اجهز الآن
خوفًا من نهاية الموت في آخر مشهد للرواية، وافقت أنا ميشيل على فكرة الكاتب (على دخول بيت جان دارك، ومراقبتها).
كان هدفي من الموافقة أن أُفشِل الكاتب بما يفكر. إن كل واحد حين يختار فكرته لا بد أن يختارها وهو بكامل وعيه، ولا بد أن يدافع عنها.
أوقفني أمام المرآة ساعات وهو يبدل ويغير في ملابسي، كان عليه أن يختار ملابس لأبدو مثل رجل مخابرات، أو سارق، أو متطفل.
رجل مخابرات يعني اللون البني يكون السيد والمتحكم في الألوان؛ حذاء ضخم، معطف طويل، نظارة سوداء، طاقية من صنع روسي. وحين يخرج إلى الشارع ترافقه موسيقى رأفت الهجان.
لكن بسرعة فائقة ألغى الكاتب فكرة رجل المخابرات؛ لأن الشك والخيانة بالنهاية هي جيناته؟ أيضًا فكرة الانتظار بشكل طويل والجلوس بالقرب من أعمدة الإنارة لا يحبها الكاتب.
وكلما حاولت أن أقنعه بفكرة أن أتنكر بزي رجل مخابرات، يغضب ويقول لي: يبدو أنك سوف تنتهي في هذا المشهد.
سارق، وماذا أرتدي في هذه المهنة الجديدة، بنطال مخطط كالحمار الوحشي؟ أجيد التسلق على الجدران، أنام في النهار وأنشط في الليل، وبعد كل عملية سرقة لا بد أن أختفيَ لأيام معدودات.
كان مترددًا في اختيار مهنة السارق؛ حيث إن الكاتب عمل لمدة طويلة بائعًا في دكان فواكه، كان كل يوم يُسرق الدكان، والسارق كل يوم له شكلٌ جديد. أغلب السارقين كانوا من النساء، والفقراء. كان يقول لي: أنت رجل ولست فقيرًا، فكيف تسرق؟
إذن متطفل على الآخرين، لكن مَن هو المتطفل؟ وكيف شكله؟ وكيف لغته؟ كيف ينام، ويركض، ويتخيل، ويمشي، ويحب، ويُدون؟ كلها أسئلة لم يُجب عنها.
يُصر أن الاحتلالَ متطفلٌ، والحصار أيضًا يقول عنه متطفل علينا. لسانه طويل، يحشر أنفه فيما لا يعنيه، كأنه وصيٌّ عليك، يخرجك من الجُب ليغرقك في الوادي.
ويَعتبر حياتك حقًّا مباحًا له، ما إن تبدأ مبادرًا له بابتسامتك العريضة حتى يسكب فيض أسئلته عليك كسيل العَرِم، وتبقى أنت غارقًا وسَط تطفله.
وكلما وسَّعت مساحة الحوار بينهم بحسن نيتك؛ جَلَدك بأسئلته المستفزة والمزعجة. يدفع نصف عمره كي يعرف أسرار الغير، وما إن يتوفر له ذلك يحلل ويفسر الأمور على هواه كما يشاء، مع إضافة بعض التوابل إذا اقتضت الضرورة ذلك، وإذاعة الخبر أينما يمكث!
وقتها لم أفهم لماذا حصار غزة يصفه بالتطفل، رغم أننا قرأنا عن المتطفل أنه يأكل طعام غيره. هل الحصار يأكلنا؟
عزيزي الكاتب، لم يعجبك ولا مهنة؛ مخابرات لم تعجبك، ولا حتى سارق ولا متطفل، فماذا تريدني أن أكون بهذا المشهد، قبل زيارة بيت جان دارك؟!
ظل ميشيل واقفًا على السطر طويلًا، فجاء بعد عشرين دقيقةً وقال له الكاتب: أريدك أن تكون زائرًا.
– زائر! كيف أكون زائرًا؟! أنا مللت من أفكارك الغريبة.
– تذهب لهم كزائر، تطرق الباب، تحمل باقة ورد، قليلٌ من الفواكه إذا أمكن.
ذهبت كزائر، وطرقت الباب، فتحت جان الباب. قالت: تفضل. استغربت من عدم دهشتها وعدم اهتمامها من أكون.
دخلت وجلست على كرسي أحمر نظيف جدًّا، رائحة المرِّ تفوح منه.
أتخيل من بعيد أن هناك رجلًا يجلس على كرسي على شكل هلال، تأكدت أنه زوجها الذي تغيرت لأجله.
بعد ستٍّ وثلاثين ثانيةً جاءت بشراب أحمر اللون، الكأس كان مكتوبًا عليه كلمة «درويدس».