ومات الحب
كنت أجلس على حافة السرير بجواره وهو نائم، عيناه مُغمضتان، عيناه الحبيبتان اللتان كنت أنظر فيهما فتُشرِق الدنيا في عيني، عيناه السوداوان يكسو بياضَهما دائمًا حمرةٌ خفيفة، تُضفي على نظراته قوة، وصدق عاطفة. وملامحه كلها نائمة غائبة في ملكوتٍ آخر.
ومددت يدي في رهبة، وتحسَّستُ جبينه، وسرَتْ في جسمي قشعريرة باردة، وانتقلت أصابعي في غير وعي تتحسَّس خدَّيه، وأنفه، وشفتَيه وجفنيه، ولم أَدرِ كيف اشتقتُ لأن أنظر في عينيه، لأن أرى ولو لمرةٍ واحدة سواد عينيه الحبيب، الذي كنت أنظر فيه، فأرى الدنيا بأسرها تشرق وتبتهج. ووجدت أصابعي تفتح الجفنين في تهيُّب، وانحسر الجفنان عن عينيه، ورأيت سوادهما نائمًا غائمًا، ليست فيه حياة، وليست فيه دنيا تُشرِق، وليس فيه أي شيء. سواد ميت غارق في بياض ميت، شيء كروي أسود! جماد!
لا، لا … وانطلقت مني صرخة، لم يسمعها أحد إلا أعماقي الحزينة المفجوعة، وتركَتْ أصابعي جفنيه، فأُنزِلتا على عينيه كالستائر تُخفيهما عني، وكأنما أشفقا عليَّ من التحديق فيهما.
وانتفضتُ، إن عقلي يأبى أن يَقبلَ هذا الواقع الشاذ، الذي يُشبه الخيال؛ لقد كان أبي منذ دقائق يملأ هذا البيت نشاطًا، ومرحًا، وحياة! لقد كانت عيناه … عيناه هاتان! تتألقان ببريقٍ يعكس الدنيا بكل صُورها! كيف؟ كيف تخمد هذه الحياة فجأة؟ كيف تَنطفِئ هاتان العينان، وتُصبحان قطعتين كرويتين من جماد؟ أهذا هو الذي يُسميه الناس موتًا؟
وأحسست بدموعٍ ساخنة تجري على وجهي، ورأيت وجه أبي يشحب عمَّا كان، واتخذت ملامحه شكلًا رصينًا رهيبًا، كأنها ملامح تمثال نُحت من الجرانيت. وأمسكت وجهه البارد في يدي، وقرَّبت شفتيَّ من بشرته، وقبَّلتُه، وهمستُ في أذنه: «أبي، أين أنتَ؟ هل تسمعني؟ إنني أحبك.» وشعرت براحةٍ بعض الشيء، كأنَّ كلماتي من صدْقها وحرارتها أذابت جليد الموت، وبعثت في أذنيه الحياة فسمعني، وابتسمتُ، وعانقته، وأخذت أتحسَّس جيوبه، وكان لا يزال بالمنامة الجديدة التي اشتراها بالأمس، ووضعت يدي في جيب الساعة العلوي، فوجدتُ نظارته، وقلمه، وعلبة سجائره، وخفق قلبي من الدهشة. هذه الأشياء! أشياؤه! تؤكِّد لي أنه لم يَمُت؛ لأنها تعيش في جيبه حية تنتظره! وتأملت نظَّارته، وخُيِّل إليَّ أن فيها حياة، أن فيها عينيه تنظران، ونظرت إلى قلمه الحبر، ورأيت أصابعه تلتف حوله تكتب، وارتعشَت أصابعي، وأنا أعيد هذه الأشياء إلى مكانها في جيبه، وأزحت الملاءة عنه قليلًا؛ لأبحث عن يديه، وأمسكت أصابعه بأصابعي … آه! وأمسكت يده بكلتا يديَّ، ووضعت وجهي في راحته الكبيرة، وبكيت!
ولم أدرِ إلا بيدٍ على كتفي، فوقفتُ وغطيت أبي بالملاءة حتى وجهه، وأغلقت عليه الحجرة. لا أريد أن يرى أحد أبي وهو راقد شاحب ضعيف. إن الضَّعف عورة، ولا أريد أن يرى أحد عورة أبي، أبي الرجل القوي العملاق، الذي علمني كيف أمشي، وكيف أتكلم، وكيف أحب. كنت أجلس إلى جواره كل ليلة، وأستمع إلى حديثه العذب وهو يشرح لي كل شيء حتى الحب! وكان بطبيعته فنانًا يعشق الفن. وفي ليلةٍ سألته: «ماذا تفعل يا أبي لو عرفت أنني أحب؟» وكان يجلس بجوار المدفأة، فنظر إليَّ مُدقِّقًا، ثم قال: «لا شيء، المهم أن يكون إنسانًا يستحق هذا الحب.»
وسألته: «وكيف أعرف أنه يستحق؟»
قال: «ما دمتِ لا تعرفين فهو لا يستحق!»
وسمعت في البيت ضجةً، وصخبًا، ورأيت أناسًا كثيرين، رأيتهم من قبل، يلبسون السواد، ويروحون ويجيئون لا أدري لِمَ؟ وبعد وقتٍ لم أَعرِف مداه، رأيتُ الرجال يحملون أبي في صندوقٍ خشبي، ونزلوا به إلى الشارع، وانطلقت العربة، وكنت أجلس في العربة نفسها بجوار الصندوق، ولم أكن أبكي، لكنَّ شيئًا ثقيلًا كان جاثمًا على صدري، يقبض على قلبي بيدٍ من حديد، ونظرت من نافذة العربة إلى الطريق، فوجدتُ الحياة على أشدها، الناس يجرون، والعربات تتسابق، والشوارع كلها مليئة بالصخب والسعي والكفاح، وتراخت اليد الحديدية عن قلبي بعض الشيء، وجذبتُ نفَسًا عميقًا من هواء الشارع، ثم نظرتُ إلى داخل العربة، فوجدتُ صندوق الموت يحمل أبي، فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبي من جديد.
وسارت عربة الموت وسط عربات الحياة السريعة، وأنا أجلس داخلها أجترُّ آلامي وأحزاني. وأخيرًا وصلنا، وأنزل الرجال صندوق أبي، ووضَعُوه على الأرض، ثم فتحوه وحملقتُ داخل الصندوق لأرى أبي، وخفَقَ قلبي خفقةً عنيفة، كأنه يُفرِّغ بها كل دمه. ورأيت أبي ملفوفًا في أقمشةٍ بيضاء، لا تُظهر منه شيئًا، وحملوه، وأدخلوه في حفرةٍ صغيرة، ثم أهالوا عليه التراب، وتلفَّتُّ حولي في ذعرٍ كأن الدنيا قد خوت وأقفَرَت، أو كأن ريحًا عاتية أقلبت واقتلعت أبي، فأصبحت أنا في مهبِّ الريح أنتظر دوري. ورأيتُ الرجال ينفضون عن ملابسهم وأيديهم التراب في آليةٍ غريبة، وكأنهم فرغوا من وجبة غذاء عادية، ولم يُواروا الثرى إنسانًا، كان هو بصري وسمعي وحياتي.
وبقيت وحدي كالمذهولة أحملق في الحفرة الصغيرة، التي ابتلعت أبي. أهكذا؟! … أهكذا ينتهي الإنسان؟! أهكذا ينتهي أبي الرجل القوي الجبار، الذي كنت أنظر إليه كعملاق تُطاوِل هامته السماء؟! أهكذا ينتهي به المطاف إلى أن يَرقُد في حفرةٍ من التراب؟!
لا، لا! صرختُ من أعماقي في ثورة، واندفعت إلى مكان الحفرة، وأخذتُ أنبش بأصابعي في عصبيةٍ تُشبه الجنون. لا! إنني لا أقبل هذا، إنها قاسية! لا أقبلها أبدًا، سأتحداها، سأنبش حتى أفتح هذه الحفرة، وأُخرِج أبي منها! وأحسستُ بثورةٍ في أعماقي تندلع وتضطرم، ثورة على الحياة، وثورة على الموت، وثورة على …
وأفقت على يدٍ تسحبني، وصوتٍ يقول لي: «هيا بنا نَعُد.» وعُدتُ مع اليد التي سحبتني أنظر إلى الحياة شزرًا، وأسخر في أعماقي من جريهم وحماسهم، وأقول لهم في نفسي: «كفى، كفى … كفاكم جهلًا وجريًا، ألا تعلمون ما نهايتكم؟ حفرة في التراب، تراب يُهال عليكم، تراب في تراب!»
ولم ألبس السواد، كان موت أبي، بل مشكلة الموت نفسها تشغل تفكيري كله، حتى إنني كنت أضع ملابسي على جسمي بلا وعي، ولا أكاد أعرف لون الرداء الذي أرتديه.
وجاءني صوته في التليفون حزينًا، مُعزِّيًا، مُخفِّفًا. والحقيقة أن هزةَ الموت أنسَتْني هذا الصوت فترة، لكني رغم ذلك كنتُ أنتظره، كنتُ أتلمَّس شيئًا قويًّا من الحياة يُعيدني إليها، شيئًا عنيفًا يَهزُّني فتسقط عني، بعض الشيء، غشاوةُ الموت القاتمة، وما من شيءٍ يستطيع أن يفعل ذلك إلا الحب.
وقلت له وأنا أتشبَّث ببقايا حماس في قلبي: «أريد أن أراك.» قلتها ببساطة، وكانت المرة الأولى التي أقول له فيها أريد أن أراك. كنت أشعر أحيانًا برغبةٍ في النُّطق بها، لكنَّ شيئًا ما في أعماقي يَمنعُني، فأقول شيئًا غيرها، أو عكسها، أو لا أقول شيئًا على الإطلاق، لكني بعد أن شهدت الموت، رأيت الحياة أبسطَ وأتفه من أن أكتم في صدري كلمةً أريد أن أَنطِق بها.
ودعاني إلى بيته، وتردَّدت قليلًا، ثم وافقت. ولبست ملابسي بإهمالٍ، زاد بعد موت أبي عما عهدته في نفسي، ولم أضَعْ على وجهي أية مساحيق، ونظرت إلى عيني طويلًا في المرآة، وقلتُ لنفسي: «ليس في الحياة شيء يبعث على الذعر، حتى ذهابي إلى بيته!»
ووصلت إلى بيته دون مشقة كبيرة، وفتح لي الباب، ورأيته لأول مرة بعد موت أبي، ولا أدري تمامًا ماذا كان وقع منظرُه عليَّ، وهو في بيته، هل ضاعت هيبته الجميلة، التي كنت أهواها فيه، أم إن موت أبي أضاع هيبة الحياة، بكلِّ ما فيها حتى هو؟!
وقال بعد أن تكلمنا قيلًا: «لم أركِ فاترة كاليوم!»
وقلت: «لقد جعل الموتُ الحياةَ باهتة في عينيَّ.»
فقال: «بالعكس، إن الموت يجعل الحياة في عينيَّ زاهية. تصوَّري لو أننا نعيش إلى الأبد، كيف تكون هناك حياة إذا لم يكن هناك موت؟ وعلى كلٍّ فإنَّ الموت مصيره إلى الموت، كما قال طاغور.»
واقترب مني قليلًا، وقال: «لم أكن أتصوَّر أن شيئًا ما في العالم، يستطيع أن يغرس الحزن في عينيك، لم يكن التشاؤم أحد صفاتك.»
قلت: «بل إن التشاؤم أحد صفاتي.»
ولا أدري لماذا يثير الرجل حزن المرأة؟ لعله يرى فيه نوعًا من الضعف أو الأنوثة! ورأيته يقترب مني أكثر، ويأخذ يدي في يديه ويُقبلها، وهمس قائلًا: «أحبك.» وكأنني لم أسمع كلمته، ولم أحسَّ قُبلته، فلم تهتز خليةٌ واحدة في جسمي، وشعرت بالصقيع يحوطني من داخلي وخارجي، ولم أجد في نفسي شيئًا من الحرارة، حتى لأسحب يدي من يده.
كان عقلي قد تجمَّد عند فكرة الموت، ووقف عندها ينظر إلى الحياة شزرًا، ويرى كلَّ ما فيها تافهًا حتى الحب؛ فلا هو يعارض، ولا هو يُحبِّذ، يستسلم لما يحدث في سلبيةٍ مطلقة تشبه الموت.
ورأيته يَبتعِد عني، ثم يقول: «أنتِ لا تُحبينني.»
وقلت: «إن الموت …» وقاطعني قائلًا: «لا … لا تقولي الموت، الموت لا يغيِّر شيئًا من الحب.»
وسكتُّ، ورُحت أُفكِّر وأبحث في زوايا نفسي، عن حبِّي له، لكني لم أجد شيئًا، كأنما تبخَّر حتى آخر قطرة.
وقلت في عجبٍ: يا إلهي! إنَّ الموت أقوى من الحب.
وسمعته يقول: «بل الحب أقوى من الموت، إذا كان حبًّا حقيقيًّا. أما إذا كان وهمًا، فإنه يَبهت ويتلاشى بجوار لون قوي صارخ كلون الموت.» وودَّعني وهو يقول: أرجو أن تُقابلي حبَّك الحقيقي يومًا ما لتُصدِّقي كلامي.
لم أصدِّقه في ذلك اليوم، لكني أحسست بشعورٍ خفي، يُنبئني بأنني سأصدقه يومًا ما.