سؤال هادئ
ما ينتظرني لحظات كاملة ستهزني بعنف، لألتفت لكل ما تركته خلفي وأطرح سؤالًا هادئًا: أهذا ما كنت أنتظره فقط؟ كنت سأجيب بنعم قبل ذلك من الآن، أو لو أني ما زلت أحمل الأفكار ذاتها، إلا أني أدركت أمرًا مختلفًا تمامًا عن ذلك قبل سنوات؛ ما كنت أنتظره وأبحث عنه هو وجهتي في هذه الحياة، أهدافي، مسار أفكاري، هو لغتي، ونكهتي، وبصمة مرور تحمل هُويَّتي. وعندما وجدتها، كفتني تعليق الآمال على مجرد حلم.
هذه اللحظة التي سوف أقرأ فيها وصية أبي كأنها شمعة صغيرة جديدة تحترق لأجل الحلوى، ويتهافت الجميع على وأدها، إطفائها. وأنا أنظر بعطف ورفق نحو آخر خيط مرهف يخبو من ضوئها لأجلي في شبه اعتذار. لحياتها الوحيدة الراحلة في سبيل أن تمنحني أنا مجرد كلمة بطل في غزة!
قبل أن أصل إلى الصندوق، أعلم أنه ميلادٌ جديد يعني لي الكثير، عندما يأتي أفكر بأشياء غريبة لا تتكرَّر مرةً أخرى ببال أحد كما لا يتكرر الميلاد، وأشياء تتوازى تمامًا مع غرابتي. أحيانًا ينتابني شكٌّ رهيب بأنني لا أشارك البعض نفس الكون؛ أنا خُلِقت لأحمل ما تبقى من سلالة عائلتي، بكل ما تحمله في طياتها، في غرابتها واختلافها. عائلتي بقشرتها الصلبة الحامية، إلى تقلبات مزاجها، وتناقضاتها، إلى اختلاف ردود فعلها باختلاف السياق الذي توضع فيه والبيئة التي تداخلها.
دخل ميشيل كنيسة المعمداني؛ كانت الجدران باردة، ضوء الشمعة خافت، كل الوجوه التي تركع الآن تحت صورة مريم تشبه لحد كبير وجه أبي. لا أحد يعترضني، وأنا أفتش بين الكراسي وخلف الستائر عن الصندوق.
كيف لي أن أصل له دون تعب؟ أخاف أن يبقى الصندوق بعيدًا. بدأ حماسي بالانتقام يهدأ، وأتحول إلى رجل يجلس في البيت يربي أولاده، ويفتح المذياع ويراقب الأخبار، ويتسرق الأمل من التلفاز، وينتظر عودة جودو حامل روح الأحلام.
في لحظة كسرت خيال ميشيل حمامة رفرفت في فضاء الكنيسة. رفع رأسه، تذكر حين كان طفلًا صَعِد إلى عش الحمام ووضع لها الورق والقمح. لم يتردد أن يصعد إلى العش؛ فوجد الصندوق كأنه يبتسم ويمد له ذارعيه. ابتسم وفتح الصندوق.
في هذه اللحظة كان يهمس في أذنه صوت: مرَّ بك هاجس مكَّنك أن تجزم بابتسامة خفيفة أنه لم يخطر ببالك يوم يشبه هذا اليوم. كنت تحاول الهروب بجسدك، لكن الآن أنت مثبت في هذه الأرض بجسدك وبذاكرتك. بعد كل هذه السنوات، لو أنك استوقفت الملاك المصاحب لك للحظات قليلة لسألته عن رأيه فيك بكل وضوح.
ترى ماذا كان ليخبرك عن ذاتك؟ لمن كان يغني ذاك العصفور البريء صباحًا في شوارع غزة؟ ومن كان سيُصادق دوني؟ لو لم أجد في صوته المرهف وطنًا يحملني كل صباح ويرشدني إلى ذاكرةِ الحب بداخلي، حتى لا يتيه أحدنا عن الآخر في ضَباب الوحدة «إنه صوت أبي».
وكيف سيمر ذاك اليوم على ذاكرتي وأنا أسكنه ويسكنني؟ أبي الذي صنعني بصوته، وأنتمي إليه تمامَ الانتماء، واللحظة التي أغيب فيها تمامًا عن صخب كل من حولي. هو من علمني البداية، هو بداخلي وحيد، وحيد.
«مَن بعدك يا أبي؟ أيها المبتسم لي في حفلات أعياد الميلاد حين تضع الطربوش الأحمر فوق رأسي، أيها الوفي لأمي بعد رحيلها، هرمتُ كثيرًا من بعدك «يا ريت بتخلص وصيتك قلبي يرتاح».»
الصندوق باردٌ جدًّا، عليه آثار بصمات من غبار، كأن عائلتنا شاركت في صناعة ما بداخله. فيه وجدت؛ شهادة أول مسيحي في غزة، جرسًا نحاسيًّا قديمًا، شمعةً حمراء طويلة، عطر المرمر، كأسًا زرقاء، ووصية أبيه. كان يقرأ بصوت عالٍ: ما الذي تفعلهُ في هذه اللحظة يا نضال؟ أي اللحظات تتذكر وأنا أطفئ شمعة عيد الميلاد وحدي وأعانقك، لأرى عينيكَ أمامي تمامًا من تلكَ الشرفة البعيدة تعانقني وتلوِّح بحبٍّ لكل سنواتي المقبلة معك، وأنا لا أعرف؟ كيف وضعت لك روحي فاحملها برفق؟ وقرر أن نعتبر الأعوام على غزة وأنت منقوش في ذاكرتها، وأن أهلها سيخصصون يومًا من كل عام للاحتفال بك في أول يناير، وسترجع المسافات المسكوبة بيننا وبينهم. لن أكذب عليك، وأخبرك أنني لا أخشى شيئًا عليك، وأن قلبي مشغول عليك لمعانقتك، وبسماع صوتك، وأن الحنين المتورط بصوتك الخافت ونبراته الدافئة يخبئ حكايات انتظارك.
يا أبي، يبقى العالم بدونك، ليبدو صغيرًا. وأنا وحدي، ممتلئ بك. فهل أخشى من اشتياقي لك؟ فقط حين غادرتني ببطء، خشيت العالم مجددًا، وتجددت فكرة الرحيل داخلي.
يا ترى ما شكل أيامي حين نركض أنا وأنت في السماء؟ وجهك وصوتك، وعناقك، وحديثك، كلها لي، كلها ملكي. ماذا لو كانت تلك البقعة التائهة الوحيدة التي تجمعني بك، أفضل من امتلاك الكون الشاسع دونك؟
نزل نضال وبيده الصندوق، وحين هبط على بلاط الكنيسة سمع تصفيق الحاضرين. الكل كان ينتظره؛ الرجال والسيدات والأطفال، جاءوا وربتوا على كتفه. شكرهم نضال للطفهم معه.
وحين خرج من الكنيسة لا يعلم أين يذهب، والصندوق بيده، وصوت أبيه يدور حوله، والوصية كأنها تُسَرد أمامه.
التفت على يساره فوجد الرجل ذا المعطف الأسود. لم يقل شيئًا وقتها، اكتفى بهز رأسه له. بدأ الرجل بالحديث: هل كان صعبًا أو سهلًا الوصول للصندوق؟
– إنَّ كلمة سهل قليلة، وكلمة صعب كبيرة. الصندوق كان منذ وُجِدنا في غزة، وسيبقى لمن يأتي من بعدنا.
– وماذا فهمت من كلام الوصية، وصوت أبيك الذي يرافقنا الآن؟
– هناك عدو ولا بد أن يحارب.
– هو الشيطان يا نضال.
– الشيطان! إنه يريد جيشًا كاملًا لقتاله، واحتمال النصر ضعيف.
– لا بد أن يكون احتمال النصر قويًّا؛ لأننا وُجِدنا على هذه الأرض بعد أن انتصر الشيطان على أبينا آدم، وأخرجنا من أرضنا.
– مثلي لا يملك براعةً في القتال، ولا يملك أسلحة، فكيف لي أن أقاتله؟
– اسمع يا نضال، لو أردت أن تقاتل بشريًّا تحتاج إلى قوة الأرض، كل الرصاص، كل الأرواح، لمجرد أن تفكر في معركة البشر. لكن المعركة مع الشيطان فقط تحتاج معنويات وروحًا طيبةً مقدسة؛ تنتصر عليه بسهولة.
– الذي أفهمه، أنا الآن جاهز لأقاتل الشيطان. هل أقتله، أو ماذا أفعل معه؟
– نحن لا نقدر أن نقتل الشيطان، لكن ممكن أن نحاصره ونمنعه أن يزلزل قلوبنا بأفكار الهروب والرحيل.
– متى ستبدأ معركتي مع الشيطان، حتى يبتسم أبي مني؟
– معركتنا بدأت من زمان، وهذه المعركة ليس فيها منتصر أو مهزوم، لكن تترك أثرًا لمن بعدنا، أن تحاول خير من أن تبقى جليس الانتظار.
– أين مكان هذه المعركة؟
– حين تكون مستعدًّا هو حولك، فقط أَشهِر أسلحتك وقل للشيطان أنا سأقاتلك.
– وما هو الوقت المناسب لقتال الشيطان؟
– حين تكون جاهزًا للقاء الرب وهو راضٍ عنك.
– وكيف أعرف أن الرب راضٍ عني؟
تبخَّر الرجل من جانب نضال، كأنه لم يكن. حاول أن يبحث عنه، لكن لا جدوى من ذلك. أكمل سيره في الطريق، وصار جسده يتحول إلى مقاتل، وروح تنفخ غضبًا، ويريد أن يقاتل.
فجأةً وجد نفسه في مكان غريب، كل الأدلة تقول إنها مستعمرة الشيطان؛ المكان يشبه الرأس، تشعر نفسك محاطًا بأفكار. جهاز عصبي كبير، مادة تشبه المخ. علم وقتها أنه دخل في رأسه، والشيطان يعيش داخله، وبدأت المعركة.