في السيارة

نضال أنت وحدك في الشارع، كأنك في أول أيام الربيع، تنتظرك تجربتان؛ الحبُ والمقاومة، كلاهما يعتمد على ما تقدم لهما.

اقتربت سيارة من نضال، كان الشارع فارغًا جدًّا، مهيأ للحظات التجربة الذاتية التي لا يمكن لأحد أن يراك.

وقفت السيارة بالقرب منه، فتح الباب الخلفي، دخل، وقبل أن يجلس كانت سيدة تكلمه بصوت عالٍ: أنت ميشيل بطل رواية المُلاحق! يا الله كم هي صدفة جميلة أن أراك!

– ردَّ دون أن يهتم لمن المتحدث: هل انتهت الرواية؟ وماذا حدث في نهايتها؟

– نعم، انتهت ووُزعَت في الأسواق. الجميع قرأها؛ منهم من أحبها، منهم من كرهها، ومنهم من صرتَ لهم رمزًا.

– هل نحن الآن في الحقيقة، أو ما زلنا في أحداث الرواية؟

– المهم أنا أول من رأيتك.

دقق في صوتها وشكلها، سمع عددًا من الجمل منها، صمت قليلًا، ردد في نفسه: أنا أعرفها، وأخاف أن أسألها عن نهايتي كيف كانت.

لقد تعلمت أن أصبر على النهايات حتى لا تجيء بسرعة.

اتجه بوجهه ناحيتها: أنا أعرفك، صوت قريب لي، كأننا تقابلنا قبل ذلك.

– أنا جان دارك. هل تذكرتني؟

– نعم أتذكرك، أنت كنت شخصيةً في الرواية. هل أنت حقيقة، دم ولحم، أم ورق وحبر أسود؟

– أنا حقيقة مثلك، ونحن موجودون في غزة.

بدأ الصداع ينقر في رأسه، حاوَلَ تفادي الوجع، أن يعود للحديث مع جان. صرخ بصوت عالٍ: رأسي.

أخرجت جاك من حقيبتها حبوبًا مهدئة، وزجاجة مياه صغيرةً بشعار مياه «درويدس». ابتلع الدواء وبدأ يزول الصداع، وعاد للأسئلة.

كان مذياع السيارة يبث أغنيةً قديمةً عرفها كل من «ميشيل وجان».

وقت لما تكون صعابي حاجبة عن عيني السما،
وألقى نفسي في اضطرابي بين حقايق مؤلمة؛
أنت وحدك تستطيع يا يسوع تيجي وتفيض بالسلام،
أنت يا حصني المنيع، يا يسوع أقوى من الخوف والظلام.
وقت لما تكون جبالي واقفة ضدي بمستحيل،
والشكوك تنهش في بالي مين يشيل حملي الثقيل،
أنت وحدك تستطيع يا يسوع تيجي تنقل الجبال،
أنت يا حصني المنيع، يا يسوع كلمتك فوق المحال.
وقت لما السهل يصعب والحاجات تطرح فشل،
لما وعد الناس بتهرب والعمل خاب والأمل،
أنت وحدك تستطيع يا يسوع ترد جواي اللي ضاع،
واللي يصعب على الجميع يا يسوع يبقى عندك مستطاع.

ميشيل: يا جان إننا في هذه الرواية مثل قصة سردها أبي لي، وقت أن أخد قطعة الخشب التي سرقتها من أحد أبواب القدس؛ حين ذهبت لرحلة للقدس، حُكي أن الجنون نزل في نهر يسري في مدينة قديمة، كلما شرب أحد من النهر يصاب بالجنون. وكان المجانين يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء. واجه الملك المشكلة وحارب الجنون.

حتى إذا ما أتى صباح يومًا استيقظ الملك وإذا الملكة قد جُنَّت، وصارت الملكة تجتمع مع ثلة من المجانين تشتكي من جنون الملك!

نادى الملك الوزير: يا وزير، الملكة جُنَّت. أين كان الحرس؟ الوزير: قد جُنَّ الحرس يا مولاي. الملك: إذن اطلب الطبيب فورًا. الوزير: قد جُنَّ الطبيب يا مولاي. الملك: ما هذا المصاب؟! من بقي في هذه المدينة لم يُجَن؟!

رد الوزير: للأسف يا مولاي لم يبقَ في هذه المدينة لم يجن سوى أنت وأنا. الملك: يا الله! أأحكم مدينةً من المجانين؟! الوزير: عذرًا يا مولاي، فإن المجانين يدَّعون أنهم هم العقلاء، ولا يوجد في هذه المدينة مجنون سوى أنت وأنا! الملك: ما هذا الهراء؟! هم من شرب من النهر، وبالتالي هم من أصابهم الجنون!

الوزير: الحقيقة يا مولاي أنهم يقولون إنهم شربوا من النهر لكي يتجنبوا الجنون، لذا فإننا مجنونان لأننا لم نشرب. ما نحن يا مولاي إلا حبتا رمل الآن؛ هم الأغلبية، هم من يملكون الحق والعدل والفضيلة، هم الآن من يضعون الحد الفاصل بين العقل والجنون.

هنا قال الملك: يا وزير، أغدق عليَّ بكأس من نهر الجنون؛ إن الجنون أن تظل عاقلًا في دنيا المجانين.

تنهدتْ جان وقالت: بالتأكيد الخيار صعب؛ عندما تنفرد بقناعة تختلف عن كل قناعات الآخرين، عندما يكون سقف طموحك مرتفعًا جدًّا عن الواقع المحيط. هل ستستسلم للآخرين، وتخضع للواقع، وتشرب الكأس؟

اسمعي، جيوبي مليئة بقصاصات ورق، سأُخرِج لك منها وأقرأ؛ حين يقول لك أحدهم: معقولة فلان وفلان وفلان كلهم على خطأ وأنت وحدك الصح؟! إذا وُجِّه إليك هذا الكلام فاعلم أنه عرض عليك لتشرب من الكأس.

اسمع يا ميشيل، حين كنت بطلةً في الرواية وصلت لكثير من الأشياء التي ساعدتني للثبات، كان أهم ما أدركت أنني لست تلك الفتاة الطيبة التي تُمعِن في تأمل نفسها وتقوِّم عالمها الخاص الافتراضي الذهني بعيدًا عن الأرض، وتصنع منه عالمًا يشبهها، وتنتمي إليه وينتمي لها، وأنني هنا لغاية ما، غاية أكبر مني وأجمل مني، غاية تهذبني بعناية مع السنوات، وأهذب نفسي كي تليق بها، وأن أعوامًا على هذه الأرض ستحمل لي هُويتي؛ الهُوية هي ذروة طريق الحياة. إنني سأقطع الطريق إلى آخره، باتجاه نفسي، وحين ألتقى بها؛ سأجد هُويتي.

قاطعها ميشيل في الحديث: كان يقول عنك الكاتب: كانت فتاةً صيفية العاطفة، شتوية الحنين، وامرأةً لكل الفصول. تحب القطط كذاتها الأخرى، ولا تُشفَى من الياسمين. وحين أحبت زوجها بكل نبله، كانت ربيعًا، وكان نبيلًا معها.

لكن الذي لا يعلمه أن هناك أشياء ما بين السطور؛ صرنا نتنازع نزاع الصبية سويًّا كمن يرفض أحدنا الآخر كالمعتاد، وفي الخفاء لا يتوقف عن نُبله وحنانه الدائم. وكان دافئًا نحوي عند الرحيل، لقد كان كريمًا دومًا معي، ولا أدري متى يمكنني السداد؟ أقف على خطوات من وداعهم، وأتحسس دفء ذكراه في عناق حميم معهم.

كنت أعلم في هذه الرواية أنه لا بد أن نترك بعضنا البعض، ووُضعت الأحداث؛ أُلزِم زوجي الكرسي ولم يتحرك، الشارع كله صار يعاتبه ويشير له هذا الغريب.

خاف وقتها أبوه وأمه أن أُنسيَه ما وُلد عليه؛ فكانا يحضران له هدايا بطعم الغفران. كان يقول لهما حين يراهما: أنا ما زلت ثابتًا.

لم أنسَه أبدًا. لن أسافر مسافةً بعيدةً عن روحي التي ما زلت أظن أنها تنضج سريعًا قبل أن ينضج صوتي المرهف، وقبل أن تنضج ملامح وجهي الطفولية، وقبل أن ينضج جسدي في عناقٍ حميم صادق يضمنا معًا من جديد.

وقبل أن تتوقف الأعوام لتلتقط أنفاسها المتسارعة قليلًا، وهي تقطع الطريق داخل عاطفتنا! الأعوام التي علَّمتنا كيف نفقد مذاق الاكتفاء ببطء، وأن نكتفيَ بنصف الأشياء، ونتأخر على كل شيء. نصف الأحلام، نصف الهُوية، نصف الطريق، نصف البدايات، نصف النهايات، نصف الأصوات، نصف الدفء، نصف الأشخاص، نصف العاطفة، نصف البهجة، نصف الحميمية ونصف الذكريات. خرجتُ من الرواية بعد كل هذا الحنين الذي وصلت به مع زوجي، رجوت الكاتب أن أبقى معه طويلًا؛ كان يغلق الصفحات في وجهي. وصارت قصة كبيرة لزوجي؛ كنا نزرع شجرة جوافة بالقرب من سور البيت، ووقت النضوج جاء صغار الحارة وألقوا حجارة على الثمار. حاول زوجي أن يمنعهم من ذلك، لكنَّ العادة صارت عبادةً عند الحارة، وصار الجميع يرشق بيتنا بالحجارة؛ ليس لثمار الجوافة ولكن لثمار الغفران!

ميشيل وَجَّه يديه إلى السماء؛ هل الحب هو الرسالة التي لا بد أن أتعلمها؟ إني تأخرت كثيرًا عن ذكرياتي، وعن معنى «انتماء».

أشعر نفسي الآن أعبر الطريق نحو ذكرياتي عبورًا خافتًا ناعمًا، دون لهفة؛ حتى لا أُفسِد بخطواتي الهادئة شيئًا من رهافة الأعوام نحوي، والحكايات المخبأة بعناية في أصوات العابرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤