصاة واحدة، ثم تبدأ حلقات أكبر في الظهور.

سعدت سعادة غامرة، عندما بلغني منذ عدة أيام أن عضوة في مجلس إدارة منطقتي التعليمية شاهدت لقائي بالسيدة وورنكي على التلفزيون، وألهمها ذلك للبحث عن معلمتها التي غيرت حياتها. إنها قصة متكررة؛ فكثيرون ممن تابعوا قصتي يبحثون الآن عن معلميهم المميزين. على سبيل المثال وصلني هذا الخطاب من معلمة في كارولينا الشمالية تدعى جليندا:

معلمتي المميزة هي دولوريس زبوريل التي درست لي اللغة الإنجليزية في الصف العاشر، وأحبت طلاب فصلنا حبًّا جمًّا، حتى إنها أصرت على أن تدرس لنا اللغة الإنجليزية العام التالي أيضًا. كانت معلمة ممتازة. وقد آمنت بشدة بالحرية الفكرية.

وفي اليوم التالي وردني خطاب آخر من جليندا تقول فيه:

بحثت عن أي شخص يحمل اسم زبوريل، اعتقادًا مني بأن الاسم غير مألوف، وأن أي شخص يحمله سيكون على صلة قرابة بمعلمتي في المدرسة الثانوية. وبالفعل عثرت على ابن أخيها. وهو سيساعدني في الوصول إليها! كم هذا رائع!

إن سعادة جليندا أكبر دليل على أهمية الدور الذي يلعبه المعلمون في حياتنا.

لي صديقة شرفت بالعمل معها منذ أعوام تدعى ناشوندا، وهي معلمة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنذ وقت قريب أرسلت لي خطابًا تقول فيه:

هل تعلمين أن قصتك حمستني للبحث عن معلمتي في الصف الثالث؟ كانت معلمة (بيضاء) في مدرسة كاثوليكية، أهدتني وأنا طفلة (فقيرة سمراء يعيرني الجميع بذلك) أول إنجيل في حياتي، ومنحتني معه القدرة على إثبات خطأ الآخرين عن طريق الثقة في نفسي، بدلًا من الاستسلام لظروفي. ما زلت أحتفظ بذلك الإنجيل.

إن عثور المعلم على السيدة وورنكي الخاصة به، وإخبارها بالأثر الذي تركته في نفسه — سواء في طريقة تدريسه أو في حياته — وسيلة لرد الجميل لهؤلاء المعلمين المميزين. وقد أشارت السيدة وورنكي بهذه الفكرة في رسالة إلكترونية أرسلتها إليَّ بعد لقائنا في نيويورك. كتبت فيها: «يمكننا أن نطلق على ذلك الحلقة المكتملة».

استمعت مؤخرًا إلى توماس إم بلوك — المدير التنفيذي السابق لشركة إتش آند آر بلوك — يتحدث عن قراره الخاص بترك عالم الشركات، والعمل في تدريس الرياضيات. علقت بذهني إحدى عباراته على وجه الخصوص: «عندما نفعل شيئًا من شأنه إصلاح العالم، فإننا نصلح جزءًا من أنفسنا معه.» وكلما ألهمت قصتي طالبًا أو معلمًا شعرت بأنني أساهم في «إصلاح العالم». وفي كل مرة يحدث فيها ذلك تزداد ثقة تلك الفتاة الصغيرة، فاقدة الثقة في نفسها في الصف الأول، في نفسها، ويتحقق حلمها أن تكون المعلمة المميزة التي تترك بصمة في الآخرين.

ربما يبدو كلامي مكررًا (وقد تجده مطبوعًا على الوسائد، فلديَّ وسادة خيطت عليها عبارة «أنا أرسم المستقبل. أنا معلم») لكنني أقول: لا شيء أثمن من إحداث فارق في حياة شخص آخر. وسأظل ممتنة إلى الأبد للسيدة وورنكي لأنها علمتني كيف أفعل ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤