كل هذا لأجل الثبات
هش بيده الوشوشة وكسر هذه الجملة من عقله، وقال: مجنون أنت يا عزيزي.
دخل القاعة وجلس في آخر مقعد. القاعة طويلة جدًّا والإزعاج ضخم جدًّا ويمنعك من الاستمتاع بالمشاهدة.
شيخٌ أنيقٌ يجلس. ظهرت جان دارك مبتسمة، تحمل وردًا، وترتدي منديلًا، وحذاءً غريبًا، وفستانًا مطرزًا.
الحضور صفق. يذكرني هذا حين كانت تُعرض المسرحيات، وهناك واجب عليك حين تنتهي المسرحية وتنزل الستارة، لا بد أن تصفق، أعجبتك أم لم تعجبك، مات البطل أو انتصر، المهم بروتوكول وفقط.
دعا عريف الحفل جان دارك بعد أن أطلق عليها اسم الأخت فاطمة؛ لتلقيَ كلمتها على الحضور.
فكَّر نضال؛ بماذا ستبدأ كلامها، بتحية حبيبها، أو بالتحية التي تعودت عليها؟ إن من عادات السيدات المسيحيات السكوت أولًا ثم الكلام، لكن السيدات المسلمات يتكلمن ثم يسكتن.
وقتها سكت الجميع وراقبوا جان دارك ماذا ستقول. بكل هدوء يذكرني مشهد القاعة وهدوءها حين تكون جالسًا في بيتك ويدخل عصفورٌ ملون تائه ويرتطم بالجدران ثم بزجاج النافذة. الكل يتجمد في مكانه وفي لحظة كلنا نتحول صيادي عصافير، وفي أقل من ثانية يقفز الجميع ليلتقط العصفور. الغباء وحده الذي ينقذ العصفور من شهوتنا لحبسه؛ حين نتزاحم في مساحة الغرفة فيصدم الأب مع الصغير، والجد مع العم. غباؤنا وحده الذي أفلت شهوتنا للتطاير مع ألوان العصفور.
أمسكت جان دارك الميكروفون وبدأت تنطق أول حروفها، أول صرخة كأنها سقطت لتوها من رحم أمها، أول دهشتها حين ابتسم أول رجل في وجهها، أول وأعظم سعادة بأول راتب بعد انتظار سنوات من الشقاء والفقر.
كادت أن تصل حروفها الأولى لأذني كأني آدم ينتظر كلمات الغفران حين أخطأ ونزل يركض في الأرض.
لكن شيئًا ما يخلص قلبي من البكاء عليك يا جان دارك. الميكروفون لم يعمل، لا صوت لك، الحضور شوش المكان، لا صوت لك يا جان دارك.
حاول الشيخ أن يصلح الميكروفون وأوشك على إصلاحه، لكن الكهرباء انقطعت كليًّا. الكهرباء في غزة تبدو أنها جندي يحارب، لم تقبل بهذا. جلالة هذا الموقف تجعلني أنكمش من كثير السعادة في قلبي، كأني قطة في شارع مظلم جدًّا وحولي عشرات الأطفال يحاولون تعذيبي، وفي لحظة يأتي رجل ويهش الصغار ويحملني للبيت مع نوم دافئ وزوجة صالحة.
من ذلك الرجل الذي يُلوِّح لي من بعيد؟ دققت النظر به؛ يا للدهشة! إنه الكاتب يُلوِّح لي حاملًا بيده مفتاح الكهرباء. لقد غادر المكان مبتسمًا.