لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
قال لي: أنت تشبه اللعبة القديمة من السوق العتيق، تشتريها الأرملة لأولادها الثمانية. لعبة واحدة تكفيهم؛ شعرها من الصوف الإنجليزي الثقيل، جسدها مكسو بالقماش التركي الخشن، عيونها أزرار معطف فرنسي قديم. تصبح اللعبة الولد التاسع في البيت.
يتقاسمها الأولاد بالوقت والمكان، بالحياة؛ وهم يركضون فتركض معهم، وهم يستحمون في الوعاء الأحمر تقاسمهم فقاعات الصابون.
اللعبةُ لا تبرد ولا تمرض؛ الأولاد الثمانية يصلحون وجهها، ويحيكون لها كل يوم ثوبًا جديدًا من دفاتر المدرسة؛ تجدها يومًا تلبس قميصًا مرصعًا بعبارات النحو والصرف، ويومًا تجدها بثيابٍ ورقيةٍ تعج بالمعادلات الرياضية.
تجدها تجلس فوق الخزانة. كل يوم لها اسم جديد حسب القصة التي ترويها أمهم قبل النوم.
تكتم أخطاءهم الصغيرة؛ من سرقة الكعك، من كسر الأقلام، من ضرب حجارة الشارع بالحذاء الجديد، المشي تحت المطر وتحطيم كل نصائح الأم بالحفاظ على ملابسهم لتصمد ليوم العيد … هذا الولد التاسع هو بنك من الأسرار لتفاصيلهم الثمانية.
الجميل أن هذه اللعبة لا تموت؛ تورثُ كالأرض، كالبيت، كالبندقية المصرية التي حارب بها الأب أمام جيش الهاجانا أيام النكبة، تورث للأحفاد.
(يذهب الأولاد الثمانية، وتبقى اللعبة (الولد التاسع) في شوارع الحي تتجول.)
رغم أن الألعاب البلاستيكية سهلة الشراء، يمكنك شراء ثماني قطع لولد واحد. يكون الأب سعيدًا وابنه يحطمها واحدةً تلو الأخرى.
يذكرني هذه التطور في الألعاب بسيدة تضع تسعة أجنة (أطفال الأنابيب)، كلها تتساقط إلا جنينًا واحدًا يشبه الولد التاسع (اللعبة القديمة). الحاجة وقتها لاقتناء هذه التحفة؛ تنفخ بها روح الصمود ومقاومة النخيل للريح.
أنت يا بطلي لا بد أن تكون مثل الولد التاسع.
عليك أن تتوقف عن سذاجة الانتظار، والبكاء على الأطلال والتحسر على ما فات وكان، فلا شيء يفيد حقًّا ولا ماضي سيرجع.
ولا وقت سيرسل عقاربه لتستند عليها مجددًا؛ فالرحيل هو الرحيل، ولا تولد منه عودة.
سأحاول أن أفرغ الألم، وأفرغ ما بجعبتي من كلام بعد ثلاثين من السنين عشتها بكل ما فيها من ألم وهناء، حزن وفرح …
أرى علامات استفهام كبيرةً على رءوس مَن حولي تستفهم عما حصل بين أرواحنا وأجساد مختلفة.
نعم، ولكن الأرواح مترابطة، فبعض كلمات من أفواه غبية هدمت محبة وفسحات العيش داخل هذه البقعة الصغيرة.
قال لي أيضًا: انتظرنا طويلًا حتى تكبر، كما تنزع البذور عن نفسها قشورها، ثم تمضي قدمًا تشق طريقها في تحدي الصخور والأشواك؛ فتخرج على وجه البسيطة أشجارًا باسقةً قوية، كذلك أنت حين كنت تحبو على بلاط غزة. لم أتوقع منك الهروب أو التفكير في ذلك، وتتحول إلى ذاكرة للباقين، ينتظرون رسائلك وهداياك من أماكن بعيدة جدًّا، أماكن باردة والثلج يكسو أقدامك. كل ما أخشاه أن تتذكر غزة في يوم النكبة فقط.
كل ما ستفعله في هذا اليوم أن ترسل عَلَم دولتك الجديدة كتذكار، أو ترسل مفتاحًا من الكرتون لتقول لنا اصبروا. كل ما علينا وقتها أن نشم رائحة الخمر في هداياك، ونلاحق النساء بين كلماتك.
اعلم أني اخترتك لتكون بطلًا لروايتي؛ لتتعلم الصبر الطويل وأنت تَعد ظل الطائرات، وأنت تلملم صوت الرصاص من نافذة الجيران، أن تنظر كيف نقطر مياه البحر قطرة، قطرة، لتشرب بعد يومٍ طويلٍ من الصيام في تموز.
نرغب في أن تجلس معنا على مائدة الإفطار، والجنود الغاضبون يقفون أمام البيت يبحثون عن طفلٍ رَشَقهم بالحجارة. نرغب أن تشاركنا نصف الملح، ونصف الخبز الناشف. نرغب جدًّا أن تبقى عندنا لتشاركنا رائحة أحلامنا باللحمة المشوية.
راقبتك جيدًا ودققت في تفاصيلك، وأعجبني منك هذا الموقف؛ حين أخذك أبوك إلى كنيسة المعمداني القديمة، كان الحاضرون يرتلون الآيات ويطيِّرون أرواحهم فوق أسوار الكنيسة بالخشوع والبكاء تحت صورة مريم وابنها.
وحدك أنت لم يُغْرك البكاء ولا الخشوع، كنتَ فقط تراقب زوج الحمام من نافذة الكنيسة وهما يغازلان بعضهما البعض. راقبت ذكر الحمام وهو يبني عشًّا في ثقوب الكنيسة. لأنك أحببت الحمام؛ وضعت بقايا الشمع وقصاصات الورق من كتاب نشيد الأنشاد المهترئة، بالقرب من النافذة لتساعدهما في بناء عشهما. حين أشار لك الأب بالوقوف «الآن وقت الدعاء»؛ رفعت يدك في وجه مريم وقلت: يا مريم، احمي الحمامتين وأخبريهما أن يطلقا اسمي على صغيرهما.
الزغلول يا ميشيل صار حمامةً بيضاء كبيرة، ترك ريشه الأصفر فوق بقايا كتاب الأنشاد وغادر بعيدًا. لكن حين قررت أنت الرحيل صارت نوافذ الكنيسة تنوح، وسقفها بدأ ينهار، والكتب احتلها الغبار، والكراسي بدأت تقدم نفسها كمذاق الانتحار للنار. هاجم الغراب كل الأعشاش وهاجر الحمام ولم يعد.
لا تقرر الرحيل؛ أنت مثل هذا الرصيف الصخري الممتد في مياه البحر العكرة. تسبح أسماك «البوري» في تفاصيل القوارب بين الطحالب الخضراء والأصداف الميتة.
أن تمشيَ في شوارعنا وتلتقط بقايا الخبز من تحت عجلات السيارات، وتضعه على الرصيف أو ترميه فوق سطح البيوت (القرميد القديم) لتأكل عصافير الدوري؛ هذا شيء عظيم لا تحرمنا منه. تحزن حين ترى أحدًا يرمم ثقوب جدار البيت الخارجية، تقول وقتها: كم عصفورٍ يفقد عشه! كم نحلة ستغادر المكان! وتحزن جدًّا حين ترى الطيور في الأقفاص، ولا تأكل العسل من الخلايا الصناعية. كل هذا أنت الوحيد يا ميشيل تفكر فيه وحدك.
عزيزي الكاتب، كل يوم يضيق الأفق عليَّ؛ حياتي في غزة كياقة قميص ضيقة ومعلق بها ربطة عنق عريضة. أنا لا أجيد الانتظار مثل الميناء (لا تصف بالميناء إلا إذا رست به القوارب). الأشياء لا يكتمل وصفها إلا بمهنتها.
عزيزي الكاتب، أنا أيضًا أعرفك جيدًا؛ مصاب بمتلازمة الدهشة، يصفرُّ صدرك حين تتحدث معي كأنك مصاب بداء في رئتك. رائحتك قريبة جدًّا للطين، أنفاسك خليط من نعناع ودخان خفيف، عيناك خضراوان كورق التين في الربيع، ترتدي قمصانًا بأكمام طويلة وتغلق أزرارها.
حين تقدِّم النصيحة لي كأنك واثق من نفسك كوتد خيمة الرحيل تقاوم الشتاء والريح والعواصف والشمس، هذه الخيمة صمدت أكثر من ستين عامًا وما زالت واقفة. تحب الجلوس على قارعة الطريق، لا تهرب حين ينزل المطر، تراقب الخنافس حين تعبر الطريق السريع وتصفق لها حين تنجو من سرعة الموت، تحب أكل السمك الصغير، وحين تنتهي تقول أنا لا أجيد التمييز بين أنواع السمك، كله في فمي طعمٌ واحد.
تضع أي عطر، وتضعه حين تكون مسرعًا فقط. تحلق ذقنك بماكينة حلاقة زرقاء رخيصة الثمن، مهندم دائما كأن عليك ميعادًا مهمًّا رغم أنك لا تجلس إلا معي في أواخر الشتاء، تنشط كقطط شباط في الكتابة. لم تحب كأي فتاة، هذا ما أخبرتني إياه لأنك تحب أن تمارس الحب من طرف واحد.
لا تعزف الموسيقى ولك تجربة وحيدة، حين أغراك البيانو الأسود الضخم المتروك في زاوية عملك القديم؛ مشيتَ إلى ناحية البيانو وفي وجدانك نغمة تريد أن تعزفها، حاولت أن تترك أصابعك تسبح على أزرار البيانو، وعزفت وصارت الأنغام تشبه صوت السعال الديكي الذي يصاب به الأطفال في فصل الشتاء، وقتها قامت سكرتيرة المدير بالصراخ عليك؛ فانسحبت وخجلت من نفسك لتدميرك مزاجها في السمع.
لا تحب أن تجوع، وتحب التقليل من الضحك لتخفيَ أسنانك المصابة بالتسويس من كثرة الشوكولاتة المصرية رخيصة الثمن.
حين اشتد الحصار على غزة، وشحَّ الوقود من المحطات؛ صار أصحاب السيارات يستخدمون زيت القلي المستعمل لتشغيل السيارات. كنتَ في وسَط ساحة غزة، تريد العودة للبيت، فدخل في رئتك عادم الزيت؛ منذ ذلك الوقت وأنت تستخدم البخاخة الزرقاء لتساعدك على التنفس، وعلى الكتابة أيضًا.
لا تجيد التمييز بين النساء ولا العطر ولا السمك؛ تقول في النساء لا تعرف سوى زوجتك. خالك أخبر أمك: هل تريدون أن تزوجوه؟ قالت الأم: نزوجه. قال: عند جيراننا بنت جميلة. وبعد أسبوع صرت زوجًا على مزاج خالك.
وبخصوص العطر المهم جميل، ولا يهمك علاقة العطر مع مكونات العرق.
السمك كنت تفضح كل المدَّعين أنهم خبراء في السمك، كنت تُحضر أرخص الأنواع وتقدمه لضيوفك بشكل أنيق في أطباق مميزة، وتقول لهم: هذا السمك من أغلى الأنواع. كانوا يأكلون بشراهة دون تمييز، وفي آخر الجِلسة تكشف لهم الخدعة.
لحبك للأطفال كنت تقتل كل فئران وصراصير الحي، وصرت صديقًا للبيئة في نظر رجال بلدية المدينة، وشعرت بالخطيئة من قتلك الفئران والصراصير حين شاهدت مسيرةً كبيرةً على التلفاز بأوروبا لمناهضة عمل تجارب علمية على الحيوانات في سفن الفضاء التي تهبط على القمر. وقتها قلت: حتى الفأر يُحترم ويُقدم له الجبن المصنوع من حليب أنهاد نساء الوطن العربي. «كم أنت عظيم يا فأر!»
لم تشارك في المقاومة؛ كان رأيك كلنا نقاوم. رجال المقاومة يشبهون الباعة في سوق الأربعاء؛ الأكثر احترامًا الذي يبيع اللحم والدم، كل المتسوقين يطرحون عليهم التحية الصباحية فقط.
لكنك اعترفت لي أنك كنت فضوليًّا لمرتين في المقاومة؛ مرةً أحببت فكرة أن تضع قماشًا أسود على رأسك أنت وأصدقاء الكرة، ففعلتها وصرت ملثمًا تركض في شوارع الحي، وكرهت هذا التجربة لأنك وقعت أكثر من مرةٍ وأنت تركض؛ ضاق شهيقك وكنت سوف تختنق من اللثمة. كنت تحمل بيدك طلاءً وفرشاةً لتكتب كلمة «فِلسطين». وقتها فقدت اللغة كما فقدت تنفُّسك الطبيعي؛ أخطأت عشرات المحاولات أن تكتب كلمة فِلسطين على حائط شارع البحر، وقتها جاء طفل صغير وكتبها عنك.
الأخرى حاولت أن تشارك الطلاب في المدرسة برشق الحجارة على شاحنات الجيش الخضراء، رميت حجرًا وحيدًا ارتطم برأس سيدة تعبر الشارع، فيما بعدُ عرفت أنها كسرت جمجمة رأسها ودخلتْ غرفة العمليات. ذهبت أكثر من مرة إلى غرفتها في المشفى لتطمئن أنها ما زالت تملك ذاكرة.
كل من حولك هربوا حين ركض الجنود خلفهم، حاولت أن تركض وتجريَ بسرعة، لكن قدميك تحولتا إلى حجارة ثقيلة، وقتها لم تتحرك؛ فأمسك بك الجندي الروسي الضخم الأبيض، فصفعك على وجهك، فتبولت في سروالك (تبولًا لا إراديًّا) وطحنك الجنود من الضرب. لكن هذه التجرِبة محبوبة عندك لأنك أول مرة ترى مجندةً جميلةً بزي عسكري في معسكر الجيش، وكانت لطيفةً معك؛ قدمت لك الخبز الإسرائيلي (ليخم).
•••
كلنا مخطئون لأننا نقطع على بعضنا الطرق، فأي طريق نختاره؟ الكل في المرصاد، وكأنه موسم الحصاد.
فلن يحلِّق أبدًا أي منطاد. علينا الاعتراف جميعًا أننا بلا إرادة، بلا حرية نموت لأجلها فتصبح عادة، وعلى رءوسنا تاج السيادة. نحن بلا قيادة، بلا ريادة. علينا أن نعترف بأننا في مأزق كبير في طريق معتم طويل، تائهين في غابة ملأى بفوضى التراتيل. صعب عليك النضال، فستكون طبلةً في يد ألف طبَّال. صعب علينا الكفاح فالرياح في وطننا ليست كباقي الرياح.
ستصطدم بسيف أخيك من وطنك ينحرك لا يحميك، أخوك الذي من مدينتك لا يسقيك، من قريتك لا يُلبِّيك. آه، ربما من أقربائك فيُنهيك.
يا عزيزي نحن في بحر عميق ضيَّعنا ضوء القمر. سفينتنا بلا قبطان، وكل منا يعبد على طريقته القدر. ليس عيبًا علينا أن نعلن يومًا أننا نشبه السراب، نشبه الخراب. نعم، كلنا نصلي ولا أحد منا وجهته نحو المحراب! كلنا نسينا أو تناسينا وحدة التراب. فهل صعب أن نبدأ من جديد، أن ينصهر هذا الوجدان الذي تَحول إلى حديد؟ هل مستحيل علينا أن نعيد الحياة في الزغاريد؟! في أول لقاء لي في السماء؛ هل خُلقنا كي نفترق، كي لا نتفق، كي نملأ الإبريق كلامًا ومن ثمَّ يندلق؟
كلنا مخطئون لأن القبلة واحدة وكلٌّ يُصلي على ليلاه. كلنا مخطئون لأننا نلغي بعضنا، نهين أوساطنا، ننعزل في تفكيرنا.
كلنا مخطئون ولا داعيَ للمحاسبة، لا داعيَ للمعاتبة أو المضاربة، لا داعيَ للنميمة والمحاربة. كلنا أنبياء، وللمصادفة، لكل شخص منا كتابٌ يفتحه بمناسبة أو بدون مناسبة. نحن في غزة لدينا طباعنا المُهذبة، وأحلامنا المُرتبة، وانتصاراتنا الُمرطبة، وهزائمنا المقطَّبة، حياتنا كوفَيَاتنا مُشطَّبة.
أرجوكم لا تعلنوا، لا تفكروا بالأمر؛ فما يسترنا هو بعض الفشل والثياب. سامحوني إن أخطأت أيضًا بحقكم، فكلنا مخطئون لأننا مُسيَّرون لا مخيرون، وأنا يسيِّرني إلهام الشك والظنون.