التمدن الحديث وتأثيره في الشرق
إنه لما كان واجب الإنسان الأهمُّ الخضوع للنظام والقوانين الشرعية، التي يمثلها أولياء الأمر وأصحاب النقض والإبرام، ولما كان الملك والسلطان منَّةً من الله تعالى يهبها من يصطفيه من خلقه، وشرفًا ومنعة يرقي بهما من يشاء على كافة عبيده، كان الأولى بنا استهلال هذا الخطاب بأدعية النصر وطول البقاء لحضرة جلالة مولانا السلطان الأعظم «عبد الحميد خان». نسألك اللهم بأن تجعل الظفر خادمه، والسؤدد ملازمه؛ لترتقي الدولة والأمة في أيام سلطانه مراقي العز والفخار؛ إنك القادر على كل شيء.
العود أحمد — أيها السادة والسيدات — فقد فارقت وطني المحبوب منذ ثلاث سنوات، جلت في غضونها في أنحاء البلاد الأميريكية، ثم وفي عواصم أوروبا الشهيرة، وشاهدت إذ ذاك جلَّ آثار التمدن الحديث على صنوفها المتنوعة، وغرائبها النادرة، ودرست بالدقة والمواظبة عوامل الارتقاء، وأسباب بسطة العيش والراحة التي قد انتشرت فعمَّت تلك الأقطار الغربية، ولولا ذلك لما حملت النفس خطارة المثول أمامكم وخطابكم بالموضوع الذي اخترته.
وما أقصد بهذه الإشارة العجب بسعة عوارفي، أو الإطناب بوفرة أدبي واختباري. كلا، والحق شاهد بأن رحلتي إلى الأمصار التي قد تباذخ عمرانها، وتكاملت فيها معدات التمدن ومحركات الارتقاء كان لها أثر نافع وكبير فائدة؛ إذ فتحت عيني لمرأى ذاتي على حقيقة ما هي عليه من القصور، وبعد المدى عن سنوِّ نور المعرفة، وسمو بهجة الآداب، فحينما أبصرت — والبصر أول خطوة في منهاج التقدم — استفاقت جميع قواي العقلية، وهبَّت لاكتساب فوائد العرف وجمال التهذيب العقلي، فنشطت للعمل بإخلاص وجدٍّ، وأحييت جل الأوقات بالاطلاع والبحث إلى أنْ وفقت لاجتناء بعض الحقائق الكاشفة القناع عن أسرار المجتمع البشري، والدالة على المؤثرات في ارتقائه، والمسببات لانحطاطه — والمرء لا يرجع بعد عناء العمل إلا غانمًا بالرغائب — فهذا ما نشطني للوقوف خطيبة بينكم، ولي أيضًا في سعة مكارمكم، وغزارة ألطافكم شافع يُجرِّئني على هذا الإقدام. والله يقدرنا جميعًا على التعاون لدفع كل ضير، وتقريب كل خير.
وهنا أسألكم عفوًا عمَّا يجيء في خطابي من الهفوات اللغوية والنقائص النحوية؛ فإني وإنْ آثرت الكمال الكلامي أراه — وا أسفاه — بعيدًا عن نوالي، فالمرء الذي غايته العلم والوقوف على أبحاث أهل العصر وفنونهم أمور يترتب على فوزها تقدم البشر وعمرانهم، لا يجد وقتًا يصرفه في درس علم الكلام، سيما إذا كان متفرق الأوجه، متشعب الإيجاز، تكثر فيه أبواب الترجيح والتخمين — كما هو الحال في لغتنا العربية. وعليه؛ فإني وإنْ فضلت إبداء ملاحظاتي وأفكاري بزِيٍّ فائق في الجمال اللغوي، والإتقان البديعي، أراني في عجز عنه للسبب المتقدم، وفضل الألفاظ — كما تعلمون — أمر ثانوي بالنسبة إلى فضل المعاني، والروح أسمى من الثوب ومتقدمة عليه وإنْ كان منسوجًا من خيوط الذهب، ومزركشًا بالفوائد الثمينة، فحولوا التفاتكم وانتقادكم — إنْ شئتم — إلى حقائق الكلام لا إلى صوره، ولي في حلمكم عضد متين.
وُجدنا — والحمد لله — في زمان النور وعصر البصر في ردحة من الدهر رقى الإنسان فيها منتهى التقدم، وبلغ من التمدن والتهذيب والكياسة حدًّا ساميًا. وهذا — ولا ريب — نعمة كبرى من لدن الخالق يجب على المرء مقابلتها بشكر واستحقاق يؤيده الانتفاع بما تيسر له من وسائط الترقي، وعمَّ حواليه من عوامل النمو، ولكن بدلًا من ذلك نرى فريقًا من البشر، وما هم بقليلين، دأبهم لوم الأيام لتهاونهم، وعتاب الزمان لتكاسلهم، كأن الماء والهواء والقبة الفلكية مع عقد نجومها أوقفتهم عن السعي في طريق التقدم، وصدَّتهم عن شدِّ الرحال نحو سبل الفلاح؛ كذا شأن الإنسان المتراخي عن العزم والإقدام، والمتقاعد عن العمل والاجتهاد في كل عصر وآنٍ.
ولقد اعتاد القوم العاجزون اتهام الظروف بحالتهم غير المرضية، وقد نسبوا لها من الظلم والعدوان والمعاكسة لسعادتهم ونجاحهم ما هي — بالحقيقة — براءٌ منه، ولا تأثير لها فيه يُذكَر خيرًا كان أم شرًّا. فما هي الظروف التي طالما نعنفها، ونلقي التبعة عليها لكل ما يطرأ علينا من المكدرات؟! هي الحالة التي نُكوِّنها بواسطة عملنا جل أم خل في زمن وجودنا، هي الدائرة التي نرسمها حول حياتنا، هي تأثيرنا السلبي أو الإيجابي في كل ما جاورنا، فقولنا مثلًا: إنَّ الظروف ساعدت الأمة الفلانية لبلوغ السؤدد والمجد، هو بالحقيقة إقرارنا، وإنْ يكن غير إرادي، بنشاط وإقدام وقوة احتمال وتوقد ذكاء تلك الأمة؛ إذ هذه — ولا خلافها — عملت على ارتقائها وعظمتها.
والأمر كذلك إذا تكلمنا عن الأفراد؛ إذ إنَّ أفضل الظروف وأكملها لا قوة لها على أنْ تصنع من الخرنوب عنبًا، أو من الزعرور زيتونًا، وغاية ما تفعله هو التمهيد اليسير للنمو بحسب طبيعة النامي ليس إلا، فالتمدن الحديث الذي قد عمت آثاره النافعة أكثر الأقطار، والذي نجعله سببًا لتقدم الغربيين وتأخرنا، ليس سوى ظروف أوجدتها أعمال الإنسان، فهو نتيجة السعي لا مسببه، هو الثمرة لا البزرة التي يزرعها العامل في الأرض، والتي يقتضي لها تعبًا ومشقة وصبرًا قبل أنْ يجتني منها ثمرًا.
إنَّ الإنسان بحسب طبيعته مدني؛ أي أنه يرتاح إلى الكن والمأوى ومجاورة بني نوعه، ومبادلة النفع بينه وبينهم، وغير ذلك مما لا يحصل، ولا تتيسر أسبابه سوى بتوطن المدن؛ ولذلك لقد سُمِّي ساكن المدن متمدنًا؛ تمييزًا له عن حال البداوة وتوطن القفر في خلال الصخور أو في الخيام. والبداوة وإنْ تكن متقدمة على المدنية إلا أنَّ المدنية أرقى منها في جميع الوجوه؛ إذ إنها أكثر مساعدة على حفظ النوع وتهذيب أخلاق الإنسان، وتعميم فوائد العمران التي إنما تتم بالتعاون والانتظام.
أما لفظة تمدن في لغتنا العربية المقتصرة في مغزاها اللغوي على الإقامة في المدن، فتقصر في التعبير عما يفهمه أهل هذا العصر بالتمدن، فالأوروبيون يعنون بالتمدن الحديث: التهذيب الأدبي، وترقي العواطف الإنسانية، بقطع النظر عن المسكن وحالته من الضعة أو الضخامة، فالتمدن حسب عرفهم هو الإنسان المرتقي في إنسانيته من حيث عقله وآدابه وأخلاقه. وهذا هو الحق؛ إذ ما فائدة المرء من سُكْنى القصور والتنعم بجميع دواعي الترف وهو على جانب كبير من الجهالة وخشونة العادات، ومن منا لا يُفضِّل متأدبًا بدويًّا على فظٍّ حضري؟ فالتمدن إذن هو كناية عن ارتقاء الإنسان المعنوي؛ العلمي والخلقي. وهذا ما أقصده في كلمة تمدن في خطابي. والله أعلم، وإليه المصير.
إنَّ الله — سبحانه وتعالى — جعل الناموس الحاكم الوحيد في الكون، وقد قيد المخلوقات على اختلاف طبيعتها وأشكالها بشرائع ثابتة لا تتغير، وهذه الشرائع أزلية أبدية عامة، لا سبيل إلى المناص منها أو الاستغناء عنها. وهي عجيبة من حيث تأثيرها، فتجازي المطيع بالارتقاء والنمو، وتقاصُّ من يعصي بالتقهقر والفناء، وعملها على هذه الكيفية ممتد في الممالك الطبيعية الثلاث، تشاهد آثاره في المعدن والنبات والحيوان والإنسان أيضًا.
وقد علمنا العلم الطبيعي بأن الارتقاء من فطرة الوجود ومن أهم دعائمه، واستشهد أولياؤه في إثبات هذه الحقيقة ببراهين جلية لا يمكن دحضها، والتي لا محل لذكرها في هذا المقام، فإذا كان الارتقاء — كما قد تقرر — واجبًا فطريًّا صار من العدل أنْ يقع التأديب على من تعدى هذا الواجب، كل بحسب نوعه وجبلته، إنْ كان بالقهقرى أو بالآلام أو بالفناء.
وقد أغنانا التاريخ عن الأدلة والبراهين لإثبات عمل هذا الناموس في الوجود الإنساني؛ إذ في سير الأمم ونصوصهم كثير مما يعلمنا بأن غاية الله في خلق الإنسان إنما العمران والارتقاء، فالأمم التي أدركت هذه الحقيقة، وسعت وراء بلوغها بجد وإخلاص اتسع نطاق سلطانها، وتباذخ مجدها، وبعدت مهابتها، وكان النصر حليفها، والفوز قرينها، ولكن عندما ظنت في نفسها الكمال، واعتقدت بأن الملك خاصتها، والعز رهين أمرها، وتحولت عن الجد إلى اللهو، وعن العمل إلى الرخاء والترف، فحينئذ تلاعبت بها أيدي الحدثان، فزال سلطانها، واضمحل مجدها، وخرب عمرانها، وأقام الله من بعدها قومًا أشداء ذوي أهلية لتدبير الممالك، وسياسة الشعوب، وتمهيد سبل الارتقاء.
وهذا تاريخ التمدن منذ نشأته إلى الآن، وهو حقيقة ما قدمته كل دولة وأمة نحو الارتقاء الإنساني العام؛ ولذا نتكلم عن التمدن القديم كمصري وكلداني وفينيقي ويوناني، وهلم جرًّا، ثم ننعت التمدن الحديث بروماني، ثم عربي، ثم أوروبي، وهكذا إلى ما شاء الله، وإننا إذا تتبعنا آثار التمدن في سلسلة حلقاته القديمة والحديثة، نجد بأن الإنسان مع ما تقلب عليه من الشئون والحالات لم يزل سائرًا رويدًا رويدًا نحو الارتقاء.
أجل! إنَّ مسيره لم يكن جميعه في رياض وغياض، بل كثيرًا ما تجرحت قدماه بأشواك المتاعب وصخور المشقات. وهذه الحادثات وإنْ عاقته عن سرعة المسير، فلم تصده — والحمد لله — عن التقدم، وإذا قابلنا تمدننا الحاضر بما سبقه من التمدن نرى بأنه يفوق عليها جميعها بتأثيره الحسن في حياة البشر، وفي هذا إثبات كافٍ لما نقول.
إنَّ التمدن الحديث يبتدئ تاريخه مع الرومان، تلك الأمة التي قهرت بسطوتها، وأدخلت تحت سلطانها أكثر العالم المعروف حينئذ، فلها الفضل الكبير في تأسيس تمدننا الحاضر على ركن التهذيب والمساواة والحرية، فالرومانيون — وإنْ لم يبلغوا الشأو الذي بلغه العرب ثم الإفرنج من بعدهم — قد أسدونا معروفًا جزيلًا باعترافهم بهذه المزايا وتعزيزهم لها، وإنْ أخصوا بها أنفسهم على الغير.
ثم لما ظهر الدين الإسلامي، وقامت دعوته دولة العرب الإسلامية، وتغلبت على ممالك الشرق والشعوب الأفريقية، وامتدت صولتها إلى الغرب بفتوحاتها الكثيرة، صرفت من العناية في ترقية دعائم التمدن بعضدها للعلوم والمعارف، وإنجادها للفنون والاستنباط ما تشهد بسمو فضله وجليل نفعه صفحاتُ التاريخ وآثار الزمان؛ فقد كانت مدينة بغداد عاصمة ملكهم في الشرق عامرة بنوادي الأدب ومعالم العلوم، حافلة بطلبة العلم من جميع أنحاء المشرق، زاهرة بمن أمَّها من أرباب الشعر والنثر والفنون.
وقد كان الخلفاء ينعمون بالأموال الطائلة على أولي العلم وأصحاب العوارف رغبة في تنشيطهم، وإحياء آمالهم؛ لترقى بعلمهم الأمة، وتسعد أحوال العباد، وهكذا حتى بلغت دولة العرب من التقدم المدني على فروعه المتعددة درجة عالية تأخر عنها مَن سلفهم من الأمم. أما من جهة آثارهم في الغرب، فحدِّث عن ضخامتها وإتقانها وجمالها ولا حرج، فقد كانت بلاد الأندلس من إسبانيا دوحة التمدن في أوروبا، وقاعدة الفنون في تلك الأيام، وقد غصت أندية آدابها بالطلبة من جميع ممالك الإفرنج، فكان أشراف الإفرنسيس والألمان والإنكليز يَقدُمون الأندلس للاستفادة بآداب المسلمين وعلومهم، ولدرس عاداتهم لتهذيب أخلاقهم وتدميث طباعهم، فترى من ذلك أنَّ فضل الإسلام على التمدن الحديث عظيم لا يقدر؛ فهم الحافظون الزائدون والمبلغون، فعنهم تلقت أوروبا العلوم، وأخذت الآداب والفنون، فحرصت عليها، وأكرمت وفادتها، واشتغلت بها إلى أنْ رَقَتْ من العز والفخار درجة تُدْهش كل من زار بلدانها، وتجوَّل في أقطارها العامرة بالسكان، والغنية بكل ما يجعل العيش لذيذًا، والعمر مديدًا.
وقبل الكلام في تأثير التمدن الحديث في عالمنا الشرقي لا بدَّ لي من إبداء خاطر ملاحظ في ماهية هذا التمدن؛ تمدن اليوم، وما يختلف به عن تمدن الأمس، فأقول: إنَّ أساس المدنية في كل زمانٍ ومكانٍ واحدٌ، والخلاف إنما يقع في كيفية البناء وهندسته وتزيينه، فالتمدن كان ولم يزل تعريفًا يتميز به الإنسان المدني المهذب عن غيره الهمجي العديم التهذيب، والتهذيب العصري لا شك أكمل من حيث معداته وأرقى؛ لاشتماله على جملة فروع خلت من التمدن القديم، فالتمدن الأوروبي اليوم يُعنَى به تهذيب عام، ومساواة عامة، وحقوق متبادلة، وما يلحق هذه من الامتيازات المدنية والسياسية والأدبية، وهو أيضًا كناية عن حالة إذا وُجد الإنسان فيها تمكن من إشغال جميع قواه العقلية، بحسب استعداده وأهليته للعمل؛ طمعًا بتحصيل الرغائب ونوال الخيرات. فالعمل الذي لا يأتي على صاحبه بالفوائد قريب الفناء؛ إذ الإنسان لا يسمح بعمله أنْ يقع مجانًا وبه كسبه ومنه معاشه. فقادة التمدن الحديث قد أدركوا هذه الأهمية، وعرفوا مقدار ما يترتب على إصلاحها من النفع العام؛ ولذا تراهم يشتغلون في تعديل الميزانية بين العمل والكسب، إنْ كان زراعيًّا أم صناعيًّا أم تجاريًّا أم علميًّا أم سياسيًّا إلى غير ذلك من صنوف المهن، بغض الطرف عن مذهب العامل وجنسيته ومركزه في دائرة الاجتماع؛ أي أنهم يسعون في إعطاء كل حقه بحسب قضاء العدل لا بحكم الاستبداد؛ لاعتقادهم بأن:
فالعالم قد تألم كثيرًا في الماضي، ولم يزل يتألم في الحاضر من ظلم هيئة الاجتماع، وعنفة أصحاب الغنى والوجاهة، حتى لقد آن الأوان الذي فيه ينتصب ميزان العدل على دكة القضاء؛ ليجزي كلَّ امرئ حسب ما جنت يداه، خيرًا كان أم شرًّا؛ فلا تقدم حقيقي ولا ارتقاء عام سوى بتعزيز هذا القضاء العدل قضاء يأمر به الدين، وتحث عليه الإنسانية أيضًا.
فالطبيعة حولنا التي يشرق نورها، وتهب نسيمها، وتقدم طعامها بالسواء لبني البشر على اختلاف النحل والمشارب، قد علَّمت ذوي البصيرة بوجوب الإقرار بحقيقة الإخاء البشري — وهل يكون المخلوق أحكم من الخالق؟ حاشا — فإذا كان الله قد أوجد البشر جميعهم من دم واحد، وجبلة واحدة، في عالم واحد، وتحت سماء واحدة، أيليق بالإنسان أنْ يبغض جاره، وينتقم من قريبه إذا اختلف عنه في الرأي والعقيدة؟
أريد أنَّ جميعكم تسألون أنفسكم هذا السؤال. ولذا تراهم؛ أي الغربيين، يصرفون الوقت الثمين والدرهم الرنان في نجدة العاجز، وتهذيب الجاهل، وطعم المسكين، وكساء البالي، فبنوا القصور الشامخة الفسيحة لتربية الأطفال الأيتام، ووجهوا العناية لأمر تعليمهم، فشبوا رجالًا ونساءً ذوي أهلية واقتدار على العمل الكافل لاستقلالهم المادي، وقد شادوا أيضًا من الأبنية العظيمة عددًا كبيرًا ليأوى إليها العجزة والمرضى والمقطوعين، ولم يتركوا من دائرة إحسانهم أحدًا مما تجوز عليه الرحمة إلا وأعانوه، حتى لقد أغاثوا الحيوانات البكم وأنقذوها من قسوة الإنسان.
هذا فضلًا عن أنَّ أشرافهم وأغنياءهم يجلون أهل العلم والفنون وإنْ كانوا وضيعي المنزلة، فيفتحون لهم أبواب منازلهم، لا بل أبواب قلوبهم، ويحلونهم من دائرة إكرامهم المحل الأول، فتحيا نفوسهم من هذه المؤانسة، وتقوى في صدورهم عزائم الأمل، وينشطون للتآليف العميمة النفع، وينصبُّون على الاكتشاف المفيد، فتغتني بأثمار علمهم وبحثهم البلاد، ويستفحل عمرانها، وتسود في ربوعها الراحة مع الهناء؛ ومن أجل ما يعضدون به العلم، ويقدمونه في سبيل رواج بضاعة الآداب ما يوقفونه من الأموال الطائلة لبناء المدارس والكليات؛ لتهذيب الذكور والإناث، فإن أشهر معالم التدريس في البلاد الأميريكية والأوروبية قد شادها أفراد أغنيائها، فهي معروفة بأسمائهم، وشاهدة بما لهم من الأسبقية في عمل الخير والإحسان.
فأوَّاه! أين المدارس في أوطاننا الشرقية التي قد أقامها دينار الأغنياء؟ أين الأغنياء الذين يوجهون العناية إلى ترقية بلادهم أدبًا وفنًّا؟ أين الدنانير التي تصرف في مشروعات وطنية عامة؟ أما الجواب على هذه الأسئلة فهو سكوت تام تتخلله بعض التنهدات. لقد زلَّ الكثيرون إذ زعموا أنَّ التمدن الحديث هو عبارة عن السكك الحديدية، والأسلاك البرقية، والأنوار الكهربائية، والبواخر، والعجلات، والقصور المنيفة، والرياش الثمين، والأثواب الفاخرة، وما شاكل من دلائل الترف والرفاه؛ فهذه جميعها ليست بالتمدن، بل هي من جملة آثاره، ومن آثار مبادئه ونتائج نظامه، بل هي أيضًا خادمته في اتساع نطاقه، وامتداد صولته، بل قد يمكن أنْ تتمدن البلاد ويسعد قومها وهي خالية من آثار الفنون الحديثة؛ إذ إنَّ التمدن هو التهذيب الأدبي الناتج عنه التقدم المادي.
فالمرء من طبعه يميل إلى تحسين مسكنه وردائه إذا كانت أخلاقه حسنة، والشيء من معدنه لا يستغرب، فالتمدن الحديث ليس ما نشاهده في يومنا من معجزات التقدم المادي، بل هو الروح المحرك للعمل النافع المحيي للعزائم الرميمة، المنبه على الإصلاح، والقائد إلى رياض الفلاح؛ ولذا تجدون البلاد التي استقرَّ فيها سابقة في العمران والحظ والفخار على ما سواها.
أما الغلط الذي ارتكبه فريق من البشر، فأحلوا الثوب مكان الجسد، والنتائج مكان الأسباب، والصور مكان المعاني، ولم يميزوا بين الفاعل والمفعول، فقد أضر الضرر المخيف، وأخل الخلل الأكبر في دائرة الاجتماع؛ وذلك لامتزاج العرض بالجوهر، والادعاء بالفضل، والصدق بالرياء، فالتبس والحالة هذه وجه التمييز بين الحق وما شابهه من البطل، وأشكل على المرء تأدية الواجب بحسب الاستحقاق. ويا لله من شر التقليد وبلية الغرور! فإنهما يصدان العدل عن أنْ يكون الحكم الوحيد بين البشر، والعدل، كما تعلمون، أساس التقدم وعنوان السعادة، والله لا يظلم بمقدار ذرة — سبحانه وتعالى.
إذا أرسلنا الاستبصار إلى أحوالنا الحاضرة، ودققنا النظر في هيئة اجتماعنا، وبحثنا عن خفايا أمورنا وطباعنا، نجد أنفسنا في موقف تتجاذبنا فيه من جهة إلى أخرى تيارات معكوسة السير، مختلفة الطبيعة، متباينة التأثير، وسيئة المآل. وعليه؛ فلا حرج علينا إذا صرحنا وصرخنا بأننا في تعب مستمر، ونصب دائم، وحيرة قد أضلتنا عن الهدى، فمنعتنا من الحكم الصائب، والاختبار البصير.
وإنْ كان بينكم مريب بما أقول، هيَّا فليرافقني إلى أحد منازلنا عند المساء وقت الاجتماع العائلي؛ لأريه صدق الحالة التي وصفتها، والبصر أقرب إلى اليقين من الخبر، فهناك نلتقي بعائلة مؤلفة من رب البيت وسيدة المنزل والأولاد، ونحن إنْ لم نكن سوريين لا نستطيع أنْ نعرف جنسية أهل البيت ومقامهم من الوجود؛ إذ نراهم من جهة متفرنجين وهم ليسوا بالإفرنج، ومتعربين وهم ينكرون نسبتهم إلى العرب، أثوابهم مختلطة من العباءة والبنطلون، والقبعة والطربوش، والزي الأوروبي والشرقي، وكلامهم كأثوابهم مزيج من العربي والعجمي، وعوائدهم وأخلاقهم تمثل حالتهم الحجلية في كل إشارة يبدونها أو حركة يقدمونها؛ فهم قوم قد أضاعوا ذواتهم في ظلام التقليد، ولاشوا شخصيتهم بحراب التشبه حتى أصبحوا كما هو مشهور عنهم. والإشارة هنا تغني عن التفصيل.
وما الذي نشاهده فيهم من المضحكات والمبكيات سوى آثار التمدن الحديث بين أقوام قد أقرَّ لجدودهم الزمان والتاريخ بفضل السبق على الشعوب كافة، في الاستعمار والاتجار والصناعة وسلك البحار واستنباط الفنون وإحراز المعارف، ولقد يسوءني — أيها السادة — الإلماع لهذا الأمر المُكدِّر، ولكن الحقيقة أسلم من التمليق، وإنْ جرحت فجرحها قريب الشفاء، ولنعلم أنَّ الحق من ربك، ولا يقبل لديه ضلال.
وما أقصد في هذا المقام معارضة الأفراد في حرية اختيارهم لملابسهم أو عاداتهم؛ إذ إنني من القوم الذين يحترمون الاستقلال الشخصي، ويقرون بوجوب منح الحرية لكل فرد من البشر باختيار أمر معيشته وتدبير بيته، ولكن موضوع الكلام يقتضي النبذ عن مظاهرنا؛ إذ هي المُعرِبة عن تأثير التمدن الحديث المحسوس بيننا، ولا نشاهد له أثرًا يذكر فيما دونها سوى فيما ندر، والنادر لا يبني عليه قياس، ونحن فيما نقول لا نُعرِّض بأحدٍ لارتدائه بما يستحسنه ذوقه من الأزياء، ولكننا نلوم من يوجه الاهتمام إلى ظواهره جامحًا عن إصلاح بواطنه اغترارًا بأنها كفء لتهذيبه ولترقيته سلم المدنية ودوائر الاجتماع السامية؛ أي أننا نلوم من يتمسك بالوهم، ويعتقده الحق، وما ذلك سوى ضلال مبين. وهذا الضلال هو ما نرجو إصلاحه بإصلاح أحوالنا المشوشة، فَهَمُّنا الوحيد تهذيب الإنسانية على سنن التمدن الحديث، بغض الطرف عن الملابس والأزياء.
أجل! لقد يجمل ويحمد بالشرقيين المحافظة على مظاهرهم الشرقية، ولكن هذا أمر ثانوي، لا تأثير له في نجاحنا المدني، فالممالك الأوروبية والأميريكية جميعها تابعة للزي الباريزي، أما هذا فلا يصدها عن التقدم الوطني، وتحصيل رغائبها الدولية، وبلوغها ذروات السؤدد والمنعة، فالإنكليزي مثلًا ولو استحسن الارتداء بزي الإفرنسي والتشبه به في عادات اجتماعه، فهذا لا يجعله إفرنسيًّا على الإطلاق، بل يبقى على خلاف ثوبه إنكليزيًّا في الروح والمبدأ والمشرب، يضحي أمواله وحياته في خدمة وطنه، وكذا الأمر مع الألماني والطلياني والروسي وغيرهم من الإفرنج.
ولقد طالما ندد كتبتنا بأبناء الشرق لاعتياضهم الزي الأوروبي عن الشرقي. وهذا وإنْ لم يخل من بعض الصواب فهو ليس بالأمر الخطير والأحرى بتوجيه النظر والإصلاح، فليرتدِ كلٌّ بما شاء من الأثواب، وما يستحسنه ذوقه من الأزياء؛ فإنه لا فرق عند التمدن إذا وضع على رأسه قبعة أم طربوشًا، أو ارتدى بعباءة أم ببنطلون؛ لأن هذه المسائل حكمها للأفراد؛ إذ ضررها ونفعها عائد على صاحبها، ولا تؤثر شديدًا في المصلحة العمومية، بخلاف الأضرار الناشئة عن الجهل، وظلام البصيرة، وخشونة الخلق، فإنها تعم في بلائها القاصي والداني، ويلحق شرها بجميع طبقات البشر بدون استثناء.
فلذلك كان من الواجب الأول بذل الهمة في النظر إلى طباع الناس ومبادئهم الأدبية ومكانتهم العلمية؛ إذ على هذه يترتب أمر التقدم والارتقاء الحقيقي، فمما تقدم نعلم ما هي حاجتنا الكبرى لنكون نحن والعصر على السواء. حاجتنا روح ينبث بيننا ليحيي فينا موات الهمم، ويجدد عزائمنا البالية، حاجتنا نور يشرق علينا سناؤه، فيبدد أوهامنا، ويجلو ظلام جهلنا، حاجتنا نار تحرق من بيننا الانشقاق والفساد وتفرُّق الكلمة والحسد والبغضاء، حاجتنا صوت يصرخ فينا للنهضة ويحثنا على العمل، حاجتنا يا قوم الإصلاح العام، وكفى بذلك إشارة لمن عقل؛ فمتى تمت هذه الشروط وحصلت لنا هذه الحاجات فحينئذ تبرأ جميع عللنا الوطنية، وتكمل نقائصنا المدنية، فيزيد شرقنا عمرانًا وتمدنًا وثروة، ويصبح العيش تحت سمائه النقية رغيدًا سعيدًا.
حقًّا إنَّ آثار التمدن الحديث بيننا ليس كما كنا نروم، ولكن من له غدٌ فلا يليق به أنْ ييأس من تحسن الأحوال وإصلاح الاختلال، فالزمان لنا كما هو لغيرنا، فلنشغله كما يشغله الفائزون في قصب السبق علينا، فنصير وإياهم على حدٍّ واحد، فالله مع العامل، والطبيعة نفسها تبتسم له فتُنيله الأرب. ونحن — والحمد لله — قوم قد برهنَّا فيما سلف بأن لنا حظًّا كبيرًا من الاقتدار وتوقد الذكاء، ونحن اليوم نصيبنا من الخلق كنصيب أجدادنا العظام، إنما يعوزنا الإقدام والتعاون؛ فعلينا بهما وأنا أؤكد لكم بلوغ الأمنية واجتناء المسرات.
لقد قيل: إن المقابلة تؤهل للحكم، فإن كان ذلك صوابًا، فحق لي الصراحة بأننا — نحن الشرقيين — أقل عملًا من الغربيين، فقد شاهدتهم على تفاوت منزلتهم وغناهم، رجالًا ونساء، يَصِلُونَ ليلهم بنهارهم سعيًا وراء غاية يطلبونها، وحاجة يودون الحصول عليها؛ فالغِنَى لا يمنع مقتنيه عن العمل، بل قد رأيت غنيهم يجِدُّ كفقيرهم، كل بحسب ما يرغب، فأميركا التي قد أدهشت العالم بتقدمها السريع وضخامة عمرانها الفائق حد الكمال هي من أشد الأمم انكبابًا على العمل، واحتمالًا للمشقات، حتى لقد كنت أعجب من خطوهم السريع في الأسواق كأنه متوقف على كل فرد منهم عمران الكون برمته.
وربما تتعجبون إذا أخبرتكم بأنه لا يوجد «ولا قهوة الفرد» في جميع أقطارها الواسعة يتردد إليها الرجال للتدخين وقتل الساعات بالألعاب كما هو الشأن عندنا؛ إذ إنَّ الرجال مشتغلون في مهنهم المتعددة، فوقتهم أثمن من أنْ يضاع بالحانات والقهاوي، فرجال الأعمال ونساء الأعمال أيضًا هم عماد تقدم البلاد وركن فلاحها، وحيث إني أراهم قليلي العدد في شرقنا الفقير، فصار من الضرورة إذكارنا بأهمية العمل، وأنه غاية وجودنا — والحكيم من انتفع بالذكرى ولو كان مصدرها حقيرًا، والناس إنما تتعلم من بعضها البعض، ومن ظن بنفسه العصمة واعتقد بها الكمال فقد طغى.
ولقد عُدَّ للمرء فضل كبير أنْ يجهر برأيه ومعتقده وإنْ كثر المقاومون، أما أنا فأحسبه الفضل الأكبر والأدب الأسمى: الإصغاء بالاحتشام ولين العريكة إلى آراء الغير، أصابت الغرض أم لم تُصب؛ ذلك لما في التعصب بمذهب الذات والاستخفاف بمذهب السُّوى من الظلم والاعتساف والمنكر؛ مما يولد الخصام، لا بل الحروب، لا بل الخراب؛ فلينتبه الراقدون.
وأما الموانع التي تؤخرنا عن مجاراة الغربيين في تمدنهم وتقدمهم بالفنون والمعارف فكثيرة؛ منها: الإفراط في محبة الذات التي هي كمحبة المال أصل لكل الشرور. وقد علمت علم اليقين بعد معاشرتي للغربيين ووقوفي على نوايا قلوبهم بأن الشرقي الحديث، وخصوصًا المدعي العلم والتمدن، هو أشد حبًّا لذاته وحرصًا على نفعه الشخصي من غيره من الأقوام.
وكثيرًا ما قادتني الغيرة على البحث مع أصحاب الغنى والوجاهة في قطرنا بموضوع الإصلاح، وبما يترتب على نجدتهم للمشروعات الوطنية من الخير العام، فكان ملخص جوابهم أنَّ مساعدة المصلحة العمومية في بلادنا ضرب من الجنون؛ نظرًا لتفرق الكلمة، وتشويش الأحوال. أما أنا فلم يكن بوسعي موافقتهم على هذا الرأي؛ لعلمي وتيقني بأن الاهتمام بالخير العام يزيد وجوبه كلما زادت الحاجة إليه، فالأسباب التي قدَّموها عذرًا لإغفالهم هي نفس الأسباب الداعية إلى ضرورة الإسعاف، فالصحيح — كما هو مشهور — لا يحتاج إلى الدواء، والرثاء إنما يكون مكان الفتق، فهؤلاء ومن نحا منحاهم في الانهماك بصالح الذات والإعراض عن نجدة المصلحة العامة فقد أضر بنفسه وهو لا يدري؛ إذ إنه لو تأمل — أواه ويا ليته يتأمل — لعلم أنَّ سعادة المرء على الغالب إنما تتم وتتيسر بسعادة من حوله من البشر، وأن النجاح لا تدنو أسبابه إلا إذا كان مشتَركًا به متفرقًا بين العامة. وهذا أمر يؤيده الاختبار، وحقيقة راهنة قد أقرَّ بها أولو البصائر والروية؛ فالمرء الذي همُّه في الدنيا راحة نفسه ومصلحته الشخصية، وفي طاقته نفع الغير ولا يفعل؛ فهو من الجهل والسقط بمكان قصيٍّ، وكفى بهذا إنذارًا لمن فطن.
أما الأسباب الأخرى — وقد مرَّت الإشارة إليها فيما سبق — فهي عبارة عن تشبثنا بالقشرة دون اللبِّ، وقَطفِنا الأوراق دون الثمار، واغترارِنا بالوهم، وإعراضِنا عن الحق. وهذا جميعه باطل؛ فانكبابنا على التقليد قد أعمى بصائرنا عن تحصيل النافع، وأخَّرنا عن الوصول إلى معرفة جوهر البواعث على الارتقاء المدني، فكأني بنا قد خُلبت منا الأنظار، وسُحرت فينا العقول بما تجلَّى لدينا من جمال ظواهر التمدن، فشاقت نفوسنا للحصول على مثلها كي تساوي بيننا وبين أربابها الذين نشعر بأنهم أرقى منا علمًا، وأوسع أدبًا، وأسمى إدراكًا، فتقلدناها بقدر ما وصلت إليه مقدرتنا، ثم نظرنا ذواتنا في المرآة فأعجبنا في الصورة المنعكسة عنها، وتهللنا لفوزنا السريع بأمنيتنا الكبرى، وانصرفنا ونحن من الخيلاء والمرح ثملين وما نحن إلا بالخاسرين.
ثم في تحقيرنا للعلم وذويه، واستخفافنا بأصحاب العوارف والمتفننين من أهل أوطاننا لمن أعظم العائقات المانعات من تقدمنا المدني؛ فالتمدن إنما تكون درجته موازية لدرجة العلم المعاصر له، فبأفوله يتقهقر حتى يضمحل، وبنموه يتعاظم ويتكامل، ولست أقصد بالعلم هنا مجرد الاقتصار على معرفة بعض مفردات لغوية وقواعد نحوية، كمثل إعراب قام زيدٌ وقعد عمروٌ وما شاكل، فالعلم الذي لا يتعدى هذه الحدود هو أكثر الأحيان مجلبة للضرر؛ لما يتأتى عنهُ من الدعوة الباطلة والعجب والغرور.
إنما المراد بالعلم معرفة الحقائق الطبيعية؛ كالزراعية والنباتية والحيوانية والكيمية والجوية والفلكية والأدبية، كعلم أخلاق البشر وعادات الاجتماع وما ذهب على مذهبه، فهذا هو العلم العامل في التقدم، والدافع إلى النجاح. وإنا نظرًا لكساد بضاعة العلم في بلادنا الشرقية، وحقارة من يتجار بها، لست ألوم من يهجر اليراع والرقاع، ويحلف ألاَّ يأخذ بيده كتابًا وفي نفسه رمق.
والمرء الذي كلما زاد علمه زاد معه إفلاسه وتعسه، كما هو الواقع بيننا، فلا حرج عليه إذا فضَّل الحياة وهو أُمِّيٌّ على التضور جوعًا وعقله مشبع بالأوضاع العلمية والفقرات النثرية والشعرية، فالعالِمُ يجب أنْ يتعيش بعلمه كما أنَّ التاجر والصانع والزارع يعتاشون بعلمهم، والمرء الذي يصرف وقته ونشاطه، لا بل دمه وحياته في خدمة العالم الأدبية، له الحق الكبير بعوضٍ يكفل له سد حاجاته المادية، كمن يحرث الأرض للغذاء، ويحيك الثوب للكساء وهلم جرًّا، ولكن من العجيب الذي لا يدرك كنهه أنَّ الإنسان يبذل درهمه عن طيبة خاطر في اقتناء حاجاته المادية، ولكنه يحبسه عن إحراز ما يرقي إنسانيته، ويُقرِّبه من الله وملكوته.
هذه هي بعض المسببات لما هو واقع في جسم مجتمعنا من العلل، ولا بدَّ من وجود غيرها مما أنزل بنا نوازل البلاء، وفتك بنا فتكًا ذريعًا يعزُّ معهُ الدواء، ولكن المقام لا يسمح بأكثر مما مر، وفيما ذكر كفاية لبصير. والله أسأل أنْ يمنحنا قوة الغلب على كل مقاوم في طريق ارتقائنا؛ إنه المجيب القدير.
والآن أستسمحكم — أيها السادة الكرام — بتوجيه الخطاب إلى حضرة أخواتي السيدات، فالمراد اختصاصهن ببعض الملاحظات، والحب كما تعلمون خصائص.
وأنتن — أيتها الأديبات المُجمِّلات ليلتنا هذه بمحضركن الأنيس، وطلعتكن الباسمة بمحاسن الخلق والأخلاق — أرجوكن لطفًا ومِنَّةً الانتباه إلى ما سأُوردُه على مسامعكن في سبيل التفكرة، طبقًا لما يوافقه موضوع الكلام؛ ولا عَدِمتكُنَّ الإنسانية والمدنية من نصيرات كريمات.
لقد تكلمت — فيما مرَّ — عن وجه الخلاف الواقع بين التمدن الحديث والقديم، ولكنني عدلت فيما ذكرته عن الصراحة بالفرق الأهم بينهما لأحفظه لهذا المقام؛ ذلك لحصوله عن تأثير المرأة في التمدن الحديث تأثيرًا لم يُرْوَ له مثيل في نصوص أخبار الأولين.
أجل! لقد جادت صفحات التاريخ بذكرى عدد من النساء الممتازات بقوة العقل والدربة والإقدام على الأعمال الخطيرة، ولكنهنَّ قليلات يقعن تحت حكم الشاذ لا العام، أما في عصرنا الحاضر الذي لقَّبه فيكتور هيجو، الشاعر والمؤلف الإفرنسي الشهير، بعصر النساء، فقد أقرَّ قادة العلم والفنون بالمساواة المعنوية بين الرجل والمرأة — هذا اللهم إذا تساوت لهما معدات التهذيب والتدريس — ولنا من الحاضر آيات بينات معلنات بصدق ما نقول.
فتأثير المرأة في التمدن الحديث مقارن في فوائده مآثر الرجال، فلها الآن في البلاد الغربية من آثار التأليف والاكتشاف والاستنباط ما كان يظن أنَّ بينها وبين عقل المرأة مثلما بين ملتقى الخافقين، وقد مدت يدها للعمل في جميع فروعه، ولم تترك بابًا إلا وطرقته، ولا مجالًا إلا ونزلته، وفازت فوزًا مبينًا في كل ما شرعته، وأجبرت الرجل على الاعتراف بفضلها واقتدارها، فأُعطيت من الحقوق الشرعية والمعنوية ما لم تحلم به امرأة من قبل.
وقد أسعدني الزمان فشاهدت المرأة العصرية في كمال مجدها، فرأيتها الكاتبة المجيدة، والخطيبة المصقعة، والمتشرعة المدققة، والطبيبة الماهرة، والمخترعة النافعة، والسياسية المحنكة، ورئيسة الجمعيات الوطنية واللجنات الخيرية، والقائدة للهيئة الاجتماعية. وهي في كل ذلك ذات رقةٍ ودعةٍ وأنسٍ ولطفٍ وحلاوة مما يأخذ بمجامع القلوب، ويأسر الألباب بسحره الحلال.
وقد دخلت منزلها فوجدته على حدٍّ فائق من الترتيب والنظافة والظرافة، قد اجتمعت فيه موارد الراحة ومناهل الملذات، وقد رأيت زوجها سعيدًا مفاخرًا بجمالها وآدابها وحكمتها، وأولادها صحيحي الأبدان، مهذبي الآداب، ومثقفي العقول، فَذُهِلْت مما أبصرت وقلت في نفسي: وا حيرتاه! كيف تسنى لها والحياة — كما أعلم — قصيرة أن ترقى هذه المعالي السامية والحظوة الكبرى؟ فوجدت بعد الفحص والمراقبة بأن ذلك هو نتيجة السعي واستغنام الفرص وترتيب الأوقات؛ فهي تعمل من الصبح باكرًا لحين منتصف الليل طبقًا لنظام لا تتعداه، والذي يمكنها من القيام بشئون شتى.
فهذا ما أرغب أنْ أوقفكنَّ عليه — أيتها الأديبات — لتعلمن أنَّ للمرأة العارفة العاملة تأثيرًا لا يحدُّ في ترقية البشرية مدنيًّا ومعنويًّا، وأيضًا لكي أؤكد لكنَّ بأنه يستحيل عليها مجاراة الرجل في سبق العلم والآداب إنْ لم تعول على نفسها، وتطرق باب الجد بيمينها، فالرجال — كما اشتهر عنهم — يؤثرون أنفسهم بالسيادة، ويختصون ذواتهم بكمال العقل والحكمة والدربة، فهم على ما يعتقدون سلاطين الكون، وأصحاب الحكم المطلق الذي يجب أنْ تخضع له وتنقاد إليه المخلوقات طرًّا، والمرأة من الجملة.
وقد يؤيدون دعواهم هذه بمجرد النطق بأن الطبيعة قد حبتهم بهذه الامتيازات، وفضلتهم بصلابة الجسم وقوة العقل على سائر من في الوجود؛ ولذلك فقد حقَّ لهم السلطة على المرأة الناقصة في الفهم والإدراك، ووجب عليها الرضوخ لإرادتهم، والامتثال لأمرهم. والاختبار علم المرأة صدق ما أصف به أسيادنا الرجال، ولا حاجة إلى إقناعها بحقيقة ما هم عليه من وحدة الملك والجبروت، فهل يكون من الرأي والحالة هذه بأن المرأة تتقاعد عن النهضة في طلب حقوقها الطبيعية من تهذيب وتثقيف ومساواة؟ وهل تفعل حسنًا بعد إذ علمت من استبداد الرجل ما علمت بأن تعتمد على قوته ليدفعها إلى التقدم، ويفتح أمامها باب الفخر، ويكللها بتاج المجد والانتصار؟
الحكمة تجاوب: كلَّا. وأنا قد علمت بعد أنْ درست تاريخ النهضة النسائية في بلاد الغرب بأن الرجل لم يكتفِ بأن يدع المرأة وشأنها، بل قد أجهد قواه في سبيل مقاومتها وإرجاعها إلى حالها الأول من الجهل والاستعباد، أما هي ففازت بجهادها للحرية، وبإعلائها لشأن جنسها. والحمد لله. والحق يعلو بإذنه تعالى، وما كان من الرجل حينئذ — لاحظن أيتها السيدات — إلا أن أسرع مُطأطئ الرأس، خاشع الجانب، مُهنِّئًا لها بالغلبة، وصار يخاطبها كسيدتي ومولاتي وسلطانتي، وغير ذلك من ألقاب التجلة والتعظيم، والمرأة نظرًا للطافة طبعها، ورقة عواطفها، وطيبة قلبها، عفَتْ عن ظلمه السابق، وأكدت له بأن جهادها واحتمالها للمصاعب لم يكن حبًّا بالسيادة؛ بل طمعًا في تحصيل العدل والمساواة.
فعندئذ ارتفعت منزلتها في دائرة إكرام الرجل وأي ارتفاع، فزاد شغفًا بجمالها المعنوي، وأصبح يقدمها على نفسه في كل شيء، ومن ثم سعى الاثنان معًا يدًا بيد في العمل المُرقِّي لبني الإنسان، والمُقرِّب لسعادتهم؛ فنشأ عن ذلك التمدن الحديث وما يتبعه من الرغد والمجد والعزة والارتقاء.
فعِلمُنا بعِظَم ما فعلته وتفعله المرأة في الغرب يجب أنْ يثير فينا نار الغيرة للإقدام على مثله في الشرق، فالوطن والرجال أيضًا في حاجة كبرى إلى معونتنا نحن النساء، فلنُقدم لهما من فرائد آدابنا وعلومنا وتهذيبنا ما يُقدِّرنا عليه الله، ووسائل تهذيبنا وإنْ تكن متأخرة عمَّا للغربيات فهي مع ذلك كفء لأن تحركنا إلى النهضة من خمول الغفلة والتهاون، وتؤهلنا للقيام بمهام الحياة العصرية بحسب مقتضى التمدن الحديث؛ فلتكن المرأة الشرقية عمادًا في بناء مدنيتنا على أساس العلم والنور، ولها بهذا فخر لا يزول.